الإخوان المسلمين في سوريا
منذ أن نشأت الدولة الإسلامية الأولى على يد النبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته إلى المدينة المنوّرة، قام للمسلمين كيان رسمي، وصارت لهم مرجعيّة. وكانت هذه الدولة تزدهر حيناً وتضعف حيناً، وتتعرض لفتن داخلية أو هجوم من جهات خارجيّة، ثم تعود إلى عافيتها. واستمر ذلك أكثر من ثلاثة عشر قرناً، ثم استشرى الضعف، وعظُمت المؤامرات حتى سقطت الخلافة أخيراً على يد أتاتورك يوم 27 من رجب 1342 هـ الموافق لـ 3 من آذار 1924م، وتعرّض المسلمون بعدها إلى هجمات متتالية سياسية وعسكرية وثقافية، وظهرت فيهم دعوات غريبة علمانية، تأخذ صوراً شتّى، تتصادم مع الإسلام، وقد تلتقي معه التقاء عَرَضياً، كدعوات القوميات العربية والطورانية والفرعونية، ودعوات تحرير المرأة والتحدث بالعاميّة، والكتابة بالحرف اللاتيني، ونبذ القيم والعادات المرتبطة بالإسلام، وإتاحة الفرصة للعلمانيين والمتحلّلين لكي يبلغوا أعلى المناصب السياسية والعسكرية والاقتصاديّة، والتضييق على المسلمين المتمسّكين واضطهادهم، ونشر الموبقات وحمايتها كالرّبا والزّنى..
ولم يكن المسلمون في وضع يمكّنهم من المقاومة والتّصدي، فقد انتشر فيهم الفقر والجهل والتفكك.
وواضح أن إعادة المسلمين إلى المجد والسؤدد، وحالهم كما وصفنا، لا يمكن أن تتم طفرة واحدة، ولا يمكن أن تبدأ الخطوات الصحيحة إلى المجد إلا بجهود مضنية، وقيادة حكيمة.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم قامت جماعة الإخوان المسلمين.
وسبق قيامَها إرهاصات كانت كالمخاض لولادة الجماعة. ونعني بها مظاهر التململ من الجهل والتخلف، ومحاولات التوعية والتحرر العقلي، ومحاولات جمع الغيورين من أبناء الإسلام على العمل لنهضة إسلامية شاملة.
نذكر من هذه الإرهاصات دور محمد عبده ومدرسته في مصر، والشيخ مصطفى صبري شيخ الدولة العثمانية، وشكيب أرسلان في سورية، وجهود بعض الأدباء كمصطفى صادق الرافعي وأحمد محرم، وبعض التجمعات الإسلامية كتنظيم "الشبان المسلمين" في مصر و"دار الأرقم" في سورية.
النشأة والمضمون:
يذكر الإمام حسن البنا رحمه الله ـ في رسالة المؤتمر الخامس ـ أن فَهْمه الشامل للإسلام، وتألُّم لحال المسلمين، ويقينه أن لا سعادة للناس إلا بالعودة إلى الإسلام كما أنزله الله... جعلته يسعى بين من يتوسّم فيهم الخير ليتعاون وإياهم على معالجة أدواء الأمة. يقول: "وكان أسرَعَهم مبادرة الإخوانُ الفضلاء أحمد أفندي السّكري ، والمرحوم الشيخ حامد عسكرية، والشيخ أحمد عبد الحميد، وغيرهم. وكان عهد، وكان موثق، أن يعمل كلّ منا لهذه الغاية، حتّى يتحوّل العرف العام في الأمّة إلى وجهة إسلامية صالحة".
"وفي الإسماعيلية وضعت أول نواة تكوينية للفكرة، وظهرت أول هيئة متواضعة تحت اسم الإخوان المسلمين في ذي القعدة 1347هـ - نيسان 1928".
ويُبيّن الإمام البنّا فهمه للإسلام، هذا الفهم الذي قامت عليه الجماعة، ويسمّى ذلك إسلام الإخوان المسلمين فيقول ما خُلاصته:
إسلام الإخوان المسلمين:
لستُ أعني بهذا التعبير أن للإخوان إسلاماً جديداً، وإنّما أريد أن أشرح فهمهم للإسلام بعد أن اختلف فهم النّاس للإسلام وتعدّد. فعامة المسلمين لا يرى في الإسلام شيئاً وراء حدود الشعائر التعبديّة، ومن النّاس من لا يرى في الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانيّة الفياضة، ومنهم من يرى الإسلام عقائد موروثة وعادات بالية لا بدّ من التخلّص منها، ويكثر وجود هذا الصّنف فيمن تلقّوا الثقافة الأجنبية ولم تُتَح لهم فرصة الاتصال بالحقائق الإسلامية.
كما تعددت نظرة الناس إلى الإخوان المسلمين، فمنهم من يرى الإخوان جماعة وعظيّة إرشادية، ومنهم من يتصورهم طريقة صوفية، أو يظنّهم نظرية فقهية... وقليل من الناس من أدرك حقيقة دعوة الإخوان المسلمين.
وأنا أريد أن أوضح دعوة الإخوان وفهمهم للإسلام في ثلاث نقاط:
1 - الشّمول
أحكام الإسلام تنتظم شؤون النّاس في الدنيا والآخرة. فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف.
وفي القرآن الكريم توجيه إلى العبادة المخلصة، وإلى الأخذ من زينة الدنيا، وإلى تنظيم شؤون الحكم والسياسة والقتال والمداينة، وفيه تشنيع على من يتّخذ الدين أجزاء وتفاريق كما فعل اليهود. قال تعالى: ( أفتؤمنونَ ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاءُ من يفعلُ ذلك منكم إلا خِزْيٌ في الحياة الدّنيا، ويومَ القيامة يُردّون إلى أشدِّ العذاب. وما الله بغافل عمّا تعملون). سورة البقرة: 85.
2 - الربانية
أساس أحكام الإسلام ومعينها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تضلّ الأمة ما تمسّكت بالكتاب والسنّة، وإن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتّصلت بالإسلام إنّما تلوّنت بلون العصر الذي نشأت فيه، ولهذا يجب أن نستقي النظم الإسلامية التي تُحمل عليها الأمة، من هذا المعين الصّافي، وأن نفهم الإسلام كما فهمه الصحابة والتابعون من السّلف الصالح رضي الله عنهم.
3 - الواقعية
الإسلام دين البشرية كلّها، في عصورها جميعاً، وفي جوانب الحياة كلّها، فمن واقعيّته أن يرسم القواعد الكليّة، ويدع كثيراً من التفصيلات والجزئيات، لا سيّما في شؤون الدّنيا. وأن يُعالج النفس الإنسانية من أمراضها، ويسمو بها في آفاق الكمال. فإذا استقامت النفس استقام كل سلوك يصدر عنها. ولقد قيل: إن العدل يكون في نفس القاضي أكثر مما يكون في نص القانون.
فبالقواعد الكلية والتوجيهات العامة لشؤون الحياة المتطوّرة (مع ضبط مفصّل للشؤون الثابتة) ومع تهذيب للنفس البشرية وتطهير... تنطلق الحياة نظيفة في ظلّ الإسلام.
فكرة الإخوان المسلمين تضمّ كل المعاني الإصلاحية:
كان نتيجة الفهم الصحيح للإسلام أن أصبحت دعوة الإخوان المسلمين شاملة لكل خير، يجد فيها كل مخلص غيور أمنيته. وعليه نقول: إن الإخوان المسلمين:
1 - دعوة سلفية:
لأنّهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - وطريقة سنيّة:
لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنّة المطهرة في كل شيء، وبخاصّة في العقائد والعبادات.
3 - وحقيقة صوفيّة:
لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحبّ في الله، والارتباط على الخير.
4 - وهيئة سياسية:
لأنّهم يُطالبون بإصلاح الحكم، وتعديل النظر إلى صلة الأمّة الإسلامية بغيرها، وتربية الشعب على العزّة والكرامة.
5 - وجماعة رياضية:
لأنّهم يُعنَون بجسومهم ويُقيمون الأندية والفرق الرياضية.
6 - ورابطة علمية ثقافية:
لأن الإسلام يهتم بالعلم. وأندية الإخوان مدارس للثقافة والتعليم والتربية.
7 - وشركة اقتصادية:
لأن الإسلام عُني بشؤون المال والصّناعة والتّجارة والزراعة.
8 - وفكرة اجتماعية:
لأنهم يعنون بأدواء المجتمع ويحاولون علاجها.
وليس في الاهتمام بهذه النواحي جميعاً أي تناقضٍ أو تعارض. فقد ترى الأخ في المحراب خاشعاً متبتّلاً، ثم تراه مدرّساً واعظاً، ثمّ تراه في الملعب رياضياً، ثمّ في عمله تاجراً أو صانعاًً
من منهاج الإخوان المسلمين
الغاية والوسيلة:
غايةالإخوان المسلمين تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصّبغة الإسلامية الكاملة في كلّ مظاهر حياتها.
ووسيلتهم تغيير العرف العام، وتربية أنصار الدعوة على هذه المعاني، حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسّك بها، والحرص عليها، والنّزول على حكمها.
الإخوان والقوّة والثورة:
القوة شعار الإسلام في كلّ نظمه وتشريعاته، يأمر المسلمين بأن يعدّوا لعدوهم ما استطاعوا من قوّة، ويقرر أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ويُعَلّم المسلم أن يستعيذ من ألوان الضعف جميعاً: "اللهم إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل...".
ولكن الإخوان ينظرون بعمقٍ، فيعلمون أن أول درجة من درجات القوة؛ قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثمّ بعدها قوّة الساعد والسلاح. ولا يصحّ لجماعة أن تستخدم السلاح وهي مفككة الأوصال، أو ضعيفة العقيدة.
ثم: هل أوصى الإسلام باستخدام القوّة في كل الأحوال، أم حدّد لذلك حدوداً، واشترط شروطاً. وهل جعل القوّة أول علاج أم أن آخر الدواء الكيّ؟ أوليس من الواجب أن يوازن الإنسان بين النتائج الضّارة والنتائج النافعة أم أنه يستخدم القوّة غير عابئ بالنتائج؟... فهذه نظرات يلقيها الإخوان على استخدام القوّة قبل أن يُقدموا عليه.
أما الثورة فهي أعنف مظاهر القوّة، فنظر الإخوان إليها أدقّ وأعمق.
إن الإخوان سيستخدمون القوة حيث لا يُجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدّة الإيمان والوحدة، وسيكونون شرفاء وصرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يُقدمون في عزّة وكرامة، ويتحمّلون نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.
وأما الثورة فلا يفكّرون بها، وإن كانوا يُصارحون الحكومة بأن الحال إذا بقيت على هذا المنوال فستقوم ثورة، ليست من صنع الإخوان، ولكن من مقتضيات الظروف.
الإخوان المسلمون والحكم:
الإسلام يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد. وقديماً قال الخليفة الثالث: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عروة من عرى الإسلام. والعلماء يجعلون الحكم من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع.
والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً، يقرر الأحكام ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوّة التنفيذ على مخالفة أوامره. فإن النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد، ونفخة في رماد.
قد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله، وتنفيذاً لأحكامه. أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد، والتشريع الفعلي في واد، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة لا يكفّرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف.
والإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمّة من يستعد لحمل هذا العبء والحكم بمنهاج قرآني فهُمْ جنوده وأنصاره، وإن لم يجدوا فالحكم من مناهجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفّذ أوامر الله. وإنه لابدّ من أن يسبق إقامة الحكم نشر لمبادئ الإسلام، وتعليم للشعب وتوعية.
أما الخلافة فهي رمز الوحدة الإسلامية، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدّم الصحابة رضوان الله عليهم النّظر في شأنها على النظر في دفن النبي صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث الواردة في وجوب نصب الإمام كثيرة. والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها في رأس منهاجهم، وهم ـ مع ذلك ـ يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات الضرورية.
أيها الإخوان المسلمون:
لا تيئسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس وأحلام اليوم حقائق الغد. وما زال في الوقت متّسع، وما زالت عناصر السلامة قويّة في شعوبكم المؤمنة على الرّغم من مظاهر الفساد. والضعيف لا يظلّ ضعيفاً كلّ حياته... وإن العالم ينتظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام... ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾، ﴿ وترجون من الله ما لا يرجون﴾، فاستعدّوا واعملوا ولا تضيعوا فرصة.
لقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريّثوا، وإني أخاطب المتقاعسين أن ينهضوا ويعملوا، فليس مع الجهاد راحة: ﴿ والذين جاهدوا فينا لنَهديَنّهم سُبُلَنا وإن الله لَمَعَ المحسنين﴾.
وإلى الإمام دائماً. والله أكبر ولله الحمد.
أهدافجماعة الإخوان المسلمين ووسائلها
(مختصرة من كتاب المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين)
أهداف جماعة الإخوان المسلمين هي أهداف الإسلام نفسها ويمكن تلخيصها بالهدفين الآتيين:
الأول: أن يتحرر الوطن الإسلامي من كلّ سلطان أجنبي.
الثاني: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرّة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبّق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة الناس. وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعاً آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها، وقعودهم عن إيجادها.
وهذان الهدفان لا يمكن تحقيقهما بسهولة ويسر، بل لابدّ من خطوات تمهيدية لذلك، وتدرُّج في المراحل، على الشكل التالي:
1- إصلاح الفرد: حتى يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادراً على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهداً لنفسه، حريصاً على وقته، منظماً في شؤونه، نافعاً لغيره.
2- تكوين البيت المسلم: بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوج، وتوقيفها على حقّها وواجبها، وحسن تربية الأولاد وتنشئتهم على مبادئ الإسلام.
3- إرشاد المجتمع وتكوينه على أساس إسلامي: بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً.
4- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي.
5- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، منفّذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.
6- وإعادة الكيان الدولي للأمّة الإسلامية: بتحرير أوطانها وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتّى يؤدّي ذلك كلها إلى إعادة الخلافة المفقودة، والوحدة المنشودة.
7- وأخيراً أستاذية العالم: بنشر دعوة الإسلام في ربوعه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره.
وهذه الأهداف والمراحل قد يراها الناس خيالاً ولكن المسلم الواثق بنصر الله ومدده يراها حقيقة ماثلة أمامه ﴿والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾. يوسف: 21 ﴿ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرّحيم ﴾ الرّوم: 4-5.
ولقد ابتُليت جماعة الإخوان المسلمين في كل الأقطار التي وجدت بها أشدّ الابتلاء على يد الطواغيت وأذناب الأجنبي والدخيل الطامع في ثروات المسلمين، ولكنّها صمدت وصبرت وبقيتْ وزال الطواغيت وما زادتها هذه المحن والمصائب إلا إيماناً بسلامة الطريق والنّهج، وإيماناً بوعد الله ونصره، فكانت بذلك الجماعة الإسلامية المرشّحة لأن تقود المسلمين إلى شاطئ العزّ والأمان والخير.
أبرز رجالات دعوة الإخوان المسلمين
يمكن أن نذكر العشرات من رجالات الجماعة الذين برزوا في مصر وسورية ولبنان وغيرها، في مجالات الفكر والجهاد والدعوة والعلم... ويبقى على رأس هؤلاء جميعاً الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.
وقد نختلف فيمن يكون صاحب المكانة الثانية والثالثة... إلا أننا سنختار نماذج من هؤلاء الرجال: حسن البنا، و سيد قطب ، مصطفى السباعي، محمد المبارك، و عبد الفتاح أبو غده. ولا يبعد أن يُوجد في رجالات الجماعة من هم في مستوى هؤلاء الرجال أو أعلى، ومكانتهم جميعاً محفوظة عند الله، ونسأل الله لهم جميعاً الرّحمة والرضوان. (وقد اقتصرنا في الاختيار على من توفّاهم الله، دون من هم على قيد الحياة، أمدّ الله في عمرهم ووفقنا وإياهم إلى خدمة دينه.
وتعدّ الكرّاسات التي أصدرتها الجماعة بحق رجالاتها: لا سيّما من ذكرناهم، جزءاً من هذا المنهج، مما يُغني عن إعادة ترجماتهم في هذه الصّفحات.
جماعة الإخوان المسلمين أرشد الجماعات القائمة
ونحن نرى أنجماعة الإخوان المسلمين هي إحدى الجماعات الإسلاميّة، لكنّها الجماعة الأرشد والأفضل، وذلك لما تميّزت به من بين مختلف الجماعات:
1- إنها الأبرز بين الجماعات والدّعوات في العصور الحديثة التي نشرت الوعي بشمول الإسلام: فهو عقيدة وعبادة ونظام وتشريع وروحانيّة وعمل... بعد ما ظنّ كثير من المسلمين أن الإسلام عقيدة وشعائر تعبّدية، وأخلاق فرديّة فحسب.
2- لقد وضّحت وأحيتْ مفهوم صلاح الإسلام لكل زمان ومكان بعد أن أشاع الأعداء أن الإسلام استنفد أغراضه، وأنه إذا كان قد قام بدور عظيم! في عصور مضت، فإنّ دوره قد توارى في الحياة المعاصرة!
3- وأكّدت وجوب قيام جماعة تسعى إلى تعليم الإسلام، والدّعوة إليه، ونصرته... وتواجه الأحزاب العلمانية، وتعمل على إقامة شرع الله في الأرض... ودرّبت جموعاً وجماهير من المسلمين، على العمل الجماعي المنظّم.
4- أحيتْ فكرة "الخلافة" وإعادةالإسلام إلى أن يحكم حياة النّاس، في الوقت الذي يجهد العلمانيون لنشر ثقافة فصل الدين عن الدّولة.
5- بيّنت معنى الولاء، وأن ولاء المسلم يكون لله ورسوله وأوليائه... بعدما ظهر في المجتمعات الإسلامية أناس يتزيَّون بزي الإسلام وعلمائه... ثم ينتسبون إلى حزب علماني أو منظمة ماسونية!
6- عملت بنجاح في ساحة العمل السياسي والإعلامي، بلْهَ الاقتصادي والتعليمي... ووجهت المسلمين إلى المطالبة بحقوقهم، والتمسّك بمكانتهم.
7- أشاعت روح المحبّة بين المسلمين، والتعاون بين العاملين للإسلام، والسّعي إلى التوحّد معهم، وتأييد من يُحكّم الإسلام أو يعمل لذلك.
8- درّبت أعداداً كبيرة من المسلمين على صيغ العمل الإسلامي المختلفة، بجمعيات خيرية ونوادٍ ثقافية أو رياضية، وتكتّلات سياسية، بشكل علني في الظروف العادية، وغير علني في الظروف الاستثنائية.
9- أكّدت أهمية وحدة المسلمين عقيدة وولاءً، وأيّدت الوحدة الإسلامية، أو أي وحدة بين قطرين من بلاد المسلمين، على أمل أن يكون ذلك خطوة في الطريق الصحيح نحو الوحدة الإسلامية الشاملة.
10- دافعت عن فلسطين، بالخطابة والكتابة، وبالنفوس والأرواح والأموال، واشترك أبناء الجماعة في معاركها، وعملوا على توعية النّاس بخطورة الصهيونية وقيام دولة يهودية على هذه الأرض المباركة.
11- نَفَضَت الغبار عن التاريخ الإسلامي، وقام كتّابها ومفكروها بصياغته صياغة عصرية توضّح الحقائق، وتكشف الزيف.
12- أحيت مفهوم الجهاد، وبيّنت حقيقته وأهدافه. وأحيت روح الاستشهاد في نفوس أبناء الأمة من أجل قضاياها.
13- قاومت الاستعمار بكلّ أشكاله، العسكري والسياسي والثقافي، وحذّرت المسلمين من تسرّب القيم والمفاهيم التي يروّجها الاستعمار.
14- ناصرت الأقليات الإسلامية حيثما كانت بالسبل الممكنة، ودافعت عن قضايا المسلمين في أنحاء العالم كلّه.
15- أكّدت أهمية تنشئة الفرد المسلم (روحيا وبدنياً وفكرياً) والبيت المسلم ثم المجتمع المسلم... وقدّمت لذلك البرامج والخطط. وأنقذت الكثير من شباب الأمّة من الضلال والفساد والتّيه والضياع وأعادتهم إلى جادة الصواب والحقيقة، وجعلت منهم رجالاً مخلصين لأمّتهم ووطنهم وعقيدتهم.
16- أنشأت مرافق الخدمات المجّانية - أو شبه المجانية - من صحيّة وتعليمية، وأسّست الجمعيات التعاونية لمساعدة الفقراء، وأسهمت في خدمة المجتمع.
17- تركت بصماتها على العمل الإسلامي بمختلف أطيافه، وتنوّع مشاربه، وتعدد جماعاته... بحيث لا تكاد تجد جماعة إسلامية اليوم إلا وفيها الشيء القليل أو الكثير من آثار دعوة الإخوان المسلمين، مما يؤكّد أصالة هذه الجماعة وسلامة فكرها ومنهجها.
18- تبنّت قضايا المرأة وحرّيتها ضمن الإطار الإسلامي العام. وأوجدت المرأة المسلمة الحقيقية والمعاصرة.
19- تصدّت للمشروع الصهيوني وجميع المشاريع الاستعمارية وكشفت زيف المشاريع الاستسلامية التي انساق وراءها كثير من التيارات السياسية، ودفعت في سبيل ذلك، ولا تزال تدفع، الأثمان الباهظة من تعرض أفرادها ومؤسّساتها للأذى والاضطهاد والملاحقة.
جماعة الإخوان المسلمين في سورية
هذه الجماعة جزء من جماعة الإخوان المسلمين في العالم. فكل ما ذكرناه من مبادئ وأفكار، ووسائل وأساليب، وأمجادٍ ورجال... يشملها ويخصّها. وتاريخ الجماعة، ومسارها، وأنظمتها... متشابهة في جميع الأقطار.
أولاً: البنية التنظيمية
يحدد النظام الأساسي (أو الداخلي) للجماعة في سورية وجود ثلاث سلطات في الجماعة:
السلطة التشريعية، وتتمثل في مجلس الشورى. وأهم صلاحيات هذا المجلس انتخاب المراقب العام، واعتماد القيادة التي يرشّحها المراقب العام، ثم محاسبة القيادة، وإقرار الخطط والسياسات العامة والميزانيات والنّظام الأساسي...
ولهذه السلطة ظلال في مستويات أدنى كوجود لجان استشارية في المراكز، وهيئة استشارية للقيادة وغيرها.
السلطة التنفيذية، وتتكون من المراقب العام وأعضاء القيادة. ومهمتها إدارة شؤون الجماعة، واتخاذ القرارات والإجراءات التي تضع خطة الجماعة وسياساتها موضع التنفيذ. ويتشعّب عن القيادة مكاتب تنفيذية: سياسي وإداري وتربوي...
ولهذه السلطة كذلك ظلال في المراكز، إذ تقسم مواطن انتشار الجماعة إلى مراكز وشعب، ولكل مركز (أو شعبة) إدارته وأنظمته.
ويحدد النظام الأساسي طريقة انتخاب المراقب العام وطريقة عزله وقبول استقالته ومدّة ولايته وصلاحياته وواجباته... ويحدد مثل ذلك للقيادة والإدارات...
السلطة القضائية، وهي كذلك على مستويين: المحكمة العليا، وتتعلق بمحاكمة المراقب العام وأعضاء القيادة والنظر في شرعية الأنظمة والقرارات... ثم المحاكم المحليّة وتتعلق بفضّ الخصومات المختلفة...
ويضبط السلطات كلها (وشروط العضوية وأحوال الجماعة الأخرى) النظام الأساسي واللوائح والأنظمة.
ومما يتناوله النظام في ذلك تحديد مدّة كل مؤسسة، وأصول الانتخاب والتصويت والتعيين، والإقالة والاستقالة، والصلاحيات والواجبات.
العضوية
يحدد النظام قواعد قبول المسلم عضواً في الجماعة، ثم تدرُّجَه في درجات العضوية (المنتسب والعامل والنّقيب) وشروط ذلك كلّه.
ثانياً: التاريخ
يُمكن أن نميّز في هذا التاريخ ثلاث مراحل
1. مرحلة التأسيس والعمل العلني: من عام 1946 حتّى آذار 1963م (كانت معظم هذه المرحلة علنيّة).
2. مرحلة العمل السّري: 1963-1979.
3. مرحلة الصّدام المسلح مع السّلطة: من عام 1979 فما بعد.
المرحلة الأولى 1946-1963م
سورية بلد مسلم، والإسلام هو المحرك الأول لشعبها، وهو الهوية الثقافية له. لكن الإسلام فيه - كما هو في معظم ديار الإسلام - قد امتزج في حياة الشّعب، ببعض الجهالات والبدع والخرافات، كما امتزج بثقافة غربيّة وفدت إليه بدءاً من قُدوم الاستعمار الفرنسي.
فكان لابدّ من حركة إسلامية تعيد المجتمع إلى الإسلام النّقي، بعيداً عن الجهل والخرافة والتغريب... فكانت جماعة الإخوان المسلمين.
وقد عملت الجماعة منذ نشأتها في سورية عام 1946 على مختلف الصّعد:
فعلى صّعيد التعليم والتوعية والإعلام: أنشأت المدارس والمعاهد، وأصدرت الصّحف ونشرت الوعي بالدّين وقيمه، وكشفت عوار الجهل والخرافة، وتصدّى خطباء الجماعة وكتّابها وعلماؤها للقيام بواجبهم في ذلك، وتعرّضوا مرات عدّة لمضايقات واعتقالات... لكنّ ذلك لم يُغيّر من مجرى الحركة السّلمي.
وعلى صعيد العمل الاجتماعي: أنشأت الجماعة الجمعيات الخيرية، والمستوصفات، وأسهمت في إيجاد فرص العمل للعاطلين، وأقامت بعض المؤسسات الاقتصاديّة، والنوادي الرياضية والفرق الكشفيّة، ودافعت عن دور المرأة ومكانتها التي صانها الإسلام.
وعلى صعيد العمل السياسي: تصدّت للمؤامرات، وقاومت محاولات التغريب، وشاركت في المجالس النيابية، ودافعت عبر منصّاتها عن مشروعيّة الحكم الإسلامي، بل شاركت في بعض الوزارات، وأصدرت الصّحف، وقادت المظاهرات التي تتبنّى طموحات الشّعب وهمومه.
وكان لها مشاركة فعالة في حرب فلسطين 1948م، وفي التنديد بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 (على ما كان بينهم وبين عبد النّاصر من خصومة)، وفي المشاركة في أسبوع التّسلّح عام 1956م، وفي دعم الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، والتنديد بالانفصال بين البلدين عام 1961م..
ومن خلال ذلك كلّه قدّمت خدمات كبيرة للإسلام والمجتمع والوطن:
- قدّمت للنّاس صورة صحيحة للإسلام بوضاءته ونقائه وشموله وسماحته.
- أكّدت قناعتها بالتعاون مع مختلف شرائح المجتمع السياسية والدّينية والقوميّة... لما فيه مصلحة الوطن.
- بيّنت موقفها الذي يجمع بين التميز والمرونة، فهي لا تقف موقفاً متشدّداً من كل جديد، سواء أجاء من الشّرق أو من الغرب، كما لا ترفض أي قديم أو تتعصّب له... بل تعرض ذلك كلّه على الإسلام، فتقبَل وترفض، وفق ميزان الشرع.
- أسهمت في إعطاء المرأة المسلمة دورها الإيجابي في التعليم والعمل والسياسة وفق ضوابط الإسلام، فوُجدت الأخت المسلمة الواعية العفيفة التّقيّة، التي تربي أولادها على قيم الإسلام، وتمارس وظائفها الاجتماعية والسياسية بشكل إيجابي منضبط.
- شاركت في العمل السياسي ترشيحاً وانتخاباً، وصحافةً، وتعاوناً مع أصحاب الاتجاهات الأخرى، وتبنّياً لقضايا الوطن الكبرى: لا سيّما قضية فلسطين.
- عملت على تربية جيل مؤمن بالله، مُضَّح في سبيله، مستقيم على أمره، وعلى نشر قيم الإيمان في المجتمع، ومقاومة الإلحاد والفجور والعلمانية.
المرحلة الثانية 1963 – 1979
وفي هذه المرحلة قفز حزب البعث إلى السّلطة من خلال انقلاب 8 من آذار 1963 الذي شاركت فيه مجموعة اتجاهات سياسية اشتراكية وقوميّة، وقد استطاع رجال الحزب إقصاء شركائهم والاستئثار بالسّلطة.
ومن خلال حكم هذا الحزب ظهرت سمات خطيرة:
1- الممارسات الطائفيّة.
2- العلمانية الغليظة التي تتعامل مع الدّين والمتديّنين بفظاظة.
3- قانون الطوارئ الذي يعني المحاكم العسكرية، ومحاكم أمن الدّولة، والقمع والسجن وتكميم الأفواه وتعطيل الصّحافة، وحلّ الأحزاب وتفرّد الحزب الحاكم بالسّلطة، وتصفية المعارضين.
4- نشر الفساد بمعناه الإباحي وما يرتبط به من اختلاط وفجور، ومعناه الاقتصادي وما يرتبط به من رشاوٍ وسرقات ومحسوبيّات.
5- شعار الجيش العقائدي!، ويعني هذا الشّعار أن يكون الجيش العامل حكراً على فئة أو طائفة أو حزب!.
6. منظمات (حكوميّة ـ حزبيّة ـ شعبية) تصطفيها الدّولة لتهيمن بها على المجتمع وتنشر من خلالها المفاسد والقيم المنحرفة كاتحاد الفلاحين ومنظمة طلائع البعث وشبيبة الثّورة... ورافق ذلك تحويل مؤسسات المجتمع المدني إلى بنى خادمة لفكر الدولة الإلحادي الاستبدادي بعد إفراغها من مضمونها، والتدخّل في التّرشيح والانتخاب، بل حلّ إدارة المنظّمة الشعبيّة التي لا تروقها وتعيين إدارة بديلة... وهذا ينطبق على اتحادات العمّال ونقابات المهندسين والمحامين والأطباء وغيرها... (وجدير بالذكر أن الإخوان لا يرفضون كل هذه المنظّمات، لا سيّما النقابات المهنيّة، لكنّهم يستنكرون هيمنة الحزب الحاكم عليها).
ونرى أنّه لابدّ من استعراض أوسع قليلاً لما جرى خلال هذه المرحلة:
انقلاب الثّامن من آذار 1963م
كان هذا الانقلاب نقطة انعطاف خطيرة في تاريخ سورية الحديث. ومنذ ذلك التاريخ تعيش البلاد تحت ظلّ قانون الطوارئ الصّادر بالأمر العسكري رقم (2)، حيث استولى حزب البعث على السلطة فاتحاً بذلك الباب أمام الأقليّات الطائفية لتمسك بمفاصل القوّة والسّلطة في سورية. لأن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري كانوا من الأقليّات الطائفية.
وتكوّنت اللجنة العسكرية في البدء من خمسة ضباط، من بينهم ثلاثة علويين وهم: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ أسد، وإسماعيليّان هما: عبد الكريم الجندي وأحمد المير. وبعد انقلاب الثامن من آذار وسِّعت اللجنة، وبقيت العناصر الفعّالة فيها من النصيريين (العلويين)، ولذلك سُميت هذه اللجنة بلجنة الضّباط العلويين.
وكان التّحول الكبير الذي شهدته سورية هو انقضاض حافظ أسد على السّلطة في 16 من تشرين الثّاني 1970.
ومن المعروف أن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم حافظ أسد باسمه مدّة 30 سنة، ليس حزباً علمانياً بالمفهوم الغربي للعلمانيّة فحسب، بل هو حزب مُعادٍ للإسلام في منطلقاته ومنهاجه، حيث انتهج سياسات سافرة في حرب الإسلام وتحدّي قيمه وعقائده، وإكراه النّاس على عقائد وسلوكيات تتناقض مع عقائده وشرائعه. فقد عمد منذ استلامه السلطة عام 1963م إلى مصادرة الحريّات العامة، فحلّ الأحزاب السياسية، وأغلق الصّحف وفرض الأحكام العرفيّة، وحجر على حريّة الفكر والتّعبير، واحتكر جميع وسائل الإعلام لنفسه، وألغى كل دور للمعارضة السياسية.
وعلى الرّغم من أنّ جماعة الإخوان المسلمين لم تبد خلال هذه الفترة أي معارضة عنيفة ضد النّظام، إلا أن السّجون لم تَخْلُ من معتقلين إسلاميين (وخاصة من الإخوان) كانوا يتعرّضون لأقسى أنواع العذاب، وكانوا يُعتقلون في أسوأ الظروف التي تهدر فيها آدمية الإنسان.
وعمد النّظام في هذه المرحلة إلى عمليات تصفية متعمّدة لبعض المعتقلين دون أن يُقدّموا لأيّ محكمة. نذكر منهم، الشّهيد حسن عصفور، والشّهيد مروان حديد، والفتاة المسلمة غفران أنيس وغيرهم...
ومضى في تنفيذ مخططه في التخريب المُقنّن للعقول والأفكار، وذلك من خلال الخطوات التي وافق عليها المؤتمر القطري لحزب البعث عام 1978م في جملة مقررات كان منها:
1. إقرار التّعليم المختلط.
2. التضييق على المدارس الشّرعية الخاصّة، بتسليم إداراتها للحزبيين.
3. وقف تعيين خريجي كليّة الشريعة مدرّسين.
4. تغيير مناهج تعليم التربية الإسلامية وحشوها بالمعلومات المؤيّدة للنظام ورأسه ومبادئ الحزب العلمانية.
5. نقل وتسريح أكثر من /500/ مدرّس ثانوي وابتدائي دفعة واحدة (أتبعها فيما بعد بعملية تمشيط واسعة لقطاع التّعليم وإخلائه من كلّ المتديّنين).
هذا عدا عن المراسيم التي أصدرها الأسد من أجل التدخّل في التّعليم الجامعي وتوجيهه الوجهة التي يُريد، مثل المرسوم 1249 تاريخ 20/9/1979م الخاص بجامعة دمشق، وبموجبه سُرِّحَ عدد من المدرّسين الإسلاميين.
والمرسوم 1250 (20/9/1979م) الخاص بجامعة اللاذقيّة، وتمّ فيه تسريح عدد آخر من المدرّسين الإسلاميين والموظّفين.
والمرسوم 1256 (27/9/1979م) الخاص بجامعة حلب، الذي قضى بنقل بعض المدرّسين الإسلاميين إلى وظائف وأعمال أخرى.
وفي طريقه إلى إفساد الأجيال وإيجاد الفرقة والعزلة بينها، أنشأ منظمات طلابية وشبابية يصنع لهم معسكرات سنوية يشترك فيها الكبار والصّغار والفتيان والفتيات بصورة تؤدّي إلى الاحتكاك والفساد والإثارة. مثل منظّمة الطلائع وشبيبة الثّورة، وأجبر التلاميذ على الانتساب والالتحاق بهذه المنظّمات وبمعسكراتها بقوّة القانون.
المرحلة الثّالثة 1963-1979
(مرحلة الصّدام مع السلطة، فما بعد)
كانت الفترة التي سبقت اندلاع المواجهة بين النظام والجماعة في صيف 1979 حافلة بالإرهاصات والنّذُر التي تؤكّد حتمية المواجهة والوصول إلى نقطة التفجّر. وكانت مجمل السياسات التي يمارسها النظام تخدم هذا الهدف، وهو دفع الحركة الإسلامية إلى ساحة المواجهة بغرض ضربها وتصفيتها، ولعلّ ما يؤكّد هذا الكلام ما جاء في الخطاب الذي ألقاه أسد في المؤتمر القطري الثالث عشر للحزب، والذي عُقد في دمشق في تموز 1980م حيث استعرض مقررات المؤتمر القطري الثّامن للحزب عام 1965م، والتي اعتبرت الإخوان المسلمين ظاهرة من أخطر الظواهر. ثم انتقل إلى وضع خطّة لمحاربة الإخوان المسلمين والإسلام فقال:
"فالخطّة السياسية إزاء الإخوان المسلمين وأمثالهم لا يمكن أن تكون إلا خطّة استئصالية، أي خطة لا تكتفي بفضحهم ومحاربتهم سياسياً، فهذا النّوع من الحرب لا يؤثّر كثيراً في فعالياتهم... يجب أن نُطبّق بحقّهم خطّة هجوميّة".
وفي خطاب له، قبل ذلك، من ثكنة الشرفة في حماة بعد أحداث عام 1964 فضح أسد نواياه تجاه المعارضين إذا قال: "سنُصفّي خصومنا جسدياً".
وفي مطلع عام 1973 أصدر دستوراً مؤقّتاً، عليه طابع العلمانيّة الفاقعة، مما أثار سخطاً جماهيريّاً واسعاً، عبّر عنه الناس ببعض الخطب على المنابر، وبعض الشعارات التي كتبوها على الجدران... واتخذت الدولة من ذلك ذريعة لحملات اعتقالات في عدد من المحافظات. ومن المعتقلين من بقي في السجن أسابيع وشهوراً، ومنهم من بقي سنوات.
وفي عام 1976م وبعد التدخل السوري في لبنان، وبعد مقتل الشهيدين حسن عصفور ومروان حديد رحمهما الله، بدأ النظام يحصد نتائج سياسته القمعية، حيث بدأت عمليات الاغتيال التي تقوم بها جماعات إسلامية مستقلّة، ضد رموز النظام الذين كان لهم دور في ممارسة أساليب الاستفزاز ضد المواطنين. ولم يكن لجماعة الإخوان المسلمين يومها علاقة بعمليات الاغتيال، والنظام السوري يعلم ذلك جيّدا لكنه بدلاً من تطويق الأزمة ومحاولة حلّها، عمد في ربيع عام 1979م إلى شنّ حملة اعتقالات واسعة شملت عدداً من رموز الإخوان تحت ذريعة ملاحقة الذين يقومون بعمليات الاغتيال، وكان لهذه الحملة دور كبير في تسريع الأحداث وتفجيرها، ثم جاءت حادثة المدفعيّة التي وقعت في السادس عشر من حزيران 1979م، وذلك عندما قُتل ما لا يقلّ عن 35 طالباً عسكرياً وأصيب 54 آخرون بجراح (حسب البيانات الرّسميّة للدّولة)، وقيل: إن معظم الضحايا كانوا من العلويين.
وفي هذا السياق يمكن أن نلخّص أهم الأسباب التي أدّت إلى وقوع المواجهة بين الإخوان وبين النظام:
1- اتهام جماعة الإخوان المسلمين بتدبير حادثة مدرسة المدفعيّة بل اتهامهم بجميع عمليات الاغتيال التي وقعت خلال السنوات التي سبقت تلك الفترة، حيث أصدر وزير الداخلية السوري بياناً في 22 من حزيران 1979م اتهم فيه الإخوان المسلمين بالتورّط في الاغتيالات.
وقد جاء بيان وزير داخلية النظام منسجماً في السياق مع الخطة التي رسمها النظام منذ البداية "لتصفية الخصوم جسدياً".
2- تكثيف الاعتقالات ضد كل من يُشَكُّ بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين أو التعاطف معها، بل قد امتدت حملات الاعتقال إلى جميع الفئات السياسية المعارضة.
3- مُسارعة النظام إلى تنفيذ أحكام الإعدام ب/15/ معتقلاً من شباب الإخوان المسلمين جرى اعتقالهم قبل حادثة المدفعية بحلب وذلك بعد محاكمات صوريّة عقدت لهم وصدرت أحكام الإعدام بحقّهم عن محكمة عرفية شُكّلت لهذه الغاية برئاسة فايز النوري، بتاريخ 28/6/1979م.
إن تلك الحملات الإجرامية ودعْمها بالحملات الإعلامية ضد الإخوان المسلمين والإسلاميين والشعب السوري بأكمله، جعلت كاتباً مثل "فان دام" يقول في كتابه "الصراع على السّلطة في سورية":
"وبشكل عام بدت الحملات الإعلامية للنظام التي تلت ذلك، وحملة النظام لاستئصال الإخوان المسلمين فظّة وحادّة للغاية حتّى أثارت عداوة الشقّ الأعظم من الشعب المخلص بدلاً من أن تُثير تعاطفهم".
4- احتلال بيوت المطلوبين للسلطة سواء اعتقل المطلوب أو لم يُعتقل، حيث عمدت السلطات إلى إبقاء عدد من رجال المخابرات في بيت المعتقل أو المطلوب أياماً عدّة، يُقيمون فيها مع النّساء والأطفال، وذلك لاعتقال كلّ زائر للبيت أو متّصل بصاحبه، وإشاعة الخوف والذعر في بيوت المطلوبين وممارسة الضغوط النفسية والجسمية ضدهم لإجبارهم على الاعتراف بمكان المطلوب إن كان هارباً، علاوة على قيامهم بأعمال النّهب والسّلب والتخريب تحت ذريعة البحث عن أسلحة أو محظورات يُخفيها المطلوب أو المعتقل.
5- لجوء النّظام إلى أسلوب الرّهائن وذلك باعتقال آباء أو أمهات أو إخوة أو أخوات للمطلوب لإجباره على تسليم نفسه. وتعريضهم لصنوف فظيعة من التعذيب مما أدّى إلى استشهاد عدد منهم.
6- البدء بحملة تعذيب شديد القسوة والوحشية ضد كل من دخل السجن، وقد أدّى تسرّب أخبار التّعذيب إلى خارج السّجون إلى إشاعة جوٍ من الرّعب والخوف في صفوف المواطنين، وجعل الكثير من الشباب الإسلامي يُفكّر في طريقةٍ تُخَلِّصُه من المصير الذي ينتظره في السجن.
7- قيام السّلطات بقتل عدد من المعتقلين أثناء المداهمات أو في الشوارع، أمام أعين النّاس.
8- إصدار القانون /49/ وذلك في 7 من تموز عام 1980م والذي تنصّ مادّته الأولى على ما يلي: "يُعتبر مجرماً ويُعاقب بالإعدام كلّ منتسبٍ لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين".
وكانت إجراءات السّلطة الهوجاء الظّالمة هذه أكبر مفجّر لبركان الغضب الشّعبي الدّفين. فالممارسات الطّائفيّة، ونشر ألوان الفساد الخُلقي، وتهجّم النّظام على النّساء المسلمات في الشّوارع، ونزع الحجاب من رؤوسهنّ، ومنع الحجاب في المدارس، ونقل المدرّسين ذوي الصّبغة الإسلاميّة إلى قطاعات أخرى خارج نطاق التّعليم.-
في هذه الأجواء الإرهابية وجدت جماعة الإخوان المسلمين نفسها في مأزق حرج، فشبابها خاصّة، والإسلاميون عامة، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يُصفَّوا في المعتقلات دون أن يدري بهم أحد، أو أن يَدفعوا موجات الظلم التي وقعت عليهم وعلى الشعب السوري بكامله. وفي أجواء الرعب والخوف تلك لم تُجْد صيحات العقلاء، ووساطاتهم في احتواء الأزمة ووقف شلال الدم الذي آثر النظام أن يخوضه تحت شعار العنف الثوري. ورأت الجماعة أنها أمام معركة حقيقيّة مفروضة عليها لا مناص من خوضها واستكمال عدّتها، فاتخذ مجلس شورى الجماعة الذي اجتمع خارج سورية في أيلول 1979م قراراً بالمواجهة وتعبئة القوى وحشد الطاقات لهذه المعركة. ولبّى الكثير من أبناء الجماعة نداء الواجب، واختار طريق الدفاع المشروع عن النفس والعقيدة ومقاومة الظلم الذي وقع على البلاد والعباد؛ تلك المقاومة التي لقيت تأييداً وتعاطفاً شعبياً كبيراً مما أسهم في انتشارها وتوسّعها لتمتدّ إلى جميع أرجاء سورية.
وبدل أن يلجأ النظام إلى الاستجابة لمطالب الشعب بأكمله، مارس سياسة الأرض المحروقة في المحافظات السوريّة، فكانت مذابح تدمر وجسر الشّغور وجبل الزّاوية وحلب وسرمدا، وكانت كبرى هذه المجازر مجزرة حماة المروّعة عام 1982م والتي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء.
المراحل التي مرّ بها الصّراع
مر الصّراع بين النظام وحركة الإخوان المسلمين بأربع مراحل هي:
1- (1979-1981م) مرحلة بدء المواجهة ومحاولة توحيد فصائل العمل الإسلامي المسلّح تحت قيادة واحدة وهذه المرحلة تميّزت بظاهرتين هما:
أ- ازدياد حدّة العمليات العسكرية ضد النظام خلال الرّبع الأخير من عام 1979م والربع الأول من عام 1980م، وكاد الزمام يفلت من يد السّلطة في المحافظات الشمالية بشكل خاص، مما دفع النظام إلى تقديم عرض التفاوض على الجماعة التي اشترطت الإفراج عن المعتقلين قبل بدء الحوار، وتم الإفراج عن بضع مئات من الإخوان، ثم ما لبثت السّلطة أن عادت لاعتقال من تمكّنت منه بعد ذلك، وتوقّفت المفاوضات.
ب- ردّ السّلطة على عمليات الإخوان بحملات قمع وحشيّة: فقد بدأت في نيسان 1980م بحملة تمشيط واسعة للمدن والقرى، وقامت بعمليّات بطش جماعيّة في معظم هذه المدن. وفي هذه الفترة صدر القانون /49/ ووقعت مجزرة تدمر في سجن تدمر الصّحراوي، وذلك في صباح السّابع والعشرين من حزيران 1980م. وبعد مضي يوم واحد على محاولة اغتيال حافظ أسد، أقدم رفعت أسد على تكليف صهره الرائد معين ناصيف قائد اللواء 138 من سرايا الدّفاع باقتحام سجن تدمر وذبح المعتقلين العزّل، حيث قتل في هذه المجزرة الفظيعة أكثر من سبع مئة معتقل من نخبة الشّعب السوري، من خريجي الجامعات والعلماء والعسكريين والطّلاب.
2- مرحلة ضرب تنظيم الجماعة العسكري في الجيش عام 1982م: ففي مطلع هذا العام انكشف التنظيم العسكري للجماعة، ووجهت إليه ضربة قاضية، حيث أُعدم خلالها العشرات من الضّباط، واعتقل المئات منهم. وفي الثاني من شباط 1982م حدثت مجزرة حماة الكبرى التي اشترك فيها سرايا الدّفاع واللواء 47/دبابات، واللواء 21/ميكانيكي والفوج 21/إنزال جوّي (قوات خاصّة)، فضلاً عن مجموعات القمع من مخابرات وفصائل حزبية مسلّحة. حيث أعمل هؤلاء بالمدينة قصفاً وهدماً وحرقاً وإبادة جماعية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً فسقط ما يزيد على 25 ألف شهيد (بل تبلغ أربعين ألف شهيد، حسب بعض الإحصاءات) وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها كما هدم 88 مسجداً وثلاث كنائس، فيما هاجر عشرات الآلاف من سكّانها هرباً من القتل والذّبح.
3- مرحلة تلاشي العمل المسلّح ومن ثمّ توقفه: بعد مجزرة حماة والمجازر الأخرى التي شهدتها المدن والقرى السّورية خفّت وتيرة العمليّات العسكرية وضعف تأثيرها إلى أن توقّفت تماماً.
4- مرحلة توقف العمل المسلّح وتراجع اهتمام النظام بأعمال القمع: بدأت هذه المرحلة بعد عمليات 1986م، وبعد فترة طويلة من توقّف العمل المسلّح حيث قام النظام بالإفراج عن آلاف المعتقلين (على دفعات خلال سنوات) فيما لا يزال آخرون في سجون النظام دون أن يعرف عنهم شيء. علماً بأن مجموع من أفرج عنه لا يتجاوز الـ20% من مجموع من اعتقل. ولا يدري أحدٌ مصيرَ الباقين، حيث من المؤكّد أن أفواجاً كبيرة منهم تمّ إعدامهم في ساحات السّجون على دفعات كثيرة، أسبوعيّة أو نصف أسبوعية أو نصف شهرية...
وفي ختام هذا الاستعراض الموجز لا بدّ من تأكيد أن جماعة الإخوان المسلمين التي فُرِضت عليها المواجهة المسلّحة فرضاً وخلال سنوات الصراع التي امتدّت منذ 1979م وحتّى يومنا هذا ما تزال باسطة يدها للحوار البنّاء بما يخدم مصلحة الوطن.
وبعد
الإسلام هو الدّين الحق، والالتزام بأحكامه، والدّعوة إليه، والعمل على إقامته في المجتمع، ونصرته في العالمِين... من واجبات المسلم.
وإذا كان بعض هذه الواجبات يتم بشكل فردي، فإن بعضها لا يتمّ إلا بعمل جماعي.
وللعمل الجماعي شروط وآداب وأصول.
وأنجع عمل جماعي إسلامي، وأعظمه في هذا العصر هو ما تم على يد جماعة الإخوان المسلمين.
وقد تميّزت هذه الجماعة بفكرها، وعظمة رجالها، وغنى تاريخها ونظافته... مما يجعلها أرشد الجماعات الإسلامية، وأكثرها قابليّة لتحقيق أهداف الإسلام الكبرى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر:
المركز الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا