إخوان العراق والشيوعيين ومذبحة الدملماجة بالعراق
مقدمة
يضم العراق خليطا متنوعا من القوميات والأعراق والأجناس والاديان وهو ما يجعله ساحة للصراعات بين الحين والأخر خاصة أثناء ضعف الدولة، ولذا كان من السهل تبني بعض أبناءه الفكر الشيوعي الوافد من الشمال.
تعد الثورة البلشفية هي شرارة البدئ لانتشار الشيوعية في العديد من دول العالم بل ووصول بعضها لسدة الحكم في دول عدة خاصة الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ويوغوسلافيا وكوبا وغيرها.
كما أنها زحفت للدول العربية والإسلامية في ظل وجود المحتل الغربي الرأسمالي الذي شجع الطبقية وأفسح المجال لغياب العدالة الاجتماعية ومحاربة العقيدة الدينية للشعوب الإسلامية إلى تبني بعض أبناء هذه الشعوب إلى مبادئ وفكر الشيوعية.
فمنذ تأسست الشيوعية على يد كارل ماركس وفريدريك أنغلز وبيان أعلانهم في كتاب "بيان الشيوعي" حلم جميع المنتمين إليه بثورة عالمية تقام على يد الطبقات الأغلبية من العاملين في الفلاحة والمصانع يقومون بالقضاء على الطبقات الغنية والحاكمة الطاغية من البورجوازية.
فقد عمدت الشيوعية إلى بذر بذور العنصرية بين طبقات الشعب الواحد واللعب على الطبقات العاملة والفقيرة وحاولت إيقاظ المارد الموجود بداخلها لتواجه الحكومات والاقطاعيات وتبسط سيطرتها لتقوم الدولة متمثلة فيهم بتوزيع الثروة على الفقراء.
غير أن واقع الشيوعية كان مناقضا لنظرياتهم التي آمنوا بها وسعوا لفرضها على الناس بحيث أنتجت إقطاعيين جدد من بينها ولم تحقق حلم واحد من أحلام الطبقات الفقيرة والعاملة، ولولا مساندة الدولة للمبادئ الشيوعية في بدايتها وتبنيها ما كتب لها الانتشار.
الشيوعية في العراق
أسست الشيوعية عام 1919 حركة تحت مسمى العالمية الثالثة أو الكومنترن، ودعت تلك الحركة للقضاء على الطبقات الحاكمة والغنية البورجوازية في كل دول العالم الغربية منها والشرقية وإقامة مجتمع شيوعي يدار على يد الطبقات العاملة الأغلبية.
استطاعت الشيوعية أن تنجح في تكوين مقر لها في الأراضي العربية وذلك بسبب الفقر البيئي ووجود أعداد هائلة من العاملين مقارنة بالطبقة الملكية الحاكمة، حيث حملها معهم كثير من جنود المحتل الغربي الذين أمنوا بها قبل توجههم للبلاد العربية، وساعدهم على انتشارها كشف الدولة الروسية لاتفاقية سيكس بيكو والتي فضحت مخططات فرنسا وبريطانيا وجعلت الروس في نظر العرب أبطال.
هذا غير الرافد الأساسي حيث الكومنترن نشاطه إلى البلاد العربية ومنها العراق، حيث كان مندوبوا الكومنترن يجوبون الشرق الأوسط في تلك الفترة بهدف بث الأفكار الماركسية وتشكيل خلايا شيوعية تحولت لنويات تشكلت منها الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية والإسلامية.
حمل مندوبوا الكومنترن العديد من الكتب التي تكلمت عن الفكر الشيوعي والنظريات الماركسية وساعدهم على ذلك افتتاح مكتبة مكنزي ببغداد عام 1920م، وانتشرت أفكارهم وتأسس أول عمل منظم له تحت مسمى الحزب السري العراقي عام 1924م لكنه سرعان ما تلاشي ليحل محله جماعة متدارسي الأفكار الحرة بإشراف حسين الرحال، كما أصدرت جريدة تحت مسمى الصحيفة لكنها تناولت الدين والمرأة والعائلة ووضعها الاجتماعي مما عتبره الرأى العام خروجا على قواعد الدين الإسلامي ومحاولة لهدم ثواب المجتمع والأسرة مما دفع السلطات لاغلاقها.
وفي 31 مارس - اذار 1934 انعقد في بغداد اجتماع تأسيسي حضره شيوعيون من مختلف أنحاء العراق. واعلنوا توحيد منظماتهم في تنظيم مركزي واحد باسم (لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار) وانتخبت أول لجنة مركزية، وأصبح عاصم فليح أول سكرتير للحزب، ثم تغير اسم الحزب فيما بعد إلى الحزب الشيوعي العراقي حيث اتخذت اللجنة المركزية قراراً بإعلان اسم الحزب الشيوعي العراقي بدلاً من الاسم السابق فيأواخر تموز - يوليو عام 1935م لكن تعرض أعضاءه للاعتقال.
لعب يوسف سلمان يوسف (فهد) دوراً بارزاً سواء في بناء خلايا الحزب من جديد في مدن العراق الجنوبية أو في إقامة مركزه في بغداد وتأسيس الحزب وإصدار صحيفة باسم الشرارة عام 1940. ومن الجدير بالذكر استطاع الحزب النفوذ إلى العناصر العسكرية أواخر عام 1935م، وفي عام 1936م تشكلت اللجنة العسكرية للحزب.
الغريب أن الشيوعيين في العراق لمجرد دخول الاتحاد السوفيتي الحرب بجانب الحلفاء انقلبوا لمؤيدين لبريطانيا وسياستها بل وتعقبوا مؤيدي ألمانيا وكتبوا عنهم تقارير للمخابرات البريطانية في العراق، ومع ذلك تعرض الحزب للانشقاق ثم المطاردة من حكومة نوري السعيد وإعدام قائدة يوسف سلمان يوسف (فهد) (1)
وفجأةً أصبح للأحزاب الشيوعية العربية صوتاً في سياسات بلاد العرب وصار مجارياً للأحزاب العريقة الأخرى، ويعد واحد من أهداف الاحزاب الشيوعية هي إسقاط الأنظمة القائمة سواء كانت بالأنتخابات أو بالثورات أو بالأنقلابات العسكرية وهو ما يوضح وقوفهم مع الانقلابات العسكرية في جميع الدول العربية حتى وقتنا هذا.
وتمر الأيام ويقوم عبد الكريم قاسم بانقلاب عسكري على الحكومة العراقية في 14 يوليو - تموز عام 1958م فكان للحزب الشيوعي دوراً بارزاً في دعم الانقلاب كونه حقق نقلة كبيرة في موضوع العمل السياسي حيث انتقل الحزب الشيوعي من مرحلة العمل السياسي السري إلى العمل العلني، ومن ثم تعامل الشيوعيون مع عبدالكريم قاسم باعتباره شخصية وطنية، وكان الحزب الشيوعي العراقي القوة الرئيسية التي وفرت الدعم للثورة وزعيمها.
لقد كانت فترة ما بعد سقوط الملكية في العراق وحكم عبد الكريم قاسم هي الفترة المثالية للحزب الشيوعي العراقي، حيث بدا العراق كله مفتوحاً أمام نشاطات الحزب ومهرجانته التي كانت تقام في كل المحافظات العراقية تحت إسم (مهرجان أنصار السلام)، ومن جهته أيضاً، فقد اتكأ عبد الكريم قاسم على الشيوعيين خصوصاً وأنه لم ينجح في تطويع القوى القومية لإرادته السياسية.
غير أنه ركن إلى ركن ضعيف بسبب العقلية الشيوعية التي أدارت المشهد العراقي وارتكبت من أجل ذلك عشرات المذابح ضد المعارضين سواء كانوا إسلاميين أو قوميين أو حتى من جموع الشعب مثل مذبحة الدملماجة بالموصل ومذابح كركوك ، مما جعله في نهاية المطاف ينفض عنهم بل ويوجه لهم الضربات لما أحدثوه من شرخ من البينة الاجتماعية للمجتمع.
ومع تولى البعثيين الحكم والذين حملوا العداء الشديد للشيوعيين بسبب المذابح التي قاموا بها ضد الشعب، مما حدا بالبعثيين لتوجه ضربات قاتلة للشيوعيين ومطاردتهم، وهو ما دفع الحزب للمهادنة وموافقة البعثيين على موقفهم، حتى أنهم تحالفوا معهم في يوليو - تموز 1973م انضم الحزب الشيوعي إلى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية جنباً إلى جنب مع حزب البعث لكن سرعان ما بدأ الخلاف بينهما. (2)
الإخوان في موصل العراق
كانت العراق من الدول التي اهتم بها الإخوان في باكورة دعوتهم حيث أوفدوا الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد معلما وداعية، غير أن الدعوة شهدت تقدما حينما سافر الدكتور حسين كمال الدين للعمل مدرسا في كلية الهندسة وقد استطاع أن يجتذب كثيرا من الشباب للدعوة بل وينشرها في الكثير من مدن العراق.
وازدادت الدعوة قوة ونشاط بعودة الشيخ محمد محمود الصواف للعراق بعد اتمام دراسته بمصر حاملا فكر ومنهج الإخوان المسلمين والذي يعد المؤسس الحقيقي لدعوة الإخوان بالعراق.
ومدينة الموصل تتبع محافظة نينوي في الشمال الغربي من العراق حيث كثرة العلماء المسلمين بها والتمسك بتعاليم الإسلام وهو ما سهل قبولهم لدعوة الإخوان المسلمين
حيث يصف الدكتور محسن عبد الحميد كيف انضمت الموصل لدعوة الإخوان بقوله:
قلنا إن فكرة الإخوان المسلمين قد دخلت الموصل منذ أواسط الأربعينيات على يد الدكتور حسين كمال الدين الأستاذ المصري الذي وصل إلى الموصل في 24 مارس عام 1945م مع الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد فاجتمعا بمعظم علماء الموصل وزارا المساجد والمدارس وألقيا عددا من المحاضرات الإسلامية وغادراها في 27 مارس وكان لهذه الزيارة تأثير كبير في التعريف بدعوة الإخوان بحيث إن بعض الجرائد دعت الناس إلى الانضمام إلى هذه الدعوة .
وفي العام نفسه افتتحت مكتبة في الموصل بشارع النجفي باسم (مكتبة الإخوان المسلمين) وفي عهد قيادة الصواف حصلت الموافقة الرسمية على فتح شعبة الإخوة الإسلامية في الموصل في 4 تشرين الأول عام 1952م.
وفي عام 1948 م كان نشاط السيد عبد الرحمن السيد محمود بارزا في معارضة معاهدة (بورتسموتث) وتأييد عبد الجبار الجومرد في الانتخابات مما أدي إلى اعتقاله واعتقال الشيخ الصواف والشيخ بشير الصقال وقلة من رجال الموصل في عهد وزارة محمد الصدر .
ويروي السيد عبد الرحمن السيد محمود أنه باسم الإخوان اتفق مع رجال حزب الاستقلال وغيرهم على القيام بمظاهرة كبري في 27 من كانون الثاني عام 1948م ضد معاهدة بور تسموث.
وفي الساعة الخامسة والنصف من فجر هذا اليوم خابره حازم المفتي رئيس فرع حزب الاستقلال في الموصل وقال له :
- إن المتصرف اليعقوبي هدد بأن الحكومة ستفرق بالقوة أية مظاهرة تقوم وإنهم "المفتي ومن معه" ناكلون عن الاتفاق؛ فقال له السيد عبد الرحمن: إننا قد أعددنا العدة وهيأنا اللافتات ولن يثنينا التهديد لن يرعبنا فكانت مظاهرة من أقوي المظاهرات وأشدها وقد انسحبت الشرطة إلى داخل المركز العام بعد أن عجزت عن تفريقها ونزل الجيش بإمرة عمر علي رحمه الله وفرقها بالحسني .
وازدياد نشاط الإخوان في الموصل لا سيما في خطب علمائه أدي إلى تدخل مديرية الأوقاف بتوجيه من الدولة إلى كتابة كتاب موجه إلى خطباء المساجد بعدم التدخل في السياسة ولما توسع نشاط الجمعية وبدأ أعضاؤها يعقدون الاجتماعات العامة في المساجد اعترضت السلطات عدة مرات ونبهوا المسؤولين عن الجمعية بضرورة عقد مثل هذه الاجتماعات في مقراتها وإخبار السلطات بالاجتماعات العامة .
إن طبيعة الموصل الدينية وكثرة العلماء المثقفين المسلمين فيها ساعدت جهود الإخوان في نشر الحقائق الدينية وتربية كثير من الشباب تربية إسلامية ظهر أثرها في فترة متأخرة عندما قاوم الموصليون بدمائهم الشيوعية التي سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله تعالي
ولم يبق نشاط الإخوان في سنوات الخمسينيات داخل المدينة وإنما وسعوا نشاطهم داخل الأقضية والنواحي والقرى كي لا تحرم تلك المناطق من إشعاعات نور الثقافة الإسلامية والتوجيه الإسلامي في ضوء منهج الإخوان الشامل وبجانب ذلك أنشئوا أقساما تشمل قسم العمال والطلاب والناشئة والنساء (3)
صراع ما قبل المذبحة
الشيوعية معادية للدين الإسلامي بل معادية للأديان وهو ما جعلها في صدام دائم مع جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها، حيث استطاع الشيوعيون أن يكونوا أعظم المؤثرين في الطبقة المثقفة والمتعلمة في المدارس والجامعات والمجتمعات العمالية كما استطاعوا أن ينفذوا في نسيج أحزاب أخري كالجبهة الشعبية والحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يمثل الطبقة (البراجوازية) الصغيرة.
في حين كانت أهداف الإخوان بالعراق منذ نشأتها:
- مقاومة الاستعمار الإنجليزي بفضحه وكشف عملائه وألاعيبه وبيان حكم الشريعة الإسلامية في تحريم موالاته والدخول في أحلاف استعمارية عسكرية معه.
- الوقوف أمام الشيوعية ورد مفترياتها وزيف مبادئها التي أرادت أن تسلب العراق إسلامه وعروبته وكيانه المستقل.
لقد كان ظهور الإخوان في هذه الفترة مفاجئة للحركة الشيوعية في العراق لأنهم كان من قبل منفردين بشباب الأمة لم ينافسهم في ذلك منافس قوي وكانوا يقودون شباب الأمة إلى الإلحاد اللادينية والحياة اللاهية في ضوء ما كانوا يؤمنون به من مبادئ؛
فلما ظهرت دعوة الإخوان وبدأت تنتشر بين الشباب خاف الشيوعيون على مستقبلهم وعرفوا أن معرفة المسلمين للإسلام الحق الذي يعرضه الإخوان كفيل بالقضاء عليهم فبدأوا يكتبون في صحفهم السرية مقالات يهاجمون فيها الإخوان ويفترون عليهم .
وكان لأوضاع العراق السيئة وانتشار الفساد في عهد الملكية أن أدى ذلك إلى ثورة الرابع عشر من يوليو - تموز عام 1958م التي جاءت بالضباط من ذوي الاتجاهات المختلفة إلى الحكم فلم يستطيعوا الاتفاق على شئ فأدي الصراع بينهم إلى تغلب الجمع الذي كان يناصر الشيوعية على الجمع الذي أراد من العراق أن يعود إلى أحضان أمته العربية ويصنع معها الوحدة أو التضامن، فاختل الميزان واختلف القوم فتولي الشيوعيون كيد المظالم والمجاوز فقادوا الثوار الحقيقيين إلى السجون والمشانق.
مذبحة الدملماجة كمذبحة حماة
ملة وفكر واحد جمع الشيوعيين والبعثيين والعلويين وغيرهم ضد شريعة الإسلام الحقيقية فقاموا بأبشع الجرائم ضد المسلمين ودعاته في العديد من الدول التي سيطروا عليها.
ومذبحة الموصل التي ارتكبها الشيوعيين بالعراق كمذبحة حماة التي ارتكبها النظام السوري في حماة. إن طبيعة الموصل الدينية وكثرة العلماء المثقفين المسلمين فيها ساعدت جهود الإخوان في نشر الحقائق الدينية وتربية كثير من الشباب تربية إسلامية ظهر أثرها في فترة متأخرة عندما قاوم الموصليون بدمائهم الشيوعية عام 1959م.
فما أن انقلب عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي العراقي التف حوله الشيوعيين واعتبروه القائد والمنقذ والمخلص لهم، ومن أجل ذلك عادوا كل من عارض قاسم وتوجهاته بما فيها التيار الإسلامي العدو التقليدي لهم، بل إن كثيرا منهم استغل الوضع وأمعن في الانتقام بدافع الثأر أو القبلية أو الصراع الماضي.
استمرت هذه العداوة بعد ثورة 14 يوليو - تموز وعندما استغل الشيوعيون الوضع الجديد الذي لم يصنعوه وإنما أرادوا كعادتهم في كل مكان أن يركبوا الموج ويغتصبوا الثورة فيسرقوها من الضباط المسلمين والقوميين المؤمنين وفعلا سيطروا على الشارع العراقي بعد أشهر قليلة من الثورة مستغلين انحياز عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء إليهم؛
فقاموا بأبشع المجازر في الموصل وكركوك واعتقلوا ألوف الناس في السجون والمعتقلات واعتدوا على الطلاب والطالبات في المدارس الثانوية والجامعات وكانت حصيلة الإخوان في ذلك الشئ الكثير منها أنهم هاجموا في باب العظم مقر الجماعة ومطبعتها فأحرقوها وقتلوا وأعدموا كثيرا من الضباط المسلمين.
وفي الموصل وحدها قتلوا من الإخوان الشيخ هاشم عبد السلام وعبد الرزاق شنداله والفتاة المسلمة حفصة العمري وأبيها على العمري وسحلوهم جميعا في الشوارع وعلقوهم هم وغيرهم على جذوع الأشجار وقطعوا أجسامهم تقطعيا. حيث كانوا يهتفون في احتفالاتهم ومظاهراتهم (حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم) و(إعدام إعدام جيش وشعب يحميك من كل خائن) و(الموت لأعداء الشعب).
وقد اشتدت وطأتهم على أبناء الشعب العراقي دون تفريق لا سيما بعد إخفاق العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في ثورته السريعة غير المخططة ضد نظام عبد الكريم قاسم عام 1959م في الموصل فأقاموا المحاكم الشعبية ولجان الدفاع عن الجمهورية (أى الشيوعية)؛ وارتكبوا مجازر الموصل وكركوك المشهورة وذهب ضحيتها الرجال والنساء من الإسلاميين والبعثيين والقوميين والوطنيين وحتى الأبرياء المستقلين ونشروا الرعب في كل مكان.
وكانت جرائدهم كاتحاد الشعب تنشر القصائد التي تمجد الحبال وتدعو إلى مزيد من استعمال العنف ضد الشعب في زعمهم .وانتقلت اعتداءاتهم على طلبة الجامعات ضربا وسبا وشتما فقتل من قتل وهرب من هرب وفصل من فصل.
بل إنهم اعتقلوا الصواف المراقب العام للإخوان وزجوا به في السجن حيث صب عليه الضباط الشيوعيين جام غضبهم تعذيبا وحرقا وسبا وظل كذلك حتى خرج بعد 5 أشهر وبعدها ضغط عليه إخوانه للخروج من العراق أواخر عام 1959م بسبب التهديد الذي كان يحيطه من الشيوعيين في محاولة لقتله (4)
لقد سبقت المذبحة التي ارتكبها الشيوعيين في الموصل وكركوك تكوين عبد الكريم قاسم للمقاومة الشعبية من الشيوعيين في أغسطس 1958م ليكونوا له سندا ضد الجيش العراقي وربطها بشخصه كوزير دفاع. وقد بلغ عدد المنتمين لها في 21 آب - أغسطس من السنة نفسها الى (11000) شاب وفتاة.
وقد استطاع الحزب الشيوعي نتيجة تمرسه في النضال السري سنوات طويلة أن ينطلق في اعقاب الثورة فيهيمن على المقاومة الشعبية ولجان صيانة الجمهورية هيمنة تامة بحيث كادتا أن تصبحا من تنظيمات الحزب. يقول العميد الركن جاسم العزاوي: (تعاظم نشاط الحزب الشيوعي العراقي وتدخل في امور الجيش وسيطر على المقاومة الشعبية).
أصبحت المقاومة الشعبية جيشاً ثانياً بل وأهم من الجيش الاساسي فسيطرت على كل شيء وتدخلت في كل شيء ، وبدات تستفز الضباط وتقوم بتفتيشهم واعتقالهم بل وتحاول تعمد إهانتهم للتدليل على قوتها.
بدأت المعلومات تصل الى عبد الكريم قاسم بوجود تحرك انقلابي ضده ينطلق من الموصل ! وازدادت مصادر المعلومات عن هذا التحرك ضد النظام القائم ، مع الخطورة التي تمثلها الموصل المشهورة بكونها خاضعة لنفوذ قومي وهي مدينة مُحافِظَة أيضاً ، وكانت كذلك موطن ما يتراوح بين ربع وثلث مجموع ضباط الجيش.
بالاضافة لقربها من الحدود السورية التي تمثل الجبهة القومية المعادية لنظام عبد الكريم قاسم. وكان يقدر عدد سكان الموصل بـ (180) ألف نسمة ، بينما كان عدد الحزب الشيوعي فيها نحو (2000) شخص ، بينما هناك تقدير آخر أكثر رجحاناً بأن عددهم هو (400) شخص، ومهما كان العدد الصحيح بينهما فهو رقم ضئيل قياساً لحجم سكان المدينة.
شعر قاسم والشيوعيون أن نسبة القوى لم تكن في صالحهم داخل الموصل ولذلك قرروا استباق الاعداء بدل أن يضرب هؤلاء في الوقت الملائم لهم ، فأعلنوا عن تجمع لأنصار السلم سيعقد يوم 6 آذار / مارس استهدفوا من خلاله إغراق الموصل بمؤيديهم. كما تلقى الشيوعيون تعليمات من قيادتهم تقول بأنّه "إذا ما ترددت السلطات فإن عليهم أن يقمعوا بأنفسهم أية مؤامرة ضد الجمهورية بكل ما يمتلكون من قوة ووسائل".
لقد وقعت مجزرة الدملماجة بالموصل عقب فشل ثورة الشواف ومحاولة انقلابه على عبد الكريم قاسم لكن دون تخطيط أو ترتيب في 8 آذار (مارس) 1959 على أثر قيام منظمة السلام الشيوعية بعقد مؤتمرها في مدينة الموصل في يوم 6 آذار من العام نفسه أي قبل الإنقلاب بيومين في حركة إستفزازية للقوميين العرب.
لقد فشلت حركة الشواف وسيطر الشيوعيين على مفاصل الموصل وتعاون معهم حشود اليزيديين وقبائل البرزاني الكردية والفلاحين الآراميين. لقد ارتكب الشيوعيين أكبر مذبحة بمعاونة الجيش وغيرهم ضد جميع خصوم جمهورية قاسم ومن منطلق الانتقام الشخصي.
بل أنهم قاموا بتشكيل محاكم شيوعية في مراكو الشرطة حاكموا فيها كثير من الأبرياء وأخذوا في إعدام المدنيين بتهمة الانتماء للاحزاب القومية.
وهناك إعدامات قد حدثت بحق المدنيين حتى بعد أن هدأت الاضطرابات كلها في الموصل ، مثل حادثة إعدام (17) شخص في الدملماجة، فبعد أربعة أيام من فشل ثورة العقيد عبد الوهاب الشواف اقتيد عدد من الشخصيات الموصلية الثقافية والنقابية والعشائرية والعسكرية وعددهم 17 فردا، بعضهم تم اقتياده من المستشفى وكان جريحاً، وحوكموا في محكمة شيوعية خاصة لهم في مبنى مدرسة الثانوية الشرقية وحكمت عليهم بالإعدام وكان بينهم سبعه من أبناء عشيرة كشمولة التي وقفت مع الحق في ذلك الوقت وعشائر أخرى لها مكانة في الموصل وبعد ذلك نقلوا إلى موقع الدملماجة لتنفيذ حكم الإعدام بهم.
وخرجت صحيفة إتحاد الشعب الشيوعية في 13 مارس - أذار 1959م تقول على مذبحة الدملماجة: علقت وسحبت جثث المجرمين القتلة في مدن الموصل وقراها وانجلت المعركة فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة مدنيين وعسكريين صرعى في دورهم أو على قارعة الطريق في الموصل وتلعفر وعقرة وزاخو وفي كل زاوية.
وتضيف:
- لنا من الاعمال البطولية في الموصل خبرة وافرة في سحق الخونة .. إنَّ مؤامرة الموصل وسحقها وسحل جثث الخونة في الشوارع ستكون درساً قاسياً للمتآمرين وضربة بوجه دعاة القومية.
ويقول عدنان جليميران عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في مدينة الموصل أثناء حركة الشواف
فقد أعترف بتاريخ 28 آذار - مارس 1963م بما يلي :
- "في رأيي ان أبرز الجرائم التي نتحمل نحن الشيوعيين مسؤوليتها الكاملة مجزرة الموصل ومذبحة كركوك ، ففي الموصل كانت لدى الحزب أوامر قاطعة باتة من القيادة بإبادة القوميين حالما يتحركون ، وبعد ثورة الشواف اندفعنا لتصفية القوميين واقمنا المحاكم البروليتارية التي شكلت بالجملة حيث كان كل شيوعي على رأس محكمة تحاكم وتقتل وتعلق جثثهم ، وكنا نحن الشيوعيين أبطال مجزرة الدلماجة التي راح ضحيتها سبعة عشر شخصاً انتزعناهم من الموقف بعد ان انتهى كل شيء في الموصل ، وهناك في موقع الدلماجة فتحت النار عليهم" (5)
لا عقاب للقتلة
ونظراً لكشف الجثث في منطقة الدملماجة ولتزايد المطالب الشعبية بالقصاص من القتلة، رضخت حكومة عبد الكريم قاسم لتشكيل المجلس العرفي العسكري الأول ببغداد في تاريخ 26 كانون الأول - ديسمبر عام 1960 برئاسة الزعيم شمس الدين عبد الله.
تبين من اللجنة التحقيقية المشكلة إن أغلبية الجلادين منتمين للحزب الشيوعي العراقي إضافة إلى عدد من الضباط الأكراد العنصريين حيث أصدرت المحكمة قرارها بتجريمهم والحكم عليهم بالإعدام، غير أنه حدثت بعض الضغوط على قاسم فاستجاب لها وأفرج عن المحكوم عليهم بالإعدام في كانون الأول 1961 بما سمي حينها (يوم السلامة الوطنية)، وهكذا أفرج عن الجزارين من السجون بمكرمة منهُ. (6)
المراجع
- صلاح الخرسان: صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق، طـ1، دار الفرات، العراق، 1993م، صـ10- 35.
- قصة الحزب الشيوعي العراقي في عهد عبد الكريم القاسم: 7 أغسطس 2020،
- محسن عبد الحميد: الإخوان المسلمون في العراق (1945- 2003)، دار المأمون للنشر والتوزيع، 2011.
- المرجع السابق
- نبيل الكرخي: عبد الكريم قاسم ومجازر آذار - مارس في الموصل 1959م، 4 يونيو 2007، .
- محمود الدرة: ثورة الموصل القومية، 1959 - فصل في تاريخ العراق المعاصر، مكتبة اليقظة العربية، 1987، صـ304.