ولن تسود شريعة الغاب الأمريكية
بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف
مقدمة
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..!!
فالخطة قديمة قِدَم الشر، والمتغير الوحيد فيها هو المنفِّذ.. إنها ذات اليد التي امتدت لتقتل (قابيل) ونفس الألسنة التي رمت السيدة مريم الطاهرة بالزنا، وطالبت بطرد نبي الله لوط عليه السلام ومن معه ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: من الآية56).
شياطين في صور آدمية ترتدي ثياب العصر، ومن خلال أداة إعلامية جبارة تخطب في العالم (اقتلوه أو حرقوه)، تصنع أتونًا تصطلي بنيرانه البشرية.. هي ذاتها التي عقرت الناقة.. ثم تولَّت لتنشر غيِّها وضلالها في كل الدنيا، ومن لا يسير في ركابها ويذعن لأهوائها فالخراب والدمار.
قلوب لا تنبض إلا بالكره.. وأحلام لا يُرضي نزقها إلا أن تسوق البشرية نحو أخدود جديد؛ ظنًّا منها أن التاريخ سيكرر نفسه ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾(البروج:1-7)
تتَّحد كل قوى الشر من جديد.. يهتف فيهم فرعونهم ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (النازعـات: 24)، ويؤكد: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى﴾ (غافر: 29)، وتكون النتيجة التي لا مناص عنها ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ (الزخرف: 54)، وساعتها يهتف قائلاً: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب﴾ (غافر:36).
وما أشبه الليلة بالبارحة
قديمًا أرادوا ألا تضع الحربُ أوزارَها، وألا تتوقف الحملة على الإسلام، فراحوا يحركون الفتنة، ويدفعون بقُريش نحو حرب النبي- صلى الله عليه وسلم- ويفضح القرآن نوايا الشر في حملتهم على الإسلام.. ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ (الذريات:53)، وكان لهم ما أرادوا غير أن الباغي دارت عليه الدوائر، ووعد اللهُ نبيَّه بالفتح.. ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ (الفتح:1).
واليوم تدور عجلة الزمن، وتمرق الطائرات في برجَي أمريكا، ثم يخرج تقرير التحقيقات في هجمات الحادي عشر من سبتمبر مؤكدًا أن اللَّوم يقع أول ما يقع على "الحكومة الأمريكية؛ حيث إنها لم تدرك حجم التهديدات التي تجمعت لدى أجهزة المخابرات الأمريكية"، وقال توماس كين- رئيس اللجنة- بالنص: "وكما أوضحنا في تقريرنا فإن هذا كان بمثابة فشل في السياسة والإدارة والقدرة، والأهم من هذا كله أنه كان فشلاً في التصور".
ولئن كان رئيس لجنة التحقيقات يَعتبر ما حدث "فشلاً" فإن "ديك تشيني" اعتبره مصلحةً قبل عام من وقوعه، وفي إحدى القواعد العسكرية قال: "إننا لا نستبعد وقوع هجمات إرهابية تستهدف واشنطن ونيويورك، وربما تؤدي إلى تجميع الولايات المتحدة ورفع الوعي بالخطر لدى المواطن الأمريكي"!!
وهكذا انهارت الأبراج.. وتاهت الأشلاء وسط الأنقاض.. وفي المقابل زادت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية، واستطاع بوش أن يوظِّف الحدث ليرفع راية الثأر- على حد زعمه- في وجه الإرهاب، ومن يؤيه صانعا إمبراطورية لا حدود لأطماعها.
ثلاث سنوات
ثلاث سنوات غادرتنا من الحادي عشر من سبتمبر 2001م، تاركةً مخالبها في بدن هذا العصر تحرك كل جراحها بغير التئام.. ثلاث سنوات مرت على تهاوي كل دعاوى التحرير والتحرر الأمريكية وكل شعارات الديمقراطية البراقة مع تهاوى أبراج الحادي عشر من سبتمبر.
ثلاث سنوات.. حملت الإدارة الأمريكية خلالها معاول الخراب إلى أرجاء مختلفة من العالم؛ لتجرب كل جديد فيها على حساب أطفال لم تغادر ملامحَِهم براءةٌ كانت، غير أن الدانات المتطورة دفنتها في قبر "إنسانية" بوش الجديدة.
ثلاث سنوات .. توجهت فيها القوة العظمى بالمقاييس البشرية لتعلن تبرؤها من كل قيم الحق والعدل، مؤكدةً أن حربها الجديدة حرب صليبية هي في الأصل قديمة عاد يقودها أبو لهب وقد تبت يداه من خمسة عشر قرنًا.. وتب.. غير أن مستهدفَه لم يتغير ولم يتجاوز محاولة القضاء على دعوة الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- وصحبه وكل تابع لهديه، وتحركت الجيوش صوب الأرض والعرض والمقدسات.
في أفغانستان.. اختلط ركام تماثيلها، التي بكتها كل الدنيا حين هدمتها حكومة (طالبان)، بعظام آلاف البشر المدكوكة تحت دبابات التحرير الأمريكي دون أن يطرف للعالم جفن.. فالتماثيل لا تعوضها أرحام الثكالى والأرامل!
وفي العراق.. تحولت سجون صدام إلى (جستابو) جديد لحساب القوات الأنجلو أمريكية، وما كان يفعله زبانية صدام صار أسلوبًا بائدًا وتقليديًّا أمام تعذيب جماعي بشع لشعب الرافدين، مع اغتصاب موثقٍ بالصور للنشامى ومحمي بقوانين أطلقوا عليها "قانون مكافحة الإرهاب الصادر بتاريخ 14 ديسمبر 2001م"، وينص على "جواز اعتقال الأجانب دون توجيه الاتهام رسميًّا لهم أو محاكمتهم؛ وذلك استنادًا لأدلة سرية في المقام الأول كما يجيز القانون! قبول الأدلة المنتزعة من الغير تحت وطأة التعذيب والاعتداد بها في الإجراءات القضائية المتخذة ضد المعتقلين بموجب القانون"!
وهكذا تحول العراقي في وطنه إلى شيء مستباح، وتحول الاحتلال إلى مشرِّع ومصَّاص الدماء استحال قاضيًا.
وفي أمريكا: حيث (2300 هيئة إسلامية) معظمها مساجد ومؤسسات دينية وطلابية ترعى قرابة "8.5" مليون مسلم شهدت حياتُهم انقلابًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويكفي أن 85 ألفًا منهم تم دفعهم قهرًا إلى إدارة الهجرة الأمريكية للتسجيل فيها، في حين أوقف معظمهم للاستجواب في مكاتب التحقيقات الفيدرالية بدعوى الاحتياطات الأمنية.
وزادت نسبة الاضطهاد والتمييز ضدهم في المطارات ومكاتب الخدمات إلى "25%"، حسب تقرير نشره مركز (بيو) للأبحاث في يوليو من العام 2002م، أي بعد حوالي ثمانية أشهر من وقوع حادث 11 سبتمبر.
أما اعتقالات المسلمين الأمريكان فحدِّث عنها ولا حرج؛ لأنها تتم دونما أسباب وفي عدم وجود محامين، ويختفي المعتقَل المسلم لفترات طويلة دون أن تَعلم عنه أسرته شيئًا.. هذا إضافةً إلى الاعتداءات اللفظية والجسدية.. وقد وصل عدد المعتقلين من مسلمي أمريكا- دون اتهام، واستنادًا على أدلة سرية- إلى 8000 مسلم خلال عام واحد، أي حتى (سبتمبر 2002م).
وما إن بدأ الأمريكان حرب احتلالهم للعراق حتى أخضعوا (11ألف مهاجر) عراقي مسلم للاستجواب؛ درءًا لشبهة معارضتهم لحرب التحرير، ويجدر بنا هنا أن نسوق حادثةَ غلق السلطات الأمريكية لثلاث من أكبر مؤسسات الإغاثة الإسلامية الأمريكية؛ لتدخل في متسلسلة لا نهائية من الإجراءات القضائية؛ أملاً في الوصول إلى حقها والعودة للعمل.
حلف الشر
حلف الشر يعمل في الخفاء دائمًا.. يتحرك خلف الأقنعة.. يؤجج نار الفتنة.. هو من كشف سوأة المرأة المسلمة في سوق المدينة، وهو من ألَّب القبائل وحزَّب الأحزاب يوم الخندق، وهو صاحب الشاة المسمومة، وهو من أراد أن يلقي على النبي- صلى الله عليه وسلم- حجرًا، وهو من قتل عمر- رضوان الله عليه- في الفجر، وقتل الغُرَّ الميامين بنيران الغدر في فجر الخليل.
وهو العدو الذي عمل على إسقاط الخلافة، ويسعى الآن لإسقاط الأقصى.. هو الذي فرح يوم سقوط (البرجَين) في أمريكا، وحسبما ذكرت صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) في 3 نوفمبر 2001م، أي بعد أقل من شهرين من حادث 11 سبتمبر، راح يشنُّ عبر منظماته المتطوعة (عصبة مكافحة التشويه- رابطة الدفاع عن اليهود- مركز أبحاث الشرق الأوسط) حربَ فاكسات في الأسابيع التالية لأحداث سبتمبر ضد المنظمات العربية والمسلمة الأمريكية وقادتها، مؤكدين أنهم الخطر الأكبر الذي يهدد أمريكا.
وهو العدو الذي قالت عنه مجلة (ناشيونال ريفيو) إن "صقورَه تسعى لتشويه صورة مسلمي وعرب أمريكا، ومعارضتهم جهود الإدارة الأمريكية في التواصل معهم)، وهو العدو الذي ردَّد وزير العدل الأمريكي "جون أكشروفت" قوله: إن الإسلام هو دين يطالبك فيه الربُّ أن تُرسل ولدك ليموت من أجله، والمسيحية هي عقيدة يرسل فيها الربُّ ولدَه ليموت من أجلك"، ونُشر هذا الحوار على صفحات موقع (crosswalk.com).
وهو العدو الذي قال على لسان القس الأمريكي (جيري فالويل)- في حوار بثه برنامج (ستون دقيقة)، وأذيع في أكتوبر 2002م- قال "وبئس ما قال": (إن الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- إرهابي)!!.
وهو العدو الذي كرَّس وسائله الإعلامية وخاصةً (فوكس) التي يملكها الصهيوني روبرت ميردوخ لتعبئة الرأي العام الغربي ضد الإسلام والمسلمين، وكان أبرز ما فضح هذه السياسة برنامج (هانيتى أندكولمز) والذي أذيع في الذكرى الأولى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين استضاف المذيع شون هانيتي القائد الديني الصهيو أمريكي وراح يقول- وبئس ما قال- عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا الرجل كان مجرد متطرف، ذا عيون متوحشة، تتحركا عبثًا من الجنون، لقد كان سارقًا وقاطعَ طريق، وإنَّ الإسلام هو خدعةٌ هائلةٌ"..!!
ولم يفُت المذيع أن يؤكد على أنه "من الحتمي أن يدخل العالم في حرب مع الإسلام لعقود قادمة"، في حين أكد الضيف الصهيوني على أن "القرآن هو سرقة دقيقة من الشريعة اليهودية والرجل- يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- كان قاتلاً والتفكير في أن الإسلام هو دين سلام احتيال كبير"..!!
أيها العالم
إليك نتوجه بحديثنا بعد ثلاث سنوات مرت على حادث أسقط كل معايير للقيادة، وفرغ كل الحقائق من مضامينها؛ ليسكب بدلها لهبًا تتجرع الإنسانية جحيم نيران مشروع صهيو أمريكي، فيصير العدوُّ هو الإنسان،َ وتؤكد وحشية فعالهم أنهم لا يرقبون في إنسان إلاًّ ولا ذمةً (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (المائدة: 64)
والأسئلة حائرة
- ماذا ربح العالم عندما سعى (بوش الصغير) إلى حربه على الإنسان؟
- ما الذي جنته الشعوب الغربية وأذنابها من وراء أحلام (بوش الابن) المغتصبة سوى نعوش ومعاقي حرب وأرامل ويتامى يبكون رجالاً راحوا في حرب إبادة،ـ لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟!
- أين حقوق الإنسان في عالم تحكمه شرعة الغاب التي يصوغها ملكها (بوش الابن) على أشلاء الإنسان الأمريكي المدفون تحت أطلال برجَي أمريكا، والأفغاني المسحوق بين جنازير الدبابات الأمريكية، والفلسطيني المهشَّم تحت مجنزرات الصهاينة، والعراقي العاري في (أبو غريب)، والسوداني المذبوح بسكين الفتنة في جنوب السودان ودارفور والروسي الذي نسيت ديكتاتورية (بوتين) حقه في الحياة فشربت تربةُ مدرستهِ دماءَه البريئة؟!
- ثم إلى أين تقود العالمَ عصابةٌ تحكمه وتملك مقومات البطش والفتك والدمار في يد وفي الأخرى تحرك الغرائز وتُفرِغُ الإنسانَ من قيمه ليتحول جسده إلى هدف تتاجر فيه تارة- وإن لم يستجب- تسحقه تارةً أخرى.. والخارج عن هذه المنظومة (إرهابي)، لا بد من أن يخرج من سجل الإنسانية؟!
ويا قومنا
أينما كنتم.. وأيَّا كان لونكم.. وإلى أي جنسية تنتسبون وعلى أي حال كنتم "هانئون برغد العيش- كادُّون وراء لقمة تسد الرمق- مرابطون حول الحرمات- مدافعون عن الأعراض- مأسورون لدى عدو أو في سجن بني جلدتكم- مستضعفون في خيام للاجئين تشكون إلى الله ضعف القوة وقلة الحيلة والهوان على الناس.
يا قومنا إليكم نؤكد
لئن كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر اتخذت ذريعة لتجييش الجيوش على أمة التوحيد، إلا أنها كشفت ما كانت تواريه الألباب وأخرجت مكنون الصدور لتنجلي حقيقة العدو وتنفضح أسباب التبعية وليراجع كل تابع قبلته رافعًا شعار ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة:1).
أما التهمة التي يرموننا بها "الإرهاب" فقد ارتدَّت عليهم مع سقوط أول قذيفة على أفغانستان، وصار لزامًا علينا أن ننتقل من خانة الدفاع- التي يسعى الصهاينة لحصرنا فيها وشغلنا بها- إلى ساحة العمل والعمل المثمر، فالعالم اليوم أحوج ما يكون إلى دعوتنا الربانية لتداوي جراح إنسانيته التي لم ترعَ شريعةُ الغاب الأمريكية حرمتَها.. فلا تنسوا فضل الله عليكم ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ (النساء: 94).
ولتكن رايتنا ما قاله ربعي ابن عامر: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام".
وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.