مذبحة طرة بين الأمس واليوم
بقلم / أ. عبده مصطفى دسوقي
إن الأحداث تتدافع والأيام تتلاحق ويدفع الناس بعضهم بعضا ليتنسموا عبير الحرية التي حكم عليها قانون الطوارئ بالفناء وألقاها النظام في سلة المهملات.
لقد مرت أحداث جسيمة على هذه الأمة وقد تركت في النفوس الأحزان والأشجان، فنراها وقيدت حريات مئات الشباب من الإخوان ومن باقي طوائف الشعب وزج بهم في غياهب السجون ليتجرعوا الظلم وليسكنوا الظلمات لا لشيء إلا أنهم شبابا ينشدون الحرية لوطنهم الأسير ويريدون دفع ظلم النظام عن أنفسهم. لقد هجم النظام في مصر على طوائف الشعب المختلفة بالعصي والهراوات ووطأت أقدامهم أجساد الأبرياء وزجوا بنضرة شباب المجتمع خلف القضبان وانتهكت الحرمات ولم يفرقوا بين مريض وصحيح بل كانت الأحكام جاهزة ومعدة والاتهام قد سبق إعداده وبعد كل مرة وأخرى يموت فيها أحد الإخوة يكتب لفظ يجدد هارب.
ما التهمة؟ وما الجريمة؟ ... إنهم وقفوا ضد النظام
إن الحقيقة التاريخية لتلك الحقبة وصلت بالشعب المصري وبالأمة العربية والإسلامية إلى ذروة المأساة، وهي الحقبة التي تمثلت في حكم عبد الناصر لمصر، ولم يكتب عنها الكثير, وما زالت الوثائق لا يعرف مكانها ولم يفرج عن الكثير منها، وهي لا تزال ضائعة... لكن مهما طال الانتظار فسوف تتمزق الأستار وترى الأجيال القادمة حقيقة القوى التي كانت تمسك بخيوط الدمى التي صنعتها بيديها، وقدمتها كأبطال أسطوريين؛ ليعلبوا الأدوار التي رسمت لهم حتى ولو كان في ذلك ضياع أوطانهم، واستذلال شعوبهم.
لقد ذكرتنا هذه الحوادث بما حدث في خمسينات هذا القرن عندما قامت جحافل الشرطة العسكرية باقتحام منازل الأبرياء وساقتهم إلى المصير المجهول وغيبوا وراء السجون بهدف الحفاظ على أمن وراحة النظام وحكم علي بعضهم بالإعدام وآخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولم يكتف نظام عبدالناصر بذلك فبعد حادثة المنشية قام عبد الناصر بمذبحة ضد بعض العلماء أمثال الشيخ محمد فرغلي والقاضي عبدالقادر عودة والأستاذ إبراهيم الطيب ويوسف طلعت وهنداوي دوير ليرسخ لنفسه مقاليد الحكم, وبعد أن استتب به الحال بعد عدوان 1956م أراد أن يغير الملكية إلى جمهورية في الدول المجاورة، فدعم انقلابًا ضد الملك حسين ملك الأردن غير أنه اكتشف، وساعد على اكتشافه إخوان الأردن، فتولد لدى عبدالناصر رغبة في الانتقام من إخوان مصر, فرتب مع بطانته القيام بمذبحة ضد العزل من الإخوان داخل المعتقلات، وخطط لذلك وحشد قواته لتصفية الإخوان في كل معتقل، وكانت البداية في سجن ليمان طرة.
فجرد لهم القوات واعد الخطط واستورد السلاح وقامت القوات بغزو سجن طرة واقتحمت العنابر على المعتقلين المعذبين وأطلقوا عليهم الرصاص وأجهزت عليهم بالعصي فمات واحد وعشرون من الإخوان وهم في زهرة شبابهم وجرح واحد وعشرون، هذا غير من أصابهم الجنون، ولم يكتف قادة سجن طرة بهذه المذبحة التي ارتكبها النظام في حق مجموعة من الإخوان العزل يوم 1 يونيو 1957 م ودفع فيه الشباب ثمن تمسكهم بشريعة الله والتصدي لمخططات الغرب.
يقول الأستاذ جابر رزق: "لقد أقيمت المذبحة في أول يونيو 1957م لمائة وثمانين من الإخوان المسلمين، هم الذين بقوا في سجن ليمان طرة بعد ترحيل إخوانهم إلى سجن المحاريق وبنى سويف وأسيوط وغيرها من السجون.
لقد بلغ الطاغية عبدالناصر ورجال حكمه من الخسة واللاإنسانية أن أطلقوا الرصاص على المائة والثمانين من المسجونين داخل الزنازين وهم عزل لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8]، فقد استشهد فيها كلاًّ من أنور مصطفى أحمد، والسيد علي محمد، ومحمود شعبان، وأحمد حامد قرقر، ومحمود عبد الجواد العطار، وإبراهيم أبو الدهب، ورزق حسن إسماعيل وغيرهم، واستطاع عبد الناصر أن يحيط المذبحة بجدار من الصمت والتكتيم حتى لا يعرف الشعب المصري شيئًا عن المذبحة".
ويقول الشهيدمحمد يوسف هواش -وهو أحذ الذين شاهدوا المذبحة: لقد سبقت المذبحة عدة مقدمات؛ ففي يوم الأربعاء 22/5 منعت صلاة العصر بصورة غاية في الاستفزاز، ويوم الخميس 23/5 منع لعب الكرة الذي كان مرخصًا به، ويوم الجمعة ظلت الزنازين مغلقة حتى صلاة الجمعة، ويوم السبت حدثت مشادة بين الضابط عبد العال سلومة وثلاثة من الإخوان بغير داع، ويوم الأحد 26/5 قال سلومة مهددًا: "فيه أوامر عالية بجر الإخوان لمعركة نِخَلَّص فيها على ثلاثين.. أربعين"، وأخذ الضابط عبد الله ماهر يحتك بالإخوان بغير مناسبة ويحاول استفزازهم بكل طريقة، ويوم 29/5 شرح الإخوان لمدير السجن ما يحدث لهم، ويوم 30/5 منعت الزيارات، ويوم 1/6 حدثت المذبحة".
ويقول الأستاذ جودة شعبان -الشاهد الحي: كنا في ليمان طرة ما يقرب من 180 من الإخوان، وكان أكبر عدد منهم في الليمان من إخوان شبرا، وكانت زياراتهم هي يوم مشهود؛ فقد كان عدد الحضور في اليوم المخصص لهم كبير, وفي أواخر مايو شعرنا بأن ضباط السجن يقومون بعمليات استفزازية ضد الإخوان، خاصة الضابط عبد العال سلومة وعبد الله ماهر، فأخذنا نتواصى بالصبر وضبط النفس وحكمة التصرف أمام كل ما نتعرض له من معاملة المسئولين في الليمان، خاصة الضباط الذين كشفت الأحداث عن مدى حقدهم وكراهيتهم للإخوان أمثال عبد العال سلومة وعبد الله ماهر وعبد اللطيف رشدي، وكانت الأحكام للإخوان الموجودين في الليمان تتراوح بين العشر سنوات والخمس وعشرين سنة، وكنا نطلع الجبل مثل بقية المساجين، وكانت لنا طريحة لابد من أن ننجزها، وكان من بين وسائل الضغط النفسي علينا في الليمان عملية التفتيش المستمر، وكانت تتم بصورة مستفزة، وكادت هذه المذبحة تحدث في فبراير 1956 م لكن مدير السجن كان حكيمًا فحال دون ذلك، مما دفع زكريا محيي الدين وزير الداخلية آنذاك أن يقوم بنقله عقابًا له على ذلك، وجاء بمأمور آخر هو السيد والي والذي كان شديد الحنق على الإخوان المسلمين.
وقبل يوم المذبحة جاءت زيارة لمجموعة إخوان شبرا، وكانت من أكبر الزيارات، وكنت واحدًا من المطلوبين للزيارة، وقد جاء أهالينا ببعض الطعام، وكان من ضمن الذين أخذوا طعامًا الأخ عبد الغفار السيد، وفجأة ظهر الضابط عبد الله ماهر ودفع الأخ مما أوقعه في صورة مستفزة، ولم يقتصر على ذلك بل قام بضرب أم أحد الإخوان ثم أنهى الزيارة، وسارع إلى الإدارة وقال: إن الإخوان اعتدوا عليه، وكأن الأمر مبيت، فانتفضت الإدارة لتنفذ ما اتفق عليه مع السادة من قبل، وجاءوا وقالوا: من أخذ شيئًا فليركن على جنب، فخرجت ومعي بعض الإخوة، فأمر بأخذنا إلى عنبر التأديب، وساقوا أهلنا إلى قسم المعادي مرفق معهم مذكرة يقولون فيها: إنهم أدخلوا ممنوعات للسجن، وكان من ضمنهم والد الأخ حسن علي حسن فقال لوكيل النيابة: إننا لم ندخل ممنوعات لكنه كان طعامًا، والأمر أننا إخوان مسلمين فأفرج عنهم، وبعد أن أدخلونا عنبر التأديب لم ندر بما يحدث في الخارج، وعشنا في لحظات كلها تعذيب وتكدير, لكننا كنا قبل الحادث قد رأينا أنهم أعادوا مرضى الإخوان الموجدين في المستشفى، وشعرنا بأن شيئًا يدبر لنا فقررنا الامتناع عن الخروج للجبل حتى لا نُضرب بالرصاص بحجة أننا حاولنا الهروب، وكتبنا مذكرة نطلب فيها التحقيق معنا، ولنعرض عليهم أن حياتنا في خطر، وكنا ما زلنا في عنبر التأديب، وثاني يوم من الزيارة سمعنا صوت رصاص منهمر وصرخات الإخوان من كل مكان، وبعد فترة صَمَت صوت الرصاص وجاءت النيابة وسمعت منا وأدانت إدارة السجن لكنها تغيرت، وفي الليلة الرابعة بعد المذبحة أخرجونا إلى سجن القناطر الخيرية وبقينا فيه ثلاثة أشهر في تعذيب وتكدير، وعلمنا أن المذبحة أسفرت عن مقتل واحد وعشرين من الإخوان وأصيب مثلهم.
وقد نقل معنا عبد العال سلومة إلى سجن القناطر الذي أذاق الإخوان أشد أنواع العذاب البدني والنفسي، حتى إن ستة من إخواننا فقدوا عقولهم أثناء وجودنا في سجن القناطر.
إن التاريخ يسجل والذكريات لا تمحى وسيشهد هذا السجن على ظلم الظالمين ويشكو إلى الله رب العالمين هذا الظلم العظيم ويتبرأ إلى الله مما يفعله فيه هؤلاء الظالمين.
إن التاريخ سيشهد على كل حاكم ظلم نفسه وشعبه، ولن يرحم منهم أحد وستظل مذابح النظام لكل مطالب بالحرية والإصلاح.
المراجع
1-حوار شخصي مع الحاج جودة شعبان.
2-يوميات محمد يوسف هواش: مجزرة القرن العشرين، دار الأنصار، الطبعة الأولى، محرم 1399ه - ديسمبر 1978م.
3-جابر رزق: مذبحة الإخوان المسلمين في ليمان طرة، دار اللواء للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1421ه - 2001م.