الإمام حسن البنا والحج ذكريات وشجون
مقدمة
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، لقول النبي محمد (ص) : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً"، والحج فرض عين على كل مسلم قادر لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
في هذه الأيام يتوحد المسلمين على صعيد عرفات العظيم، يدعون رب واحد، مع اختلاف ألوانهم وألسنتهم، إلا أن قلوب الجميع أتت وهي مشتاقة لمغفرة رب غفور رحيم.
ولقد تبارى الكتاب والشعراء في التعبير عن أحاسيسهم عن هذا الموقف العظيم، وهذه النفحة الربانية التي تعود بمن يقف على ربوع عرفات كيوم ولدته أمه.
ولقد تناول الإمام البنا فريضة الحج من نواحي كثيرة سواء النواحي الفقهية أو التعبدية أو وحدة المسلمين، أو نشر دعوة الإخوان وعرضها على جموع الحجاج بعد انتهاء فريضة الحج، ولذا تنوعت كتاباته ومحاضراته حول معنى الحج الحقيقي، وهل هو أداء الفريضة فقط؟ أم هو أشمل وأعم من ذلك؟ إلزامية الأداء
حرص الإمام البنا على تشجيع المسلمين على أداء فريضة الحج، والاستعداد له في المستقبل إن لم يتيسر للمسلم في الوقت الحاضر، حيث حرص على سلوك النواحي العملية في التشجيع على أداء هذه الفريضة.
ولذا فقد شكل لجنة تحت مسمى لجنة الحج عام 1935م، والتي وضعت أطر وقوانين ومعايير لآلية الحج وتوفير النفقات لدى الأخ داخل الجماعة، بل وضعت محاذير لمن يتخلف عن الادخار لأداء هذه الفريضة.
يقول الأستاذ البنا:
- والحج فيه أسمى معانى الجهاد وأدق تدريب عليه، فهو احتمال مشاق الأسفار ووعورة الطرق، والمران على السير فى البر والبحر، وأروع ما ترى الكتيبة الإسلامية فى الأرض المقدسة كهيئة المجاهدين يوم تراها تلقى الجمرات فترجم عدوها العتيد، وتكبر ربها المجيد فى نظام محكم فريد (1).
ويناشد ويحمس إخوانه قائلا:
- أيها الأخ الكريم، إن كنت ممن سمعوا هذا النداء فأجابوا الدعاء، وقدر لهم أن يكونوا فى وفد الله -تبارك وتعالى- فاعلم أنها غرة السعادة، وفاتحة الخير كله، وعنوان رضوان الله، فما دعاك إلا وهو يحبك، وما ناداك إلا ليمنحك، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم؛ فَهَنِّئ نفسك بهذا الفضل المبين.
وإن حالت دون ذلك الحوائل فصاحب الحجاج بقلبك، ورافقهم في أداء المناسك بروحك، فإن لك مثل ثوابهم إن شاء الله (2).
موعد على عرفات
خص الله –سبحانه- هذا المكان بهذه الشعيرة فقط، فرفع شأنه، وأبطل حج من لم يقف به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الحج عرفة](أخرجه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود والترمزى والنسائى وابن ماجه في السنن).
ولذا جعل الإمام البنا لقاء المسلمين على عرفات، في وقت ذابت فيه الفوارق واللغات، بأنه اجتماع العالمية الإسلامية، التي وحدت القلوب والهدف والغاية، فيقول في ذلك:
كنت أتحدث إلى صديق عن العالمية الإسلامية؛ فكان من قولي له: إن الإسلام يدعو إلى العالمية بأسمى وأجلّ مما يدعو إليها الفلاسفة والساسة؛ إذ إنه يلزم كل مسلم أن يعمل ليعم الناسَ مبدأٌ واحد هو الحب والإخاء والعدل والمساواة تحت ظل القرآن الكريم لا تعصبًا لجنس ولا تحيزًا لشخص أو فئة.
في يوم عرفة يجتمع الحجيج في وقت واحد وفى مكان واحد وفى زى واحد، وترتفع أصواتهم بدعاء واحد على قلب رجل واحد، ومن أولئك الحجيج يا صاحبي: المصري والهندي والشامي واليمنى والعراقي والحجازي والشرقي والغربي، والمسلم الإنكليزي والفرنسي، وكل شعب من شعوب العالم وصلته دعوة الإسلام، وترددت في أجوائه كلمة الإسلام.
ما أروع الموقف، وما أجل المغزى الذي قصد إليه فيه الإسلام وهو دين التوحيد، وما أجزل ثواب الله ورحمته وأعم فيضه ورضوانه الذي يتغشى عباده الأكرمين؛ فيعودون من موقفهم أطهارًا أبرارًا أتقياء أتقياء كيوم ولدتهم أمهاتهم (3).
الحج دين على العباد
يصف الإمام البنا الحج بأنه دين على العبد أمام الله لابد إن توفرت له السبل من سداد هذا الدين فيقول:
- قال الله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97].
وهذا تركيب يدل على عظيم العناية بالحج وتأكُّد فرضيته، ألست ترى أن الحق -تبارك وتعالى- اعتبره دينًا له على عباده فى قوله وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ؟ وألست ترى أنه -تبارك وتعالى- جعل مقابل القعود عن أدائه الكفر، وهو أشد المقت، فقال تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ؟ ولم يعهد هذا التركيب فى فريضة أخرى فى كتاب الله غير الحج تنبيهًا على عظيم قدره وجليل أهميته (4).
تعارف وأخوة
إن من أسمى المعاني الحية في هذا الوجود هو التعارف والتآلف والتحاب في الله، ولهذا لم يقتصر فكر الإمام البنا في الحج على كونه أداء للشعيرة الربانية فحسب، لكنه اعتبر له منافع عدة، كالتعارف على إخوة جدد من إنحاء العالم، والتوحد على كلمة سواء أمام المخاطر التي تحيك بالأمة كلها. ولذا وقف في وسط مؤتمر الشباب العربي السعودي الذي عقد بعد أداء مناسك الحج وحضره لفيف من الحجيج قائلا:
أيها الشباب العربي الكريم: لا تستصغروا أنفسكم، ولا تحقروا مهمتكم، فإنكم أساتذة العالم وأئمة الشعوب، وأمناء الله على هدايته العظمى للبشرية كلها، ولئن تعالت أصوات الغرب من كل جانب: ألمانيا فوق الجميع، وإيطاليا فوق الجميع، وسودي بريطانيا واحكمي، وكانت تلك كلمات اخترعوها لأنفسهم، وابتدعوها يريدون بها التهام الضعفاء والعدوان على الآمنين، فإنكم أنتم يا شباب العروبة والإسلام أحق الناس بهذه النعوت والأوصاف لا بدعة تبتدعونها ولا خدعة تستترون وراءها ولكن حقًا مقدسًا سجله الله لكم في كتابه يوم أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: 110] لا لتستبدوا بحقوق الضعفاء ولا لتعتدوا على الآمنين ولكن كما قال الله تعالى: {تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}[آل عمران: 110] وثقوا يا إخواني أني حينما أخاطب شباب العروبة لا أريد للعروبة ذلك المعنى الضيق المحدود الذي يحصرها في قطر من الأقطار، ولكن أريد ذلك المعنى الفسيح الرحب الذي يضم كل شبر أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله (5).
هتاف القلوب
[لبيك اللهم لبيك] هتاف ترتج لها جنبات الكون ولا يقتصر على الأراضي المقدسة، بل أحيا الله – سبحانه – القلوب في هذه الأيام، فلا يتجاهلها إلا الغافلون.
يقول الإمام البنا:
- ما أجل عظمة الربوبية، وما أعظم فضل الألوهية، وما أجمل أن يتفضل الله على عباده فيدعوهم إلى بيته العتيق؛ ليغفر ذنوبهم، ويطهر قلوبهم، ويضاعف أجورهم، ويجدد أرواحهم، ويمنحهم من فيض فضله، وما أجمل أن يتفتح قلب المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقاه كما تتلقى الزهرة الناضرة قطرات الندى؛ فيحيا به ويسعد، ويتجهز من فوره لإجابة دعوة الله والانضمام إلى وفده الكريم، مهاجرًا إلى حرمه المقدس وبيته الأمين، هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك (6).
المراجع
- مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (25)، السنة الثانية، 16رجب 1353ه/ 25أكتوبر 1934م، صـ1.
- مجلة الإخوان المسلمين:السنة الثانية، العدد 37، 17ذو القعدة 1353هـ / 21فبراير 1935م،صـ1.
- مجلة الإخوان المسلمين: السنة الأولى، العدد 33، 6ذى الحجة 1352هـ / 22مارس 1934م، صـ1.
- مجلة الإخوان المسلمين- مرجع سابق- العدد 37، صـ7.
- جريدة أم القرى – الجمعة 19ذو الحجة 1354هـ / الموافق 14مارس 1936م، صـ1- 4.
- مجلة الإخوان المسلمين: السنة الخامسة، العدد 26، 7شوال 1356هـ / 10ديسمبر 1937م، صـ1.