مشايخ العسكر في خدمة العسكر
مقدمة
"إحنا شيوخ السلطان، وهكذا أمرنا الله، وهذا ما ورد في القرآن، واللي يقول غير كده يبقى شيطان، وأطالب كل شيخ يطلع بفخر يقول إيوة أنا شيخ السلطان" بهذه الكلمات عبر بها أحد مشايخ النظام الحاكم وهو الشيخ خالد الجندي – وإن كان هذا ليس التصريح أو الكلمات الوحيدة التي بين فيها الجندي لأى نظام، لكن جاءت كلماته معبرة عن حال هؤلاء العلماء الذين شرعنوا كل ما يطلبه الحاكم وأوجدوا له مسوغ في الدين.
يقول الشيخ عصام تليمة:
- إنه بناء على كلام خالد الجندي، فرئيس تركيا: رجب طيب أردوغان، وأمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، كلاهما بنفس المنطق سلطان، فهل لهما السمع والطاعة كالسيسي في مصر؟ عندئذ يخرج الجندي بنفي ذلك، ولو كان الأمر دينا لكان لكل الحكام، ولكنه تدليس وتلاعب بنصوص الشرع، فلذلك يكون انتقائيا، من شيوخ السلطان. والحقيقة أن خالد الجندي لا يرقى لأن يكون شيخا للسلطان، بل يطمح لذلك، ويقدم أوراق اعتماده ليضمه السلطان لبلاطه، فهو يرى أنه ليس أقل ممن تقدموا ليخدموا في بلاط السلطان، وذلك بادعاء أن ما يفعله هو أمر من الشرع، وقيامه بلي أعناق النصوص.
وقد رأينا كيف خرج كثير من علماء السلطان يشرعنون ما قامت به الدول من حصار لدولة قطر بحجة أن فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم، وهي مبنية على الحكمة والبصيرة وفيها فائدة للجميع. وهم نفس العلماء الذين شرعنوا الانقلاب على إرادة الشعب المصري، بل شرعنوا أداة القتل والذبح التي قام بها عسكر مصر ضد الشعب، بل شرعنوا ما قامت به السعودية والإمارات من قتل في الشعب اليمني وما قام به بشار الأسد وحفتر من قتل لشعوبهم.
والحقيقة أنه منذ ظهور الدول أو التجمعات السكانية البدائية – كما يقول مجد الصباغ - اضطر ملوك الدول وزعماء القبائل والعشائر إلى استخدام قوة الدين كوسيلة لزيادة السيطرة والسطوة على الشعوب المحكومة مهما كان دينهم أو مذهبهم ومعتقدهم. ولكي يستطيع الزعيم أو القائد فرض نفسه وقراره ولكي يمنع قيام أي معارضة أو ثورة أو تمرد ضده كان لا بد على أصحاب القرار من استمالة بعض رجال الدين بشتى أساليب الاستمالة كالإغراء بالمال أو المناصب أو الجاه أو حتى التخويف من العقاب أو القتل أو حتى النفي.
وأثبتت السنوات والأحداث التاريخية أن لبعض رجال الدين أو مشايخ السلطان دور رئيسي في تثبيت دعائم ملوك أو خلع زعماء وإعلان ثورات باسم الدين لما للدين من قيمة ورهبة ومحبة في قلوب الشعوب. والعجيب في الأمر أن فتواهم ليست لجميع السلاطين أو الحكام بل السلاطين المتحكمين في أرزاقهم فحسب وهذا ما نراه في دولة العسكر الآن من كون كل النصوص الدينية تسخر لخدمة ما قام به عبدالناصر مرورا حتى السيسي، وليست فتواهم لكل حكام المسلمين لأن منهم لا يرضون لشعوبهم الذل ولذا صار هؤلاء المشايخ حربا على هؤلاء الحكام المخالفين لمنهج العسكر وأتباعهم.
لقد كان العلماء عبر تاريخ الأمة الممتد من العهد النبوي فالراشدي إلى العهد العثماني هم من يبصّر الأمة بالحق ويبعدها عن الزيغ والزلل، حتى تغير الحال كثيرا في دولة العسكر والدول الديكتاتورية بأن أصبح كثير من الشيوخ والفقهاء ونخب السوء، عملاء للأجهزة الأمنية قديما وحديثا لأنهم كانوا أضعف من المواجهة أو إن طبيعتهم تدفعهم إلى النفاق والتزلف وانتظار المنفعة.
ولن نقف كثيرا حول كثير من علماء ومشايخ السلطان في دولة العسكر - التي جثت على صدر الشعب المصري منذ 23 يوليو 1952م وهو الحدث الذي كان كثير من العسكر أنفسهم لا يعتبره إلا تغير لإرادة الشعب قبل أن يسطوا بعض رجال الجيش وعلى رأسهم عبد الناصر الذين أغرتهم القوة والسلطان بأن لا يسلموا للشعب هذه الإرادة بل يفرضوا أنفسهم على هذه الشعوب بقوة السلاح حتى يومنا هذا- لكن سنتناول نماذج منهم في كل عصر.
فتح الله بدران وعصر عبد الناصر
كانت نهاية الحرب العالمية الثانية بداية لتغيير موازين القوى في العالم، حيث غربت الشمس عن الامبراطورية البريطانية التي لم تغب عنها الشمس في العصر الحديث وبرزت قوى جديدة متمثلة في أمريكا والاتحاد السوفيتي، فتغيرت صور الاستعمار حيث لم تعد القوة العسكرية هي الشكل الوحيدة للسيطرة على الشعوب، كانت برز مفهوم السيطرة بالوكالة – خاصة في الدول الإسلامية – وهو المفهوم الذي عمدت الدول الكبرى على بسط نفوذها على مقدرات الشعوب الاقتصادية من خلاله مقابل أن تنصب حاكم من أبناء الشعب ينفذ كل ما يسعى المحتل لفعله، وهى الاستراتيجية التي نجحت فيها الدول الاستعمارية بعد أن شكلت الجيوش العربية على أعينها واختارت منهم من يتولى زمام الأمور.
جاء عبد الناصر وفق مخطط محكم مدروس ظاهره فيه العداء لدول الغرب وباطنة في الود والمصالح المشتركة، حتى أن أنور عبد الملك يصف هذا الأمر في كتابه بقوله: مصر في الحقبة الممتدة بين عامي 1952 إلى 1967 بـ(المجتمع العسكري) نتيجة "سيطرة النخبة من الضباط والتأثير الكبير لهذه السيطرة في المجتمع المصري، فقد اتصف العمل السياسي لمجموعة الضباط في تلك الفترة التاريخية بالاستيلاء الكامل على جهاز الدولة وتشكيل برنامج التغيير الوطني الجذري، وإجراء تغيير واضح في شكل الدولة".
لقد تحول العسكر في عهد عبد الناصر إلى البدل والسيارات الفارهة وتخلوا عن البدل العسكرية والسيارات الجيب من اجل الإمبراطورية التي بدأوا يبنوها لأنفسهم وذويهم. وهكذا أصبح الجنرالات هم أصحاب الشركات ورؤوس الأموال، فلقد اعتبرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية القوات المُسلحة المصرية الشريك المُفضَّل لإبرام العقود الصناعية!. (1)
لم يستطع جنرالات عبد الناصر الصبر على كبار العلماء أمثال الشيخ الخضر حسين فسعوا إلى تهميشه من أجل أن يستقيل لعدم استجابته لشرعنة أفعالهم وبالفعل فعل في 2 جمادى الأولى 1373 هـ /7 يناير 1954م.
وحينما جاء وفد من الرئيس يساومه على دينه؛ فأجابه قائلاً:
- "قل للرئيس يكفيني من دنياكم كسرة خبز وكوب لبن، وقد ضمنها الله لي، وهذه استقالتي تحت تصرفكم". (2)
ولذا استعان عبد الناصر بكثير من العلماء الذين أصبحوا خدما في بلاط عبد الناصر أمثال عبدالرحمن تاج الدين، والشيخ محمد عبد الرحمن بيصار، والشيخ محمد فتح الله بدران وغيرهم، ولنحاول أن نقف على شخصية محمد فتح الله بدران. محمد بن فتح الله بدران (1328 - 1390 ه = 1910 - 1970 م) أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين، بجامعة الأزهر. مصري. أحرز الدكتوراه بأطروحة عن (الملل والنحل) للشهرستاني.
له آثار أجلها كتاب (الفلسفة الحديثة في الميزان وتأسيس القواعد من القرآن - ط) ومن كتبه المطبوعة مترجمة عن الانكليزية (هنري السادس) الجزء الثالث، و (جواهر لال نهرو، سيرته بقلمه) و (قصة الحضارة) وله (إبراهيم باشا) و (النتائج السياسية للحرب العظمى) و(الدمقراطية) وشارك عبد الحميد العبادي في ترجمة (تاريخ المسألة المصرية - ط) من تأليف تيودور رتشتين. وتوفي بالقاهرة. (3)
عَمِلَ بالتَّدريسِ في قِسمِ الفَلسفةِ بكليةِ أُصولِ الدِّينِ بجامِعةِ الأزهر، كما عَمِلَ بالتَّدريسِ في مَعهدِ الصَّحافة، كذلك في مَعهدِ الدِّراساتِ العُليا بالجامعةِ العَربية، فضْلًا عَن تَوَلِّيهِ إدارةَ الثقافةِ في وِزارةِ التربيةِ والتعليم.
الشيخ في خدمة عبد الناصر
سعى نظام عبد الناصر إلى استخدام المشايخ في اقناع المعتقلين بصواب عبد الناصر فيما يقوم به، غير أنهم لم يستطيعوا تغير ذلك، وكان من هؤلاء المشايخ الذين استعان بهم عبد الناصر الشيخ محمد فتح الله بدران، الذين جاب السجون ليقنع المعتقلين بصواب ما يقوله.
يقول الدكتور محمد عبد المعطي الجزار:
- وأبرز الذكريات هي ما كانت تُسمى بعملية "غسيل المخ"؛ حيث يُحضرون لنا الشيوخ والمفكِّرين وغيرهم، وكان أبرزهم الشيخ محمد بيصار شيخ الأزهر وقتها، والشيخ محمد فتح الله بدران، ومن المفكرين عبد الغني سعيد، والدكتور أحمد شلبي؛ حتى يعملوا لنا "غسيل مخ" أي محاولة تغيير أفكارنا.
وأتذكر أن أول شيخ حضر لنا هو الشيخ محمد بن فتح الله بدران، فقد جمعونا وحولنا اصطف الإخوان، وهو يجلس أمامنا في حجرة، ونحن نجلس على الأرض، وكان لدينا توجس حول هذه القضية ماذا يريدون من مناقشاتنا بعد كل ما حصل، وقد نبَّه علينا العساكر أنه لا مناقشة ولا أسئلة، بل استماع فقط.
وقام حمزة البسيوني بتقديم الشيخ قائلاً:
- إن الرجل (يقصد عبد الناصر) قلبه كبير يريد أن يتناقش معكم، ويفتح صدره لكم، ولكن أنا في تقديري أنكم لا تستحقون إلا الإبادة والبتر من هذا المجتمع؛ لأنكم مثل السوس ينخر في جسم المجتمع، وقد قابلتكم في 65، والآن وأنا أقابلكم هنا وسأقابلكم في 1975م، وأنا الكرباج وأنا القاضي وأنا اللي بيدي حبل المشنقة..
- ثم قال اتفضل يا أستاذ: والشيخ بعد أن حمد الله وأثنى عليه- وكان هذا الشيخ زميل الشيخ عبد الستار فتح الله السعيد الذي هو معتقلٌ معنا أثناء هذه المناقشة- قال: إن لي شرطًا وحيدًا عليكم قبل أن أبدأ كلامي؛ هو أن يستحضر كل واحد منكم ليفة حمراء، والتي تستعمل في غسيل الأواني ليغسل كل منا ما في رأسه من أفكار. وكان من تقدير الله أن هذه المقدمة ساعدت في تنبيه الإخوان إلى هذه المحاولة الماكرة، وفي عدم دخولنا في حوارات أو طرح أسئلة على هذا الشيخ أو غيره.
- وفي إحدى هذه المحاضرات.. أخ من الإخوان غلبته نفسه وسأل سؤالاً.. وطالت إجابة الشيخ على السؤال، حتى تململ الحرس فلما رجعنا إلى السجن جمعنا هؤلاء الحرَّاس ونادَوا إلى هذا الأخ صاحب السؤال، وقالوا له ولنا جميعًا: ألم تعلموا يا أولاد (...) أن هذا الشيخ الذي يحاضركم لو قال غير الذي يقول لسُجِنَ معكم افهموا يا أولاد (...) وكان يومًا عسيرًا علينا، وظلوا يعذبوننا طوال اليوم على هذا السؤال! (4)
ويقول عباس السيسي:
- بعد أن صدرت الأحكام على الإخوان وتم تنفيذ حكم الإعدام على الإخوة الشهداء: سيد قطب – محمد هواش – عبد الفتاح إسماعيل، رأت الدولة أن تنتدب بعض العلماء.
وكان على رأسهم الشيخ فتح الله بدران، لإلقاء محاضرات (غسيل مخ) على الإخوة في السجن الحربي. وبعد عدة شهور تحدد يوم 5 يونيو 1967 لإجراء امتحان لمعرفة مدى تأثير هذه المحاضرات على تفكيرهم، وأعد لذلك أحد العنابر، وكان الإخوان يجلسون على الأرض، وحضر اللواء حمزة البسيوني والشيخ فتح الله بدران، والصول صفوت الروبي. (5)
الأستاذ أحمد عبد المجيد عن جانب من تلك العمليات فيقول:
- بدأت طائفة من رجال الأزهر تحضر إلى السجن لتلقى علينا محاضرات أمثال محمد بن فتح الله بدران .. والشيخ السبكي عضو هيئة كبار العلماء .. وعبد المغني سعيد ويحيي درويش والدكتور محمد بيصار وكيل الأزهر.
ويقول الأستاذ أحمد عادل أبو سعدة:
- كان بعض المشايخ يذهبون إلى السجون وإلقاء المحاضرات والخطب على معتقلي الإخوان كمحاولة لتصحيح مسار الدين في عقولهم أمثال: محمد بن فتح الله بدران، والشيخ السبكي، وعبدالمغني سعيد، ويحيى درويش، والدكتور محمد بيصار. (6)
ولقد حواره الأستاذ عبدالمجيد الشاذلي فكان عقابه الجلد:
- فحينما كانت تقام لهم ما يعرف باسم محاضرات التوعية وغسيل المخ، والتي كان يتم فيها تشكيك الإخوة في دعوتهم وبيان خطئهم في معارضة الحكومة وذلك من قبل بعض الشيوخ الموالين للنظام الناصري مثل د. محمد فتح الله بدران، يقول الأستاذ محمد الصروي رحمه الله: "استدعى د. محمد فتح الله بدران الأخ عبد المجيد الشاذلي وناقشه ولكن عبد المجيد كان أقوى حجة منه وأحرج الأستاذ المحاضر، فكان أن عذبوه بالكرباج وأودعوه في زنزانة وأشاعوا قتله كما ذكرت آنفا، وبكينا عليه كثيراً وصلى بعضنا عليه صلاة الغائب واحتسبناه مع الشهداء". (7)
وقد قام عبد الستار فتح الله سعيد، بسؤال د. محمد فتح الله بدران سؤالاً مباشراً عن حكم الإسلام في الحاكم الذي يحكم ويشرع من دون الله مخالفاً بذلك أمر الله بأن يحل الحرام ويحرم الحلال! فلما انتهت المحاضرة بدأ التعذيب بعد عودتنا إلى الزنزانة بخمس دقائق، فنزلنا إلى فناء السجن الحربي وبدأ التعذيب بالجري السريع داخل حوش السجن ساعات طويلة تعذيباً للشيوخ والشباب. (8)
وكتب كريم شفيق:
- قام بعض علماء الأزهر أمثال محمد بن فتح الله بدران وعبد المغني سعيد والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي رئيس لجنة الفتوي بالأزهر، بالذهاب إلى السجون وإلقاء الخطب والمحاضرات ومناقشة معتقلي الإخوان في المسائل الخلافية، التي يعتبرون فيها النظام خارجاً عن الدين وتصحيحها لهم أو تبريرها. فقدم الشيخ السبكي دراسة يهاجم فيها كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، انتقد تجهيل قطب للمجتمع وتكفيره لهم حكاماً ومحكومين، واتهمه بأنه "متهوس وشبيه بإبليس ويقود الناس للمهالك ليظفر بأوهامه" (9)
إن منصب شيخ السلطان أو شيخ الإسلام أو بابا المسيحين كان وسيستمر الذراع الأقوى والسند الأهم لزعماء العالم الخائفين من شعوبهم والمضطرين لدعم المشايخ لتحقيق أهداف غير نبيلة توافق هواهم وغرورهم وترغب بفرض صفة دينية عليهم ليتم تقبلهم شعبيًا وعدم القيام ضدهم أو حتى التفكير في معارضتهم مطلقا.
المراجع
- أنور عبد الملك: المجتمع المصري والجيش، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والمعلومات والنشر القاهرة، 1998م.
- محمد مواعده: محمد الخضر حسين: حياته وآثاره، 1873م. - 1958م، الدار التونسية للنشر، تونس 1974م.
- خير الدين الزركلي: الأعلام، جـ ٦ – صـ ٣٢٧.
- الدكتور محمد عبد المعطي الجزار: أيمن سيد
- عباس السيسي: حكايات عن الإخوان المسلمين، الجزء الثاني، دار الطباعة للنشر والصوتيات.
- أحمد عادل أبو سعدة: الأزهر بين الاتجاهين القومي والإسلامي في العهد الناصري (1952 - 1970)، طـ1، إي كتب، لندن، صـ92.
- محمد الصروي: تنظيم 65 .. الصحوة والزلزال، دار التوزيع والنشر والإسلامية
- الشيخ عبدالستار فتح الله سعيد .. عالم أدبه القرآن المجيد
- كريم شفيق: الفقية والسلطان... التوظيف السياسي للدين في عهد عبد الناصر، 25 سبتمبر 2017م