هل زار الإمام حسن البنا فلسطين؟
في ذكرى رحيله
الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين كان واحدا من أوائل من انتبه إلى القضية الفلسطينية والمخاطر التي تحاك لها في الدوائر الغربية مع العصابات الصهيونية حيث سئم الغرب مفاسد الصهيونية فعملوا على تشجيعيهم على إيجاد وطن دائم لهم وبعد مشاورات وقع الاختيار على فلسطين، وهو ما جاء في وعد بلفور المشئوم والذي كان بداية العمل من أجل انهاء القضية الفلسطينية وطمس معالمها وتغيبها عن الوعي العربي والعالمي، وهو ما رفضه حسن البنا ومن بعد جماعة الإخوان المسلمين وكل حر شريف في هذا العالم.
ولذا اهتم الإخوان بالقضية الفلسطينية منذ نشأة الجماعة حتى أن الإمام البنا أرسل برسالة تضامن ومقترحات للشيخ محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين عام 1931م وأصبحت فلسطين القضية المحورية في دعوة الإخوان المسلمين.
ولقد حقّق الشيخ البنا ومدرسته ثلاثة نجاحات متميزة قلّما تتحقّق لشخص من الشخصيات أو حركة من الحركات:
الأول: نجح البنا في تقديم خطاب إسلامي يتّسم إلى جانب كونه شاملاً وناضجاً بأنه بسيط سهل الفهم؛ وهو ما جعل الخطاب الإسلامي ينطلق من أَسْر الفئات المثقفة والنخبوية (التي ميزت خطابات الأفغاني وعبده ورشيد رضا...) إلى الفئات الشعبية وإلى جميع طبقات المجتمع، والتي أخذت تتبنّاه وتترجمه في سلوكها وحياتها اليومية وممارساتها الاجتماعية ومواقفها السياسية.
تتمثل نجاحات حسن البنا، في تقديمه لخطاب إسلامي يتسم بالبساطة وسهولة الفهم إلى جانب كونه شمولياً ناضجاً. وتجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت موجودة في حركات التجديد والإحياء التي سبقته أو عاصرته. وبناء حركة تتجاوز الإطار الجغرافي المصري. وتقديم حركة قابلة للحياة والتجدد والاستمرار غبر الأجيال.
الثاني: نجح البنا وحركته في تجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت عادة ما تطبع حركات التجديد والإحياء الإسلامية التي سبقته أو عاصرته، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في المغرب العربي، والنورسية في تركيا، وماشومي في إندونيسيا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية. ونجح البنا في بناء حركة تتجاوز الإطار الجغرافي المصري، ويتوزع أفرادها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وتجمعات المسلمين في المهجر. بل وحقّقت حركته نجاحات كبرى لتصبح أقوى التيارات الشعبية في عدد من البلدان. وفلسطين هي أحد هذه النماذج.
الثالث: نجح البنا في تقديم حركة قابلة للحياة والتجدّد والاستمرار عبر الأجيال، ولا تزال هذه الحركة تتمتّع بالقوة والحيوية واتساع الانتشار (بعد عشرات السنين على استشهاده)، على الرغم من كثرة الصّعاب التي واجهتها وعلى الرغم من محاولات سحقها وإضعافها وحرفها عن مسارها.
لقد كانت فلسطين في فهم الإخوان "أرض وقفٍ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جداً منها ولذلك فهي ليست ملكاً للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعاً... فعلى المسلمين في كلّ مكان أن يساهموا عملياً في تقديم المال والدم للدفاع عنها.
وكتب عام 1936م وأثناء الثورة القسامية يقول: إن القضية الفلسطينية أعادت الجهاد مرة أخرى إلى الواقع، عندما قام الفلسطينيون يحسنون من جديد صناعة الموت.
ويضيف بعدها: أيها الفلسطينيون لو لم يكن من نتائج ثورتكم إلا أن كشفتم غشاوات الذلّ وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما فى صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح، لكنتم الفائزين.
لماذا زار الإمام البنا فلسطين؟
لقد دعم الإمام البنا القضية الفلسطينية بكل السبل وقام بزيارتها هو والعديد من أخوانه وقادة الجماعة من أجل مساندة وتنظيم أعمال المقاومة والتمهيد لدخول الإخوان ميدان الجهاد في فلسطين، وهو ما كللها بزيارته إلى فلسطين وغزة وهي الزيارة التي وصفها وسطر أحداثها الأستاذ سعد الدين الوليلي –سكرتير المرشد العام- والذي رافق الإمام البنا في هذه الزيارة حيث جاءت كما وصفها بقوله:
في سلامة الله ورعايته أدركنا رفح بالسيارات قبيل صلاة الجمعة فإذا بها تموج بالمستقبلين وكان في النية أداء الصلاة في رفح بناء على دعوة الإخوان الكرام رشاد الشريف نائب الإخوان وعلي أحمد الكيكي أمين الصندوق.
وكمال الطيراوني المدرس بمدرسة الإخوان. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فلقد وصل نبأ مقدم المرشد العام إلى أهالي خانيونس. فلحقوا لاستقباله، ودعوته لتأدية فريضة الجمعة بمسجدها الكبير.
ولقد كان وفد المستقبلين مكونًا من السادة أحمد مصطفى الأغا وعيد حسين الأغا وحلمي الأغا والشيخ فهمي الأغا إمام المسجد وسكرتير الإخوان والحاج علي عليان المصري سكرتير اللجنة القومية والحاج محمد المصري وعثمان العبادلة وراغب شراب وكامل شراب والأخ صالح مصلح زعرب مساعد قائد جوالة الإخوان والحاج محمد الشاعر ونصر الله البيوك وعثمان شعت وكلهم من الإخوان وأعضاء في اللجنة القومية كما حضر الحاج حسين أبو سنة عن قضاء بئر السبع. والحق كانوا خير مستقبلين لخير قادم.
إلى خان يونس:
لم يرد فضيلته دعوتهم. كما لم يفته حفظه الله أن يشكر لإخوان رفح تنازلهم عن حقهم في زيارة فضيلته لدارهم ومدرستهم ومسجدهم فأصدر أمره الكريم بالتحرك إلى خانيونس. وتقدمنا المستقبلون في رتل من السيارات.
وعلى بعد بضعة كيلومترات من خانيونس استقبله العرب البواسل في سياراتهم الكبيرة بعاصفة من طلقات رصاص أسلحتهم التي أخذت تتزايد من كل جانب. وكلما اقتربنا رد عليها من تقدمنا من المستقبلين بالمثل. وكانت أشبه بمظاهرة من صنف جديد اختفى منها التصفيق والتهريج واحتبست الحناجر عن الهتافات وأخلى السبيل لنبضات القلوب المؤمنة وقد اختلطت بطلقات البنادق والثومى والرشاشة لتعبر عن عظيم فرحهم وكامل سرورهم بمقدم المرشد العام وصحبه.
وما كدنا نقترب من مدخل المدينة حتى هرعت جحافل من الشعب واحتشدت على جانبي الطريق تتقدمها طوابير نظامية من المسلمين كان فرحنا عظيمًا حينما تبينا أن معظم أفرادها من فرقة جوالة الإخوان بخانيونس التي تزيد على مائة وخمسين جوالاً وضعوا أنفسهم وأسلحتهم تحت أمر اللجنة القومية.
وأخذت هذه الكتل المتراصة والتشكيلات النظامية تحيط بالقافلة والكل يتزاحمون، كل يريد اجتلاء طلعة فضيلته. وكلما أرادوا الإعلان عن طربهم انطلقت بالأناشيد القومية حناجرهم على نغمات من موسيقى طلقات الرصاص التي تقذفها أسلحتهم بين زغاريد النساء وصياح الأطفال.
والحق يقال أن هذا الاستقبال المروع قد بعث فينا هممًا. وأثار حمية وألهب مشاعر لم نستطع التعبير عنها إلا بسيل من طلقات أسلحتنا ردًا على جميل حفاوتهم ولطيف ترحابهم.
في الطريق إلى المسجد:
وفي صعوبة وبطء شديدين قطعت سياراتنا الطريق إلى المسجد لازدحام الطريق بالمجاهدين الذين أبوا إلا أن يتقدموها سيرًا على الأقدام.
وبعد أداء الصلاة في جماعة، زخر المسجد بالأهالي حتى لم يبق فيه موضع لقدم ولقد كنت ترى الناس يتزاحمون على أبوابه ونوافذه بصورة أعجز عن وصفها حتى إذا غشيت الناس سكينة الخاشعين. وعلاهم وقار المؤمنين تليت آيات الذكر الحكيم.
وعلى الأثر وقف الشيخ فهمي الأغا خطيبًا فقال بعد تحية رقيقة.
أيها العرب، أيها المسلمون، نحن اليوم في رحاب الله العلي العظيم ونلتف حول رجل عظيم، وعلم من أعلام العروبة الخفاقة وزعيم من أكبر الزعماء المجاهدين. هو الأستاذ حسن البنا (الرئيس العام) لجمعيات الإخوان المسلمين في العالم. قدم إلينا. وحل ضيفًا عزيزًا علينا يقود فرقة مسلحة أعدها الإخوان المسلمون بوادي النيل فكانت أول فرقة منظمة تصل إلينا. لتدرأ عنا خطر الصهيونية. وتحمي ديارنا من الهجمات اليهودية.
فاسمحوا لي أن أقول لفضيلته باسمكم أن البلاد بلاده، ونحن أهله، وهذه الأوطان أوطانه فليتفضل مشكورًا ليخطب فينا ويتحدث إلينا ويفيض علينا من سحر بيانه وحكيم منطقه ما يقوي عزائمنا ويشق هممنا ويأخذ بناصرنا ...
كلمة المرشد العام:
ونهض فضيلته بين التكبير والتهليل داخل المسجد ورصاص البنادق يدوي في خارجه. فحيًاهم بتحية الإسلام وحمل إليهم سلام إخوانهم في وادي النيل الذين يحبونهم ويشاركونهم الفرح لفرحهم. والألم لألمهم ويحملون أعباء الجهاد معهم وتربطهم عاطفة الأخوة في الإسلام والعروبة.
تلك العاطفة التي لا تحجبها حدود ولا تمنعها مسافات ثم قال:
في عام 1936م عزمت على السفر إلى فلسطين واستخرجت جواز السفر. ولكن قيل لي أنه لا بد لي من تأشيرة القنصلية الانجليزية، فثارت نفسي. واستكبرت أن أدخل وطنًا من أوطان الإسلام بتصريح بريطاني وعزمت على ألا أدخلها ما دام الأمر كذلك.
وإذا بالظروف تتغير والحوادث تتحول وشاء الله أن ندخل فلسطين بدعوة من الله تبارك وتعالى ثم استطرد فقال:
ما جئت اليوم زائرًا ولكن للتشاور والتفاهم في الخطوات العملية لتنظيم القوى وتكتيل الجهود حتى نتحرر وننتصر ونفوز وإن النصر لقريب.
وبعد أن أسهب فضيلته في الحديث عن الإيمان وأوصاف المؤمنين وحذر من عواقب التفاؤل لما طرأ على القضية في مجلس الأمن. وأكد في الأذهان أنه لا حل إلا بالسيف والدم. وأهاب بمواصلة الإعداد والحرص على استكمال معدات القتال: قال:
اتركوا النتيجة لله بعد ذلك. وثقوا أن اليهود وأسلحتهم وحصونهم سوف لا تغني عنهم أبدًا ما دام الله تكفل نصر المؤمنين ثم ختم كلمته قائلاً:
ما كنت أظن أن زيارة عابرة هي للمداولة والمدارسة يكون لها هذا الأثر الكريم في نفوسكم والروعة المتجلية في استقبالكم. ولكن يظهر أن العربي لا ينسى كرمه حتى في اشد حالات المحنة. شكر الله لكم وكتب النصر لكم. وحفظ لكم بلادكم والله اكبر ولله الحمد.
استعراض المسلحين:
وفي ميدان الجامع الكبير ، وقرب قلعة السلطان برقوق انتظم المسلحون جميعًا في طابور طويل على هيئة فصائل. وعندما توسط فضيلته الميدان. تقدم فاستعرضهم وألقى فيهم كلمة قوية أرهفت لها أسماعهم وغلى الدم الحار في عروقهم حنقًا على الاستعمار وسخطًا على الصهيونية. ثم صافح قائدهم مودعًا وشاكرًا.
ويتابع الأستاذ الوليلي حديثه قائلاً:
وتوجهنا بعد ذلك إلى مقر اللجنة الذي غص بالمستقبلين من أعضائها يتقدمهم الأستاذ عبد الرحمن الفرأ، وقاسم الفرا، والمختار الحاج محمد المصري، والمختار مصطفى الفرا، والمختار عيد حسن الأغا والمختار مصطفى عبد الله، وحلمي الأغا وعلي عليان المصري السكرتير الدائم للجنة حيث قدمت المرطبات.
وفي جلسة هادئة اجتمع فضيلته برؤساء لجنة حفظ الأمن، وفروع اللجنة القومية الإدارية والمالية العسكرية.
وكم كان جميلاً ومسعدًا أن تعلم أن قيادة جوالة الإخوان قد تنازلت عن دارها هذه للجنة القومية لتتخذه مقرًا لها. وهكذا الإخوان دورهم في كل مكان في خدمة فلسطين والعاملين لها.
وتناول فضيلته ومن معه طعام الغداء في دار آل المصري استجابة لدعوة الحاج محمد المصري مختار البلدة. والأخ المجاهد علي عليان المصري.
أما طليعة الكتيبة، فقد رأي قائدها من الأنسب أن تتناول غداءها مما يعده طهاتها من طعام في مقر اللجنة.
وفي عصر اليوم، استقل فضيلته ومن معه عدة سيارات واصلت سيرها إلى مكان معين.
وفي صبيحة يوم السبت من جمادي الأولى 1367هـ الموافق 20 مارس 1948م قدم إلينا مندوب من اللجنة القومية بغزة وأخبر فضيلة المرشد العام بوصول القائد العام للجبهة الجنوبية فجأة، وبرغبته في أن يتفضل فضيلته بزيارته في مقر القيادة العامة وأن يضع عربته الخاصة بسائقها في خدمة فضيلته لهذا الغرض.
إلى غزة:
وهكذا شاء الله أن يكون اللقاء في غزة، فأصدر فضيلته الأمر بالاستعداد للرحيل.
ويتابع الأستاذ الوليلي حديثه قائلاً:
اجتماع هام:
وفي مكان خاص اجتمع المرشد العام بالقائد العام مهنئًا بهذا الاختيار الذي صادف أهله. وقص عليه ما شاهد وسمع ورأى من أحوال الجبهة الجنوبية، ودله على رأيه في ذلك وطلب إليه الإسراع في طلب المعدات الحربية، واستدعاء الفوج الأول من متطوعي مصر، الذي تم إعداده ليعاون كتيبة الإخوان التي تنتظر الأمر باللحاق بالطليعة التي تسلمت معسكر النصيرات. وتنظيم الجهود الشعبية حتى تثبت القيادة وجودها. وتبدأ عملها في أقرب وقت بإذن ربها.
وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بين الزعامة الشعبية. والقيادة العسكرية، وما اجتمعا إلا وصدر عنهما الخير. وجرى في ركابها التوفيق. وانعقد لها لواء النصر.
وما إن انتهى فضيلته من هذه المقابلة حتى استعجلنا في الانتقال إلى دار الإخوان المسلمين بغزة برًا بوعده، ووفاء بعهده " إن العهد كان عنه مسئولا" وكانت مفاجأة ومنحة إلهية منحها الله إخوان غزة، فخففت لواعج شوقهم وحققت جميل حلمهم. وما أن فاح شذى خير مقدمه العاطر وتناقل الناس نبأ وصوله المفاجئ حتى خف الإخوان، وأتوا إلى الدار مسرعين في إشراق، وكان في مقدمتهم الإخوان الأساتذة فضيلة الشيخ عمر صوان رئيس الإخوان والسيد ظافر الشوا سكرتير الجماعة بغزة والسادة حسن الخضري وأحمد فوزي بسيسو وعيسى سيسالم وهجود أحمد دبابش والحاج صادق الأمزيتي، ويحيى عيسى سيسالم ونهاد الغلابيني والشيخ عثمان الطباع إمام جامع العمري الكبير وشعبان سيد الحلو والحاج صالح مرتجي خليل هاشم، وغيرهم.
كما خف لمقابلة فضيلة المرشد العام السيد علي الحلبي وكيل الصحف العربية ومراسل جريدتي الدفاع وفلسطين وهما أهم الجرائد الفلسطينية رواجًا وانتشارًا فوجه إلى فضيلته عدة أسئلة طلب إليه الإجابة عليها
رئيس بلدية غزة:
كما استقبل فضيلته السيد رشدي الشوا بك رئيس البلدية، وحاكم لوائها، والذي ما أن زف إليه نبأ وصول فضيلته حتى أقبل على الفور يعلن باسم البلدية والشعب الغزاوي عظيم أنسهم وبالغ هناءهم فعد فضيلته هذا تفضلاً منه يكل إلى الله شكره عليه.
ونتابع حديث الأستاذ الوليلي عن زيارة الإمام البنا لغزة:
أخذ الإخوان المسلمون في غزة يهنئون الشعب الغزاوي لاغتنام لحظة وجود الإمام والاستماع فيها إلى الكلمة الجامعة التي سيلقيها فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين بعد صلاة العصر في الجامع العمري الكبير، أعتق المساجد وأخلدها ذكرًا، وأوسعها حجمًا، فقد حرصت لجنة الإخوان الإدارية حينذاك – رغم ضيق الوقت – أن تصل الدعوة إلى كافة الطبقات والبيئات والهيئات والجماعات. فطبعوا لذلك المقادير الكثيرة من الإعلانات ورقاع الدعوة. وطاف أعضاء الإخوان في مواكب صغيرة يوزعونها على الناس وجماعات أخرى قامت بدعوة الشخصيات الكبيرة وذوي المقامات الرفيعة، مخافة أن تفلت منهم فرصة الإصغاء إلى هذا القبول الجامع، والعظة البالغة، والتوجيه السديد، والخطبة الخالدة، التي سيهتز لها منبر العمري، وتتفتح لها قلوب الشعب الغزاوي.
وأديت فريضة العصر، ولزم الناس أماكنهم في انتظار ما سيساق إليهم من الخير ويقدم من بر.
كلمة رئيس الإخوان:
نهض الشيخ الفاضل عمر صوان رئيس الإخوان في غزة، في وقار وتقى، فحمد الله وأثنى عليه ورحب بفضيلة المرشد العام دلت على فهم الدعوة، وإيمان بالفكرة، وتقدير للقيادة، وشكر للحاضرين تلبيتهم، وحيّا فيهم إقبالهم وإنصاتهم ثم قال:
"نحن اليوم مع رجل من أولي العزم ، ذلكم هو صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام الشيخ حسن البنا الذي قوي الله عزائمه للقيام بهذه المهمة الدينية الاجتماعية. فقد دعا وأمر ونهى فاستجيبت دعوته ولله الحمد وكان لها الأعوان والأنصار في كل الأقطار والأمصار ولا غرو فإنه يدعو إلى الله – وينهى عما نهى الله عنه – ويأمر بما أمر به الله".
وبعد أن استطرد في هذا المعنى قال " لقد تحمل فضيلته مشاق السفر في هذه الظروف العصيبة، وشرف هذا القطر العربي وقد حفت طرقه بالمخاطر والمخاوف. وعرج على هذه المدينة – مدينة هاشم بن عبد مناف مركز الحيوية في اللواء الجنوبي – ليتفقد أحوال المسلمين ويحيى المقاتلين، ويستثير همم القاعدين، ويواسي الحزانى والمكلومين من أسر القتلى المستشهدين. والجرحى المستبسلين ويقرر مشروعية الجهاد في سبيل إنقاذ فلسطين من أيدي الماكرين الخاسئين".
وقال مختتمًا كلمته:
"ونحن إذا استمعنا إليه قائمًا نستمع إلى إرشادات وحكم مستمدة من الهدي المحمدي الذي يعض عليه بالنواجذ. وغني أقدم فضيلته إليكم بكل إجلال واحترام فليتفضل"
كلمة المرشد العام:
وفي إثر عاصفة مدوية من الهتافات القوية، اعتلى فضيلة المرشد العام المنبر... استهل فضيلته كلمته باسم الله وحمد لله وصلى وسلم على رسوله وعلى آله وأصحابه والداعين بدعوته، والعاملين بسنته والمجاهدين في سبيل شريعته إلى يوم الدين.
ثم قال:
"أحمل إليكم تحية إخوانكم في وادي النيل الذين أحبوكم وإن لم يروكم واشتاقوا إليكم وإن لم يلقوكم. وفي نفس الوقت يغبطونكم على أن أتاح الله لكم قبلهم فرصة العمل والجهاد، وهم جميعًا في وادي النيل يودون أن لو استطاعوا أن يكونوا معكم جنبًا إلى جنب حتى ننتصر ونفوز إن شاء الله"
وبعد إسهاب في هذا المعنى الكريم قال:
"ما كان في عزمي أن أشرف بهذه الزيارة، رغم أنها أمنية ظللنا نتمناها دهرًا طويلاً وبيننا وبينكم رابطة هي أقدس الروابط ولقد كنت أحب أن أجئ جنديًا مجاهدًا ثم يكون هذا الاجتماع في مواكب النصر ولكن رب صدفة خيرٌ من ألف ميعاد".
"نحن نريد والله يريد فنفذت إرادة الله، وسعدنا بأن رأيناكم في هذه الفرصة المباركة، ونحن نشكر لإخوان غزة هذه الفرصة الطيبة التي أتاحوها لنا"
وأخذ فضيلته يبين كيف أن الإسلام نعمة؟ وكيف تعود علينا هذه النعمة؟ وكيف أن الأجانب خدعونا عنها؟ وكيف تعود إلينا هذه النعمة؟ فشبه الحقيقة الإسلامية بالحجرة تتكون من جدران أربعة، وسقف وباب ثم تكلم عن ذلك فقال فضيلته:
أما الجدار الأول:
فالعقيدة السليمة وأساسها معرفة الله تبارك وتعالى وحسن الإيمان به والاعتماد عليه والإنابة إليه ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 79].
الجدار الثاني:
العبادة الصحيحة، والوسيلة إلى ذلك مراقبة الله في القول والعمل والتزام حدوده... واحترام عهوده.
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة : 5].
والجدار الثالث:
الإخوة الكاملة، فالإسلام رباط يربط الفلسطيني بالمصري بالسوري بالعراقي ويتسامى بالألفة، ولا يقر الفرقة ويندد بالعنصرية ولا يعترف بالجنسية، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10].
والجدار الرابع:
الأحكام العادلة، فالإسلام جاء للدين والدنيا معًا فكما كفل للناس النجاة في الآخرة، كفل لهم السعادة والنعيم في الدنيا.
والسقف:
الجهاد في سبيل الله، وأعلا ما في الإسلام هو الذي تشد به أركانه، فوجب إعداد جيش مستعد في البر والبحريصون أحكامه، ويحمي دولته.
﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: 11].
والباب:
الحكومة الصالحة، تحكم بما أنزل الله ، وتحفظ لكل ذي حق حقه، والحكم الصالح يحفظ أركان الإسلام وقديمًا قيل: نزلت بلد وليس فيه سلطان فارحل عنه.
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [ المائدة : 48].
وبعد أن استطرد فضيلته الحديث عن هذه الأركان قارن بين حال المسلمين في الصدر الأول من الإسلام وبين ما هم عليه الآن فقال:
"أين نحن الآن من هذه الأركان؟ لقد فتنتنا الدنيا، ودخلت علينا بشرورها من كل جانب، فلوثت العقيدة، وعطلت العبادات، وبدلت الأحكام، وأغلق باب الجهاد، وفسد نظام الحكم، فلا عبادات ولا عقائد، ولا أحكام ولا إخوة، ولا جهاد ولا جندية، ولا حكومة إسلامية، وظللنا على هذه الحال حتى جاءت قضية فلسطين – فلسطين التي هي قطعة في صميم قلب كل مؤمن – تهوي إليها الأفئدة، وتحن القلوب وتهفو الأرواح فهي مهد المسيح وفيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والمسلم والمسيحي يعتقدان أنها مكان مقدس يفتدى بكل شيء"
"فكانت فلسطين بما أحاط بها من ظلم هي المفتاح الذي فتح قلوب العرب فتألفت وتوحدت وتوجهت إلى الوجهة الصحيحة والغاية السليمة".
وختم فضيلته كلمته فقال:
"ووصيتي في هذه الظروف الحرجة أن تخلص النيات وتتضامن وتتوحد، وتتوب وتتطهر ثم نسير إلى العمل والجهاد والقوة بقدر ما نستطيع﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]".
ساعة كاملة ظل يتحدث فضيلته إلى الناس، وما انتهى إلا ووعى الكل ما دعا إليه وألم بما أبان عنه. وأحاط بما تحدث به...
في مكتبة الجامع العمري:
وكان فضيلة الشيخ عثمان الطباع الخطيب والمدرس بالجامع العمري وناظر المكتبة ممن شهد هذا الاجتماع بوصفه نائبًا لرئيس جمعية الهداية الإسلامية فدعا فضيلته الأستاذ المرشد لزيارة المكتبة، فأجاب الدعوة، وطاف بأرجائها.
وما زالت جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية تحتفي على صفحاتها بزيارة الإمام البنا لفلسطين، ويتابع الأستاذ الوليلي وصفه قائلاً:
الحق أن يوم السبت صادف التاسع من جماد الأولى سنة 1367هـ الموافق العشرين من مارس 1948م وهو اليوم الثالث لهذه الرحلة المباركة، كان حافلاً عامرًا، بارك الله في وقته فاحتشد بالمقابلات والاجتماعات وقد غصت بالناس من كل الطبقات.
فما أن انتهى فضيلة المرشد العام من إلقاء كلمته في الجامع العمري الكبير وزيارة مكتبته الخالدة حتى توجه في مجموعة من الإخوان إلى قصر الترزي، فلقد كان حريصًا أن يدعو فضيلته لتناول الشاي في داره العامرة مع نخبة من المواطنين الكرام أبناء الطائفة القبطية.
ولقد كان الأستاذ شفيق الترزي رئيس كلية غزة وأخوه وديع مديرها، مصيبين كل الإصابة حينما وجها الدعوة إلى هذه الشخصيات التي لم تكن قد تعرفت على الداعي ودعوته، والمرشد وفكرته، فانهالت عليه بالأسئلة وفضيلته كعادته يرحب بذلك ويرد عليها في صدق وصراحة وحق ومهارة، فبدد شكوكًا طالما روجها دعاة السموم. وصحح وقائع كان لها أكبر الأثر في الكشف عن سمو الدعوة ونصاعة صفحتها وطهر مقصدها ونقاء جوهرها.
وما كادت الشمس تغرب حتى كان فضيلته في طريقه إلى دار الإخوان بغزة.
وما أن استقر المقام بفضيلته حتى أدى فريضة المغرب جماعة ثم رحب بمن زخرت بهم الدار من كرام المدعوين من الأقباط والمسلمين، وخيرة أبناء الدعوة من الدعاة الهداة والمجاهدين المقاتلين الذين قاموا بمهمة الجوالة في تنظيم الحفل والاستقبال.
وكان في مقدمة هؤلاء سيادة سُليمان الرشماوي خوري رئيس طائفة الروم الأرثوذكس، والسيد رشدي الشوا بك رئيس البلدية، والسيد عبد الرءوف الخبال عميد حزب الكتلة الوطنية، والسيد موسى الصوراني بك رئيس اللجنة القومية بها مع وفد من كبار رجالاتها، والسيد وصفي عبد المجيد مراقب السلوك والخدمات الاجتماعية، والسيد عبد الكريم الشوا.
أما ضيف الشرف، فكان القائد المقدام سعادة اللواء سُليمان عبد الواحد سبل الذي قدم من مصر متطوعًا لقيادة جبهة الجنوب.
وبعد قليل تولى حضرات الإخوة الشيخ عمر صوان رئيس الإخوان، والسيد ظافر الشوا سكرتيرهم، والسيد حسين الشوا والسيد يحيى سيسالم توجيه الدعوة للحاضرين لتناول الشاي فأخذ الجميع أماكنهم حول الموائد التي مدت في نظام ينم عن عقل مرتب وذوق سليم، وفن جميل.
كلمة الشيخ خلوصي بسيسو:
وبعد تناول الشاي ألقى الشيخ خلوصي بسيسو سكرتير المحكمة الشرعية الكلمة الآتية في قوة بالغة وحماسة عالية:
" الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله والصلاة والسلام على رسول الله خير الأنبياء، وتحية وتكريمًا لأسلافنا من صحابة رسول الله والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"
" أما بعد، فلقد أشرق في سماء الإسلام والعروبة هاد إلى الرشد وتألق من جديد داع إلى الله يجدد سنة محمد ودين الله في هذه الأرض، ليحقق فيها السلام محل ذلك الجشع والطمع والاستعمار الذي تملك قلوب هذه الدول التي ما زالت تتخبط في ظلام المادة.
... ولا يمكن أن يستقر في الأرض السلام وتلك القوة الغريزية الحيوانية ما زالت تأخذ بأمتنا فلا تترك الإنسان حقه اليسير من الحرية، والقليل من المساواة".
"وإن العرب في أدوار تاريخهم وإن المسلمين في صفاتهم المشرقة لا يعرفون إلا العدل والحق والمساواة ... ومن ينكر أن الفتوح الإسلامية كانت تحمل العدل والرحمة للضعيف والمحارب؟".
يا أيها المرشد العام
يا أيها الإخوان:
"إن هذا البلد العربي ليرحب بكم وفي اجتماعنا حول هذه الكلمة بما يرجا هذه الأمم على تباين أماكنها لأنها أمة واحدة ولأن مواطنيها أهل دين واحد وجنس واحد وقومية واحدة، ونحن وأنتم في هذا البلد سواء، والدفاع عنه واجب عليكم وعلينا، وأن بذل الدماء في هذه التربة التي سطر عليها تاريخنا العظيم، وضمت رفات أجدادنا الغر الميامين لأمر لازم لا نكوص عنه وكلنا معكم لهذا الفداء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة المرشد العام:
وفي جو مشبع بروح الإخوة في الله، ترفرف عليه رحماته الصمدانية وتتنزل فيه فيوضاته الربانية، نهض فضيلة الأستاذ المرشد فجلجل المكان الذي ضاق بمن فيه رغم سعته بالتكبير والتهليل وألقى كلمة قيمة، قال فيها:
"أحمد إليكم الله تبارك وتعالى وأصلي وأسلم على نبي الرحمة لخير أمة، وعلى آله وصحبه، والداعين بدعوته والمهتدين بهديه، وأحييكم بتحية من عند الله مباركة طيبة".
كان من حسن حظنا، ومن سعادة غزة، ومن شرف دار الإخوان المسلمين أن نشرف جميعًا بالرجل المجاهد الغيور المؤمن سعادة القائد سُليمان عبد الواحد سيل الذي قضى حياته العسكرية رغم قواعد الضبط والرضا ورغم ما عرف عنه من شدة في هذه القواعد كأحسن ما يقضيها المؤمن المسلم لما أشربت روحه منذ نشأ بمعاني الإيمان ومعاني حسن الصلة، ومعاني تقدير الاستقامة، فكان مثالاً لها، وكانت تشع روحه بعاطفة الإيمان، فلم يعرف أنه كان قائدًا عسكريًا فقط ولكن كان كذلك مربيًا روحيًا، ومناصبه التي تولاها لم تمنعه من أن يمارس هذه الناحية فلقد كان في بيته درس أسبوعي لتفسير القرآن الكريم.
ونحن في ظرفنا هذا أحوج ما نكون إلى رجال من هذا النوع إذ لا حاجة لنا بالخطب والقول، بقدر ما نحتاج إلى الجهاد وإلى الكفاح وإلى العمل ... ولأنه لا يمكن أن يثمر كفاحنا إلا إذا كان مبنيًا على نية صحيحة، فإذا صحت نية القائد صحت نية جنده، وإذا سلمت نفس القائد سلمت نفوس جنده. ونسأل الله أن يبارك جهود سُليمان عبد الواحد سيل حتى نصل إلى الهدف المنشود إن شاء الله..."
"ومن حق أهل غزة جميعًا، أن نتقدم إليهم شاكرين لأنهم أعطونا فرصة طيبة كهذه في هذه الساعة التي نشرف فيها برؤيتكم فجاءت في خير المناسبات ولا مناسبة أشرف من مناسبة التعاون على الجهاد وتنظيم وسائله.
ثم وضح فضيلته ما على العرب من مسئوليات وأعباء فقال:
"في الواقع إن علينا نحن العرب وعلى كواهلنا مسئوليات عظمى وأعباء كثيرة وقضايا عدة"
أما القضية الأولى: فهي قضية الكفاح في سبيل الحرية والاستقلال الصحيح فمن حظنا أننا فتحنا أعيننا في الوقت المناسب والله تبارك وتعالى ميز هذه الأوقات بما لم يميز به الأوقات الأخرى كما فضل الوطن العربي كبد الأرض بأطيب أرض وأعذب ماء وأصفى جو"
فمن الناحية المادية لا يعدله وطن، أما من الناحية الروحية، فهو مهبط الرسالات ومنبع الفلسفات ومرقد البركات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين... ولقد ساد أهله يوم عرف العرب قيمة ذلك، ومن واجبنا أن نعمل على إرجاع هذه السيادة، وهذا الاستقلال"
"وقضية الحرية هي الآن تقتضينا الكفاح لفلسطين ولوادي النيل والعراق وشمال أفريقيا، لأن هذا الوطن جميعه يريد الحرية وإن كانت فلسطين هي قضية الساعة، ولا يمكن أن نحيا الحياة الكريمة إلا في ظل الحرية"
أما القضية الثانية:
فهي الأصل، تلكم هي قضية المبادئ والرسالات في وسط هذه الضلالات الحائرة من شيوعية لا يمكن أن تستقر وتعمر، ومن ديمقراطية لا تقدم إلى على مجرد شهوات ومجرد رد فعل بين الطبقات ومصادمات بين الأمم والشعوب.
هذه الحيرة ... هذه الشيوعية... هذه الديمقراطية لا معنى لها ولا خير فيها، فإن عندنا نحن ميراث السموات وعندنا هداية الله..."
ونحن ورثنا هذا الميراث جميعًا ومن حسن الحظ أنها تهدف إلى هدف واحد لأنها تدعو إلى معرفة الله وعلى فعل الخير. ولقد جاءت هذه الأديان لتطبعنا على الخير وتدلنا إلى هذه المعرفة.
ونحن بعون الله – لا أحد غيرنا – سترد هذه الدنيا الحائرة إلى طريق المعرفة. وسندلها على الخير والمرحمة ليستقر على الأرض السلام وتقوم فيها العدالة، فنسعد أنفسنا ونسعد الدنيا معنا. ففي أيدينا قارورة الدواء، ولو وضع عِلم الغرب وفلسفته إلى جانب ما عندنا من هدى ونور لكنا عالمًا سعيدًا، يعيش في ظل الحرية والأمان.
وها هي قضية فلسطين قد جاءت، والأمل أن نشطب من حسابات التصريحات والبيانات فقد انتهى عهد المؤتمرات والاجتماعات والمداولات، ولنستفتح عهد العمل بعد أن عرفنا الطريق إليه.
ثم وجه فضيلته النصيحة الآتية:
فليسمعها العرب جميعًا الملوك والرؤساء والزعماء قبل الرعايا والأفراد فالوقت وقتها وحذار أن تمر كسابقاتها دون اغتنامها فلا ينفع الندم.
"وأود من كل عربي ألا يصغي أبدًا إلى حديث الهدنة، التي يثبطون بها همم الأمة ويخدرون بها أبناءها ويفرقون بها وحدتها.
بل أحب أن تتضاعف الجهود وتتكاثر القوى حتى يحق الله الحق، ويبطل الباطل، ويأبى الله إلا أن يتم نوره".
في خانيونس:
وأدركنا خانيونس، واسترحنا في إدارة شركة النقل والتجارة لصاحبها الوجيه يوسف بك بامية وغادرناها إلى معسكر الإخوان قرب العريش.
واستدعى فضيلته مساعد القائد الأخ الأستاذ عبد الرحمن عبد الخالق الذي أكرمه الله بالشهادة على أسوار مستعمرة "ديروم" وأصدر إليه الأوامر بالاستعداد للتحرك بالكتيبة بعد ساعة من وصولنا العريش حيث تصل السيارات اللازمة لنقلها، فطار المجاهدون فرحًا وغادرناهم وهم يتسابقون إلى إعداد أمتعتهم وطي خيامهم استعدادًا للرحيل.
إلى العريش:
وصلنا العريش قرابة عصر اليوم، واسترحنا في دار الإخوان وفيها رتب فضيلته أمر انتقال الكتيبة، فدبر لها السيارات لركوب الأفراد واللوريات لحمل الأمتعة والأسلحة والذخائر، ووكل إلى فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرغلي أمر الإشراف على تحرك الكتيبة إلى ثكناتها بمعسكر النصيرات، وأوصاه بالإخوان خيرًا، ودعا الله لهم بالنصر والتأييد.
إلى الإسماعيلية:
وحوالي الساعة الرابعة والنصف تحركت بنا السيارة، إلى الإسماعيلية فأدركنا في ساعة متأخرة من الليل، فلم يجد فضيلته بُدًا من قضاء الليلة في دار الإخوان في الإسماعيلية.
إلى القاهرة:
وبعد فجر يوم الاثنين 11 من جمادى الأولى الموافق 22 من مارس 1948م عدنا إلى القاهرة، فوصلنا حوالي الساعة الثامنة.
أثر زيارة فضيلة المرشد لفلسطين:
"حديث فضيلته إلى وكيل الصحف العربية"
أحدث دخول فضيلة الأستاذ المرشد فلسطين دويًا هائلاً في كل المقامات السياسية والمجالات العربية، والأوساط الشعبية، كما أحدث رعبًا وهلعًا عند السلطات الإنجليزية.
فلقد تناقلت وكالات الأنباء هذه الزيارة، وأذاعت محطات الإذاعة أسرارها، وأوفدت الجرائد الفلسطينية مراسليها للحصول على أحاديث من فضيلته، والحق أن الصحف قد أدت واجبها، وصدرت صحفها باسم فضيلته ورسمه، ومهمته، فلفتت الأنظار ونبهت الأذهان.
وهاهي مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية تنشر حديث حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العام إلى السيد علي الحلبي وكيل الصحافة العربية ومندوب جريدتي الدفاع وفلسطين.
فالأسئلة التي وجهت إلى فضيلته لا زالت تتردد على كل الشفاه في كل المجتمعات العربية والإسلامية، ولا زالت تشغل أذهان الممثلين من الرسميين وغير الرسميين، لِتُحي الأمل في المستيئسين، وتبعث الهمم في القاعدين وترد المجد للمستعبدين.
وهذه هي الأسئلة وأجوبة فضيلته عنها.
(1)- ما هو شعور فضيلتكم عند زيارتكم الأولى لفلسطين؟
- شعور الوطني الغيور حين يرى بقعة من وطنه المقدس، وفلسطين تحتل من نفوسنا موضعًا روحيًا قدسيًا فوق المعنى الوطني المجرد، إذ تهب علينا فيها نسمات بيت المقدس المباركة وبركات النبيين والصديقين ومهد المسيح عليه السلام، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذي الأرواح.
(2)- هل أنتم واثقون من نصر الدول العربية وهل ترون أن الوسائل العملية التي قام بها العرب كافية لمواجهة الأحداث؟
- إن نصر الدول العربية في كفاحها ضد الظلم والعدوان محقق بإذن الله لأنها تجاهد في سبيل الحق، والحق مؤيد منصور ولا شك، ولئن كان في وسائلنا العملية بعض النقص، فنحن في طريقنا إلى استكمالها وما في نفوسنا من إيمان بحقنا فيه كل التعويض بإذن الله.
(3)- هل ترون أن القضايا العربية في مصر وفلسطين والعراق وبقية الدول تحل دفعة واحدة وبسياسة عامة منظمة أم تحل واحدة واحدة؟
- قضية الحرية والعدل واحدة، ويجب أن تحل في كل الدول والشعوب العربية والإسلامية بوسيلة واحدة كذلك، وهي التجمع ووحدة الخطط والوسائل وفي ذلك كل ضمان للفوز إن شاء الله.
(4)- ما هو رأي فضيلتكم في طلب الهدنة التي تقدمت به بعض الدول الكبرى لوقف القتال في فلسطين تمهيدًا لحل قضيتها؟
- لا يصح أن ننخدع بحال بهذه المناورات السياسية التي يراد بها تثبيط الهمم وتفريق الجهود ويجب أن نظل على ثباتنا وجهادنا حتى ننتصر بالعمل فقد شبعنا من وعود السياسة والاعتماد على أساليبها العميقة.
(5)- إلى أي حد وصلت استعدادات الإخوان المسلمين ومساعداتهم لنصرة عرب فلسطين وهل دخلت قواتهم المنظمة الميدان في الأرض المقدسة ومن أين تمون وتسلح هذه القوات ومن يقوم بتكاليفها؟
- الإخوان المسلمون يفتدون فلسطين بكل شيء، ولا يضنون بأرواح أو أموال في سبيلها. وهم متعاونون تمام التعاون مع القيادات العاملة في كل خططها، وللشئون العسكرية حرمتها، وأنا رجل مدني وللعسكريين أن يجيبوا على بقية هذا السؤال.
المصادر
جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية السنة السادسة -جماد الثاني 1367هـ - مايو 1948