الإخوان المسلمون وإدارة الأزمات
إدارة الأزمات
يقول الحق سبحانه وتعالي " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين، أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العاملين" .. سورة العنكبوت2-6
إن الإيمان الحق أمانة الله في الأرض لا يحمله إلا من هم أهل له، وفيهم علي حمله قدرة، وفي قلوبهم له تجرد وإخلاص، الذين يؤثرون هذا الحق علي الراحة والأمن والسلامة، ويرتفعون فوق الإغراء ومتاع الدنيا الفاني، والإيمان أمانة ثقيلة، يتعرض صاحبها للأذي من الباطل وأهله، وإذا طال الأمد وتأخر نصر الله -لحكمة- كانت الفتنة أشد، فلا بد من نماذج وقدرات ومنارات علي الطريق، يسير وراءها ويقتدي بها الذين يصبرون ويجاهدون ويتحملون في سبيل الله.
تُعد إدارة الأزمات من أهم وأخطر المشكلات التي تواجه الحركة الإسلامية على وجه العموم، فالعمل الإسلامي سواء كان دعوياً أو حركياً على المحك دائماً، وتدبر له الأزمات باستمرار، وفي ظل غياب الأطر المؤسسية القانونية بدول العالم الثالث، فإن العمل الإسلامي شأنه شأن أي عمل يواجه أزمات أو يصطدم بعقبات إدارية أو أمنية أو سياسية حتى ولو حاول أن يعمل في ظل الأطر القانونية القائمة، أو أن يحصل على "صك" القانونية.
لهذا فإن القائمين على العمل الإسلامي في حاجة إلى ما يمكن تسميته بـ"فقه إدارة الأزمات" فإن الأزمة ليست سهلة ميسورة، ولكنها تُعد أحد أهم وأخطر عناصر العمل الإسلامي، فإذا لم يُحسن التعامل معها قد تجر على العمل ويلات كثيرة في ظل ظروف الأزمة. كل هذا يحتاج لفقه إدارة الأزمـات.
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين بتجربتها الكبيرة أدركت هذا الأمر جيداً، وأخذت تتعامل مع الأزمات بمنظور علمي، ورؤى شرعية، وقرار شوري، فإن الإمام حسن الهضيبي ـ يرحمه الله ـ يُعد أفضل من أدار الأزمات في العمل الإسلامي في العصر الحديث في إطار دعوي، فلقد واجه الرجل أزمات كثيرة من داخل جماعة الإخوان المسلمين، ومن الحكومة المصرية في ذلك الوقت. وأدارها كأفضل ما يكون بمهارة واقتدار.
وإذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي عاش فيها الرجل ـ داخلية أو خارجية ـ والمحن التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في عهده، والتي بلغت من الشدة والضــراوة ما يزلزل أركان أي تنظيم أو جماعة ما لم تكن هذه الجماعة تخلص لله وحده، وقائمة على أسس عقدية وفكرية سليمة، ولها في الوقت ذاته قيادة ذات قدرة على التعامل مع الأزمات وغنية بمعرفة فقه الأزمة.
وقد كان للأستاذ الهضيبي فطنة وكياسة في إدارة الأزمات التي يقول عنها الأستاذ عمر التلمساني ـ يرحمه الله ـ: "إذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتة يانعة فتية، فقد كان حسن الهضيبيمشعل عصره، يوم حمل الراية حريصاً لم يفرط، عزيزاً لم يلن، كريماً لم يهن، وأدى الأمانة أميناً في عزم، قوياً في حزم، ثابت الخطى في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يثنه حبل المشنقة، ولم يرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصراراً على إصرار، وصموداً فوق الصمود" (مجلة الدعوة، العدد الأول، رجب 1396هـ).
وقد كان لفقهه في إدارة الأزمات الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في أن يخرج الإخوان المسلمين من المحن والسجون أفضل مما كانوا.. صبروا وصابروا وجاهدوا أعظم الجهاد. بل وكانوا نواة لجيل جديد حمل عبء الدعوة والحركة، وهذا بفضل الله أولاً، ثم بفضل الأسس التربوية السليمة التي وضعها الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا ـ يرحمه الله ـ وتعامل القيادة الواعية مع قضاياها وقضايا الأمة بمنظور شامل، وبمنهجية ثابتة، واستراتيجية واضحة.
قد ينظر البعض للمحن التي تعرّض لها الإخوان في عهده بنظرة سلبية كأنه هو المسؤول عنها، وقد أثبتت الأحداث غير ذلك، بل إن أسلوبه في إدارة الأزمة حوَّل هذه المحن إلى نعم، وحققت الجماعة في ظل الأزمة ما لم تحققه في لحظات الانفراج، وظهر جيل جديد من الإخوان ليقود العمل في أحلك الظروف، بثبات، وقوة، ووعي، وإدراك لظروف المرحلة، ورفع مستوى المفاهيم التربوية في نفوس الإخوان، وإزكاء روح الأخوَّة العملية بينهم، فلم تكن المحن كلها بلاء، ولكن مَنَّ الله على الإخوان ببعض الإيجابيات التي تستحق أن تكون درساً للأجيال.
وسأتناول هنا بعض الأسس التي اتبعها الإمام حسن الهضيبي في إدارته للأزمات، وأبرزها:
أولاً : الاعتماد على الله: فالدعوة دعوة الله وما وقف الإخوان هذه المواقف، وما تعرضوا لتلك المحن إلا لله، وفي سبيل الله، لذلك كان الاعتماد على الله سبحانه هو الأساس في المواجهة: >> $ّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللَّهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ إنَّ اللَّهّ بّالٌغٍ أّمًرٌهٌ قّدً جّعّلّ اللَّهٍ لٌكٍلٌَ شّيًءُ قّدًرْا (3) << (الطلاق).
فالاعتماد على الله سبحانه عنصر أساسي وبدهي في إدارة الصراع بين الحق والباطل. وهذا هو صلب العقيدة، فالله هو المعين، وهو الملجأ والملاذ، وهو الغاية والهدف، ولا يجوز أن يدير مسلم مواجهة بين الحق والباطل دون طلب العون والغوث من الله سبحانه.
ثانياً : التركيز على الثوابت التربوية: يقول ـ رحمه الله ـ موجهاً كلامه للإخوان محدداً دورهم ومهمتهم: "إن الله جعلكم جنوداً لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله، وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعداً دائماً للقيام بواجبه، فكونوا مستعدين دائماً لما يؤدي بكم إلى النصر في الحياة، فطهروا قلوبكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجز من أن ينتصر مع غيره في معركة السلاح" (مجلة الدعوة، 1397هـ).
فهو هنا يركّز على إصلاح النفس كخطوة أوليّـة في المواجهة فلابد للنفس أن ترقى لمستوى يؤهلها لتحمل التبعات الجسام في مجال العمل عموماً أو في مجال المواجهة التي ستعرض نفسها بعد ذلك.
ثالثاً : الثقة في نصر الله: يقول الله عز وجل: >> $ّلّيّنصٍرّنَّ اللَّهٍ مّن يّنصٍرٍهٍ << (الحج: 40)، ولعل هذه الآية كانت أمام المستشار الهضيبي حين قال: "فكونوا مستعدين دائماً لما يؤدي بكم إلى النصر في الحياة، فطهروا قلوبكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم"، فنصرة الله في ذات النفس عنصر مهم لطلب النصر من الله، ثم الثقة من نصره سبحانه.
ويؤيد ذلك قوله ـ يرحمه الله ـ : "ولم يعد من السهل على أي طاغية أن يحول دون انتشار هذه الروح أو امتدادها"، فلنكن على ثقة من نصر الله: >> $ّكّانّ حّقَا عّلّيًنّا نّصًرٍ الًمٍؤًمٌنٌينّ=>47<= << (الروم)، فلنأخذ بالأسباب أولاً ثم نترك الأمر كله لله ونثق بما عند الله، وأن النصر قادم لا محالة إذا قدمنا له كل ما نستطيع من جهد وبذل وتضحية، وما كان نصر الله للإخوان وإعانته لهم على ما كانوا فيه من شدة وخروجهم ثابتين على الحق غير مبدلين، إلا خير دليل على ذلك، وأن انتشار العمل الإسلامي الكبير هذه الأيام لأكبر شاهد، فمن كان يعتقد منذ 45 سنة أثناء المحنة والقتل والتعذيب والاعتقال وأحكام الإعدام أنه ستقوم للإخوان قائمة، لم يعتقد ذلك إلا الإخوان فقط، وذلك لثقتهم الفائقة في نصر الله.
رابعاً : وضوح الهدف : فتحديد الهدف ووضوحه مطلوب عموماً، وخاصة عند الأزمات، ليعرف الإنسان على أي شيء سيثبت أو من أجل أي شيء سيضحي، فغياب الفهم الصحيح للهدف قد يسبب من المشكلات الكثير، يقول ـ يرحمه الله تعالى ـ: "إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوة محلية تنحصر في حدود وطن صغير، وإنما غدت عالمية تشمل العالم الإسلامي بأسره وتوقظ في المسلمين روح العزة والكرامة والتقوى، فهي اليوم عنوان انبعاث لا نوم بعده، وتحرر لا عبودية معه، وعلم لا جهل وراءه، ولم يعد من السهل على أي طاغية أن يحول دون انتشار هذه الروح أو امتدادها، وماذاك إلا لأنها تعبير صادق عن شعور عميق، ملأ نفوس المسلمين جميعاً، ويستولي على مشاعرهم وعقولهم، وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام، فالإسلام في حقيقته ضرورة وطنية واجتماعية وإنسانية" (المرجع السابق).والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف: 21).
خامساً : الشجاعة : فهي ركن أساسي ومهم في إدارة الأزمة، فإذا وهن القائد وضعف أو تخاذل فسينهار كل من خلفه إلا من عصم ربي، ولقد كان الإمام حسن الهضيبي من الشجاعة بمكان ليقف في وجه أعتى التحـــديات.
ولقد استطاع الإمام الهضيبي رحمه الله أن يدير الأزمات الطاحنة في كل مكان عاش فيه الإخوان وعلي طريق الدعوة ترك علامات بارزة أقوي من الأحداث وأكبر من الطغاة.
ومن وراء الأسوار كانت هناك عيون مؤمنة، تطل رغم آلامها علي أوضاع هذه الأمة، بكل شفقة وحب وبكل القلق وهي تري _ولا تستطيع حيلة_ العبث بمصيرها ومستقبلها، هناك كان الإخوان المسلمون خلف جدار الصمت الأسود وكأنما الدنيا قد نسيتهم، لكنهم كانوا علي يقين أن خالق الكون لم ينسهم، فمن كان مع الله كان الله معه، فلن يغلب أبدا ولن يهزم أبدا، ومن أجل إيمانهم بالله وثقتهم في رحمته وعدله كان الصبر الجميل حليفهم، واليقين من نصر الله يملأ قلوبهم وكان دعاؤهم (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (الأعراف : 89).
وبعد أن عرضنا لهذه المواقف من تاريخنا القريب في مواجهة الأزمات واستثمارها لصالح الدعوة نؤكد أنه لا بد من السير علي نهج هؤلاء الأعلام الذي عرضنا جوانب عابرة منه، والذين ساروا علي خطا رسول الله صلي الله عليه وسلم في استقبال الأحداث واستثمارها لصالح هذا الحق ولخدمة هذه الدعوة مثل:
1-تزكية الإيمان في القلوب والحرص علي حسن الصلة بالله، فهذا أصل الطريق، الحفاظ علي صلاة الجماعة في المسجد، قيام الليل، الصيام، الذكر، التسبيح، الاستغفار إن كل سلاح في أيدي المؤمنين عملة زائفة يجب أن تصحح بالإيمان بالله، وشجاعة المؤمنين وثباتهم.
2- استشعار المسئولية عن الدعوة : كل فرد في الصف يتصرف على أنه يمثل الجماعة في كل أحواله وأنه مسئول مسئولية كاملة عن الدعوة .
3- تعميق معنى الذاتية عند الأفراد : في الالتزام بكل جوانب الدعوة والتحرك بها
4- العمل علي إعداد الأخوة للجهاد في سبيل الله، وبث روح الجهاد في سبيل الله : فالعدو يزحف والبطش يزداد، فلا بد أن يواجه بالاستعداد للقائه، والجهاد مراتب ودرجات، تبدأ من إصلاح النفس إلي القتال في سبيل الله، وهناك الجهاد بتبليغ الدعوة، والجهاد السياسي، والجهاد الاقتصادي، والمقاطعة لأعداء الله، ألوان كثيرة يجب أن نحرص عليها.
5- وهناك الثقة الغالية في وعد الله، للمؤمنين الثابتين بالنصر، وبث روح الأمل في أن العاقبة للمؤمنين العاملين ( بل نقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (الأنبياء:18)، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (الأنبياء : 105)
6- إيقاظ الهمم والعزائم، والتذكير بالآخرة والإكثار من الحديث عن شهداء الإسلام، وكيف كان نشيدهم
ركضا إلي الله بغير زاد
- وكل زاد عرضة النفاد.
إلا التقي وعمل الميعاد
- والله الموفق والمعين ... والحمد لله رب العالمين
المراجع
- مجلة الدعوة، العدد الأول، 2 رجب 1396هـ
- مجلة المجتمع:عدد 1425 ___ 11/07/2000