البنا والهضيبي وأخلاقيات النقد والحوار 5
أ.د/جابر قميحة
مقدمة
لا خلاف في أن التاريخ كنز غني لا تنفد ذخائره. ولا خلاف كذلك في أن القرآن الكريم يضم بين دفتيه كثيرًا من المواد التاريخية ، موضوعها الأفراد والأمم والخلق والحياة, بعضها جاء علي سبيل التفصيل, وبعضها جاء علي سبيل الإيجاز أو الإشارة أو الإلماع, مع ربط المقدمات بالنتائج, والأسباب بالمسببات. ولا شك أن المعروض التاريخي في القرآن له هدفه العرفاني. ولكن الهدف الرئيسي الأهم هو تحقيق الجانب السلوكي, أي التقويم العقلي والعقدي والخلقي, كما نري في قوله تعالي: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الأعراف: 176], وقوله تعالي: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود: 120]. وقوله تعالي: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ } [الروم: 42].
وحتي يتحقق هذا الهدف النبيل كان علينا أن نتبين حظ الواقعة من الواقع, وأن نقيّمها في سياقها وظروفها ونحن مجردون من الهوي, ودون أن نحملها أكثر مما تحتمل.
منصور والخطأ المركب والخطيئة
والمتعامل مع التاريخ يكون خطؤه «مفردًا» إذا ما نقل الواقعة التاريخية نقلاً غالطًا, أو نقلها منقوصة, أو معزولة عن سياقها, أو اعتمد في هذا التعامل علي الاستقراء الناقص. ويكون الخطأ مركبًا إذا بني «المتعامل» عليها نتيجة, أو نتائج.. ويبلغ هذا الخطأ المركب مرتبة «الخطيئة» إذا كان مضمونه تجريح الشرفاء, وتشويه سمعتهم.
وفي برنامجه «شاهد علي العصر» نري أحمد منصور حريصًا ومصرًا علي اتهام الأستاذ حسن الهضيبي بالقصور - بل العجز- الدعوي, ومن ثم عدم جدارته بمنصب المرشد العام للإخوان لأنه لم يكن خطيبًا كالمرشد الأول حسن البنا رحمه الله, فكان في جولاته يستعين -بصورة رئيسية - بالخطباء المفوهين من أمثال: سعيد رمضان, ويوسف القرضاوي. ولم يقتنع أحمد بما قاله الأستاذ فريد عبد الخالق بأن الله بعث موسي رسولاً مع أنه كان به «عقدة» في لسانه, وأن أخاه هارون كان أقدر علي الإبانة والبيان منه. وصدق موسي إذ قال: ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) فاستجاب ربه لدعوته ( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) )[القصص: 34]ـ: 35].
ولا يعيب الأستاذ الهضيبي أن يكون محدًّثًا أكثر منه خطيبًا, وأن ينهج في كلماته نهج القاضي الرزين المتأني ، بالبيان الموجز واللفظ الحاسم الدال, وقد سمعته في «المنـزلة» - مسقط رأسي- يقف بعد خطبة رائعة لسعيد رمضان ليقول بتواضع جم «أنا لست خطيبًا كالأستاذ سعيد», ثم ابتسم وقال: «وسأحاول أن أتعلم منه», وبدأ يتحدث في تأن ووقار حديثًا كان مهمًا جدًا, وقد خرج الإخوان من محنة قاسية دامية حتي يتخلي الإخوان عن التفكير في الثأر ممن ظلمهم: «مصر بلدنا, ونحن - الإخوان المسلمين- مسئولون عن سلامتها. وعلينا أن نحترم قوانين الدولة فيما لا يتعارض مع الإسلام, ولا يقولن أحدكم إنها وضعية من صنع البشر, لذلك سأخالفها بإطلاق. وأنا أقول لكم لا, بل احترموا قوانين الدولة, ونحن في طريقنا إلي تنقيتها مما يشوبها لتقترب تدريجيًا من الإسلام».
فالرجل كان - من أجل مصر- داعية إسلام وسلام بالحكمة والموعظة الحسنة. مما يسقط ادعاء السيد أحمد منصور أنه كان يستعدي ويهيج عبد الناصر ورجاله, وادعاء أن الرجل كان «عييّا» دائم الصمت.. وإذا تكلم لا يحسن الكلام. وادعاء أنه استقر في القاهرة دون الخروج إلي المدن والشعَب الأخري. وإن لم يستطع أن يزور مئات القري والنجوع راكبًا, أو ماشيًا علي قدميه كما كان يفعل الإمام حسن البنا رحمه الله, وما كان ذلك إلا لأسباب ثلاثة: الأول, حالته الصحية في سن الشيخوخة. والثاني: أن الوقت لم يتسع لمثل هذه الجولات, فالرجل بعد ثلاث سنوات من انتخابه مرشدًا حُلّت الجماعة, وحُكم عليه بالإعدام الذي خُفف إلي السجن المؤبد.
أما الثالث: فهو أن دعوة الإخوان تجاوزت مرحلة «السعي والتنقل للعرض» بعد اتساع نطاقها, وانتشارها وظهور آليات دعوية جديدة.
من سيرة النبي صلي الله عليه وسلم
وحرصًا علي تجريح الأستاذ الهضيبي يري أحمد منصور أنه خالف منهج رسول الله صلي الله عليه وسلم في أمرين:
الأول: أنه صلي الله عليه وسلم كان كثيرًا ما ينطلق خارج مكة بنفسه داعيًا القبائل إلي الإسلام ،كما نري في خروجه إلي الطائف .
الثاني: أنه كان يعتمد علي نفسه اعتمادًا كليًا في عرض دعوته.
والمعلومتان - علي إطلاقهما- غالطتان؛ فخروجه الوحيد - أو الأهم - من مكة للدعوة إلي الله كان إلي الطائف في شوال سنة عشر من النبوة (أي قبل الهجرة بقرابة ثلاث سنين), ولم يخرج بمفرده بل كان معه زيد بن حارثة, فكلّم سادتهم, ودعاهم إلي نصره فسبوه وردوا عليه ردًا قبيحًا, وأغروا به سفهاءهم, فأخذوا يرمونه بالحجارة حتي دميت رجلاه, وزيد يحميه بنفسه حتي شُج رأسه, وسال دمه, وعاد إلي مكة, ودخل في جوار المطعم بن عدي يجيره حتي يبلغ رسالة ربه.
أما تركيزه الأساسي لنشر الدعوة فكان في نطاق مكة, في مواسم الحج» إذ كان يعرض نفسه علي القبائل الوافدة, ومن هؤلاء: بنو عامر, وغسان, وبنو فزارة, وبنو مرة, وبنو حنيفة, وبنو سليم, وبنو عبس, وبنو نصر, وبنو عذرة وغيرهم.
وكان أبو لهب يعلن لهم كذبه, كما كان الوليد بن المغيرة يوزع عشرات من الكفار علي فجاج مكة ومداخلها يحذرون القادمين من «رجل خارج علي قومه مجنون ( أو شاعر أو كاهن) يدعي النبوة اسمه محمد.. إلخ». ومن يقرأ تفاصيل هذه الفترة يجد أنه كان يستعين بأصحابه في تبليغ الدعوة حتي في حضرته بصورة جزئية أو كلية, فهو مثلاً يعلم أن أبا بكر رضي الله عنه كان أعلم العرب بالأنساب , (تاريخ القبائل وسيرة الأفراد), لذلك كان يقدمه علي نفسه - في حضوره- للدعوة إلي الإسلام موظفًا هذا العلم الذي اشتُهر به, وأوردت كتب الأدب القديم بعض محاورات الصديق مع بعض القبائل كما نري في «مجمع الأمثال» للميداني في عرضه لمضرب المثل الذي قاله أبو بكر وهو «إن البلاء موكّل بالمنطق».
وفي بيعة العقبة الأخيرة قام العباس - عم النبي صلي الله عليه وسلم- نيابة عنه يعرض دعوته والاستيثاق له أمام ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار. في حضور النبي صلي الله عليه وسلم. فهل ينقصُ من قدره وقدرته صلي الله عليه وسلم أن ينهض غيره- مع حضوره- بعبء عرض الدعوة ومتطلبات دين الله؟!! وهناك أمثلة أخري لا يتسع لها المقام.
الهضيبي المتعجرف المتكبر المغرور ...!!
هكذا بسهولة يخلع أحمد منصور هذه الصفات علي المرشد الثاني رحمه الله, وكنت أعتقد أنها زلة لسان, سيفيق منصور بعدها, وينـزه لسانه عن تكرارها, ولكنه تمادي في التمادي, وكررها .. وكررها, وكأنها ظاهرة مرضية في شخصية الأستاذ الهضيبي. وبالمناسبة يعلم منصور أن الأستاذ الهضيبي رفض أن يرتدي «الردنجوت» الذي لا يقابل أحد الملك فاروق إلا به (مع أن الملك بعث إليه بطاقمين من هذا الزي لارتداء المناسب منهما) ، وقابله بالحلة العادية, وجلس أمام الملك وهو يضع رجلاً علي رجل.. لم يقبّل يد الملك - كما جري العرف - وودّع الملك بصورة عادية (وجهه إلي الباب وظهره إلي الملك), وهو عكس العرف المتبع, وأهدي إليه الملك صورة ضخمة فاخرة ليعلقها في مكتبه في المركز العام, فكان مصيرها وضعها في دورة المياه في منزل الأستاذ الهضيبي.
أحمد منصور يعتبر هذه التصرفات عجرفة وتكبرًا, وهو يعلم أن الملك يعتبر أبا التكبر والعجرفة والعربدة والفساد. وكنت أتمني- يا أحمد - أن تقرأ للإمام علي كرم الله وجهه في «نهج البلاغة» قولين:
الأول: إذا رفعت أحدًا فوق قدره فتوقع منه أن يحط منك بقدر ما رفعت منه».
والثاني: «التكبر علي المتكبرين هو التواضع بعينه». وأعتقد أن الإمام علي كان أصدق منا جميعًا يا سيد أحمد منصور, أي أن الأستاذ الهضيبي لو كان متكبرًا علي الملك لما كان هذا مأخذًا يُسجَل عليه, ولكن تصرفات المرشد رحمه الله هي من قبيل الاعتزاز بالنفس والعقيدة «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين». هذا الاعتزاز هو الذي يجعل المسلم «مهيبًا» في عيون الآخرين, وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: لقد أعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله».
وهذه الهيبة هي التي جعلت «فاروق الملك» يتباكي بين يدي الهضيبي.. ويطلب ودّ الإخوان, ويدافع عن نفسه, وينفي أن يكون قد أمر أن ينالهم مسئول بأذي. ومما قاله الأستاذ الهضيبي لأحمد عبد الحليم - رحمه الله- «.. لقد كنت أشعر وأنا أصافح ذلك الرجل «فاروق» , ثم وأنا أجلس معه أنني أمام طفل صغير لا أشعر نحوه لا برهبة, ولا حتي باحترام».
ومع ذلك يصر أحمد منصور علي القول بأن الهضيبي قصَّر في حق الجماعة تقصيرًا فاحشًا لأنه أضاع فرصة العمر إذ لم ينتهز فرصة هذه المقابلة ويطلب من الملك قائمة من المطالب لمصلحة الجماعة, وتحقيق نهوضها وأمنها, كما فعل حسن البنا مع النحاس باشا مقابل تنازله عن ترشيح نفسه في انتخابات نيابية. والقياس مع الفارق الكبير جدًا, ولا يتسع المقام لتفصيل القول في هذه النقطة. ولكني سأساير السيد أحمد في منطقه. ما النتيجة التي كنت تتوقعها لو حدث ذلك وحقق الملك كل ما طلب الهضيبي؟ لقد قامت الثورة يا سيد أحمد - بعد المقابلة بأشهر.. والباقي معروف.. سيحكم الجيش والشعب أن الإخوان كانوا أحباب الملك وأنصاره وعملاءه بدليل أنه حقق لهم كل مطالبهم.. ولفقد الإخوان مكانتهم التاريخية, ومكانهم في قلوب الناس. رحمك الله يا هضيبي.. لقد كنت - كما قال الأستاد فريد عبد الخالق- أبعد الجميع نظرًا, وأوسعهم أفقًا, وأقدرهم علي تقييم المسائل والمواقف والآراء.
حكمك ظالم... بلا دليل
لقد خالطنا الأستاذ الهضيبي ونحن طلاب في بداية المرحلة الجامعية, فوالله وجدنا فيه التواضع, ودماثة الخلق, والوقار, والرزانة, والتنزه عن الثرثرة وكثرة الكلام. وللأسف نراك يا أحمد خلطت بين الاعتزاز بالنفس والتكبر كالذي يخلط بين الشجاعة والتهور, والذي يخلط بين الحذر والجبن, والذي يخلط بين الصراحة والوقاحة .
إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرنا ألا نسيء الظن بالآخرين ونحكم بالظاهر, وعلي الله السرائر: لقد سب أحد المنافقين رسول الله صلي الله عليه وسلم, فنهض أحد الصحابة قائلاً: أقتله يا رسول الله؟.. قال: لا.. بل نتركه لعله يكون يصلي . قال الصحابي: يا رسول الله.. وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال صلي الله عليه وسلم: أنا لم أومر أن أنقب قلوب الناس, فلنا الظاهر, وعلي الله السرائر.
فهل الوقوف في وجه دكتاتورية عبد الناصر عجرفة ؟ وهل الحكم علي حركة الضباط بأنها انقلاب يعتبر تكبرًا؟ وهل الاعتزاز بالنفس في نظرك يا سيد أحمد تكبر وعجرفة وغرور؟ يا أحمد أنا مازلت أسدد من قوتي وقوت أولادي ثمن أخطاء عبد الناصر والهزائم والمحن التي أنزلها بمصر. وللحديث صلة أخيرة بمشيئة الله.
المصدر:رابطة أدباء الشام