الإخوان المسلمون والهجانة المصرية
مقدمة
انطبع في ذاكرة الكثيرين من المصريين صورة للهجانة من خلال الأفلام القديمة التي كانت تصورهم جنود سودانيين أداة في يدي المستعمر البريطاني وأعوانه من البشوات ضد المستضعفين من الفلاحين المصريين، حيث يعد فيلم الأرض لمحمود المليجي وغيره والذي أنتج عام 1970م وعبر عن حالة إحدى القرى المصرية وهي قرية رمله الأنجب (إحدى قرى أشمون بالمنوفية) عام 1933م من أهم الأفلام التي ظهرت فيه الهجانة بصورة كاملة.
بل إن يوسف إدريس كتب رواية بعنوان الهجانة عام 1953م في جريدة المصري، اتهم فيها الهجانة بالسطو على مدينة مصرية ونشروا الفساد فيها والنهب، مما عرضه للاعتقال لفترة بسبب الرواية التي اتهمت فرقة من الجيش.
حيث ظهرت الهجانة وهي تطارد الفلاحين وتدمر زرعهم وتقضي على محاصيلهم، وكانوا يبدوا أنهم فرقة سودانية استعان بها الإنجليز والاقطاعيين لضرب وإذلال المصريين، وهو على غير الحقيقة في كثير من الأحيان (وإن كانوا أداة بطش في يد المستعمر والاقطاعيين والحكومة استخدموا ضد الشعب)، لكن في الحقيقة أن الهجانة كان أغلبها مصريين تشكل منهم سلاح الحدود بعد ذلك.
فحينما حدثت معارك بين حارة المعصرة وحارة الطوابرة والنجارين بالمنزلة عام 1946م، استخدم فيها جميع أنواع الأسلحة، لم تستطع قوات البوليس فضها فلجأت الحكومة لفرق الهجانة
حيث يصف جابر قميحة الموقف بقوله:
- بدأ الصدام الدامي المر بين الحارتين .. واستخدم الفريقان كل أنواع الأسلحة، ابتداءً من الحجارة، وانتهاء بالبنادق والمدافع الرشاشة، وسقط عدد من القتلى، أذكر منهم: عثمان القيعي (قفاص)، وشخصاً من عائلة عرابي (نجار)، وثالثاً من عائلة عبد الحي (تاجر طيور متجول).
- عدا عدد كبير من الجرحى .. زيادة على نهب البيوت والمحلات، وسادت الفوضى، وقامت حملة من ثلاثة آلاف من رجال الأمن، على رأسهم الضابط الجبار "عباس عسكر"، وعجز هذا "الفيلق" عن القضاء على الفوضى، وانسحب عباس عسكر الجبار بفيالقه بعد إخفاقهم الذريع، ليحل محلهم كتائب الهجانة التي يراهاً أغلب أهل المنزلة لأول مرة .. لقد زرعت الرعب في قلوب الناس، فلزموا بيوتهم من المغرب؛ لأن الهجانة لا يتكلمون إلا بالكرابيج السودانية. (1)
حتى إنهم استخدموا في تعذيب وقمع الإخوان في السجون بالسياط السودانية وهو ما جعلنا نتتبع تاريخ هذه الفرقة والتي لم يُمح اسمها من ذاكرة المصريين.
تشكيل قوات الهجانة
اعتبر الكثيرون أن الهجانة من أقدم الأسلحة التي أنشأتها مصر الحديث وذلك لحماية الحدود، أو للسيطرة على كثير من الأماكن التي يصعب وصول المعدات إليها. حيث تشكلت أول فرقة هجانة مصرية عام 1896م في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني وقد تم تشكيلها من جنود وضباط مصريين بالإضافة إلي لواء وعدد من الضباط السودانيين وذلك تحت قيادة إثنين من الضباط الإنجليز وهما العقيد لوزي قائدا والمقدم هنري نائبا للقائد.
كانت هذه الفرقة تستخدم الجمال كأداة في تنقلاتها لقوة تحملها (خاصة في الظروف الصعبة) ولسهولة وصولها للأماكن الوعرة في الجبال أو المنحدرات أو الوديان. وذلك في جبل طرة بمصر، للاعتماد عليها، نظراً لصفات تلك المجموعة التي تتميَّز بالقوة والتحمُّل والمهارات القتالية العالية. (2)
الفرقة السودانية
كان من ضمن قوات الهجانة المصرية التي شاركت في إعادة فتح السودان مجموعة من السودانيين وتحديدا من منطقة حلفا وكانت قوات الهجانة مقسمة إلي بلوكات كل بلوك يتكون من 150 ضابط وجندي.
وكان لهذه القوات دور ملموس في نجاح حملة إعادة فتح السودان وبعد ذلك تم إحتلال منطقة كردفان علي يد الكولونيل ماهون والذي إستعان بفرقة من الهجانة من منطقة أبو دلبق ونجح في إحتلال هذا الإقليم الهام وبسبب الطقس المتقلب في السودان وعدم تكيف الجنود المصريين عليه فقد تم إعادتهم إلي مصر وإستبدالهم بقوات أخرى بديلة من الهجانة أيضا
وبعد ذلك توجهت هذه القوات إلي كردفان وتحديدا إلي منطقة بارا لإقامة معسكرهم فيها وذلك بسبب موقعها الإستراتيجي المميز والذي يتوسط السودان وكذلك نظرا لتوافر العشب والكلأ اللازمة للخيول والجمال بكثرة هناك وفي عام 1902م تم تجنيد ما أطلق عليه البلوك الأول من قوات الهجانة في السودان
وهم من أبناء قبيلة بقارة وبعدها تم تجنيد البلوك الثاني وإنشاء مباني للمعسكرات وبعدها تم تجنيد مجموعة من أبناء الجبال لتتم إضافتهم إلي قوات الهجانة المختلفة وقد تم إختيار أول قائد سوداني لقوات الهجانة بعد حصول السودان علي الإستقلال عام 1956م وهو البكباشي مأمون المرضي. (3)
لماذا وجدت هذه القوات؟
تعددت الأسباب وراء تكوين فرق الهجانة المصرية منها حماية الحدود من المهربين لأي ممنوعات كالسلاح والمخدرات وتمهيد الطرق المختلفة بين ثنايا الجبال لتسهيل العمليات المختلفة أثناء الحروب وحماية من يضلون الطريق في المناطق الصحراوية والحفاظ علي الإستقرار في مناطق الحدود المصرية والعمل علي إستقرار الأمن فيها ومنع محاولات التسلل من وإلي مصر (4)
بعض أعمال الهجانة
حماية الحدود: حيث تولت حماية الحدود من المهربين لأي ممنوعات كالسلاح والمخدرات، وتمهيد الطرق المختلفة بين ثنايا الجبال لتسهيل العمليات المختلفة أثناء الحروب، والحفاظ على الاستقرار في مناطق الحدود المصرية، كما أنها حافظت على رسم الحدود بين المملكة المصرية السودانية وبين أثيوبيا وكينيا ويوغندا وزائير والكنغو البجليكية سابقاً وافريقيا الوسطي (السودان الإفريقي).
القضاء على الثورة المهدية والتي اندلعت عام 1880م والتي استطاعت السيطرة على مناطق كثيرة من السودان بما فيها العاصمة الخرطوم وقتل الحاكم الانجليزي، بل ومحاولة غزو مصر عام 1885م.
غير أنها هزمت على يدي القوات الإنجليزية مدعومة بقوات الهجانة في أم درمان في سبتمبر 1898م، وسقطت الخرطوم في يد القوات المصرية والبريطانية، وانتهت بذلك الدولة المهدية، وتمَّ رفع العلمين المصري والبريطاني على العاصمة الخرطوم يوم 4 سبتمبر عام 1899م. (5)
علاقة الهجانة بالإخوان
ارتبط الإخوان بالهجانة في السجون والمعتقلات حينما كانت تستعين إدارة السجون بهم لضرب وتكدير الإخوان. ومنها بعدما حلت حكومة النقراشي جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948م أمرت بالقبض على الإخوان والزج بهم في السجون، حتى أنها افتتحت سجن الطور لمزيد من التنكيل بالمعتقلين، حيث تصف صحيفة الكتلة الوفدية لصاحبها مكرم عبيد وضع المعتقلين وهجوم الهجانة عليهم لترويعهم
بقولها: تعامل الإدارة المعتقلين بوسائل من التعذيب لا يسمع عنها إلا في البلاد الفاشية، ومنها أن قومندان المنفى الأول "عباس بك عسكر" كان يقوم بحملات تفتيشية مستمرة يقصد منها إرهاب المعتقلين، فلا تكاد تمضي دقائق على استيقاظهم حتى يفاجئوا بجنود "بلوك النظام" ببنادقهم، والهجانة بسياطهم، والضباط بمسدساتهم
وقد أحاط بعضهم بالمعسكر بينما أقتحم الآخرون غرف المعتقلين تحت ستار التفتيش عن الممنوعات، وجلد كثير منهم مثل الأستاذ ماهر خميس المحامي، والمرحوم الأستاذ أنور محروس عمدة قرية بأخميم (سوهاج) وقام القومندان بسب كثيرا من المعتقلين بألفاظ يحل البيان عن ذكرها ولا تصدر إلا في أحياء الدعارة ومواخير الفسق، وأصيب أحدهم بإصابة بالغة في عينيه من أثر الكرابيج مما اضطر الإدارة إلى علاجه بالمستشفى. (6)
ويذكر الأستاذ علي أبو شعيشع:
- ضاق الحكمدار ذرعاً بمحاسبة المسئولين له، فجرد حملات التفتيش على الحزاءات، وبدأ بأول حزاء، دخله ومعه قوة من (بلوكات) النظام والهجانة ومعهم يوماً لكل حزاء إلى أن جاء دورنا، وفي صبيحة هذا اليوم شغلت وزميلي " عزت " بكيفية إخفاء مذكراتي، فأحضرت علبة (بوية) ووضعت داخلها أوراق المذكرات، ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة
- وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريباً متجهاً بالحفر إلى خارج الأسلاك الشائكة ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء، وأهلت عليه الرمال، وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد، وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة حجرة إلى أن وصل إلى المصلى وحان وقت أذان الظهر وكانوا قد أحضروا كرسياً بجوار المصلى جلس عليه وفي محاذاته وعلى بعد أمتار متنه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان
- وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه، فأمر جنوده الهجانة بإسكات المؤذن، فاستمر يؤذن، فضربوه بالكرابيج، فظل يؤذن وهي يبكي من شدة الضرب، وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم، واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة، فخشى من تطور الموقف ضده فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء ثم عاد إلى مكتبه.
- وفي الصباح توجه بنا الشيخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحكمدار، فإذا بالجنود في موقع مبنى الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات ويهجمون على الحكمدار فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضرباً لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم، وأُبلغت القاهرة باللاسلكي، واعتصم الجنود بمبنى الإدارة، وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام، وكلٌ يبكي على ليلاه.
- فوجئنا في آخر النهار بوصول طائرة تحمل طاقماً جديداً من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل، وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه، وجاءت بعدها الباخرة عايدة تحمل قوة من الجنود، وعادت بالجنود المتمردين حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب. (7)
ويقول محمود عساف:
- أدخل الإخوان الجدد إلى حذائهم ثم فوجئنا بطابور قادم إلينا : عساكر البيادة المدججون بالسلاح ثم الهجانة ومعهم الكرابيج ثم سيارات النصف نقل وبها جنود وضباط مسلحون بالمدافع الرشاشة . تجمعوا أمام الباب فدخل الإخوان إلى داخل الحذاء ثم تقدم اللواء عباس عسكر ووزع الهجانة في الفناء ضاربين بالكرابيج كل من يجدونه أمامهم. (8)
الهجانة والإخوان وحرب فلسطين
لم يكن الهجانة دائما أداة بطش على الشعب، لكن لهم مواقف بطولية، فيذكر الصاغ محمود لبيب جانب منها (كان وكيل لجماعة الإخوان بعد ترك الجيش) أثناء عمله فيها بسيدي براني بالسلوم ثم البحر الأحمر والذي وصف جنود الهجانة بقوله: لقد كان ضباط وجنود سلاح الهجانة المصري.. سادة الموقف دون شك! إذ كانت تصرفاتهم الوطنية، نقطة التحول في الموقف الدولي كله! وفشل الهجوم البريطاني على الدردنيل .. فنحن ضباط سلاح الهجانة المصري.. أو صقور الصحراء كما كانوا ينعتونا. (9)
[ويذكر أحد مجاهدي الإخوان في حرب فلسطين وهو الأستاذ علي مصطفى نعمان كيف اشترك الإخوان وسلاح الهجانة المصري في مطاردة الصهاينة عام 1948 فيقول:
- كنت بالموقع في يوم من أيام سبتمبر عام 1948، وإذا بمجموعة من الأعراب يأتون إلينا مهرولين يخبروننا بأن اليهود قد أغاروا عليهم وأخذوا ثلاثمائة رأس من الغنم، وبعد التحقق من معلوماتهم ومشاهدتنا لهذا الحدث بواسطة النظارة المكبرة أعلنت حالة الطوارئ القصوى في المعسكر مخافة أن يكون ذلك فخا لجنودنا، وعلى الفور استدعيت عددا من الإخوان لملاحقة هؤلاء اللصوص الغاصبين من الصهيونيين، ولما كنا على دراية بهذه المنطقة فلم يكن صعبا علينا أن نوقع بهؤلاء الهزيمة المنكرة.
- وفعلا تمت ملاحقتهم بهجوم خاطف لم يستغرق نصف ساعة وتم استرداد الأغنام وقتل بعض من أغاروا، وفر الباقون يحملون قتلاهم، وقد اشتبك معنا في هذا القتال مجموعة من الهجانة المصرية الذين كانت مواقعهم قريبة منا، وأراد العربان أن يعطونا ثلاثة خراف من الخراف المصابة فرفضت وأخذنا ثلاثة خراف سليمة وأعطيناهم للهجانة هدية منا. (10)
خاتمة
في وطننا الإسلامي كل شيء مهدور تحت أقدام الغرب وأعوانهم، بل كل شيء مسخر لخدمة أهدافهم، فالشرطة المصرية كانت أداة بطش وتنكيل وتعذيب في يدي المستعمر والاقطاعيين، ولا ندري بأى عقيدة كانوا يتصرفون، وعلى أى مبادئ يتصرفون.
وقس على ذلك فرق الجيش والأجهزة الخاصة التي كلها كانت تستخدم في يدي المستعمر ومن بعده عسكر مصر في قهر الجيش وإذلاله. وإن كان لبعضها وقت الجد مواقف بطولية، وهو ما يؤكد أنهم أداه في يدي من يستخدمهم، إن أحسن أحسنوا وإن أساء أساءوا.
المراجع
- جابر قميحة: ذكرياتي مع دعوة الإخوان في المنزلة دقهلية، مركز الإعلام العربي، 2009.
- طارق بدراوي، عسكري الهجانة، صحيفة أبو الهول السياحية، عدد: 9-2018
- طارق بدراوي، عسكري الهجانة، المرجع السابق.
- القوات المسلحة السودانية – الصفحة الرسمية 24 مايو 2013م
- معتز عثمان: الهجانة إضاءات تاريخية على أبطال حرس الحدود
- عبدالمتعال الجبري: لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا، دار الاعتصام، 1978م.
- علي أبو شعيشع: يوميات بين الصفوف المؤمنة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.
- محمود عساف: مع الإمام الشهيد حسن البنا، 1993
- محمود لبيب: حماة السلوم، دار الأنصار، 1980م.
- علي نعمان: شاهد على جهاد الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1948، دار التوزيع والنشر الاسلامية، 2002.