عشت حياتي بين هؤلاء

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عشت حياتي بين هؤلاء
محمد أحمد فرغلي(باشا)
عشت حياتي بين هؤلاء

تأليف:محمد أحمد فرغلي

1984

الإهداء

إلى وطني ..

الذي عشت على ترابه ، وسعدت بالانتماء غليه، هي أرضه عرفت معاني الأمل والنجاح والعرق.. وكانت رحلتي في بحر رحلة رائعة بالرغم من بعض الآلام.

.. إلى كل أفراد عائلتي..

الذين وقفوا إلى جواري في الرخاء ، وفى الشدائد، إلى روح والدتي ، إلى روح والدي ، إلى أرواح إخوتي .. إلى زوجتي.. إلى بناتي وأزاحهن،، إلى أبناء أخي .. إلى أحفادي الأعزاء .. إليهم جميعا أهدى هذا الكتاب .

شكر

إلى أخي الكريم وصديقي الوفي عادل أبو زهرة الذي تفضل بمراجعة أسلوب الكتاب وتحسين لغته.

إلى الادارى الفذ الصديق عبد الله الباري الذي تحمس لإخراج هذا الكتاب.

إلى كل السادة بمطابع الأهرام التجارية وعلى رأسهم الأستاذ/ فتحي الشرقاوي المدير العام.

شكرا لهؤلاء جميعا فلولاهم ما خرج الكتاب على هذه الصورة .

مقدمة

عندما أمسكت بالقلم لأكتب هذا الصفحات من ذكرياتي شعرت بحيرة لم أشعر بها من قبل.

فحياتي مليئة بالمحطات والأحداث والأشخاص.

وجدتني وسط هذه الحيرة أتساءل ، بأي المحطات أتوقف؟ وأي الأحداث أذكر؟ وعن أي شخص أتحدث؟

إن كتابة الذكريات، شاء الإنسان أو لم يشأ سوف تحمل في ثناياها تقييما للمواقف والأحداث والأشخاص، وأنا لسن بالكاتب أو بالأديب ، ومن هذه الأحداث ما لا يزال مستمرا ، ومن هؤلاء الأشخاص من لا يزال حيا.

إن التنقيب في الذاكرة ليس بالأمر الهين، فالذاكرة أغوار عميقة ، ودروب متشابكة معقدة، تمتلئ رفوفها بالصور والألفاظ والأرقام.

وبعد تردد طويل قررت أن أمسك بالقلم ، وأقلب في أوراقي القديمة، وأتذكر المواقف الكثيرة، الأحاديث المتعددة التي دارت بيني وبين كبار الزعماء المصريين الذين كان دورهم الأساسي صنع الأحداث وتوجيه الأمور.

ربما يكون فى كتابتي لهذه الذكريات أهمية ما لأجيالنا من الشباب الذين يشغفون بالإبحار نحو الماضي يقلبون فيه، ويعرفون منه وعنه ما قد يضيء أمامهم الطريق لصنع مستقبل أفضل لهذا الوطن الغالي.

إن كتابتي لهذه الذكريات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعد تاريخا لفترة زمنية في حياة مصر، فالكتابة التاريخية منهج علمي ودراسة تحليلية مقارنة لا أدعى أنني أسعى إلى القيام بها، فهذا دور العلماء والباحثين.

وإذا سمحت لنفسي أن أصف متا أقوم به ، فإنني أو قل إن ظروفي كرجل أعمال أتاحت لي علاقات طيبة بمعظم الساسة أيا كان انتماؤهم الحزبي، ولقد وجدت من الصواب أن أظل بعيد عن الانتماء لأي حزب سياسي، محاولا الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع كل رؤساء الوزارات والوزراء، كي أتمكن من تسيير الأمور في اتجاهها الصحيح.

لقد كان شغفي بالنجاح في العمل الحر لا حد له، مما جعلني أعزف عن السعي إلى أية مناصب حكومية مهما كبرت، خاصة المناصب الوزارية، ولقد ظللت على موقفي هذا حتى هذه اللحظة مفضلا حريتي على أي شيء آخر.

وربما يختلف البعض معي في هذا الموقف ، وربما يكون عندهم الحق، لكنني كنت أجد أن عزوفي عن المناصب الحكومية مكان ن ألأسباب التي وفرت لي صعودا مستمرا في طريق النجاح، وعلاقة وطيدة بكثير من الزعماء.

وليس معنى ذلك أنني كنت بعيدا عن تحمل مسئولية المناصب، أو أنني كنت أهرب منها، بل على العكس ، لقد وصلت رئاستي وعضويتي لمجالس إدارات الشركات والبنوك إلى ما يزيد على الثلاثين شركة وبنكا، كما أنني كنت عضوا في مجلس الشيوخ في فترة من أحرج وأدق الفترات في حياة مصر والعالم، وهى فترة اشتعال الحرب العالمية الثانية ، كما أنني كنت عضوا في بلدية مدينة الإسكندرية في بداية شبابي، ورأست اتحاد المصدرين لفترات متعددة ، ومثلت مصر كعضو في وفود رسمية قبل الثورة وبعدها.

لقد فعلت كل ذلك، ولم أكن أبدا قبل الثورة موظفا حكوميا، كل هذه الظروف، جعلت منزلي في الاسكدنرية مكانا مريحا وآمنا للساسة المصريين ، سواء أثناء فترة وجودهم في الحكم أو خارجه، وكانوا يأتون ليتحدثوا عن متاعبهم ومشكلاتهم وخططهم وهم يشعرون بالأمن التام، فهم يتحدثون إلى شخص لا ينافسهم على منصب الوزارة ولا يختصم معهم في انتمائهم الحزبي، بل إنه قد يساعدهم في تنفيذ سياساتهم في بعض الأحيان.

لقد ربطتني علاقات تراوحت بين العلاقة الحميمة، والعلاقة الشخصية العادية مع "أمين عثمان باشا" ، " مصطفى النحاس باشا"، " طلعت حرب باشا" ، " إسماعيل صدقيباشا" ، "على ماهر باشا" ، محمد محمود باشا"، " مكرم عبيد باشا"، " حسن صبري باشا" ، "أحمد ماهر باشا"، "حافظ عفيفي باشا"، عل الشمسي باشا"، " حسين سري باشا"، " فؤاد سراج الدين باشا"، " النقراشي باشا"، : أحمد حسنين باشا"، وغيرهم، كما أتاحت لي الظروف أن التقى " بالملك فؤاد" ، و" الملك فاروق" بل وصل لقائي بالملك " فاروق" إلى حد الصدام في بعض الأحيان، كما كانت لي علاقات بحكم عملي ، وموقعي الاجتماعي بالسفراء، والدبلوماسيين الأجانب، والتقيت بالملك " إدوارد" ملك انجلترا ," تشرشل" رئيس وزراء مرحلة الحرب وبعض الساسة في أوربا الشرقية والصين.

أما بعد الثورة فقد أتاحت لي الظروف أن تكون لي علاقات متفاوتة ، ولقاءات متعددة مع قادتها مثل السادة، " محمد نجيب "، " جمال عبد الناصر"،"جمال سالم" ، " صلاح سالم" ، " عبد اللطيف البغدادي"،" أنور السادات"،" حسين الشافعي"،" خالد محيى الدين" ، " حسن إبراهيم" ، " كمال الدين حسين" ، " وغيرهم ممن شاركوا في مسيرة الثورة من غير العسكريين مثل د . " عبد الجليل العمري" والدكتور " عبد المنعم القيسونى" والدكتور " الجريتلى" و " حسن عباس زكى" وغيرهم من الوزراء الذين شغلوا مناصب وزراء التجارة والاقتصاد.

أما الصحفيون الذين ساهموا في صنع الأحداث، فلقد جمعتني مواقف تحكى مع الأساتذة " محمد حسنين هيكل " ، "ومحمود أبو الفتح" ، و" مصطفى أمين" وغيرهم، هذا عن بعض الشخصيات الهامة الذين جمعتني بهم مواقف.

أما الأحداث التي عشتها، فلقد تفتح وعيي في شبابي المبكر على الحرب العالمية ألأولى وثورة 1919 ، وانتقال مصر إلى الممارسة السياسية في ظل دستور 1923، ثم بعد ذلك بدأت أشارك في هذه الحياة ابتداء من عام 1929 ، وبدأت أعيش الأحداث عن قرب، وكان أهم هذه الأحداث إلغاء دستور 1923، وتوقيع معاهدة 1936، وبداية الحرب العالمية الثانية، وحادث 4 فبراير 1942 ، ونهاية هذه الحرب، ثم بدء ظهور بعض القوى السياسية، والعنف السياسي في الحياة المصرية، واغتيال بعض الزعماء السياسيين، وحرب فلسطين، وانحدار أخلاق الملك فاروق، وحريق القاهرة،ثم ثورة 1952 ، وكل الأحداث الجسام التي وقعت بعدها: الإصلاح الزراعي، إلغاء الأحزاب السياسية، أزمة 1954، حرب 1956، الوحدة مع سوريا، التأميم والحراسات، هزيمة 1967، موت الرئيس عبد الناصر، وحركة التصحيح ، وحرب أكتوبر 1973 وما بعدها من أحداث جسام.

هذه بعض لمحات عن الأحداث التي عايشتها بدرات مختلفة من الاقتراب ، وسمعت روايات بعض من شاركوا في صنعها وتبريراتهم، وأهدافهم.

لقد عشت التاريخ منذ كنت طفلان وكانت متعتي هي قراءة كتب التاريخ، ومتابعة أحداثه، خاصة الأحداث التي يصنعها القادة والزعماء، ولقد كنت أعكف على تسجيل انطباعاتي ولقاءاتي التي تتم بيني وبين الساسة المصريين، بكل دقائقها ،وأحتفظ بهذه الملاحظات في دفاتر أحتفظ ببعضها في منزلي، والبعض ألأخر في مكتبي في شركة " فرغلى" وعندما حدث التأميم سنة 1961 انقض بعض غوغاء الحراسة على مكتبي في الشركة، وبعثروا محتوياته، ونهبوا بعض ما كان فيه، ولم يكن يعنيني من كل ما كان في المكتب إلا بعض " نوت" المذكرات التي كنت أحتفظ فيها بتعليقاتي على المواقف والأحداث والأشخاص، كم كان شعوري بالأسف عميقا عندما لم أعثر على الكثير من هذه النوت بعد الهجمة الشرسة المتشفية على مكتبي في الشركة.

ولقد حاولت أن أستعيد هذه الملاحظات، فاطلعت على بعض كتب المذكرات التي تناولت هذه الفترة من حياة مصر، سواء ما كان مكتوبا منها بالانجليزية أو الفرنسية، أو العربية، وأشهد أنني استفدت فائدة كبيرة على اطلاعي على هذه الكتابات، فقد كان لها فضل استعادتي للكثير من الملاحظات التي كنت قد دونتها، ولكن هذه المرة ، كان من خلال الذاكرة، كما ساعدتني بعض الأوراق التي وجدتها متناثرة في مكتبي، بالمنزل، وبعض الصور الفوتوغرافية ، التي جمعتني مع قادة مصر في مناسبات متعددة، سوف أنشرها في طيات هذا الكتاب.

لقد بذلت جهدا ضخما في تحرى الدقة عند تعرضي للأحداث السياسية ، وأرجو أن يكون في ذكرى لها ما قد يحمل نفعا لباحث، أو إنصافا لمظلوم، أو يقدم وجها جديدا لحقيقة، أو جانبا غامضا في صراع، وإن حدث ذلك سوف يكون منتهى سعادتي، كما أن قارئ هذه الذكريات سيقرأ في ثناياها بعض أحداث حياتي مختلطة بأحداث هامة في حياة مصر، أو العالم، ولقد حاولت ألا أسهب في الحديث عن حياتي الشخصية إلا بالقدر الذي يجعل الأحداث مترابطة.

وأرجوا أن أكون بعملي هذا قد أسديت خدمة ولو ضئيلة على قراء العربية خاصة الشباب .

حياة رجل الأعمال

هذه مذكرات رحل أعمال، وحياة رجل الأعمال هي مزيج من حياة السياسي، والضابط ، ونجوم السينما ، شبكة ضخمة من العلاقات والاتصالات بكل أنواع الناس، بدءا من الموظف البسيط، ومرورا بنجوم المجتمع حتى الساسة.

ومحور حياة رجل الأعمال هو الأرقام على وجه العموم، والأرقام المالية على وجه الخصوص، وبالمال ، ومع المال، ومن أجل المال يجد رجل الأعمال نفسه وسط الأضواء.

ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن مكتب إلى مكتب آخر، ومن حفل غداء على حفل عشاء، وفى كل الأحوال يجب أن تكون حياته شديدة الانضباط مثل ابتسامته، تتسع بحساب وتضيق بحساب أيضا.

ورغم هذا الانضباط الشديد والحسابات بالغة الدقة لكل خطوة ، وكل صفقة ، فقد يتدخل الحظ ليغير مجرى حياته، أو قد تتدخل المصادفات فتحول طريقه إلى اتجاه لم يكن في حسبانه.

رجل الأعمال يجب أن يكون مثل أجهزة الأرصاد الجوية، قادرا على التنبؤ بما قد يحدث في الغد من تقلبات في عالم المال، والأعمال ، كما أنه يجب أن يتبع مناهج البحث العلمي. من ملاحظة، وفهم، وتنبؤ، وتحكم.

عليه أن يكون قارئا جيدا في العلوم الاجتماعية والسياسية والسلوكية ، لكي يتمكن من فهم سلوك الناس ، وملاحظة أي تغير قد يطرأ على احتياجاتهم ، لأنه في النهاية يتعامل مع بشر، أما المواد والأشياء ، فما هي إلا وسائط بينه وبينهم.

على رجل الأعمال أن يكون شبكة شديدة الترابط من العلاقات، خاصة مع أجهزة صنع القرارات التنفيذية، والتشريعية ، كذلك مع أجهزة تشكيل الرأي العام، خاصة الصحافة ، والتليفزيون، والإذاعة، حتى وإن اقتضى الأمر أن يمتلك صحيفة، أو أن يشارك في امتلاكها.

ثم يأتي في مجال الثقافة أم رهام هو معرفة رجل الأعمال بلغات أجنبية، وهو أمر غابة في ألأهمية، لأن سوق المال في أي بلد من بلدان العالم، شديد الحساسية في علاقته بأسواق المال والأعمال في بلاد العالم الأخرى، وأي تغير في الأسواق الخارجية لا يمكن رصده إلا عن طريق القراءة المتأنية للمجلات الاقتصادية، والمالية المتخصصة، التي تصدر بلغا غير اللغة العربية، كما أن سوق المال يتأثر بالتغيرات ، والأحداث الدولية بدءا من التقلبات الطبيعية ، والتغيرات الاقتصادية والأزمات السياسية، وحالات الحرب، والسلم، واللاسلم، واللاحرب، وصولا على الاختراعات ، والكشوف العلمية،كل هذه التغيرات اليومية الهائلة تتطلب من رجل الأعمال متابعة دقيقة في صحف ، ومجلات، وإذاعات أجنبية ، كما أن معرفة اللغات تساعده على التعامل مع رجال أعال من جنسيات مختلفة، وتسهم في عقد صفقات عديدة في بقاع متفرقة من ألأرض.

تأتى بعد ذلك أخلاقيات رجل الأعمال وأنا – بالطبع- لا أقصد قالبا أخلاقيا يصب فيه رجال الأعمال ، لكنني أعنى تلك الأخلاقيات التي ساعدتني على اجتياز الكثير من الصعاب في حياتي.

فليس من المتصور مثلا أن تخلو حياة رجل أعمال ناجح من الأمانة، فهي الصفة التي تجلب له الثقة، وهو في أمس الحاجة إليها، لأنه لو افتقد الثقة شيئا غاية في الأهمية بالنسبة له.

صحيح أن هناك بعض رجال الأعمال يحققون نجاحا ضخما رغم حياتهم من الأمانة، لكن هؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل، بأنه " من الممكن أن تخدع بعض الناس كل الوقت، أو كل الناس لبعض الوقت، لكن لن يكون بإمكانك أن تخدع كل الناس كل الوقت".

ومن السلوك الذي طبقته في حياتي أيضا" أن التفكير الكثير في الفشل يمهد للفشل، كما أن التفكير المتصل في النجاح يمهد للنجاح" لذا فقد عشت طوال حياتي متفائلا، رغم ما تعرضت له من كوارث.

وعندما كانت تقع لي مصيبة، أو كارثة أردد المثل الانجليزي الذي معناه: " ربما كان قد حدث ما هو أسوأ" ولهذا المثل قصة طريفة.

بعد التأميمات التي حدثت عام 1961 ، وكانت شركاتي بين الشركات التي أممت بالطبع، سافرت على لندن في زيارة اعتيادية، وأثناء وجودي بالعاصمة الانجليزية، مررت بأحد كبار أصدقائي لزيارته، وكان يشغل في هذا الوقت منصب رئيس مجلس إدارة أحد البنوك الانجليزية الخمسة الكبرى، كما كان يحمل لقب " لورد" وما كاد بصره يقع على حتى رأيت الدهشة تطل من عينيه وسألته عما يدهشه فقال لي:

- الذي يدهشني حقا يا " باشا" أنه رغم التأميمات التي حدثت لك منذ أيام قليلة، إلا أنني أرى القرنفلة المعتادة لا تزال تزين عروة الجاكتة.

فرددت عليه مبتسما:

- ربما كان قد حدث ما هو أسوأ يا " سعادة اللورد".

وضحك الرجل بانطلاق وقال :

_ إنني معجب بإيمانك بهذه الفلسفة.. لكن هل تعرف أصل هذا المثل؟

قلت له لا أعرفه.

فقص على هذه القصة.
- كان يعيش بمدينة لندن رجل شدي التفاؤل.. وكان كلما حدثت مصيبة ، أو كارثة وسألوه رأيه رد قائلا:" ربما كان قد حدث ما أسوأ " .. إلى أن كان يوم وذهب إليه أحد أصدقائه وقال له بتحد ممزوج بالحزن:
- لقد حدثت مصيبة بالأمس لا تستطيع أن تقول بعد سماعها حكمتك المعتادة ،فرد الرجل في هدوء شديد.
- هات ما عندك.

فقال له صديقه.

- أتعرف صديقنا " فلان" ؟

- نعم أعرفه.

- كانت عنده إجازة نهاية أسبوع طويلة، عندما فكر فى أن يذهب مصطحبا زوجته، وأولاده لقضاء هذه العطلة في الريف الانجليزي، للتمتع بهدوء الطبيعة ولعب الجولف .. وعندما استمعت زوجته إلى هذا العرض فكرت قليلا، واعتذرت عن الذهاب بحجة أن الجو ملبد بالغيوم، ولا يبشر بعطلة مشمسة، وفضلت البقاء في لندن لتصحب الأولاد للسينما، أو المسرح.
وسافر الرجل وحده إلى الريف، وكان الجو فعلا شدي الاضطراب، فلم يخرج الرجل من منزله في الريف ، وانقضى اليوم الأول من العطلة على هذا الحال ، وبدأ اليوم الثاني من العطلة دون أي تحسن يذكر في أحوال الطقس، وعندما بدأ الرجل يشعر أن الإجازة ربما تمر دون أن يتمتع بها، قرر العودة على لندن ليقضى بقية الإجازة مع أسرته.
كان اليوم الذي عاد فيه يوافق السبت، لم يتصل بأسرته، وفضل أن تكون مفاجأة لهم، حمل بعض الشيكولاته للأولاد، وباقة زهور لزوجته.
عندما دلف الرجل إلى المنزل تغمره سعادة العودة للأسرة، كانت هناك مفاجأة غير سارة في انتظاره، كانت زوجته العزيزة بين أحضان أعز صديق لديه، أذهلته المفاجأة فلم يتمالك نفسه، أمسك بالمسدس وأطلق النار على زوجته وصديقه، ثم أطفاله حتى الممرضة لم تنج من هذا المصير، وكانت آخر رصاصة من نصيبه هو ، أطلقها على نفسه، وساد الصمت الثقيل كل أرجاء المنزل.
بعد أن انتهى الرجل من قص هذه الحادثة على صديقنا صاحب الحكمة المشهورة بدأ يتأمل رد فعله.
وما كان من هذا الحكيم إلا أن رد وكأنه يحلم.

- ربما كان قد حدث ما هو أسوأ.

فقال له صديقه مغتاظا:

- وهل هناك أسوأ مما حدث؟

- نعم.

- ما هو؟

- هذا الزوج لو كان قد قرر العودة مبكرا ليلة واحدة لوجدني أنا في الفراش مع زوجته.

- بالرغم من هذه الفكاهة الانجليزية، فإنني أشعر مع هذا الحكيم أنه لا بديل عن التفاؤل في الحياة ، والنظر إلى الغد على أنه سوف يكون أفضل ، لأن بديل التفاؤل هو التشاؤم الهروبي، أو رفض الحياة بالانسحاب منها أو بمحاولة تحطيمها.

الحياة يجب أن تعاش بحلوها ومرها ، وفى النهاية هي رحلة رائعة لمن يملك القدرة على تغييرها نحو الأفضل.

أما الحكمة الأخرى الآتي خرجت بها من رحلتي الطويلة مع الحياة كرجل أعمال فهي حكمة قليلة الكلمات "إنس وسامح".

ففي عالم المال والأعمال، مثل كل مجالات الحياة، يوجد صراع لا يتوقف من أجل الصعود ، أو السبق ، أو التميز.

والمرء لو كان ناجحا حقا، فلابد أن يكون له أصدقاء، وخصوم في آن واحد، والخصوم لن يكفوا عن تدبير المؤامرات، في محاولة منهم لإيقاف صعوده، أو سبقه، أو إلغاء تميزه.

والمرء لو تفرغ للرد على هذه المؤامرات ، فسوف يجد نفسه غارقا حتى أذنيه في كل ما هو غير مجد.

أما لو تصرف تصرفا حكيما ، فسوف يكون عليه أن ينسى هذه الصغائر الكبيرة، أو الكبائر الصغيرة ، والزمن كفيل بعلاج كل الجروح ، والنسيان هو خير دواء.

لكن إذا وصل حد الخصومة على مرحلة اللادعوة ، والتحدي ، فعلى المرء فى هذه الحالة أن يرد، إذا قرر الرد فيجب أن يكون رده حاسما، وليأخذ بالمثل القائل " إذا ضربت فأوجع، فالملامة واحدة" .

ذلك إذا لم يكن هناك من طريق غير الطريق الدفاعي.

إنني حينما أستعرض حياتي، أجد أن ما استخلصته منها كثيرا، ولكن أهم ما استخلصته كان مصداقا للحكمة التي تقول " بالمهارة لا بالقوة تسير السفينة" والمهارة لا تخلو بالطبع من القوة، ولقد سارت سفينة حياتي متعرضة لشتى الأخطار سواء كانت أخطارا اقتصادية أو اجتماعية، أو سياسية، وكان على في تعاملي مع مراكز التأثير فئ هذه المجالات أن أكون شديد المرونة، ألا أكون صلبا فأكسر، ولا أكون رخوا فتسهل إزاحتي.

ولقد تملك البعض قدر كبير من الدهشة ، وهو يرونني على علاقة طيبة بمراكز صنع القرار في كل المراحل، وحتى ألان، وجدوني بعد كل عاصفة متواجدا، لم تقتلعني التيارات في طريقها ، وربما كان السر هو تلك الحكمة التي ذكرتها في السطور السابقة.

إن خيالي حينما يستعرض تلك الأزمات السياسية التي كادت تقتلعني، وصداما كاد يحدث مع أعلى السلطات، ثم كيف أمكنني أن أعيد حساباتي، وأوجه شراعي بحيث، لا تصطدم سفينتي بالصخور، بل تتفادها .

إن هذه الذكريات سوف تشتمل على الكثير من الأزمات التي تعرضت لها، سواء قبل الثورة، أو بعدها ، وكيف أن المهارة، أو المرونة كانت هي المنفذ دائما.

لقد كانت أقسى الصدمات هي تقديمي للمحاكمة أمام محكمة الثورة وتأميم ممتلكاتي ووضعي تحت الحراسة، ومنعي من السفر، ومنعي من العمل لفترة طويلة.

رغم كل هذه الأزمات الرهيبة، لم تتسلل كلمة المستحيل إلى قاموس حياتي، فكل شيء كان بالتدبير الجيد، والاستخدام الكفء للإمكانات المتاحة يسير سيرا طيبا.

إن رحلة حياتي هي رحلة التعامل مع عقول متفاوتة، وأمزجة مختلفة، ونفوسا تتراوح بين البساطة وشدة التعقيد.

لقد ربطتني علاقات غريبة مع شخصيات في قمة المسئولية، وتراوحت علاقتي بهم بين الصداقة المتدنية، والصداقة العادية، والزمالة ، وأحيانا الخصومة، ومع كل هذه الشخصيات كان على أن أسير في طريق النجاح بكل إغراءاته ، ودون توقف.

إنني أقصد من هذه المقدمة أن أسدى النصائح، بل حاولت أن أستعرض بعض المبادئ التي ساعدتني ، وربما لا تستطيع أن تساعد غيري فكل منا نسيج وحده.

بداية الرحلة

إن شخصية أي إنسان هي حصيلة هذا التفاعل الذي يتم بين تكوينه الموروث، وخبراته، وتجاربه منذ الطفولة وأسلوبه في التكيف مع الواقع المتجدد من حوله.

عندما أكتب ذلك أتذكر جيدا كيف انحدرت من أسرة من صعيد مصر، حيث الجو شديد الحرارة، والتقاليد شديدة القسوة، والرجولة لها معنى مختلف، كيف انتقلت هذه الأسرة بتقاليدها من أقصى الصعيد في أبو تيج إلى أقصى الشمال في مدينة الإسكندرية، وكيف كان لهذه الانتقالية تأثير في تكويني؟

فمن بلد شديد التزمت، والمحافظة، على مدينة مفتوحة تزخر بالأجانب من كل الجنسيات، من بلد مهنته السياسية الزراعة، إلى بلد لا مهنة محددة لمن يعيشون به.

كانت طفولتي في الإسكندرية في شارع " فرغلى" بين المنشية والجمرك ، بين أحضان أسرة ميسورة تعمل بالتجارة ، الجد كان تاجرا، والأب كذلك كان يعد من أكبر تجار الحبوب، والقطن في مصر، لكن تجارته في القطن، اقتصرت على التجارة الداخلية فقط .

كنا سبعة أبناء ، أربعة أولاد، وثلاث بنات، وكنت أنا أوسطهم، أي الرابع.

تلقيت تعليمي الأول في مدرسة " الجزويت" الفرنسية ( مبنى مديرية الأمن الآن) ، وفيها أجدت الحديث باللغة الفرنسية، ومن الذين سبقوني في هذه المدرسة كان أحمد زيور باشا رئيس وزراء مصر فيما بعد، و" على يحيى باشا" منافسي الرئيسي في مجال تصدير الأقطان فيما بعد أيضا.

بقيت في هذه المدرسة فترة، وحسب رغبة المرحوم والدي، وفيما كنت على أعتاب مرحلة المراهقة ، وانتقلت على كلية فيكتوريا لأقضى بها فترة مراهقتي.

الذكريات التي أحملها لفترة طفولتي هي أنني استمتعت بحنان غامر من المرحومة والدتي، ورعاية واهتمام شديدين من والدي، بالإضافة إلى حزم في المعاملة، ولم يكن والدي يسمح لنا بالتحرك إلا بعربة الخيل، ليكون على علم بكل تحركاتنا، كما أنه لم يكن ليسمح لنا بالتأخير عن العودة للمنزل بعد الثامنة مساء، وظلت هذه عادة في سلوكنا حتى بعد أن وصلت على مرحلة العشرينات من عمري.

كانت الفترة التي قضيتها في كلية فيكتوريا من أمتع فترات حياتي، وفيها استمتعت برعاية مديرة المدرسة ( مستر ريد) الذي كان يوليني اهتماما كبيرا، ويشجعني دائما على التفوق.

وأتذكر أنه قال يوما في خطاب ألقاه في حفل عام في الأربعينات إن " محمد فرغلي باشا" من أنجب التلاميذ الذين درست لهم.. ولست أدرى هل كان ذلك على سبيل التشجيع ، أم أنه كان يعنى ما يقول؟ ؟ ربما لأنني كنت من الأوائل.

وفى كلية فيكتوريا التقيت " بأمين عثمان" الذي كان يسبقني في سنوات الدراسة، ونشأت بيننا صداقة بدأت تنمو، وتزدهر إلى أن وافته المنية عام 1946.

كانت أول هدية كبيرة أحصل عليها في حياتي هي سيارة " ستوديو بيكر" أهداها لي والدي مكافأة على نجاحي بتفوق في كلية فيكتوريا.

وبعد أن أنهيت دراستي في فيكتوريا، قرر والدي أن أسافر على انجلترا لاستكمال دراستي.

وبالفعل سافرت إلى لندن، والتحقت بمدرسة لندن للدارسات الاقتصادية، وبدأت في متابعة دراستي بشغف.

لم يشأ القدر أن أستكمل دراستي، فبعد فترة قصيرة جاءني خطاب يحمل إلى نبأ مرض والدي بالتهاب رئوي، في وقت لم يكن العلاج قد تقدم كما هو الآن ، فقطعت دراستي وعدت إلى الإسكندرية ، لكي أشارك في تحمل المسئولية مع أخي ألأكبر المرحوم " على فرغلى" الذي كان منصرفا بكليته إلى الاهتمام بالأرض الزراعية التي نملكها.

عدت من لندن فوجدت والدي قد أجهده المرض، ولم يعد من الممكن بالنسبة له أن يتابع نشاطه التجاري، وبدأت في تحمل المسئولية معه.

في هذه الفترة كان رأسمال والدي حوالي 30 ألف جنيه، وهو يدور في تجارة الحبوب، وتجارة القطن والداخلية.

بدأت في التردد على بورصة " مينا البصل" حيث كانت تمثل بؤرة النشاط التجاري، ليس في مدينة الإسكندرية وحدها بل في مصر كلها، وفى هذا المكان تفتح وعيي وطموحي.

كان المسيطرون على النشاط التجاري في مينا البصل هم الأجانب، أما المصريون فلم تكن الأعمال التي يقومون بها إلا أعمالا مساعدة وبسيطة.

أما جنسيات الأجانب، فكانت هي الانجليزية، والفرنسية، والبلجيكية واليونانية،والايطالية، بالإضافة لليهود، وبعض الأرمن، كان هؤلاء يحتكرون نشاط التصدير، ويحصلون على الأرباح الطائلة من المحاصيل التي ينتجها المصريون الذين يحصلون من وراء بيعها للأجانب على القليل من المال، أما المهنة السائدة وسط العاملين المصريين في مينا البصل فكانت غالبا هي مهنة " العتالة" أي الحمل فوق الأكتاف ( أقول ذلك بكل أسف).

وعدت مهموما إلى منزلي أفكر فيما يمكنني أن أصل به على مثل ما وصل إليه هؤلاء الأجانب، وبرز السؤال واضحا أمام تفكيري، لماذا لا أعمل بالتصدير؟؟ لماذا لا يدخل والدي هذا المجال المربح؟ عرضت الفكرة على والدي ، لكنه لم يتحمس لها، وقال لي في استسلام، كيف ستنافس هؤلاء الأجانب، وهم يحتكرون هذه ا لمهنة منذ فترة طويلة ويملكون رأسمالا ضخما؟

حاولت إقناعه بشتى الطرق، لكن محاولاتي كلها ذهبت أدراج الرياح.

كان الأجانب في هذا الوقت يمثلون طبقة راقية متميزة، وكان ينظر لهم على أنهم أجناس متفوقة بطبيعتها، وكان منتهى طموح أي مصري أن يقلدهم ويحتذي حذوهم.

لم أقتنع بوجهة نظر أبى ، كما أنه لم يتنازل عن وجهة نظره، وكان هذا هو أول خلاف ينشأ بيني وبينه.

وقررت أن أجرب حظي في التجارة، فرسمت في ذهني مشروعا تجاريا، خططته جيدا، وذهبت إلى والدي، وفاتحته في تنفيذه، وكان على لكي أنفذ هذا المشروع أن أترك الإسكندرية وأسافر إلى الريف.

في منطقة أبو الشقوق القريبة من المنصورة كنا نملك حوالي 900 فدان من الأراضي المستصلحة، وعندما اختلفت مع والدي قررن أن أقوم بأول مشروع تجارى في هذا المكان العيد عن الإسكندرية.

بدأت المشروع، وكان عبارة عن مزرعة لتربية الخنازير، وانغمست في العمل انغماسا تاما، يساعدني فيه بعض المزارعين في العزبة أطلقت لحيتي، وسارت الأيام رتيبة على هذا المنوال: الاهتمام بالخنازير ، ثم قراءة تاريخ العالم في الكتب الانجليزية، والفرنسية أثناء وقت الفراغ الذي كان بالطبع طويلا جدا.

في هذه الفترة أتيحت لي الفرصة كي أتأمل حياتي، وأبلور آمالي، وأعرف القدر الكبير من تاريخ مصر والعالم.

غم قسوة الحياة في هذه المنطقة البعيدة، إلا أنني كنت مصمما على تحقيق النجاح، وعلى ألا أعود إلى الاسكدنرية إلا وقد حققت من النجاح، والأرباح القدر الذي يقنع والدي بقدرتي على التفوق.

لم تمض حوالي سنتين، إلا و أرسل والدي خطابا يطالبني فيه أن أعود إلى الإسكندرية ، ولم أكن لأتمكن من رفض طلبه، فقد كنت أحمل له حبا واحتراما شديدين.

بدأت في تصفية المشروع، أي بيع الخنازير، وكانت المفاجأة أنني حققت ربحا مجزيا / كان ربحي في هذا المشروع حوالي 3000 جنيه ، وكان ذلك في العشرينات، أي ما يعادل أكثر من 50,000 جنيه في الثمانينات.

كان المرض قد أنهك والدي، وأضعف من عزيمته، ولم أجد صعوبة كبيرة في إقناعه بنقل نشاطنا إلى مجال التصدير.

بدأت في الإعداد لأمل صفقة ، ولما لم أكن أملك في هذا المجال أي خبرة أو تجربة، فقد حققت خسارة تصل على 4000 جنيه، وعندما علم والدي بذلك قال لي أنه سعيد بهذه الخسارة، لأن النجاح لو كان قد صادفني مع أول تجربة لأصبت بالغرور.

وكما يقولون في الأمثال " تجربة آلمتني، تجربة علمتني" تعلمت من هذه التجربة درسا لم أنساه ، وبعدها بدأت أدقق وأحسب بصورة أفضل.

وكانت نهاية سنة 1927 تحمل لي على المستوى الشخصي صدمة عنيفة، فلقد مات والدي متأثرا بمرضه، وتركني وأنا أخطو الخطوات الأولى في حياتي العملية.

عندما مات والدي، كنت أنا بين إخوتي الذي تحملت مسئولية نشاط تصدير القطن، وكنت أول مصري يدخل إلى هذا الميدان أيضا.

في هذا العام كنت أصدر أقل من ربع في المائة من إجمال المحصول المصري، وبعد هذا التاريخ بحوالي 11 سنة، كنت أصدر حوالي 15% من إجمال المحصول المصري، وكان مصريون آخرون قد دخلوا هذا المجال، وهذا الرقم كان يعد أعلى رقم يصدره مصدر واحد بين كل الموجودين فئ هذا الميدان، سواء كانوا أجانب أو مصريين.

مصر في الربع الأول من القرن العشرين

بعد أن تحدثت عن تطور حياتي في الربع الأول من القرن العشرين، أرى لكي تترابط الأحداث التي سوف تأتى بعد ذلك أن أتحدث عن الأحوال في مصر خلال نفس الفترة ، أي الربع الأول من القرن العشرين.

وحديثي عن هذه الفترة سوف يكون حديثا ملخصا، ومركزا بالقدر الذي يعطى للقارئ فكرة سريعة عن بداية تطور الحياة بوجوهها المختلفة في مصر .

في الفترة التي كنت أجتاز فيها طفولتي ، وصباي ، وبداية شبابي، كانت الحياة تتطور في مصر تطورا حثيثا، وكانت بداية القرن شاهدة على بدء هذا التطور، وربما يكون مفيدا أن نبدأ بالأحوال السياسية.

كان هناك أربع قوى سياسية تؤثر في هذا التطور، ولكن بقدرات متفاوتة، فمصر كانت في هذه الفترة ، محمية عثمانية، ومحتلة انجليزية في نفس الوقت منذ عام 1882.

الفترة الأولى ألأكثر تحكما في سير الحياة السياسية في مصر كانت قوات الاحتلال الانجليزي، وكانت قمة هذا التأثر في يد المعتمد البريطاني في مصر وهو " اللورد كرومر" الذي ظل متواجدا في مصر كممثل لحكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى أطول فترة يمكن أن يبقى فيها ممثل دبلوماسي على هذا المستوى، ظل هذا الرجل ممثلا لبلاده، ورمزا للاحتلال من عام 1882 حتى عام 1906 ، خلال هذه الفترة الطويلة كان هو الذي يسير معظم الأمور، وإدارته هي الإدارة العليا التي لا تصمد أمامها إدارة أخرى، كان ممثل الحكومة البريطانية الذي تغير اسمه بعد عام 1914- وهو العام الذي فرضت فيه الحماية على مصر- من المعتمد البريطاني إلى المندوب السامي البريطاني، كان هذا الرجل هو الذي يغير الوزارات ويأمر فيطاع.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فلقد كان في كل وزارة مصرية مستشار إنجليزي هو صاحب الكلمة الأخيرة في أي أمر يتعلق بشؤون هذه الوزارة، كما كان الجيش المصري محدود العدد ويسيطر على أموره الانجليز، كذلك الأمن والقضاء ، والمصالح التي لها تأثير في تسيير شؤون الحياة العامة في البلاد.

كان لموظف الانجليزي مهما قل شأنه، وقلت خبرته صاحب الكلمة النافذة التي لا راد لها، ولا معقب عليها.

القوة الثانية المؤثرة في حياة البلاد السياسية كانت القصر، مهما تغير اسم الجالس على عرشه، فلقد تغبر هذا الاسم ثلاث مرات خلال الربع الأول من القرن العشرين، فحتى عام 1914 كان يسمى " الخديوي" ومن عام 1914 حتى فبراير 1922 تغير اسمه على جلالة " ملك مصر" وفى خلال هذه الفترة أيضا تغير شخص الجالس على العرش ثلاث مرات، فحتى عام 1914 كان الخديوي عباس وأتى من بعده السلطان حسين كامل، ثم السلطان أحمد فؤاد الذي تغير لقبه بعد ذلك إلى الملك فؤاد الأول.

لم يكن الجالس على هذا العرش مصريا ، فهو سليل أسرة محمد على تلك الأسرة التي ظلت تحكم مصر من بدايات القرن التاسع عشر حتى قيام [[ثورة 23 يوليو|ثورة يوليه]] سنة 1952.

وكان الجالس على العرش هو المتحكم التالي بعد الإنجليز في تسيير دفة أمور السياسة في مصر، وإن تغير هذا التأثير حسب علاقته بممثل قوات الاحتلال البريطاني.

القوة الثالثة كانت المؤسسة الحاكمة، والمؤسسة الحاكمة في مصر كانت تنقسم إلى قسمين القسم الأول هو الوزارة، أو الحكومة، والقسم الثاني هو الهيئة النيابية، والهيئة الأخيرة أخذت تسميات متعددة خلال هذا الربع قرن، فلقد سميت في البداية بمجلس شورى القوانين ، ثم بعد ذلك تحولت على جمعية تشريعية، وبعد دستور 1923 تحولت هذه الهيئة إلى مجلسين ن أحدهما للنواب، وآخر للشيوخ أي البرلمان بقسميه .

ولم يكن لهذه الهيئة النيابية قبل دستور 1923 إلا تأثير محدود للغاية في الحياة السياسية المصرية، أما الوزارة نفسها، وهى الهيئة الحاكمة التنفيذية هي الأخرى لم تكن حتى 1922 ، إلا هيئة إدارية يسيطر عليها المستشارون الانجليز، ويتحكمون في أمورها ، كما أن بقاءها من عدمه ظل مرهونا برضاء قوات الاحتلال أولا وصاحب العرش ثانيا.

أما الوزارة نفسها، فكان يرأسها في أحيان كثيرة أشخاص ينحدرون من أصول تركية، وجركسية وقليل من المصريين. كما أن اسم الهيئة أيضا تغير في تلك الفترة، فأصبح وزارة بدلا من نظارة.

القوة الرابعة والأخيرة التي كانت تؤثر في سير الأحداث في مصر كانت حركة معبرة عن أماني الشعب المصري، وهى الحركة الوطنية، فمع بداية القرن بدأت طليعة من المصريين المثقفين يتحدثون عن الاستقلال ، والحرية ، والحياة الدستورية ، والكرامة المصرية، وهنا تبرز أسماء، كم كان لها من تأثير علينا في صبانا، وبداية شبابنا، أذكر من هذه الأسماء على سبيل المثال " مصطفى كامل باشا" الذي كان مثلا أعلى لكثير من المصريين ، يأتي أيضا خليفته محمد فريد، والشيخ محمد عبده تلميذ " جمال الدين الأفغاني" كل هؤلاء وغيرهم كانوا يمثلون الإرهاصة الوطنية منذ حركة " أحمد عرابي باشا" عام 1882، هؤلاء هم بداية ظهور الحركة الوطنية على السطح التي سوف تتطور لتصل على قمة نضجها، وتأثيرها عام 1919 حيث كانت الهبة الشعبية التي أسفرت على إعلان الاستقلال في فبراير عام 1922.

هذا عن الحياة السياسية في بدايات القرن العشرين، أما عن الحياة الاجتماعية، والاقتصادية ، فاجتماعيا يمكن تقسيم الذين يحيون في مصر على ثلاث طبقات رئيسية، الطبقة الممتازة ، أو الارستقراطية ، وهى طبقة كبار ملاك الأرض ( الأعيان) وينطوي تحت هذه الطبقة الأسرة العلوية الحاكمة، وبعض ممن ينحدرون من أصول أجنبية، والقليل من المصريين الذين يرتبطون بالأجانب ، أو بالأسرة العلوية برباط ما.

ثم تأتى بعد ذلك الطبقة الوسطى، وهى طبقة من الأثرياء المصريين الذين يعملون بالتجارة ، أو نالوا قدرا لا بأس به من التعليم، أو الثقافة، وشغلوا وظائف إدارية كبيرة بمقتضى هذه الثقافة، وكونوا ما يمكن تسميته بطبقة وسطى تسعى هي الأخرى لتصبح من كبار الملاك لو استطاعت.

أما الطبقة الدنيا، فكانت معظم الشعب المصري، أو سواده ، وهو شعب يعيش غريبا في وطنه حياة من الدرجة الثالثة، حياة الفقر، والجهل، في ظل قوانين كانت تعطى الامتيازات للأجانب الذين يعيشون على أرضه، ويتمتعون بخيراته، ويحمى القانون سعادتهم ورفاهيتهم .

أما النشاط الاقتصادي ، فغالبية الشعب المصري يمارس الفلاحة، أو زراعة الأرض ، وتزرع محاصيل بعينها من أهمها: القطن ، والقمح، والذرة، والقصب، والشعير، وغيرها من المحاصيل.. أما تجارة هذه المحاصيل فيتحكم في معظمها بعض التجار اليهود، واليونانيين، والقليل من المصريين ، لتصل على المصدر الأجنبي الذي يحصل من ورائها على المال الكثير،أما التجارة الأخرى مثل تجارة الملابس، وغيرها،فكانت حكرا على الأجانب أيضا خاصة اليونانيين، والطليان،ويأتي من بعدهم اليهود والشوام، ثم يأتي نشاط التصدير وهنا يختفي اى اسم مصري، وتظهر بيوت التصدير الأجنبية.

أما الصناعة بمعناها المعروف، فلم تكن موجودة إلا بقدر نادر لا يستحق الذكر حتى يجيء " طلعت حرب باشا" عام 1920.

هذا عن ألأحوال الاجتماعية، والاقتصادية أما عن الأحوال الثقافية والتعليمية، فيمكن القول إن مصر في بدايات القرن العشرين، كانت قد بدأت ترى نهضة وليدة في هذا المجال ، ولقد أتت هذه النهضة تطورا للدعوة التي حمل رسالتها المفكر المصري الصعيدي" رفاعة الطهطاوي" وزملاؤه في القرن التاسع عشر، بعد عودتهم مندهشين من بعثاتهم إلى فرنسا، ومشاهداتهم لثمار الحضارة الأوربية الحديثة.

ولقد ظهرت نتائج هذا التطور في الصحف المصرية التي كانت تعبر عن الأحزاب السياسية التي بدأت تظهر، لتعبر عن القوى السياسية الناشئة مثل صحيفة اللواء، التي أصدرها " مصطفى كامل" لتعبر عن الحزب الوطني.

كما ظهرت أيضا في حرص بعض البيوت المصرية على تعليم أبنائهم وإرسالهم للتزود من العلم في انجلترا ، وفرنسا ، وتأثرهم بأساليب التفكير العلمية الغربية وتأثرهم أيضا بالفنون والآداب الغربية، وعودتهم ليحملوا بذور أساليب جديدة في التفكير والعمل والنظر إلى أمور الحياة.

وكان المرحوم والدي من الذين تعلموا في فرنسا، كما كان حريصا على زيارتها سنويا.

وقد يتصور البعض أنني أتحدث عن تيار عام ، لكنني أتحدث عن طليعة محدودة العدد، لأن معظم الشعب المصري لم يكن ينال أي قدر من التعليم، فالبعض كان ينال قدرا محدودا من التعليم يؤهله لشغل بعض الوظائف الإدارية البسيطة، والبعض الآخر كان ينال بعض التعليم الابتدائي أو الديني في معاهد الأزهر، أو في الكتاتيب ، والبعض الآخر، وهم الغالبية لا ينالون أي قدر من التعليم.

والتعليم الذي يحصل عليه البعض من المصريين هو القدر الذي يؤهلهم لتسيير دولاب العمل في دواوين الحكومة ويجعل منهم مجرد كتبة، لا تصل بهم الأمور إلى حد الطموح.

كانت هذه صورة عامة مكثفة لأهم الأحوال التي كان عليها الوطن، عندما كنت طفلا صغيرا يتطلع إلى الحياة بأمل متزايد.

أما عن بعض الأحداث الهامة التي حدثت خلال هذا الربع قرن، فسوف أبدأها بما حدث في دنشواي ، تلك المحاكمة التي شكلت لبعض المزارعين، وحكم على بعضهم بالإعدام شنقا، وعلى الآخرين بالسجن والجلد، ونفذت الأحكام أما عيون الأهالي في جرن من أجران القرية الصغيرة، ولقد كان لهذه الحادثة أثر كبير في تطور الحركة الوطنية المصرية، ومعرفة بعض دول العالم لمتحضر بما يعانيه الشعب المصري في ظل الاحتلال الانجليزي، ولقد تم ذلك عن طريق الجهد الذي بذله الزعيم " مصطفى كامل" حتى موته شابا، ومن بعده رفيقه" محمد فريد" حتى موته منفيا خارج البلاد، وربما كان من نتائج ذلك إنهاء خدمة المعتمد البريطاني " لورد كرومر" في مصر، وإحلال آخر محله هو " سير ألدورن جورست" ومن الغريب في محاكمة دنشواي هذه أن رئيس المحكمة كان مصريا وممثل الادعاء كذلك.

وبعد هذه الحادثة بأربع سنوات قتل رئيس المحكمة" بطرس باشا غالى" وكانت هذه أول حادثة اغتيال لرئيس وزراء في تاريخ مصر الحديث.

ومن الأحداث الهامة أيضا في هذه الفترة السابقة على الحرب العالمية الأولى نشأة الخلافات بين الخديوي " عباس" والمعتمد البريطاني الجديد " لورد كتشنر" الذي تسلم مهام منصبه في عام 1911 والتي انتهت بعزل " الخديوي" عباس وهو في رحلة إلى الخارج عام 1914 ، ولم يعد إلى مصر بعد ذلك أبدا، ولم يمض وقت طويل ، حتى رحل " كتشنر" هو ألآخر ليحل محله معتمد بريطاني آخر هو " هنرى ما كماهون"

تولى السلطان " حسين كامل" الحكم خلفا للخديوي " عباس" بينما كانت الحرب العالمية قد بدأت طبولها تدق، حيث أعلنت ألمانيا الحرب على كل من انجلترا ، وفرنسا ، تعاطفت تركيا مع الدولة التي ظنت أنها ستنتصر وهى ألمانيا، فما كان من انجلترا إلا أن أعلنت حمايتها على مصر في نهاية عام 1914 وانتهت كل صلة بالدولة العثمانية ،وكان على رأس الوزارة المصرية في ذلك الوقت" حسين رشدي باشا" وبدأت مرحلة أخرى جديدة في حياة مصرن حيث زادت قبضة قوات الاحتلال وازداد نفوذهم في الحياة السياسية المصرية، وقد كان من نتيجة فرض الحماية على مصر إلغاء وزارة الخارجية المصرية التي كانت تمثل رمزا من رموز الاستقلال، ومن هنا بدا الشعور بالعداء ينمو في نفوس الحركة الوطنية المصرية، بينما الحر العالمية الأولى تدور رحاها في أماكن متفرقة.

وأصبح المعتمد البريطاني بعد فرض الحماية مندوبا ساميا بريطانيا، ويقوم بعمل وزير الخارجية المصري الذي ألغى منصبه في الوزارة المصرية، وأصبحت علاقة مصر بالدول الأخرى ينظمها ويقوم بإدارتها المندوب السامي البريطاني.

في هذه الفترة كانت الدولة العثمانية العجوز تلقى الهزائم أمام القوات البريطانية.

في عام 1917 مات السلطان " حسين كامل" وتولى السلطة من بعده السلطان " أحمد فؤاد" أما الشعب المصري نفسه فكانت ألحكام العرفية مفروضة عليه، وتجتاحه موجة من السخط تجاه الاحتلال الانجليزي.

كانت هذه الصورة حتى قرب نهاية 1918 ، والحرب العالمية الأولى تشارف على نهايتها حينما شكل مجموعة من الوطنيين على رأسهم " سعد زغلول" باشا وفدا لمقابلة " سير ريجنالد وينجت" المندوب السامي البريطاني في مصر للحديث معه حول مستقبل مصر بعد انتهاء الحرب، وفى نفس الوقت كانت الحكومة التي يرأسها " رشدي باشا " تفكر في نفس الأمر، وتقوم بعمل اتصالات بالسلطان، والمندوب السامي.

ولقد كان موقف الحكومة البريطانية تجاه هذه المساعي سلبيا، تجاه المسعى الشعبي الذي كان يقوده سعد زغلول باشا أو المسعى الحكومي الذي كان يحاوله رشدي باشا وعدلي يكن باشا.

انهزم الألمان في الحرب، بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية جديدة لها وزنها، ووجهت الدعوة لعقد مؤتمر للصلح في باريس ، حضرته الأطراف المتحاربة، وأسفر هذا المؤتمر عن توصيات كان من بينها حق الدول في تقرير مصيرها، وإنشاء عصبة الأمم كوسيلة للحفاظ على السلام العالمي.

استبشر الناس بهذه التوصيات، وانتظروا سفر وفد مصري للتفاوض حول استقلال مصر، لكن لم يسمح لأحد الوفديين بالسفر لا الشعبي ولا الحكومي، مما دفع رئيس الوزراء رشدي باشا وزميله في الوزارة عدلي يكن باشا إلى تقديم استقالتهما من الوزارة ونشأت أزمة سياسية.

التقت أماني الوفد الشعبي، مع رغبات الحكومة، في التمسك بالاستقالة والترويج بأن من يقبل أن يحل محل الوزارة المستقيلة هو خائن لوطنه، ازداد الشعور الوطني قوة، مما دفع المندوب السامي إلى دعوة سعد باشا لمقابلته في بداية شهر مارس سنة 1919 ن وأنذره بأن يكف عن إثارة مشاعر الجماهير ولما لم يستجب " سعد زغلول " لهذا الإنذار، اتخذ الإنجليز تجاهه إجراء عنيفا وزملائه إلى خارج البلاد، واعتقد الإنجليز بذلك أنهم قد أخمدوا كل النيران، لكن ظنهم خاب، ففي اليوم التالي مباشرة اندلعت أعنف مظاهرات شهدتها البلاد في تاريخها، وعندما حاولت القوات البريطانية الوقوف ضد هذه المظاهرات التي عمت كل البلاد تحولت إلى أعمال عنف.

كانت الوزارة مستقيلة، ولم تجد أي محاولة لإثنائها عن سحب استقالتها، وعندما شعرت الحكومة البريطانية بالوضع يتفاقم عينت مندوبا ساميا جديدا هو " لورد اللنبى" خلفا للسير ريجنالد وينجت الذي فشل في حل الأزمة التي تحولت في النهاية إلى ثورة شعبية، وعندما وصل المندوب الجديد الذي كان أحد قواد الحرب العالمية الأولى، بدأ يحاول تهدئة الموقف، فأصدر أمرا بالإفراج عن المعتقلين، وبعودة سعد زغلول ورفاقه الثلاثة من المنفى.

وبعد هذا الموقف من المندوب السامي الجديدة، لم يجد رشدي باشا حائلا يمنعه من العدول عن استقالته، وتشكيل وزارة جديدة، وبدأ " لورد اللنبى" يحاول بأسلوبه عزل الوفد الشعبي، لكن جهوده لم تغير من موف الشعب تجاه " سعد زغلول" ورفاقه، فأضرب الموظفون وتعطلت الحياة تماما.

ووجد رشدي باشا نفسه في موقف لا يحسد عليه، فقدم استقالة وزارته التي لم تكمل شهرا في الحكم، وتوالت من بعدها الوزارات، وكل وزارة تحاول أنتصل إلى حل للأزمة دون جدوى، جاءت وزارة " محمد سعيد باشا " وذهبت، ومن بعدها جاءت وزارة " يوسف وهبة" باشا ، فوزارة " توفيق نسيم" وفى النهاية جاءت وزارة عدلي يكن باشا في مارس عام 1921 ، والوزارات الثلاث السابقة على وزارة عدلي كانت وزارات إعادة الهدوء إلى الحياة ، وإعادة النشاط إلى المرافق العامة التي تعطلت بفعل الإضرابات ، أما المفاوضات، فكان يقوم بها الوفد طوال هذه الفترة في لندن دون الوصول على نتيجة تذكر .

وبدءا من وزارة عدلي يكن ن كان المندوب السامي يحاول من خلال هذه الوزارة أن يشكل وفدا حكوميا قوميا تحت رئاسة " عدلي باشا " ليقوم هو بمفاوضة الانجليز، ولم يكن أمر التفاوض سهلا خاصة بعد أن اعترفت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بالحماية البريطانية على مصرن وأضيف ذلك على توصيات مؤتمر الصلح.

أما جماهير الشعب , فلم تكن لترضى عن الوفد الموجود في الخارج بديلا , بعد ما اكتسبه من شعبية طوال الفترة الماضية , ولكن مع تشكيل وزارة " عدلي يكن باشا " التي كانت تضم " رشدي باشا " أيضا , قابلها الناس بالترحيب , لأن تشكيل هذه الوزارة كان مطلبا " لسعد زغلول " .

وعندما عاد " سعد زغلول " من لندن للقاء رئيس الوزارة الجديد , استقبلته جماهير الشعب استقبالا حافلا لم يسبق لزعيم مصري آخر أن استقبل بمثله .

وعندما التقى " سعد زغلول " " بعدلي يكن " خرج بعد اللقاء , وأعلن أنه سيوافق على الانضمام إلى الوفد الحكومي على مجموعة من الأسس أهمها إلغاء الحماية البريطانية , والاعتراف باستقلال مصر , وإلغاء الرقابة على الصحف , وكان الشرط الأخير هو السبب في الخلاف بين " سعد زغلول " و"عدلي " , هذا الشرط هو أن تكون أغلبية المفاوضين من أعضاء الوفد الشعبي وأن تكون الرياسة لأحد أعضاء ذلك الوفد أيضا .

وجرت محاولات لرأب الصدع بين الرجلين , ولكن دون فائدة " فعدلي يكن " يقول إن رئاسة الوفد يجب أن تكون لرئيس الوزارة المسئولة عن شئون البلاد , وهو يتفق مع " سعد باشا " في كل الشروط الثلاثة الأخرى , و" سعد باشا " مصر على موقفه , وحاول كل طرف من الطرفين أن يلقي اللوم على الطرف الآخر , بل وصل الأمر إلى حد الاتهام بأن هناك دوافع شخصية , وانقسم الناس إلى عدليين وسعديين , أو إلى رسميين وشعبيين , وبدأ " سعد زغلول " يهاجم الحكومة في اجتماعات عامة , ويتهمها بأنها واقعة تحت سلطان الاحتلال , أما " عدلي باشا " فكان يصرح بأن " سعد باشا " , أثرت على الاستقبالات الشعبية , وبدأ يفكر في مجده الشخصي .

عندما وصل الأمر إلى هذا الحد , بدأت الاضطرابات تنتشر من جديد , وبدأت المظاهرات تهتف لسعد , وتطالب به رئيسا لوفد المفاوضات . ورغم ذلك سافر وفد حكومي لمفاوضة الإنجليز برئاسة " عدلي يكن " وعضوية كل من " عبد الخالق ثروت " , و" إسماعيل صدقي" , والغريب أن السلطات البريطانية التي كانت وراء وزارة " عدلي يكن " وضعت في وجهها العراقيل أثناء المفاوضات , فلم تجد الوزارة أمامها إلا قطع المفاوضات والعودة لتقديم استقالتها , في الوقت الذي عادت فيه السلطات البريطانية ونفت " سعد زغلول " إلى جزيرة " سيشيل" .

وبدأت الاتصالات للبحث عن رئيس جديد للوزارة يستطيع أن ينهي حالة الفوضى السائدة في البلاد , وبدأت المساعي لدى " عبد الخلق ثروت باشا " , الذي وافق على ذلك , ولكن بشروط نشرت في الصحف , وكان من أهم هذه الشروط إلغاء الحماية , والاعتراف باستقلال مصر , وإعادة وزارة الخارجية التي ألغيت بعد فرض الحماية , تضييق صلاحيات المستشارين الإنجليز في الوزارة , وإلغاء الأحكام العرفية ...... إلخ .

وقبلت الحكومة البريطانية شروط " عبد الخالق ثروت باشا " , وأعلنت من جانبها تصريح 28 فبراير 1922 الذي اعترفت فيه بمصر دولة مستقلة ذات سيادة , وبقيت بعض الأمور معلقة للتفاوض بين الجانبين مثل وضع القوات البريطانية في مصر , والامتيازات الأجنبية , وعلاقة مصر بالسودان , وتحديث الجيش المصري .

وتشكلت وزارة " عبد الخالق ثروت باشا " في أول شهر مارس سنة 1922 , وعاد منصب وزير الخارجية الذي ظل محتجبا طوال فترة الحماية , وشغل هذا المنصب " عبد الخالق ثروت " نفسه .

ولم يرض الوفد عن تصريح 28 فبراير ، وأعلن قادته عدم رضاهم، ومن خلفهم رفضت جماهير الشعب أيضا هذا التصريح، وتمسكت بالوفد قائدا للجماهير ، أما " عدلي باشا" وإخوانه، فكان لهم موقف أكثر اعتدالا، فقبلوا التصريح كأساس للمفاوضات، وأيدوا وزارة " عبد الخالق ثروت" التي بدأت في تشكيل لجان لوضع أول دستور مصري- على أسس عصرية أما " سعد زغلول " نفسه، فكان لا يزال منفيا خارج البلاد، ولقد تجمع عدد من هؤلاء المعتدلين، وأكثرهم كانوا من المتعلمين تعليما رفيعا، وشكلوا فيما بعد حزب " الأحرار الدستوريين" في مواجهة حزب الوفد الشعبي، أو منشقا عليه.

لم يكف الوفد عن معارضته للحكومة، مما دعاهم على اعتقال قادته، ولم تكن علاقة الملك فؤاد بثروت باشا طيبة، وبدا الأمر وكأن الملك متعاطف مع الوفد، مما حدا بثروت باشا على تقديم استقالة أول وزارة مصرية تأتى بعد إعلان الاستقلال ، وتشكلت بعدها وزارة موالية للقصر هي وزارة " توفيق نسيم" باشا التي لم تفعل شيئا له قيمة، فالأحكام العرفية لا تزال معلنة، وسعد ورفاقه في المنفى ، وبعض الذين اعتقلوا لم يتغير وضعهم، وكان كل ما فعلته الوزارة- على ما يبدو- أنها أصرت على أن ينص في الدستور على أن يكون لقب الملك فؤاد هو ملك مصر والسودان، وعارض الانجليز ذلكن فقدمت الوزارة استقالتها بعد فترة قليلة من تأليفها، وبعد وزارة " نسيم باشا" كلف " يحيى باشا إبراهيم" بتأليف الوزارة التي تم في فترة حكمها حدثان هامان، أما الحدث الأول: فهو إصدار أول دستور مصري في أبريل عام 1923، ولم يحقق الدستور الذي صدر كل الأماني المصرية من جراء التعديلات التي أضيفت إليه لصالح سلطات الملك.

أما ألأمر الثاني / فهو عودة " سعد" ورفاقه من المنفى، واستقبالهم استقبالا حافلا.

كان على الوزارة أن تقوم باستكمال دورها فتقوم بإجراء أول انتخابات برلمانية تشهدها البلاد، وبدأت الدعاية الانتخابية تملأ مصر ورشح رئيس الوزراء نفسه، ولم تكن مفاجأة حينما فاز الوفد بحوالي 92% من المقاعد، وسقط رئيس الوزراء في الانتخابات.

كلف الملك فؤاد " سعد زغلول " بتشكيل أول وزارة دستورية في أواخر يناير سنة 1924 ، وبدأت مرحلة جديدة في حياة مصر.

لم يكن الطريق ممهدا أمام أول وزارة دستورية.

فبدأت بعد أسابيع قليلة من تأليفها تواجه مشاكل مع القصر فيما يتعلق بحقوق الملك الدستورية في تعيين نسبة من أعضاء مجلس الشيوخ، كما كانت هناك مشكلات التفاوض مع الانجليز حيث كان البون الشاسع بين مطالب الحكومة المصرية، والحكومة البريطانية، كما كانت هناك المشاكل الجديدة مع أحزاب المعارضة، أي أن الوزارة بعد أسابيع قليلة اكتسبت خصومة الملك ، والانجليز.

ولم تتح لي الظروف أن التقى " بسعد زغلول باشا" ولكن من التقوا به عن قرب كانوا يقولون إنه من أبرع المتحدثين والخطباء، ويتسم بالصلابة والعناد، كما أن المرء يجد صعوبة في إقناعه بتغيير رأيه، ولقد كانت صحف المعارضة توجه له الانتقاد في ذلك أنه يستأثر بالرأي ، وأنه متعصب لحزب الوفد، ولكن هذا الانتقاد لم يكن ليؤثر في الشعبية الجارفة التي كان يتمتع بها سعد زغلول والتي كانت سببا في صموده رغم كل هذه الخصومات مع الملك، والانجليز والمعارضة.

وأذكر أن سعد زغلول قدم استقالة وزارته أكثر من مرة، لكنه كان يسحبها استجابة للمظاهرات الجماهيرية، وكان الملك أيضا أمام هذا الحب الجماهيري الجارف لا يقبل الاستقالة.

ويبدو أن الأقدار رتبت الظروف التي كانت سببا في استقالة الوزارة، ففي إحدى الأمسيات خرجت أنباء القاهرة لتعلن على الناس اغتيال سيردار الجيش الانجليزي بالسودان " سيرلى ستاك" وأصيب الناس بالوجوم عند سماعهم النبأ، وبدا السؤال المخيف يردد نفسه ماذا سيفعل الإنجليز؟؟ ولم يطل الوقت كثيرا، فقد وجهوا إنذارا إلى رئي الوزراء المصري فحواه أن تقوم الحكومة بالتحقيق فورا، والبحث عن الجناة، فرض غرامة قدرها نصف مليون جنيه تدفعها الحكومة المصرية ، سحب الجيش المصري من السودان، وألا يتقيد السودان بالاتفاقية الخاصة بماء النيل، وأن تزرع مصر مساحة أكبر من القطن.

ووافق الحكومة على المطلبين الأول والثاني ، لكنها رفضت بقية الطلبات.

فما كان من المندوب السامي ردا على بيان الحكومة إلا أن أمر قواته باحتلال جمرك الإسكندرية.

وأما هذا الاعتداء الصارخ على استقلال البلاد قدمت الحكومة استقالتها، وقبلت الاستقالة وكلف صديقي فيما بعد " أحمد زيور باشا " بتأليف الوزارة و " زيور باشا" سبقني في الدراسة بنفس المدرسة الفرنسية التي درست بها في طفولتي ( مدرسة الجيزويت) وهو سكندري المولد، درس القانون بفرنسا وعمل بعد ذلك في سلك القضاء، ثم محافظا للإسكندرية، فوزيرا بعد ذلك ، ومن أكثر الأشياء المعروفة عنه أنه كان رجلا يؤثر السلامة ، ويعشق القوة التي لم تتوفر له.

سميت هذه الوزارة وزارة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وأخذت هذه التسمية من كلمة قالها رئيس الوزراء بعد تأليفه للوزارة، أما الذي قصد " زيور باشا " بإنقاذه ، فهو مساومة الانجليز على مطالبهم، قررت الوزارة سحب الجيش المصري من السودان، والتعهد بحماية أرواح الأجانب ، والاعتذار رسميا عما حدث، وفى مقابل ذلك تم سحب الإنذار الانجليزي، وإنهاء احتلال القوات البريطانية لجمرك الإسكندرية ، ولما كانت الوزارة مؤلفة بإشراك وزيرين وفديين فيها، فلم يجد هذان الوزيران بدا من الاستقالة احتجاجا على التنازل الذي قدمه " زيور باشا" للانجليز .

لذلك أعيد تشكيل الوزارة بعد حوالي أربعة شهور من الوزارة الأولى، وأدخل إليها خصوم الوفد من الأحرار الدستوريين والمستقلين ، ومن الملفت أن القصر حاول أن يدعم موقفه في مواجهة شعبية الوفد، فسعى إلى تأسيس حزب سمى" حزب الاتحاد" كان وراء تأسيسه" نشأت باشا " رئيس الديوان الملكي في ذاك الوقت ورأسه " يحيى باشا إبراهيم" وانضم إليه بعض الأشخاص الكارهين لحزب الوفد، والموالين للملك.

ولم يكن متصورا أن تتعامل الحكومة مع برلمان أغلبيته وفدية، فاستصدر مرسوما ملكيا بحل مجلس النواب، والإعلان عن انتخابات جديدة على أمل أن يفوز ائتلاف " الاتحاد- الأحرار " وعندما ظهرت الانتخابات راجت الأقوال بأن الوفد فاز بنصف عدد المقاعد بينما فاز الائتلاف بالنصف الآخر، لكن الحقيقة ظهرت جلية عندما رشح " سعد زغلول " نفسه لرئاسة مجلس النواب، ورشح الائتلاف في مواجهته " عبد الخالق ثروت" وكانت المفاجأة عندما فاز سعد زغلول ، وهنا أسقط في يد الحكومة.

كان على الحكومة أن تستقيل لكي تعطى للأغلبية الوفدية الفرصة، لكنها لم تفعل ذلك، بل لجأت إلى مجلس النواب مرة أخرى، وكان ذلك على ما يبدو تحقيقا لرغبة الملك فؤاد وبموافقة الانجليز، وكلاهما كان يكن عداء للوفد.

وسارت حكومة " زيور" في غيها ضاربة بالدستور عرض الحائط يشاطرها في ذلك حزب الأحرار الدستوريين الذي كان منتظرا منه الاعتراض على ما حدث بالانسحاب من الوزارة ، خاصة وأنهم أحرار ، ودستوريون أيضا.

وفى صيف عام 1925 ظهرت في سماء التحالف سحب، أو سحابة ، أما السحابة فقصتها أن أحد القضاة الشرعيين ، وهو الشيخ " على عبد الرازق" أصدر كتابا أسماه" الإسلام وأصول الحكم" قال فيه إن نظام الخلافة ليس أصلا في الإسلام، ذلك على ما تعي ذاكرتي.

وبالطبع أثار هذا الكتاب غضب الأزهر وغضب الملك فؤاد الذي كان يسعى لتسمية نفسه بخليفة المسلمين بعد أفول شمس الدولة العثمانية، وكان من نتيجة ذلك أن جرد الأزهر الشيخ " عبد الرازق" من درجته العلمية، وكان على الحكومة أن تتخذ قرارا بفصله من وظيفته، ولم يستجب لذلك وزير الحقانية " عبد العزيز فهمة باشا " وأحال الموضوع إلى لجنة لدراسته، وأثار ذلك " يحيى باشا إبراهيم" الذي كان يقوم بأعمال رئيس الوزراء الموجود في أوربا للاستجمام، وحاول إثناء " عبد العزيز فهمي باشا " عن قراره بتحويل الأمر على لجنة، فرفض الأخير، فنشب خلاف بينهما، وطلب رئيس الوزراء بالنيابة من وزير الحقانية تقديم استقالته فرفض، فذهب الأول إلى " الملك فؤاد" يشكوه واستصدر مرسوما بإقالته.

ولما كان " عبد العزيز فهمي باشا هو رئيس الأحرار الدستوريين ، فقد اجتمع الحزب وقرر سحب وزرائه من الائتلاف، كما تضامن معهم( صديقي فيما بعد) " إسماعيل صدقي باشا " الذي لم يكن يطيق " يحيى باشا إبراهيم".

وبدأت صحف الوفد ، وصحيفة الأحرار يشنون على الوزارة هجوما لا هوداة فيه، وبدأت السخرية من حزب الاتحاد ورئيسه علانية.

وبدا أن الجو أصبح مهيئا للتحالف بين " الوفد والأحرار " لأول مرة، وشعر المندوب السامي الجديد " لورد لويد" الذي كان يسمى بالمتعجرف أنه ليس من مصلحة الانجليز مؤازرة حكومة تحظى بعداء الأحزاب الرئيسية في البلاد.

ومن الأمور التي تذكر في هذا المقام أن التحقيق في مقتل " السيردار" الانجليزي كان لا يزال جاريا، والاتهام فيه كان قد وجه على عضوين بارزين من أعضاء الوفد عما الدكتور أحمد ماهر، ومحمود فهمي النقراشي، وبعد المحاكمة صدر الحكم ببراءة الرجلين يوم ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية.

تحالفت أحزاب الوفد، والأحرار والحزب الوطني ضد وزارة " زيور باشا" ولم يكن أمام الوزارة إلا أن تحدد موعدا جديدا لانتخابات لتعرف موقف الشعب منها.

وجاء موعد الانتخابات، ودخله الوفد متحالفا مع حزب الأحرار، وكان طبيعيا أن يفوز التحالف بأغلبية ساحقة، أما المدهش حقا فهو أن حزب القصر ( الاتحاد ) لم يفز إلا بثلاثة مقاعد.

تشكلت وزارة الائتلاف برئاسة " عدلي يكن باشا " وأغلبية الأعضاء من حزب الوفد بالإضافة على " عبد الخالق ثروت" باشا و"محمد محمود باشا" من الأحرار.

وبدأت الوزارة عملها بمؤازرة " سعد باشا زغلول" وبرغبة قوية في الإصلاح، وتنفيذ مبادئ الدستور، ولقد كانت بداية هذا الإصلاح على مستويات متعددة، الاهتمام بالتعليم، وبتطوير السلك الدبلوماسي ، وتحقيق لامركزية الحكم.. الخ.

وإذا كان الحديث عن الإصلاح والبناء ، فيجب أن نتوقف قليلا لنتحدث بالخير عن رجل مصري أعطى لبلاده جهدا سوف يذكره له التاريخ ما بقيت فى مصر صناعة وطنية، هذا الرجل هو المرحوم " طلعت حرب".

لقد بدأ هذا الاقتصادي الطموح في سنة 1920 يفكر جديا في إنشاء صناعة وطنية مواكبا بذلك النهضة السياسية، والثقافية التي كانت تشهدها البلاد، ولم يكن الرجل منتميا في يوم من الأيام على أي حزب سياسي.

بدأ نشاطه بالدعوة إلى إنشاء بنك بأموال مصرية هو بنك مصرن ولم يكن هذا العمل ميسورا في ذلك الوقت، فالبنوك الأجنبية كانت تملأ البلاد، ولم تكن هناك ثقة في إمكانية نجاح المصريين في الأعمال المالية الإدارية. ولقد علمت من طلعت حرب فيما بعد أنه حين ذهب على " الأمير عمر طوسون" يطلب تشجيعه ، ومشورته بأن يعدل عن الفكرة ، وقال له " هي البلد ناقصة بنوك".

أقبل المصريون على المساهمة لا رغبة في الكسب، فهذا لم يكونوا يطمعون فيه، ولكن الشعور الوطني الغامر هو الذي كان وراء ذلك، وأنشئ بنك مصر برأسمال قدره 80 ألف جنيه، ولم تمض سنوات قليلة حتى كانت أعمال البنك قد كللت بالنجاح، وبدأت تحقق أرباحا للمساهمين.

وكانت الخطوة التالية التي قام بها " طلعت حرب" هي استثمار أموال البنك في إنشاء صناعة وطنية، تلبى احتياجات المصريين، فبدأ بإنشاء شركات الغزل والنسيج، وبدأها بشركة المحلة الكبرى، وأقبل المصريون على المساهمة في هذه المرة ثقة في النجاح.

كان هذا العمل من جانب " طلعت حرب" دليلا على نمو الشعور المصري بالاستقلال ونمو الشعور بالكرامة الوطنية.

جمعني " بطلعت حرب" باشا علاقات وطيدة بعد ذلك، وسعدت بصداقته، وسوف أتحدث عن بعض هذه الذكريات في حينها.

كانت وزارة الائتلاف تسير في تحقيق أهدافها لكن هذا السير لم يخل من مشكلات بالطبع، فحزب الوفد له برنامج ، وحزب الأحرار له برنامج أيضا، وهناك قوى التأثير القوية ترضى عن تصرفات الحكومة ، أو تغضب، هذه القوى هي المندوب السامي البريطاني، والقصر الملكي، ولم تكن مهمة رئيس الوزارة سهلة في تحريكه لسفينة الحكومة وسط هذه التيارات المتعارضة، فآمال النواب قد تتعارض مع رغبات المندوب السامي والقصر، وبدأت بعض المشكلات تظهر بين الحين والآخر، وخلال شهر أبريل من عام 1927، سحب مجلس النواب شكرا كان من المفروض أن يوجهه للحكومة فما كان من " عدلي يكن باشا " إلا أن قدم استقالة مفاجأة أوحت بأن هناك خلافا بينه وبين حزب الوفد.

وحدثت أزمة حاول " سعد زغلول " معالجتها لحفظ الائتلاف من أن ينهار ، وتم له ما أراد حينما شكل " عبد الخالق ثروت" الوزارة الجديدة خلفا لصديقه " عدلي يكن" كما أنه شغل في نفس الوقت منصب وزير الخارجية ليتابع الجهود التي كان قد بدأها في التفاوض مع الانجليز حول المسائل التي لم يحلها تصريح 28 فبراير بين مصر وبريطانيا .

لم يكن عمل الوزارات سهلا كما قلت في هذه الأيام، فعليها أن تسير بحساب غاية في الدقة لتحقيق الأماني الوطنية دون أن تصطدم بالمندوب السامي صاحب التأثير الأقوى في الحياة السياسية، كما كان عليها ألا تغضب الجالس على العرش الذي كثيرا ما توافقت رغباته مع رغبات المندوب السامي خاصة في كراهية حزب الوفد، والتوجس خيفة من" سعد زغلول" .

كانت الوزارة تشق طريقها وسط هذا الطريق الشائك، محاولة أن تفعل ما تستطيع أن تفعله دون مصادمات مع المندوب السامي، أو الملك أو أعضاء مجلس النواب.

وبينما الحال كذلك إذا بالأخبار تأتى من الريف المصري حاملة نبأ وفاة زعيم الأمة " سعد زغلول باشا" في أغسطس سنة 1927 واستقبل الناس هذا الخبر بحزب شديد.

كان هذا على المستوى الوطني، أما على المستوى الشخصي ، فبعد حوالي شهر من وفاة زعيم الأمة، فقدت والدي وبدأت مرحلة جديدة في حياتي وحياة الوطن.

قصدت من وراء هذا الفصل محاولة تسجيل بعض الأحداث البارزة التي حدثت في الربع الأول من القرن العشرين، وهى المرحلة التي كنت أجتاز فيها طفولتي وصباي وبداية شبابي، وكنت أبغي من ذلك أن تكون الصور التي سوف أرسمها بعد ذلك لبعض الأحداث متكاملة ومتسلسلة.

أما الفصول القادمة فسوف يلاحظ القارئ أن دوري في هذه الأحداث سوف يكون أكثر اقترابا ورؤيتي لها سوف تكون أكثر وضوحا، بحكم موقعي الاجتماعي والاقتصادي الذي سوف ينمو خلال الربع قرن القادم أي من 192 حتى 1952.

مرحلة الحكومات الحديدية

توفى " سعد زغلول" بعد حوالي خمس سنوات من إعلان الاستقلال ، وكانت مصر في هذه المرحلة تجتاز البداية الدستورية، بكل ما تحمله من نوايا إصلاحية، وممارسات حزبية، انتهت بالائتلاف بين الحزبين الرئيسيين فى البلاد.

كانت الوزارة الموجودة في الحكم هي وزارة الائتلاف ، وعلى رئسها " عبد الخالق باشا" وكان لوفاة " سعد زغلول" أثر أكيد في هذا الائتلاف، حيث بدا أن الائتلاف سوف يتعرض للهزات نتيجة اختفاء هذا الزعيم الكبير.

أما الوزارة نفسها فكانت تمارس عملها وسط هذه الظروف الصعبة في خطين متوازيين، الخط الأول هو محاولة الوصول على معاهدة مع بريطانيا حول المسائل المعلقة منذ تصريح 28 فبراير 1922، أما الخط الثاني فهو الإصلاحات الداخلية نتيجة لضغط النواب الوفديين في البرلمان.

بالنسبة للخط الأول تابع رئيس الوزارة، ووزير الخارجية " ثروت باشا" محادثاته في انجلترا ،وهى المحادثات التي عرفت بمحادثات " ثروت تشمبرلين".

وفى مجلس النواب- كان على رئيس الوزراء أن يرد على استجوابات متعددة من نواب الوفد حول بعض المسائل الحساسة مثل الإشراف البريطاني على الجيش المصري،وعدم الإسراف في مخصصات الملك " فؤاد" واستقلال القضاء المصري- وغيرها من الاستجوابات، ولم تكن هذه الاستجوابات ترضى الملك" فؤاد" أو المندوب السامي، ويبدو أن كليهما بدأ يفكر في بديل " لعبد الخالق ثروت".

وكانت الفرصة مواتية لذلك عندما عاد رئيس الوزراء لعرض نتائج محادثاته مع وزير الخارجية البريطاني على وزرائه الذين كان معظمهم من الوفديين، وعندما رفض الوزراء ما توصل إليه رئيس الوزراء ، قدم الرجل استقالته.

ومما يذكر في عهد هذه الوزارة ، إقرار مجلس النواب قانونا يبيح الاجتماعات العامة والمظاهرات، وهذا القانون لم يكن ليرضى" لورد لويد" المندوب السامي البريطاني في مصر، لذلك لم يبد أي حرص على بقاء حكومة " ثروت" .

قبلت استقالة " ثروت باشا" وخرج غير مأسوف عليه لا من الإنجليز، أو الملك " فؤاد" لكن خروجه كان قد عرض الائتلاف لهزة عنيفة أخرى.

وبدأ الناس يتحدثون عن جدوى الائتلاف، وهل سيستمر، أم سينتهي ؟ وسارت بعض المظاهرات تهتف الوفد حزب الشعب، وقيادته الجديدة، وربما يكون من المناسب هنا أن أتحدث عن قيادة الوفد الجديدة، فبعد موت" سعد زغلول" انتظر الناس من سيحل محل زعيم الأمة، وتواترت الأقوال حول شخصين بالذات الأول هو " مصطفى النحاس باشا" زميل " سعد زغلول" في المنفى، والآخر هو " فتح الله بركا ت باشا" ابن أخت " سعد زغلول " لكن الذي انتخب كان الأول.

وكان هو الذي كلف بتشكيل الحكومة الائتلافية الثالثة، " ومصطفى النحاس" هو أحد رجال القضاء، دخل إلى عالم السياسة من أوسع الأبواب عندما انضم إلى الوفد المصري عام 1919، ونفى مع " سعد زغلول" وكان سكرتيرا عاما للوفد حينما انتقل " سعد باشا" إلى الرفيق الأعلى، أما قيادة الوفد الجديدة فبدأت أسماء ثلاثة تلمع في سمائهم " مكرم عبيد" سكرتير الوفد الجديد والدكتور " أحمد ماهر ، والنقراشي" والأخيرين كانا يمثلان في نظر الإنجليز الجناح المتطرف في الوفد خاصة، بعد اتهامهم في حادث اغتيال " السيردار" وربما كان عدم رضا المندوب االسامى عنهما هو السبب في عدم اشتراكهما في وزارات الائتلاف الثلاث.

أما حزب الأحرار فقد انقسم حول نفسه فيما يتعلق بمتابعة الاشتراك في الائتلاف، فهناك تيار كان يؤيد الاشتراك تحت قيادة " محمد محمود باشا" وكيل الحزب، وتيار آخر يرفض الاشتراك، وبعد مداولات انتصر التيار المؤيد للائتلاف ، وتشكلت الوزارة تحت رئاسة " النحاس باشا" باشتراك وزيرين دستوريين عما " محمد محمود باشا" و" جعفر والى باشا".

وكان أمام الوزارة مشكلتان رئيسيتان الأولى هي متابعة المفاوضات مع بريطانيا للوصول إلى معاهدة ،والثانية قانون الاجتماعات الذي أقره مجلس النواب في ظل الوزارة السابقة ، والذي أغضب الانجليز.

وبدأ الصدام مع المندوب السامي الذي تقدم بإنذار إلى الوزارة لتسحب هذا القانون الذي رأى فيه تهديدا لأرواح الأجانب في مصر وممتلكاتهم .

واختلف الوزراء حول هذا الإنذار , وأسلوب الرد عليه , وكان من نتيجة هذا الاختلاف , استقالة "محمد محمود باشا " من الوزارة , فكان هذا إيذانا بانهيار الإتلاف , وتتابعت الاستقالات حتى وصلت إلى أربع .

فما كان من "الملك فؤاد" إلا أن اتخذ أول إقالة لوزارة بعد إقرار الدستور , ولم يكن قد مضى على تأليفها حوالي ثلاثة شهور . وكان هذا هو آخر عهد حزب الوفد في الاشتراك في وزارات ائتلافية , لكنها لم تكن المرة الأخيرة التي تتعرض فيها وزارة يرأسها "النحاس باشا " للإقالة , فقد تعرض لذلك ثلاث مرات أخرى .

وكان يبدو أن في الأمر مناورة تمت بين "محمد محمود باشا " , و"الملك فؤاد " لأنه لم تمض أيام على استقالته , حتى كلف بتأليف الوزارة الجديدة , رغم بعض الإشاعات التي توارثت عن تكيف "صدقي باشا " بتأليف الوزارة الجديدة ,ولقد قال لي "صدقي باشا " بعد ذلك إن المندوب السامي البريطاني كان وراء تكليف "محمد محمود باشا " , أما رغبة الملك فكانت تتجه إلى تكليفي أنا , ويقول "صدقي باشا " إنجليزي الثقافة أما انأ ففرنسي الثقافة .

كانت هذه أقوال"صدقي باشا " , وفي تصوري أن الأمر لا يفسر بذلك ,فحسب , فهناك أسباب أخرى هامة , كانت لدى المندوب السامي حينما شجع تكليف "محمد محمود باشا ", ولم يشجع تكليف "صدقي باشا " , فالأول ينتمي إلى حزب سياسي قوي يستطيع أن يجابه الوفد ذلك الحزب الشعبي ,أما" إسماعيل صدقي" , كان قد اخفق حينما كان وزيرا للداخلية في وزارة "زيور باشا " التي أعقبت وزارة "سعد زغلول " حيث فاز "سعد زغلول " برئاسة مجلس النواب .

وربما كان من المناسب أن أتحدث قليلا عن "محمد محمود باشا ", فعائلتانا ترتبطان بصلات وثيقة , وتنحدران من أصل صعيدي , فهو ابن "محمود سليمان باشا " أبرز رجال مديرية أسيوط , ونائب رئيس المجلس التشريعي . وكان عند حضوره إلى الإسكندرية لا يطيب له قضاء الوقت إلا في منزل جدي , تلقى "محمد محمود " تعليمه في جامعة , "أكسفورد " بانجلترا وكان من الأوائل على دفعته , أما عن شخصيته فكان مثالا للاستقامة في حياته السياسية , وحياته الخاصة و كان متحدثا جيدا شديد الاحترام للدستور ,وكانت له موقف كثيرة في خدمة وطنه أبرزها أنه كان عضوا في وفد المفاوضات الذي سافر تحت رئاسة "سعد زغلول " ليطالب باستقلال البلاد , كما سافر لمقابلة أعضاء الكونجرس الأمريكي للغرض نفسه ,وشارك في تأسيس حزب الأحرار الدستوريين ورأسه خلفا "لعبد العزيز فهميباشا " حتى وفاته عام 1941 .

وسوف أتحدث عن بعض المواقف التي جمعتني به حينها .

تألفت الوزارة برئاسته ، وضمت في عضويتها وزراء من حزب الاتحاد وبعض المستقلين والغالبية كانت من حزب الأحرار الدستوريين.

وكان على الوزارة أن تتحرك بحساب شديد لتواجه مجموعة من المشكلات التي تنتظرها. المشكلة الأولى موقفها من برلمان أغلبيته من الوفديين والمشكلة الثانية تحديد موقفهم من الإنجليز والمفاوضات، والمشكلة الثالثة علاقتهم بالقصر، والمشكلة الرابعة كسب ود الشعب المصري.

وكان أول ما فعلته الوزارة لكي تتمكن من السير في طريقها دون استجوابات ، وحيث أنها لا تضمن الانتخابات التي ربما تأتى بأغلبية وفدية، كما حدث في وزارة " زيور باشا" لذلك فقد استصدرت مرسوما ملكيا بتعطيل الحياة النيابية لمدة ثلاث سنوات، لكي تتمكن من عمل الإصلاحات التي تبتغيها بعيدا عن أغلبية الوفد البرلمانية التي قد تعرقل عمل هذه الإصلاحات.

وطبعا بدأ هذا الإجراء يجد ما يستحقه من هجوم في صحف الوفد، واتهمت الوزارة بتعطيل الدستور، ومعاداة الديمقراطية ،وإهدار حقوق الشعب.

لكن يبدو أن الوزارة كانت مصممة على ما انتوته، وقد أعدت العدة لكل ذلك حيث قال رئيسها إنه سيحكم بقبضة من حديد.

في هذا الوقت انتخب " محمد محمود باشا" رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين، وبدأت الوزارة في مواجهة الانتقادات الوفدية، تسعى إلى كسب ود الشعب فقامت بإصلاحات حقيقية شعر بها الناس، مثل ردم المستنقعات ، وبناء المستشفيات، والاهتمام بالفلاحين والعمال، ومحاولة رفع مستوى معيشتهم.

ولم يكتف حزب الوفد بشن الهجمات في الصحف بل لجأ إلى تنظيم الاجتماعات، والمظاهرات وكانت الحكومة لا تتورع عن استخدام العنف مع هذه الأعمال في غالب الأحيان.

كان هذا في المجال الداخلي، أما في المجال الخارج ، فقد بدأت محادثات مع بريطانيا سميت مفاوضات " محمد محمود هندرسون " للوصول إلى اتفاقية بين مصر وبريطانيا.

حدث في هذه الفترة أن تغير المندوب السامي في مصر لورد لويد " الذي عرفت فترة وجوده بكثرة تدخله في الشؤون الداخلية المصرية، وحل محله " سير برسى لورين" الذي اشتهرت فترة وجوده بعدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية إلا في القليل النادر.

وكان الوفد يهاجم في صحفه، وفى اجتماعاته مفاوضات " محمد محمود هندرسون" وكانت حجتهم كيف تقبل حكومة انجلترا مفاوضة حكومة غير دستورية ؟ اعتدت على حرمة الدستور، ولا يؤيدها برلمان ونشر ذلك أيضا في الصحف الأجنبية، مما جعل الإنجليز أنفسهم يعيدون التفكير في هذا الأمر، ولقد بدا ذلك جليا عندما صرح وزير الخارجية البريطاني، بأن أي اتفقا سوف يتم التوصل إليه لابد أن يوافق عليه الشعب المصري، وقد أضعف ذلك من موقف " محمد محمود باشا" .

كما أنه ظهر في سماء العلاقة بين الوزارة والقصر بعض الغيوم، قيل يومها أنها نتجت من أن رئيس الوزارة لا يستشير جلالة الملك في المفاوضات التي يجريها مع الانجليز، كما أنه أي رئيس الوزارة حاول أن يفرض اسم " إسماعيل صدقيباشا" كرئيس لديوان المحاسبة على الملك.

وجدت الوزارة نفسها في موقف لا تحسد عليه مع الانجليز حيث ظهر أن المفاوضات لم تصل إلى حلول، والإنجليز أنفسهم لم يعودوا متحمسين، كما أن العلاقة بالقصر سيئة، والعلاقة بالوفد كانت هي ألأخرى بالطبع غاية في السوء، ولم تشفع لها الإصلاحات التي قامت بها في ظل دكتاتورية حكومية، وكان على وزارة القبضة الحديدية أن تقدم استقالتها.

حدث في شهر أكتوبر عام 1929 أي بعد حوالي سنة ونصف تقريبا من تأليف الوزارة المحمودية.

كان واضحا من العلاقات بين قوى التأثير المختلفة، خاصة بعد تغيير المندوب السامي البريطاني، أن النية متجهة إلى تأليف وزارة محايدة تكون كل رسالتها إجراء الانتخابات للتهميد لمجيء الوفد طمعا في توقيع معاهدة مع الانجليز تؤيدها الأحزاب المختلفة.

وكان هذا العام بالنسبة لي عام دخول الحياة العامة، فلقد تم اختياري عضوا في بلدية الإسكندرية الذي كان يرأسه " حسين باشا صبري" محافظ الإسكندرية، وكان هذا المجلس يلعب دورا كبيرا في حياة المدينة العريقة، لأنه كان بمثابة مجلس أعلى لإدارتها، وكان أكثر من نصفه من الأجانب لكثرة عدد الجاليات الأجنبية في المدينة، كما كان ذلك بالنسبة لي بداية لتوطيد علاقاتي برجال السياسة، ورجال المال والأعمال الذين كانوا في معظمهم من ألأجانب.

بدأت حكومة " عدلي يكن باشا" المحايدة تعد للانتخابات التي أجريت في شهر يناير سنة 1930 ، وكما كان متوقعا فاز الوفد بأغلبية ساحقة، ولم يدخل حزب الأحرار الدستوريين هذه الانتخابات خوفا من الفشل بعد فترة تعطيل الحياة النيابية التي لجأت إليها حكومته.

قدمت وزارة " عدلي يكن باشا" استقالتها بعد أن بقيت فترة لا تزيد على الثلاثة شهور، وكلف " النحاس باشا " بتشكيل ثاني وزارة تحت رئاسته، ودخل هذه الوزارة " النقراشي باشا " لأول مرة ولم يعترض الانجليز كما سبق وفعلوا في وزارات لسابقة.

بدأت الوزارة عملها وهى تأمل في الوصول إلى اتفاقية مع الإنجليز كهدف كبير تسعى على تحقيقه، وتروج له صحف الوفد، وفى نفس الوقت كانت تدعم موقفها في المديريات بتعيين موظفين يدينون بالولاء للوفد.

ويبدو أن صخرة المفاوضات هي الصخرة التي تتحطم عليها الوزارات ، فبعد حوالي شهرين من مفاوضات " النحاس- هندرسون" وصولوا على طريق مسدود، وكان السبب على ما يبدو هو مشكلة السودان.

ويبدو أن أحزاب المعارضة كانت تنتظر هذه الفرصة لتشن هجومها على الوفد ووزاراته.

وأصبحت القوى المؤثرة هكذا الملك كالعادة يريد الإطاحة بالوفد خصمه التقليدي، والمندوب السامي الجديد لم يحدد موقفه بعد، أما أحزاب المعارضة، فكانت تسعى بكل جهدها لإسقاط وزارة النحاس باشا ، ولقد علمت من السكرتير الشرقي للسفارة البريطانية في إحدى الحفلات أن معظم زعماء مصر المعارضين كانوا يأتون بطريقة شبه يومية في محاولة لاستعداء المندوب الجديد على حزب الوفد.

ويحدث صدام بين الملك والوزارة حول مسألتين تحدثت عنهما الصحف ، المسألة الأولى: هي تعيين بعض أعضاء مجلس الشيوخ، والمسألة الثانية: قانون تقدمت به الحكومة لمحاكمة الوزراء.

وبدأت المظاهرات تخرج تأييدا للوفد ووزاراته التي تقدمت باستقالتها إلى الملك، وقبلها الملك على الفور.

كلف " إسماعيل صدقي باشا " بتأليف الوزارة ، وكان ذلك إيذانا بعهد وزارة أخرى من الوزارات غير الحزبية الموالية للقصر، لكنها انتهجت أسلوبا فريدا في حكم البلاد، وفى معاملة الخصوم بحيث بقيت فترة حكم هذه الوزارة نقطة سوداء في عهد الحكومات المصرية بما اقترفته أثناء حكمها، تشكلت وزارة " صدقي" وكان واضحا أنها سلسلة في حلقات الوزارات الملكية، ولقد جاء تشكيلها ليوضح ذلك تماما، فأعضاء الوزارة كانوا موالين للملك أو مستقيلين من أحزابهم السابقة مثل " عبد الفتاح يحيى باشا" و" حافظ عفيفي باشا" من الأحرار ، و"على ماهر باشا " وتوفيق رفعت باشا " من الاتحاد.

أما " إسماعيل صدقي باشا " نفسه الذي أتيحت لي معرفته بعد ذلك بشكل دقيق فكان من المؤمنين بسياسة القوة، وبأن الغاية تبرر الوسيلة، كانت ثقافته قانونية فرنسية، وتقلد المناصب الوزارية منذ وقت مبكر في حياته، كما شارك في المفاوضات التي أدت إلى إعلان الاستقلال، وكان من المصريين القلائل الذين يملكون عقلا دقيقا، وكفاءة إدارية نادرة يعرف جيدا ماذا يريد، كما كان من الذكاء ، والطموح بحيث مهد لوصوله لهذا المنصب في الوقت المناسب.

كنت من المعجبين أشد الإعجاب بكفاءته، وأتذكر يوما التقيت به على باخرة إيطالية، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وكان بين ما قاله لي ردا على سؤال وجهته له أنه لو خير بين ناظر عزبة مشكوك في ذمته لكنه كفؤ، وآخر أمين ومعدوم الكفاءة لفضل الأول على الثاني ،وعندما أبديت دهشتي قال لي بثقة مبررا اختياره " إن الأول سوف يفيدني بكفاءته، ويسرقني وحده، أما الثاني فسوف أفيد من أمانته وحده ويسرقني كل من حوله.

وعندما رأى الدهشة على وجهي قال لي أنك صغير السن، وسوف تعلمك الأيام صحة ذلك.

وأتذكر حديثا آخر دار بيني وبين " لورد كليرن" المندوب السامي البريطاني فيما بعد خلال عشاء، وكان بين ما قاله عن " إسماعيل صدقي باشا" إنه أكفأ من التقى بهم من المصريين لكنه أسوأهم أخلاقا.

كان هذا هو رئيس الوزارة الجديد، وكان واضحا أنه لن يكرر تجربة " زيور باشا " أو " محمد محمود باشا " أي مخالفة أحكام الدستور لكي لا يعطى فرصة للوفد للهجوم عليه لكنه لجأ لما هو أنكى من ذلك.

بدأت الوزارة أولى خطواتها بتأجيل انعقاد البرلمان ، وعندما وجدت مقاومة من حزب الوفد استخدمت العنف تجاه المظاهرات، والاجتماعات والصحف، ثم شكلت لجنة لوضع دستور جديد بدلا من دستور 1923 ـ، ولقد بدا وضاحا أن الدستور الجديد قصد به تقليص حقوق الأمة لحساب سلطة القصر التي ازدادت في دستور 1930 .

عندما وصل ألأمر على حد إلغاء دستور الأمة، ووضع دستور تفصيل لم يعد الوفديون فقط الذين يهاجمون الحكومة، بل انضم إليهم الدستوريون الذين لزموا الصمت في البداية وكان " صدقي باشا " قد اعد نفسه لكل الاحتمالات ، فبدأ بتعطيل صحف الوفد، ثم تعطيل صحيفة السياسة لسان حال أصدقائه السابقين، كما وقف بعنف في وجه أي مسيرة أو مظاهرة وأعطى تعليمات في كل المديريات بأن تقف قوات البوليس بحزم وعنف ضد أي خروج على النظام، بل أنه لجأ إلى وسائل البطش لكي يرتدع كل من تسول له نفسه معارضته.

كانت هذه هي الأسباب التي جمعت كلمتي الحزبين الرئيسيين ووحدتهما في مقابل إلغاء الدستور، وتعطيل الحياة النيابية والبطش بالمعارضة.

وبدأ " صدقي باشا" يفكر في انتخابات برلمانية جديد لكي تقر الدستور الذي قام بتفصيله وبدأ يفكر في إنشاء حزب يدخل به الانتخابات، فكان إعلانه عن تشكيل حزب جديد أسماه " حزب الشعب" ولم ينضم على هذا الحزب بالطبع غير الطامعين في السلطة، وأصحاب المصالح وأتذكر أنه طلب منى الانضمام على هذا الحزب لكنني فطنت للهدف، وتمسكت بمبدأ الابتعاد عن الأحزاب.

عندما لم يجد الحزبان الرئيسيان فائدة من مهاجمة الوزارة في الصحف، خاصة بعد تعطيل هذه الصحف اتبعا أسلوبا جديدا في مقاومة الحكومة وهو الخروج إلى الجماهير وتأليب الرأي العام عليها، بحيث تحدث فوضى لا تتمكن معها الحكومة من تسيير شئون البلاد.

من هذه الحوادث المشهورة في مكافحة طغيان الوزارة، تشكيل وفد من قادة الحزبيين على رأسه ط مصطفى النحاس باشا" زعيم الوفد و" محمد محمود باشا" زعيم الأحرار ليسافر إلى مدينة طنطا لعقد مؤتمر جماهيري، ولكم تكن الحكومة بغافلة عن هذا التدبير، فبعد وصول الوفد إلى محطة سكك حديد القاهرة أغلقت أبواب المحطة في وجوههم بواسطة قوة من رجال البوليس، ولم يثن ذلك عزم الوفد عن المضي في سبيله، فدخلوا المحطة عنوة وأخذوا أماكنهم في عربة القطار وما أن حل موعد القطار حتى تحرك تاركا العربة الموجود فيها الوفد بعد أن تم فصلها عن بقية عربات القطار، لما لم ينزلوا منها قام بسحبهم " ونش" إلى منطقة حلوان وكان لهذا الحدث أثره على الجماهير التي كانت ضائقة بحكومة " صدقي باشا".

لم يكتف قادة المعارضة بهذه الحادثة ، بل كررها بعد حوالي أسبوعين، عندما ركبوا قطار الصعيد وتوجهوا نحو مدينة بني سويف وعند وصولهم فوجئوا بحصار من قوات الجيش والبوليس حالت بينهم وبين وصولهم على الجماهير ، بللا أجبرتهم على العودة إلى القاهرة.

أي أن عين الحكومة عن طريق جواسيسها كانت يقظة لمخططات المعارضة التي كانت تسعى إلى نقل الحقيقية للجماهير.

أما الحادثة التي لجأ قادة الائتلاف ، فهي السفر بسياراتهم إلى بني سويف مرة ثانية في تكتم شديد، وفى هذه المرة التقى وفد الائتلاف بالجماهير الذين التفوا حولهم في حشود ضخمة، ولم تسمح قوات الأمن التي فوجئت هذه المرة ،فقامت بتفريق المظاهرات بالقوة التي وصلت على حد إطلاق الرصاص ، وفى نهاية الأمر أجبر الوفد على العودة.

كانت هذه بعض صور كفاح زعماء المعارضة في محاولتهم لإعادة دستور الأمة، لم يرهبهم البطش أو الإرهاب ، بل زادهم ذلك إصرارا على إصرار .

وعندما أصبحت سمعة الوزارة في الحضيض من كثرة وقسوة التنكيل بخصومها ، الأمر الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد إهدار آدمية بعض هؤلاء الخصوم داخل مراكز البوليس ، عندما وصل الأمر على ذلك كانت الوزارة تمهد لإجراء انتخابات لكي يتشكل برلمان يتم بواسطته الموافقة على دستور 1930.

في ذلك الوقت كانت الحكومة قد عطلت معظم الحريات الأساسية من حرية القول، أو الاجتماع أو الرأي أو التظاهر كما أغلقت الصحف وفى ظل هذا الجو الملبد اتفقت أحزاب المعارضة على مقاطعة الانتخابات ودعت أنصارها على مقاطعتها أيضا.

لما سمعت الحكومة بذلك أصدرت تعليماتها إلى رجال الإدارة من مراكز بوليس وعمد أن يجبروا الناس على الذهاب على صناديق الانتخابات ، وكان من نتيجة هذا الإجبار حدوث المصادمات والعنف وخروج المظاهرات ، مما استعدى استخدام أعداد كبيرة من قوات الأمن لحفظ النظام.

انتهت الانتخابات الدامية، وأعلن رئيس الحكومة أن الانتخابات قد مرت هادئة بسلام، وأن حوالي 70% من الناخبين قد ذهبوا بأصواتهم وبالطبع فاز حزب الحكومة بأغلبية المقاعد.

لم يكن خافيا على أحد أن الانتخابات قد زورت ،وإن لم يكن هناك دليل على ذلك .

انعقد البرلمان الجديد ن وعرض الدستور وبالطبع حاز الموافقة وأصبح ساري المفعول وممثلا لإدارة الأمة متمثلة في نوابها الذين وافقوا عليه ، كل ذلك كان يكتب في صدر صحيفة الشعب لسان حال الحاكم، فلا يصدقها أحد.

أما التنكيل بالخصوم فكان يسير قدما لإرهاب أي صوت معارض بالترهيب حينا، وبالترغيب أحيانا، كما أن الحكومة بعد أن اكتمل لها الشكل البرلماني كانت قادرة على استصدار أي قانون تستغله ضد خصومها.

في يناير 1933 كان الائتلاف بين الحزبين الرئيسيين قد أصابه الشقاق نتيجة للخلاف حول أسلوب مواجهة الحكومة.

كما حدثت في نفس الوقت حادثة قتل مأمور أحد مراكز الصعيد تمخضت عن محاكمة ، وأثناء المحاكمة ظهرت وقائع تدين الحكومة نتيجة تعذيب الخصوم، وصل كما قيل وقتها إلى حد هتك العرض.

ولقد أدى ذلك على استقالة بعض أعضاء الوزارة ومن بينهم " على ماهر باشا" الذي كان وزيرا للحقانية.

وقدم " إسماعيل صدقي باشا" استقالة وزارته الأولى، وأعاد تشكيل وزارته الثانية بعد أن خرج منها بعض الوزراء.

بعد هذا الجهد الضخم الذي بذله " صدقي باشا" في تدبير المؤامرات لخصومه، والتضييق عليهم والتنكيل بهم واليقظة التامة لكل تدبير يقومون به كان طبيعيا أن يصاب الرجل بالإعياء، وفى مارس سنة 1933 أصيب بالشلل وسافر إلى أوربا للاستشفاء.

ولقد حدث وهو في أوربا أن أثير حادثة تتعلق بنزاهة الوزارة على وجه العموم ، و" صدقي باشا " على وجه الخصوص .

أما الشبهات التي أثيرت فكانت حول فائدة مادية حققها رئيس الوزارة من جراء إنشاء كورنيش الإسكندرية، ومن هذه الأقاويل أن المقاول الايطالي الذي قام ببناء الكورنيش ويدعى " دانتمارو" قد قام ببناء فيلا خاصة لرئيس الوزارة، واستفاد أيضا بعض أعضاء الوزارة.

وفى نفس الوقت كان القصر يستغل وجود رئيس الوزارة في الخارج ليحقق بعض المصالح عن طريق التدخل في شئون الحكومة.

في هذه الفترة قامت الحكومة البريطانية بنقل مندوبها السامي في مصر " سيربرسى لورين" الرجل الذي اتبع أسلوب عدم التدخل ليحل- محله مندوب سام آخر سوف يكون له تأثير كبير في حياة مصر السياسية خلال الأعوام القادمة، كان ذلك في أغسطس وفى سبتمبر عاد " إسماعيل صدقي" من الخارج ليقدم استقالته ، ويخرج غير مأسوف عليه من الشعب أو من قادة المعارضة.

وبودي هنا أن أتوقف فليلا عند نقطة استرعت انتباهي، وهى أن الخصومة السياسية مهما اشتدت، لم تكن مبررا للخصومة الشخصية، فبعد أن خرج " إسماعيل صدقي" من الوزارة، ومن قيادة حزب الشعب، رأيت خصومه السياسيين يعودونه مريضا في المنزل وكأنه لم ينكل بهم بالأمس ، أو كأن الساحة السياسية حلبة للملاكمة، ما أن تنتهي المباراة مهما كانت الأخطاء فيها حتى يعود الود إلى الملاكمين . لذلك كان يتم اللقاء في نادي " محمد على" يتناقشون فيما حدث، ويحدث دون وجود أي ظلال لخصومة شخصية، وهذه كانت أخلاق السياسيون القدامى، يجتهدون وقد يخطئون في اجتهادهم. لكن هم في النهاية يسعون إلى صالح وطنهم.

سوف أختتم هذا الفصل بحادثين كنت أحد أطرافهما، وصوف أقصهما من باب القصص الطريفة.

في أثناء وزارة " صدقي باشا" وفى مناسبة عيد جلوس الملك فؤاد، اتصل بى محافظ الإسكندرية، وعرض على أن أنال شرف إقامة الحفل السنوي لهذه المناسبة، لأن أحوال المحافظة المالية لم تكن على ما يرام، ورحبت بالفكرة، واتصل هو بعد ذلك بكبير الأمناء " سعيد ذو الفقار" وأخذ موافقته على إقامة الحفل.

وبالفعل تكلفت بإقامة الحفل الذي كلفني حوالي 500 جنيه، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت وكان ذلك خلال فصل الصيف، والحكومة تمارس عملها في " بولكى" في الإسكندرية ، ووجهت الدعوة لرئيس الوزراء والوزراء وبعض أعضاء البرلمان، والمندوب السامي ورجال السلك الدبلوماسي الموجودين في الإسكندرية.

ووقفت على الباب استقبل الضيوف، وأوصلهم إلى مقاعدهم، ووصل " إسماعيل صدقي باشا" وجلس في الكرسي الرئيسي، وبعد قليل وصل " عبد الفتاح يحيى باشا" وجلس إلى جواره، وبعد لحظات وصل رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت " توفيق رفعت باشا" ولما لم يجد مقعدا على المنضدة الرئيسي عاد وعاتبني بشدة قائلا بانفعال وبصوت عال" إن مقعدي يجب أن يكون بجوار مقعد رئيس الوزارة"، وحاولت أن أحل له المشكلة بإحضار مقعد من موضع آخر ، لكنه اعتبر الأمر إهانة وجهلا بالبروتوكول وانصرف غاضبا مردا هل لو كان " النحاس باشا" في مكاني كنت فعلت ذلك؟

وفى المساء كنا ضيوفا في " سان ستفانو" احتفالا بنفس المناسبة وشرحت الأمر لكبير الأمناء " ذو الفقار باشا" فضحك قائلا" لا تحمل نفسه الهم يا بني، حدث أن كان رئيس مجلس النواب هذا ضيفا في السراي، واعترض على مكانه على المائدة وهدد بالانصراف، وعندما نقلت المر للملك فؤاد رد على قائلا" فليجلس في هذا المكان إذا كان هذا يعجبه، أما إذا لم يكن يعجبه فليغادر السراي مع ألف سلامة، وعندما نقلت إليه حديث الملك جلس في مكانه صامتا.

كان ذلك هو حديث كبير الأمناء، وبعدها شعرت بالراحة.

الحادثة الثانية دارت في بلدية الإسكندرية التي كنت عضوا فيها، كانت الشائعات تتردد بعد خروج " إسماعيل صدقيباشا" من الوزارة أنه استفاد من بتاء الكورنيش ببناء فيلا خاصة له، ولما لما يتمكن أحد من إثبات ذلك على رئيس الوزراء السابق، ألصقت التهمة بصديقه مدير عام البلدية " أحمد صديق باشا " وعندما حاول أن يدافع عن نفسه أمام " قومسيون الإسكندرية" رفض المحافظ " حسين صبري باشا" في محاولة منى لإعطائه فرصة يدافع فيها عن نفسه.

اتصل أبى محافظ الإسكندرية واستدعاني على مكتبه ، وقال لي إن الاستجواب الذي تقدمت به ضد رغبة الملك، والحكومة الجديدة برئاسة " عبد الفتاح يحيى باشا" لكنني أصررت على موقفي وقلت له: أو حقي وواجبي في معرفة الحقيقية، وهو حق الرجل في أن يدافع عن نفسه، فأما أن تثبت إدانة الرجل فيحال إلى النيابة، أو تثبت براءته فيرتاح ، وأكون انأ قد أرحت ضميري.

فقال لي ضاحكا: أن "الملك فؤاد" سوف ينعم خلال الأيام القادمة بألقاب البكوية، والباشوية وأنت من المرشحين لنيل لقب بك وسوف تكون أصغر من نال هذا اللقب.

فشكرته على هذا الترشيح، وقلت له إنني مصر على موقفي يا سعادة المحافظ رغم إغراء اللقب. وشرف الإنعام به. وفى اليوم المحدد لانعقاد القومسيون صدر قرار من رئيس الوزراء " يحيى باشا" بحل القومسيون لكي يحول دون تقديم الاستجواب، وكان ذلك واضحا في أن الملك يقصد الإساءة على " صدقي باشا" وأصدقائه.

ولقد اعتبرت الصحف موضوع هذا الاستجواب من الأحداث الهامة لدرجة أن صحيفة الأهرام عدته يوم 31 ديسمبر 1933 من أهم أحداث العام المنصرم ، وكانت الصحيفة تنشر عددا خاصا عن أهم أحداث العام المنتهى.

لورد كليرن في مصر

ربما يعجب البعض من تخصيص هذه المساحة للحديث عن أحد المندوبين السامين في مصر، ولكن لو عرف هؤلاء كم كان لهذا الرجل من تأثير فى الحياة السياسية المصرية لتبخر شعورهم بالعجب.

لقد بقى " مايلز لامبسون" في مصر 12 سنة، تغيرت الوزارة خلال هذه الفترة 18 مرة، كما أنه لم يكف عن ترويض " الملك فاروق" حتى كاد يجعله يوقع وثيقة للتنازل عن العرش في 4 فبراير 1942، أما الزعماء السياسيون فقد لعب هذا الرجل في حياتهم، وتفكيرهم دورا خطيرا، وأما الفترة التي تواجد فيها في مصر فقد تخللتها سنوات الحرب العالمية الثانية التي كانت من أخطر السنوات في حياة العالم، وحياة وطنه وربما حياة مصر.

أما موقف الجماهير من هذا الرجل، فلقد قامت الجماهير تهتف ضده فى أحيان كثيرة، وفى بعض الأحيان حملوه على الأكتاف وهتفوا بحياته.

أما على المستوى الشخصي ، فلقد ارتبط هذا الرجل بعلاقة وثيقة مع " أمين عثمان باشا" الذي ارتبطت به بصداقة حميمة منذ فترة الصبا، وحتى وافته المنية سنة 1946 ، ولقد أتاحت هذه العلاقة- خاصة في الفترة من عام 1936 حتى عام 1946 – أن أعلم كيف كانت تتحرك قطع الشطرنج السياسية في مصر.

ولكي تكتمل الصورة في ذهن القراء، سوف أتحدث بسرعة عن ممثلي بريطانيا في مصر خلال الفترة التي يشملها حديثي.

لقد مثل بريطانيا في مصر منذ الاحتلال حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية تسعة رجال هم على الترتيب - إن لم تخني ذاكرتي- لورد كرومر، الدون جورست- لورد كتشنر- هنرى ماكماهون- ريجنالد وبنجت- لورد اللنبى- جورج لويد- برسى لورين- مايلز لامبوسن( لورد كيلرن).

هذه الأسماء لعبت في حياة مصر دورا خطيرا ، وكان لكل منهم مهام محددة أوكل إليه تنفيذها حسب التعليمات التي تصل إليه من وزير خارجية حكومة جلالة ملك بريطانيا، وكلهم كانوا مخلصين في تنفيذ مهامهم، ولكن بأسلوب يصطبغ بشخصية كل منهم، وبالظروف الدولية والمحلية المتغيرة، وبعض هؤلاء عاد على بلاده، وكتب مذكراته ولقد أتاحت لي الظروف أن أطلع على بعض ما كتبوا.

ولقد بدا لي من متابعتي لوجود هؤلاء في مصر أن أكثرهم تدخلا وتأثيرا في حياة مصر كانوا الذين يحملون لقب لورد.

" اللورد كرومر" جاء إلى مصر مع بداية الاحتلال عام 1882 ، وبقى فيها حتى عام 1906 أي حوالي 24 عاما، وهى أطول فترة يمكن أن يقضيها ممثل دبوماسى لبلاده كما سبق وذكرت. كان يسمى المعتمد البريطاني ومصر خلال فترة وجوده لم تكن إلا ولاية عثمانية صورية ومستعمرة بريطانية، وكان " لورد كرومر" هو حاكمها الفعلي، ومن الأشياء المؤكدة أن هذا الرجل المتغطرس كان ينظر إلى الشعب المصري باستخفاف شديد، ويعاملهم كرعاع.

وفى فترة وجوده كان على عرش مصر من أسرة " محمد على" الخديوي توفيق " حتى عام 1892 ، ومن بعده جاء " الخديوي عباس".

كانت هناك نظارات مصرية، لكن سعادة " لورد كرومر" كان هو الحاكم الحقيقي عن طريق ممثليه في كل النظارات والمصالح، ولم يكن لأي شخص في مصر بدءا من الخديوي مرورا بالوزير حتى مدير أية مصلحة أن يعترض على كلمة المستشار الانجليزي، أو الموظف الإنجليزي، فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة.

وفى عهد كرومر تحدث الحادثة المشهورة في دنشواي ويأمر سعادة اللورد بتشكيل محكمة لتأديب المصريين، يوضع على رأسها وزير مصري ويمثل الادعاء فيها محام مصري كبير، وتصدر الأحكام بالإعدام، والجل والسجن وتنفذ الأحكام أمام الأهالي لكي تظل عظة وعبرة لكل من تسول له نفسه الوقوف في وجه الإنجليز وفى عهد " كرومر" أيضا بدأ ميلاد الحركة الوطنية التي كان من أهم زعمائها " مصطفى كامل باشا".

وجاء من بعد " كرومر" معتمد بريطاني آخر هو " سير الدون جورست" وبقى في هذا المنصب حتى عام 1911 أي حوالي أربع سنوات ، جاء ليجد في مصر حركة وطنية نشطة تحركها مجموعة من المثقفين، واتبع هذا المعتمد سياسة الإيقاع بين قوى التأثير السياسي بكل الوسائل سعي وراء بعثرتها، استعدى " عباس حلمي" على هذه الحركة، وقام ببعثرتها في أحزاب متفرقة،وفى مجلس شورى القوانين، الذي حرص على أن يكون من النبلاء والوجهاء الذين جاءوا ليحافظوا على مصالحهم دون أن يكون لهذا المجلس دور ملموس في سير الأمور، الذين جاءوا ليحافظوا على مصالحهم دون أن يكون لهذا المجلس دور ملموس في سير الأمور، اللهم إلا دور المحافظة على الشكل الديمقراطي، وفى عهده تم نفى الزعيم الوطني " محمد فريد" حتى الموت.

ومن بعد " جورست" جاء " لورد كتشنر" الذي كان أكثر تشددا من سابقيه، وأكثر تدخلا في كل صغيرة وكبيرة، ولقد بقى هذا الرجل في مصر حوالي ثلاثة أعوام أعلنت فيها الحرب العالمية الأولى، فاستدعى للقيام بمهام حربية، ويعين بدلا منه " سير هنرى ماكماهون" وفى وجوده أعلنت الحماية البريطانية على مصر، وكان " الخديوي عباس" في رحلة خارج البلاد، فلم يسمح له بالعودة إلى مصر بعد ذلك، وبقى يحلم بالعودة إلى أن مات، وبعد إعلان الحماية على مصر وانتهاء كل علاقة لها بالدولة العثمانية يتغير لقبه من المعتمد البريطاني إلى المندوب السامي البريطاني.

كما يتغير اسم " الخديوي" على اسم " السلطان" الذي شغله السلطان " حسين كامل" خلفا للخديوي " عباس" ولقد أعطى وزير الخارجية البريطاني وعده المشهور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1918 في فترة وجود " سي ريجنالد وينجت" وفى عهد هذا المندوب تنمو الحركة الوطنية، وتتطور إلى الثورة الشعبية المشهورة التي حدثت عام 1919 وعمت كل أرجاء البلاد، وعندما تفاقم الوضع جاء عام 1919 مندوب سامي جديد هو " لورد اللنبى" ويبقى في مصر حتى عام 1925 ، وفى عهد هذا المندوب حدثت أمور هامة منها نفى" سعد زغلول " وزملائه، ومحاولة ترويض الحركة الوطنية وإعلان تصريح 28 فبراير 1922، إصدار دستور مصري عام 1923، تحول مصر على مملكة وتحول السلطان فؤاد إلى الملك " فؤاد الأول" وفى عهده أيضا تألفت أول حكومة دستورية برئاسة " سعد زغلول باشا".

وقبل أن يترك هذا الرجل مصر حدثت الحادثة المشهورة" اغتيال السردار الانجليزي" ويرسل بإنذاره الشهير، وتحتل قواته جمرك الإسكندرية ويستقيل نتيجة لذلك " سعد زغلول باشا".

ثم يجيء " سير جورج لويد" في فترة اختلف فيها زعماء مصر، وتبادلوا الاتهامات وتظهر أعز مطالبهم في محاولة التوصل مع بريطانيا إلى معاهدة لحل المسائل المتعلقة في تصريح 28 فبراير، وتتوالى الوزارات التي لم تنجح إحداها فئ الوصول إلى نتيجة في مفاوضاتها مع الانجليز، بل إن هذه المفاوضات في أغلب الأحيان كانت سببا في استقالة بعض هذه الوزارات.

ولقد اتسمت فترة وجود هذا الرجل بكثرة تدخله في الشؤون المصرية، خاصة في تغيير الوزارات أو بالإصرار على عدم إشراك بعض الوزراء في الوزارة، مثل النقراشي أو أحمد ماهر لأن التهمة كانت قد وجهت إليهما في حادث قتل "السيردار" ، وفى عهده أيضا مات" سعد زغلول باشا " وزعيم الأمة، وفى عهده أيضا أقيلت أول وزارة دستورية كان يرأسها " النحاس باشا" ولم يكن قد مر على تأليفها أكثر من ثلاثة شهور.

ويذهب هذا الرجل الكثير التدخل في الشئون المصرية بعد أربع سنوات من وجوده في مصر ليأتي من بعده مندوب سام آخر، يكون هدفه الأول عدم التدخل في الشئون الداخلية المصرية هو " سير برسى لورين" ويبقى في مصر من عام 1929 حتى عام 1933 ، وعلى حساب عدم تدخله تزداد سلطة الملك فؤاد، ويبدو ذلك واضحا من شكل بعض الوزارات التي جاءت إلى الحكم خلال هذه الفترة، فمن ضمن حكومات هذه الفترة حكومتان عطلت الأولى الدستور وهى وزارة "محمد محمود باشا" ، والثانية أحلت محل دستور 1923 دستور آخر هو دستور 1930 الذي أعطى سلطات أكبر للملك على حساب سلطات الأمة، كما حكمت البلاد في هذه الفترة بالحديد والنار، فرقت المظاهرات وأغلقت الصحف وألغيت الحريات الأساسية، ولم يتدخل " برسى لورين" ولم تصل المفاوضات في عهده سواء مع " محمد محمود باشا" أو مع " النحاس باشا" إلى أية نتيجة، بل كانت أيضا سببا في استقالة الوزارتين.

وفى أواخر عام 1933 يذهب الرجل الذي آثر عدم التدخل ليأتي من بعده بطل هذا الفصل وهو " السير مايلز لامبسون" أو " لورد كليرن" فيما بعد، الذي جاء إلى مصر من الصين، وعندما وصل إلى مصر تزوج من فتاة إيطالية جميلة تصغره بأكثر من 25 عاما، ويذهب بها ليقضى إجازة طويلة قبل أن يعود إلى مصر ليلعب دورا من أخطر الأدوار في حياة مصر كلها، وفى حياة الملك والساسة وفى صنع الأحداث.

ولتستكمل الأحداث الآن حسب أهميتها وترتيبها الزمني،وسوف يظهر جليا دور المندوب السامي في صنع هذه الأحداث أو تسييرها في اتجاهات مختلفة.

نحن الآن في سبتمبر عام 1933 حيث تولى رئاسة الوزارة خلفا " لإسماعيل صدقيباشا " عبد الفتاح يحيى باشا ، كما خلفه أيضا في رئاسة حزب الشعب.

ورئيس الوزراء الجديد سكندري الأصل درس القانون، ومارس وظيفة القضاء، وفى نهاية الأمر دخل السياسة عن طريق اختياره وزيرا في وزارة " إسماعيل صدقيباشا" كما استقال منها أيضا في آخر أيامها اعتراضا على بعض تجاوزات الأمن كما قال لي بعد ذلك في جلسة غداء في منزلي بالإسكندرية.

" عبد الفتاح يحيى باشا" رجل طيب القلب، مهذب أرستقراطي الخلق، شديد الولاء للملك، لدرجة أن الوزارة ألفت وهو خارج البلاد، وعلمنا بأسماء أعضائها، وهو لا يزال بالخارج، كما أنه أول رئيس وزراء يستن سنة أن يحلف الوزراء يمينا بالولاء والطاعة للملك.

ولقد حدثت أزمة بين رئيس الوزراء والمندوب السامي الجديد، هذه تفاصيلها:

بعد أن أنهى " مايلز لامبسون" إجازته مع زوجته الشابة عاد إلى مصر عن طريق باخرة أقلته إلى ميناء بور سعيد، حيث استقبل استقبالا حافلا مثل كل من سبقوه، بعدئذ ركب قطارا خاصا نحو محطة القاهرة، وكان في استقباله على المحطة رئيس الوزراء ووزير الخارجية ، وكان يشغل المنصبين " عبد الفتاح يحيى باشا" وبالطبع كان معه كبار المسئولين.

كان البروتوكول يقضى بأن يذهب السامي لزيارة رئيس الوزراء في مكتبه أولا، ثم بعد ذلك يأتي دور رئيس الوزراء فيرد الزيارة.

وفى اختبار للقوة على ما يبدو رفض المندوب الجديد أن يقوم هو بالزيارة الأولى ، وأصر على أن يقوم رئيس الوزراء بزيارته، وتحدث أول أزمة بين المندوب السامي ورئيس الوزراء، ويتدخل الملك فؤاد- حسب رواية يحيى باشا لي- ويحاول أن يجد مخرجا، فيدعو المندوب السامي لزيارته في القصر، وبعد هذه الزيارة يسافر المندوب السامي إلى لندن وتؤجل زيارته لمكتب رئيس الوزراء، ولكن عند عودته يذهب رئيس الوزراء لزيارته بصفته وزيرا للخارجية، وتنتهي أول أزمة يثيرها الوافد الانجليزي الجديد.

بدا " لامبسون" يخطط لمعرفة القوى السياسية، ويحاول احتواءها كان الملك " فؤاد" قد بدأ يفقد حيويته وصحته، واتجهت الأنظار إلى ولى العهد، وهو في الوقت كان صبيا لا يزيد عمره على الأربعة عشر عاما ، وهنا يشر " لامبسون" بضرورة سفره إلى لندن لاستكمال تعليمه وتربيته، وليتشرب بالتقاليد الانجليزية، وبالفعل يسافر الأمير فاروق، وبصحبته أمينه " أحمد محمد حسنين " ومدربة العسكري، ويدعو المندوب السامي رؤساء وزارات مصر السابقين، وقاد الأحزاب السياسية، وكبار ساستها في حفل للتعارف ويذهب كل هؤلاء دون أن يتخلف منهم أحد.

وبعد أيام قليلة من عمر الوزارة تثار أزمة أخرى، لكنها هذه المرة كانت تتعلق بنزاهة وزير الأشغال في الوزارة، وكان في ذلك الوقت " عبد العظيم راشد باشا" ،أما الأزمة التي اهتم بها الرأي العام فملخصها أن الوزير قد عهد ببعض المقاولات إلى " أحمد عبود باشا" مخالفا بعض القوانين ، ونشرت الصحف هذه الأنباء مزودة بالتفاصيل ، وبدأ مركز الوزارة يهتز، أما " أحمد عبود" فكان على علاقة طيبة بالانجليز، وله مصالح واسعة مع شركات إنجليزية.

ووصل الأمر على حد إحالة الموضوع للنيابة والقضاء، والتحقيق حباله طويلة، لكن تبقى الشبهات محلقة فوق رأس الوزارة.

وشعر المندوب السامي أن تأييده لوزارة متهمة في نزاهتها أمر لا يليق فبدأ أول تدخل له لدى " الملك فؤاد" الذي ضغط بدوره على رئيس وزرائه الذي لم يجد بدا من تقديم استقالته، ولم يفته أن يذكر في كتاب الاستقالة أنه فعل ذلك تحقيقا لرغبة الحكومة البريطانية ودون تفريط في حقوق البلاد.

كان ذلك في نوفمبر سنة 1934،وعلمت فيما بعد وأنا في بعثة مصرية إلى لندن أن من أسببا عدم رضاء المندوب السامي عن " عبد الفتاح يحيى باشا " كان حله لقومسيون الإسكندرية الذي كنت عضوا فيه وكان أغلب أعضائه من الأجانب.

في هذه الفترة كانت صحة الملك فؤاد تتدهور وعين له في منصب رئيس الديوان الشاغر "أحمد زيور باشا " ولا تزال البلاد تحكم بدستور عام 1930.

وكلف " توفيق نسيم باشا" بتأليف وزارة محايدة.

وكان أول عمل قامت به تلك الوزارة لكسب الاحترام هو إلغاء دستور 1930 الذي بذلت المحاولات الجبارة خلال السنوات الماضية لإلغائه ، لكن هذه الوزارة لم تقرر إعادة دستور 1923، لأن ذلك كان يقتضى جس نبض وأخذ موافقة المندوب السامي، والملك فؤاد ولقد تأخر ذلك حوالي عام كامل قبل إعادة دستور 1923.

كانت المفاوضات بين مصر وبريطانيا متوقفة منذ فترة طويلة , بعد كل ما صادفتها من تعثر , ولم تفكر الحكومة في بعث هذه الفكرة خوفا من أن يصادفها الفشل , وإن كان أمر هذه المفاوضات قد أثير أكثر من مرة مع المندوب السامي الجديد .

أما وزارة " نسيم باشا " فقد دأبت على معالجة الجراح التي تركتها وزارة " صدقي باشا " .

وقبل أن أسترسل في ما حدث خلال عمر هذه الوزارة سوف أتوقف عند مجموعة من الأحداث أثرت في حياتي خلال عمر هذه الوزارة النسيمية , وكان لبعضها ارتباط بالوزارة .

أما الحدث الأول , فكان أزمة مالية كادت تقضي على كل ما حققته من نجاح كان ذلك بعد وفاة والدي بأكثر من سبع سنوات بقليل , وكان النجاح حليفي خلال هذه السنوات , وبدأ اسمي يصعد في انتظام ليزاحم أسماء كبار المصدرين الأجانب .

من المعروف أن مصدر الأقطان يلجأ غالبا إلى بيع كميات كبيرة من الأقطان قبل أن يشتريها من صغار التجار , أو المزارعين , يبيعها إلى كبار التجار والغزالين في شتى أنحاء العالم , مسترشدا في ذلك بأهم ما يحدث في أهم ثلاث بورصات " الإسكندرية " " وليفربول " " ونيويورك " , وتتأثر الأسعار في هذه البورصات بأمور متعددة منها الأحوال السياسية , وأحوال الطقس والتقلبات الاقتصادية .

كان كل شيء يبدو عاديا تماما خلال هذا الموسم عندما تعاقدت على بيع كمية ضخم من القطن بسعر القنطار حوالي ثمانية جنيهات للقنطار , وحدث ما لم يكن في الحسبان , حدثت بعض التقلبات في الطقس وتأثر بذلك المحصول الأمريكي , مما جعل سعر القنطار يرتفع في بورصة نيويورك , وتبعه بالطبع ارتفاع سعر القنطار في كل أنحاء العالم , ولم يكن هناك مفر من توريد الكمية الضخمة التي تعاقدت على بيعها في الموعد المحدد .

واضطرني ذلك إلى شراء القنطار بحوالي 12 جنيها , لكي أصدره بسعر 8 جنيهات , وكانت هذه ضربة عنيفة لي , فقد خسرت نتيجة لذلك حوالي 600 ألف جنيه , وكان هذا يساوي تقريبا معظم رأسمالنا الثابت , أو كل الذي جمعناه من أموال منذ وفاة والدي حتى تلك اللحظة .

وأذكر جيدا أنني كنت جالسا في غرفة مكتبي مهموما , واضعا رأسي بين يدي أفكر في كيفية دفع مرتبات مائة موظف هم كل العاملين في الشركة .

وبينما أنا على هذا الحال إذا بالباب يطرق , والسكرتير يبلغني أن رئيس البنك الإيطالي يطلب مقابلتي . ولم أكن متحمسا للقائه أو لقاء أي شخص آخر , وكدت أقول للسكرتير أن يعتذر له , لكنني وجدت أنه قد لا يكون مناسبا الاعتذار , فقلت للموظف أن يدخله .

جاء الرجل يعرض على التعاون مثلما أتعاون مع البنوك الأجنبية الأخرى , وبالتأكيد لم يكن الرجل يعرف عن أزمتي أي شيء , لأنه لو كان يعرف لما بدا متحمسا هكذا .

وقلت له: " إنني أتعامل مع البنوك الأجنبية الأخرى بشروط ميسرة وبميزات لا أتصور أن البنك الإيطالي سوف يعطيني أفضل منها فما الذي يغريني بالتعامل معكم ؟ " .

وأمام إغراء النجاح والاسم الذي بدأ يلمع قدم الرجل ما أدهشني , قدم لي عرضا بأن يقدم لي مبلغ 100 ألف جنيه بدون أي ضمان ، وهذا لم يكن ليفعله أي بنك آخر .

وقبلت العرض على الفور , مظهرا أنني فعلت ذلك إرضاء له , وكانت هذه هي صفقة الإنقاذ من أول أزمة مالية صادفتني في حياتي .

وبين الأزمة الأولى سنة 1934 , والأزمة الثانية سنة 1949 كانت أروع سنوات حياتي , وأكثرها نجاحا .

أما الحدث الثاني فقد حدث بينما أنا في مكتبي ، إذا بالتليفون يدوى وعندما رددت كان المتحدث هو " أحمد باشا عبد الوهاب" وزير المالية في وزارة "نسيم باشا " الذي طلب إلى أن أسافر للقائه في مكتبه بالقاهرة، وعندما وصلت إليه، قال إن هناك وفدا مسافرا إلى لندن لتوطيد العلاقات وخاصة الاقتصادية مع الحكومة البريطانية، وعندما سألته عمن رشحوني قال لي" الحكومة المصرية بنصيحة من الانجليز" وعندما سألته عن موقعي في الوفد قال لي مستشار.

فرد على الرجل قائلا" أو تدرى من هم أعضاء الوفد؟ قلت له " بالطبع لا " قال إنهم " حافظ عفيفي باشا ، وطلعت حرب باشا وصادق حنين باشا " وكيل وزارة المالية السابق، " ويوسف النحاس بك" وأما المستشارون فهم " علوبة باشا" وكيل وزارة المالية، و" حسين فهمي بك" مدير عام الجمارك، و"أمين فكرى بك" وكيل وزارة المالية، و" أحمد سليم بك" وكيل وزارة التجارة والصناعة وأنت لا تزال حتى الآن " محمد أفندي فرغلى" قال ذلك ضاحكا.

وقلت له إن الألقاب وحدها ليست دليلا على الخبرة، وإنني متمسك بموقفي في أن أسافر كعضو أما إذا كان غير ذلك فإني أعتذر عن هذا الشرف مع شكري لسعادتكم ولمن رشحوني.

فقال الرجل وكان يبدو مقتنعا ومتعجبا بكلام " لكن من المحتمل ألا يوافق رئيس الحكومة على ذلك" فقلت له يا عبد الوهاب باشا " إن هذا من صميم عملك، وليس لرئيس الحكومة أن يتدخل فيه، ولو كنت في موقفك وأتمتع بسمعتك الطيبة ما قبلت أن يتدخل رئيس الوزارة في اختصاصي" قلت له ذلك ضاحكا .

فرد قائلا" ربما اعترض الملك" فقلت له " أترك هذا الأمر لي" وذهبت إلى القصر وقابلت " أحمد حسين" وكان أمينا لولى العهد، وتربطني به صداقة ، واتصل بعد ذلك بوزير المالية وقال له إن القصر ليس عنده مانع في أن أسافر كعضو.

وسافرت فعلا مع الوفد الذي كان يرأسه " حافظ عفيفي باشا " الذي لم تكن لي به سابق معرفة، ونزلنا في أحدث لوكاندة في لندن، وكانت في ذلك الوقت " دورشنتر" وانضم إلى الوفد بعد ذلك" حسن صبري باشا " وكان قد عين وزيرا مفوضا مصريا في لندن خلفا " لحافظ عفيفي باشا " ولم تكن العلاقة بينه وبين حافظ عفيفي باشا على ما يرام فكل منهما كان يحمل للآخر قدرا كبيرا من الكراهية.

وتذكرت موقف أحمد عبد الوهاب باشا وأنا في لندن ، وعبد الوهاب باشا كان من أكفأ من عملوا في الميدان الاقتصادي والمالي، مثله في ذلك الوقت مثل " إسماعيل صدقيباشا " ولكنه وصل إلى هذه الكفاءة عن طريق الترقي الوظيفي في وزارة المالية، كما كان من أصغرى من وصلوا إلى منصب الوزارة سنا، وكان مستقلا ولم ينتم إلى أحزاب وذلك أعطاه حرية أكبر في الحركة، ولقد مات شابا بعد أن تناول غذاءه في منزلي ثم سافر للقاهرة نتيجة لإصابته بالبرد، وعدم كفاءة الكلية وفقدت مصر بوفاته رجلا من خيرة رجالها.

بقيت بعثتنا هذه في لندن لمدة شهر تزور المراكز المالية، والصناعية والتجارية وتحاول أنتعقد الاتفاقيات لإقامة الصناعات في مصر، وكان من نتيجة هذه الزيارة مساهمة الانجليز في إنشاء بعض المؤسسات، مثل شركة مصر للتأمين وشركة البيضاء وكانت من أنجح الشركات المساهمة مع الإنجليز.

أما خارج نطاق العمل فقد حدثت بعض المواقف الطريفة ربما يكون من المناسب حكايتها، فقد تحدد لنا موعد لمقابلة جلالة ملك بريطانيا العظمى " جورج الخامس" وبدأنا نستعد لهذا اللقاء، وكان من لزوم لقاء الملك ارتداء قبعة سوداء عالية، وذهب أعضاء الوفد لشراء القبعات وبعد أن التقينا في الفندق، سألتهم عن سعر القبعة فقالوا إنه خمسة جنيهات، فقلت لهم لقد اشتريتها بمبلغ جنيهين ونصف، وعندما تأملوا القبعة وجدوا أنها مثل قبعاتهم تماما فسألوني عن المحل فقلت لهم اسم المحل وكان من أشهر محل لبيع القبعات في لندن ، فدهشوا ولم يصدقوا قولي، وعندما استفسرت منهم قال " طلعت حرب" إنك لا تقول الحقيقة لأننا اشترينا قبعاتنا من نفس المحل، فكيف تحصل عليها أقل من السعر الذي اشترينا به قبعاتنا؟ وأصروا على الذهاب معي إلى المحل ودخل حافظ عفيفي وطلعت حرب كلاهما إلى المحل، وبقيت في الخارج وعندما سألا البائعة عن سعر قبعتي فأكدت لهما أم سعر هو 2,5 جنيه، وعندما استفسروا منها عن سبب التخفيض ، أوضحت لهم السبب وهو أن هذه القبعة كانت معروضة في الفترينة ، وهى القبعة الوحيدة التي جاءت مناسبة لمقاسه، ونحن نقدم المعروضات بتخفيض 50% لأنه ربما تكون قد تأثرت بالشمس أثناء عرضها، وضرب طلعت حرب كفا بكف وقال لي أؤكد أنك محظوظ وأنك ستبقى محظوظا طوال حياتك.

المهم أننا ذهبنا للقاء الملك، وفى حضرة الملك، يقضى البروتوكول بألا يسأل الضيف بل أن الملك وحده هو الذي يوجه الأسئلة، ولاحظت أثناء وجودي في حضرة الملك أنه يضع في عروة الجاكتة " قرنفلة" ودفعني فضولي إلى سؤاله بالسماح لي بسؤال، وهنا بهت أعضاء الوفد لهذا السلوك المندفع، لكن الملك ابتسم في تسامح وقال لي اسأل شئت أيها الشاب، فسألته سر وضع القرنفلة، فرد قائلا في هدوء " ليس أكثر من التفاؤل يا عزيزي" ومن يومها وأنا أضع القرنفلة في عروة جاكتتى حتى ارتبطت بى ولم أخلعها إي في المناسبات الحزينة.

ومن المواقف الطريفة التي حدثت خلال هذه الرحلة، أنني دعوت أعضاء الوفد على سهرة في صالة الطعام الفخمة للفندق، وبعد انتهاء العشاء قدمت لي الفاتورة وكان ذهولي عندما رأيت أن المبلغ قد وصل إلى رقم 100 جنيه، ذلك في حوالي سنة 1935 يعد مبلغا ضخما وأسقط في يدي فالمبلغ لم يكن في جيبي مثلما لم يكن في تقديري.

وقلت " للمتر" هل يمكنك أن تضع الحساب على رقم حجرتي، وأعطيته رقم الحجرة وعرض " حافظ عفيفي باشا" أن يساعدني في الدفع لكنى شكرته، وعندما ذهبت في اليوم التالي لأدفع الحساب فوجئت بالمدير يبلغني بأن الحكومة البريطانية أعطت تعليمات بعدم أخذ نقود منها، لكنني عبرت عن إصراراى على الدفع لضابط الاتصال المرافق، الذي اتصل بدوره بوزارة الخارجية البريطانية، ثم أبلغني أن وزارة الخارجية تعتبركم ضيوف حكومة جلالة الملك طوال فترة إقامتكم ، وأنه لا أمل في محاولتي أن أدفع.

عندما علم حافظ باشا وطلعت حرب أصرا على أنني كنت أعرف ذلك مسبقا، وإلا لما دعوت أعضاء الوفد وعبثا حاولت أن أدافع عن نفسي دون فائدة، فقلت لهما القول المصري المشهور" يا ما في السجن مظاليم" فرد على طلعت باشا قائلا : و"ياما خارج السجن مجرمون".

من الأشياء الهامة التي كانت تجمعنا في السماء الأحاديث المستفيضة عن أسرار التغيرات التي حدثت في مصر من بداية العشرينات وكان المتكلم الرئيسي في مثل هذه الأمور هو حافظ عفيفي باشا لأنه عاش هذه الأسرار عن قرب، وشارك في الكثير منها، وكنت أخرج نوتتى وأسجل، فيضحك ويقول هل ستتحول من رجل أعمال إلى مؤرخ يا فرغلى؟ وأرد أنا قائلا ربما، لكن على ألا أدخل في السياسة ، كل ما أبغيه هو كيف أتفوق على الأجانب في مجال التصدير.

أما حسن صبري باشا فكثيرا ما دارت بين وبينه الأحاديث، وما أذكره له أنه قال لي إنه يكره بدلة التشريفات كراهية شديدة، ويشعر أنها مثل "البردعة" وعندما قلت ذلك لحافظ باشا على سبيل التفكه رد على قائلا إنه يكرهها لأنه" حمار" والغريب أن حسن صبري باشا ألف وزارة بعد ذلك بحوالي ست سنوات وعرض على أن أكون وزيرا فيها، والغريب أكثر أنه مات وهو يلقى خطاب العرش مرتديا بدلة التشريفات التي لم يكن يحبها رحمه الله.

وفى عام 1935 وفى ظل نفس الوزارة حصلت على لقب " بك" أما كيف ذلك، في هذا العام انتخبت وكيلا لبورصة البصل، وكان هذا المنصب يعد في أيامها منصبا هاما بعد سيطرة الأجانب على أعمال البورصة، واحتكارهم منصبي الرئاسة والوكالة لأقدم بورصة في العالم.

كان على بعد هذا الانتخاب أن أسافر إلى رحلة إلى خارج البلاد، وذهبت لتحية واستئذان الملك فؤاد قبل السفر، وعندما دخل الملك هرع لمصافحته، وأبلغته أنني مسافر إلى الخارج ، وعرضت عليه القيام بأية خدمة فشكرني بتعطف شديد، وقال لي تصحبك السلامة يا فرغلى بك، ولما كان نطق الملك ساميا لا عودة فيه فلقد شكرته بحرارة وخرجت من عنده مباشرة على ناظر الخاصة الملكية، وكان في ذلك الوقت على ما أذكره "الابراشى باشا " ويساعده " مراد محسن بك" وأبلغتهم بالنطق الملكي، وفى اليوم التالي نشر في الصحف الإنعام على محمد أفندي فرغلى رجل الأعمال ووكيل بورصة مينا البصل بلقب البكوية وهذه كانت أيضا من ضربات الحظ في حياتي.

نعود بعد هذا الاسترسال في الأحداث الشخصية إلى وزارة توفيق نسيم باشا وما كان من أمرها.

قلنا إن أول عمل قامت به وزارة نسيم باشا هو إلغاء دستور 1930 وحل البرلمان الذي انتخب على أساسه، كما أن الوزارة حاولت معالجة بعض الجراح التي تسببت فيها وزارة صدقي باشا .

لكت دستور 1923 لم يعد رغم تزايد الإلحاح على طلب إعادته سواء في صحف الوفد أو في صحيفة الأحرار الدستوريين ، وكلا الحزبين كان يبدو من صحفهما أنهما راضيا عن وزارة نسيم باشا .

وبمرور الأسابيع من عمر الوزارة لم يعاد الدستور ويبدو أن العائق هذه المرة كان المندوب السامي الذي كان دائبا على التعرف عن نقاط الضعف والقوة في البلاد، وفى هذه الأثناء تقريبا كانت علاقة الود قد بدأت بين أمين عثمان والمندوب السامي الجديد، وهذه العلاقة التي سوف يكون لها تأثير كبير في سير الأمور السياسية في البلاد.

راج هذه الأيام أيضا أن وزارة نسيم باشا التي ألغت دستور 1930 تفكر في وضع دستور وسط بين الدستورين، ولقد أكد لي هذا الكلام أمين عثمان بعد أيام قليلة من سماعي له.

تأكد ذلك في أواخر عام 1935 عندما نشرت الصحف الأجنبية، والمصرية تصريحا لوزير الخارجية البريطاني فحواه أن بريطانيا لا تمانع في عودة الحياة الدستورية إلى مصر ، لكنه أضاف قائلا: إن الممارسة أثبتت أن دستور 1923 ودستور 1930 غير صالحين.

وكان لهذا التصريح أثره، إذ تغير موقف الوفد من مؤازرته لوزارة نسيم باشا وبدأت صحفه تلمح بوجوب تخلى الوزارة عن الحكم، كذلك فعلت صحيفة السياسة لسان حال حزب الأحرار التي اتهمت الوزارة بأنها تنفذ السياسة التي يمليها المندوب السامي.

ولم يقتصر الأمر على الأحزاب وصحفها، بل إن المطالبة بالدستور امتدت إلى الجماهير، فبدأت المظاهرات تتحرك في أنحاء كثيرة من البلاد، وتدخل البوليس لفض بعضها، فحدثت مصادمات وأعمال عنف كان من نتيجتها موت أحد الطلبة على كوبري عباس بعدما حاصرت قوات الأمن الكوبري.

بعد هذه المصادمات أصبح موقف الحكومة حساسا ، وتزايدت مشاعر السخط تجاهها ، وبدا أن بقاءها موهونا برضاء المندوب السامي، ويبدو أن الأخير بدأ في التفكير جديا فئ الأمور بعد تزايد أعمال العنف والتخريب. وفى اللحظة التي تواترت فيها الأنباء عن استقالة الوزارة قيل أن المندوب السامي اتصل به يثنيه عن الاستقالة، ويبلغه بعدم اعتراض الحكومة البريطانية على إعادة دستور 1923.

في هذا الوقت أيضا تشكلت جبهة وطنية من قادة الأحزاب، وبعض رؤساء الوزارات السابقين، أرسلت هذه الجبهة خطابين إلى كل من الملك فؤاد، والمندوب السامي طالبوهم بإعادة دستور 1923.

ولم يتأخر الوقت كثيرا فقرب نهاية ديسمبر 1935 صدر مرسوم ملكي استجابة لرغبات الأمة بإعادة دستور 1923.

وبدا الإلحاح على إجراء الانتخابات لكي تعود الحياة الدستورية إلى البلاد، كما ألحت كل الأحزاب المصرية في اتصالاتها بالمندوب السامي على ضرورة إعادة المفاوضات للوصول إلى اتفاق حول نقاط الخلاف بين بريطانيا ، ومصر لكن السفير كان يرد دائما بأنه سيستشير حكومته وحكومته تقول إنه لا ضرورة للتسرع في هذا الأمر.

كان وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت قد أصبح "انتونى إيدن" الذي صرح للصحف بأنه لن يقرر أمرا في مسألة المفاوضات ، قبل مرور فترة يدرس فيها ملف القضية.

عندما كان شهر يناير سنة 1936 يسير نحو نهايته، كانت الجبهة القومية التي تشكلت لإعادة الدستور توالى اتصالاتها بالمندوب السامي ملحة في إعادة الدستور، وكانت وزارة " نسيم باشا " قد بدأت تفقد حرص القوى المؤثرة على وجودها، فالمندوب السامي غير متحمس لها رغم ولائها للانجليز، كما أن الملك فؤاد لم يعد متحمسا وكذلك الجبهة القومية.

بدأت الاتصالات وراء الكواليس لتشكيل الوزارة البديلة وقيل أن هناك فكرة لتشكيل وزارة ائتلافية، لكن حزب الوفد لم يوافق على هذه الفكرة بعد تجربته الأولى، وقيل يومئذ أن الرأي متجه لتشكيل حكومة محايدة تقوم بإجراء الانتخابات، ثم بعد ذلك تترك الأمر للحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية.

وأبدت صحف الوفد حماسة لاشتراك الحزب في وفد مفاوضات مؤتلف، لكنها لم تتحمس لفكرة الحكومة الائتلافية.

وبدأت الأسماء المرشحة تتداولها الألسن، فظهر اسم حافظ عفيفي باشا ، ثم بعد ذلك اسم على ماهر باشا الذي عين مند وقت قليل وزيرا للديوان الملكي، وكان موضع ثقة الملك فؤاد ، وإن كان السفير البريطاني ينظر نحوه نظرة لا تخلو من الشك وعدم الطمأنينة.

تشكلت س الوزارة برئاسة على ماهر باشا في أوائل فبراير سنة 1936 ،وحددت موعدا للانتخابات بعد ثلاثة شهور، وكانت هذه هي أولى المهام التي قامت بها أما المهمة الثانية فهي المساهمة في تشكيل وفد المفاوضات، وتشكل الوفد فعلا من رؤساء الأحزاب، وبعض المستقلين وبعض الوفديين ولقد علمت من أمين عثمان الذي عين سكرتيرا بوفد المفاوضات أن الحكومة البريطانية اعترضت على إشراك الدكتور أحمد ماهر الوفدي، وشقيق رئيس الوزارة وكادت تحدث أزمة نتيجة لذلك، ولكن " سير مايلز لامبسون" وجد حلا لهذه المشكلة ،وبقى أحمد ماهر بين أعضاء وفد المفاوضات، ويبدو أن اتهامه في حادث اغتيال " السيردار" في العشرينات كان سببا في هذه الأزمة.

كانت كل الأطراف تسعى من جانبها إلى توفير المناخ المناسب لإنجاح المفاوضات بحيث تبدأ في جو من التفاؤل والرغبة الصادقة في الوصل على نتيجة وقام بذلك الدور على ماهر باشا رئيس الوزارة المحايدة عن طريق اتصاله بالمندوب السامي البريطاني مؤكدا له أن عدم الوصول إلى نتيجة في المفاوضات يجب ألا يؤثر على العلاقات الودية بين الطرفين.

أما هيئة المفاوضات نفسها- حسب رواية أمسن عثمان- فقد بدأت اجتماعاتها لتحديد ماذا تريد بالضبط وأقصى ما تتمناه وأقل ما تقبل به.

في هذا الوقت تقريبا وبينما الاستعدادات للانتخابات البرلمانية تجرى على قدم وساق، إذا بالملك فؤاد يلقى ربه.

عندما حدث ذلك ظهرت مشكلات جديدة، المشكلة الأولى هي مشكلة ولى العهد الأمير فاروق الموجود في انجلترا ، والذي لم يكن قد بلغ السن القانونية بعد، المشكلة الثانية هي تسمية أعضاء مجلس الوصاية على ا لعرش، وحل المشكلة الأخيرة كان يقتضى الانتظار لحين عرض الأسماء على البرلمان الذي لم ينتخب بعد.

كان واضحا أن على ماهر باشا لن يترك رئاسة الوزارة قبل أن يعلن فاروق ملكا على البلاد، لذلك فقد بدأ يسعى للحصول على فتوى يؤيد حساب العمر بالسنوات الهجرية بدلا من الحساب الميلادي، وهذا كان من شأنه أن يقرب وصوله إلى سن الرشد المفترض.

وتم لرئيس الوزراء ما أراد ـ وتمت الانتخابات وفاز الوفد بالأغلبية في مجلسي البرلمان، وفى الأيام الأولى من شهر مايو سنة 1936 استقالت وزارة على ماهر باشا بعد أن أدت المهام التي كان عليها أن تؤديها . حينئذ تشكلت وزارة وفدية برئاسة النحاس باشا وانعقد البرلمان للموافقة على أسماء أعضاء مجلس الوصاية على العرش، وهم الأمير محمد على وشريف صبري باشا وعزيز عزت باشا .

بعد اكتمال الأركان الدستورية في البلاد، كان على هيئة المفاوضات أن تتابع أعمالها في ظروف أصبحت أفضل، فالدستور قد عاد والبلاد فيها برلمان وحكومة الأغلبية الشعبية هي التي تحكم، كما أن هيئة المفاوضات مشكلة من كفاءات مصرية، وتشتمل على كل القوى السياسية، والمندوب السامي يرجو أن تصل المفاوضات إلى نتيجة إيجابية، كما أن عنصرا آخر من عناصر التأثير، والذي كان يحمل عداء تقليديا لحزب الوفد قد اختفى من الساحة السياسية، ذلك هو الملك فؤاد أما مجلس الوصاية على العرش فلم يكن يستطيع أن يكون أكثر من صورة ، حيث أن مهمته موقوتة ومحددة بعودة الملك الشاب من الخارج لتسلم السلطة.

أما المفاوضات نفسها – فيقول أمين عثمان- فكانت تواجه مساومات عديدة، وكان أمين عثمان سكرتير الوفد قد قيض له أن يقوم بدور الوسيط في هذه المساومات، أما أهم المشكلات التي كانت تواجه المفاوضات، فكانت وضع القوات البريطانية في مصر، والعلاقات التي تربط البلدين في حالتي السلم والحرب والجيش المصري ووضع السودان وامتيازات الأجانب.

وعادت هيئة المفاوضات بعد أن توصلت إلى معاهدة لتعرضها على البرلمان وكتبت يومها صحف الوفد عن المعاهدة بأنها معاهدة الشرف ، والاستقلال بالرغم من أن المعاهدة لم تحقق كل الأماني المصرية، رأى البعض فيها الكثير من الثغرات إلا أن وفد المفاوضات استقبل بمظاهرات الفرح يوم عودته. أما رأيي في المعاهدة فإنها كانت أفضل بالتأكيد منعدم وجودها، لأنها انتزعت بعض الحقوق من فم الأسد البريطاني.

عرضت المعاهدة على مجلسي البرلمان، وأبدى بعض الأعضاء اعتراضهم على بعض نصوصها، ووقف رئيس الوزراء النحاس باشا وهو رئيس هيئة المفاوضات في نفس الوقت ليدافع عن المعاهدة دفاعا قويا ، وفى النهاية وافق البرلمان على المعاهدة بأغلبية ساحقة.

كان من شأن توقيع المعاهدة أن يقل تدخل المندوب السامي البريطاني في الشئون المصرية، كما أن الملك لم يتسلم سلطاته الدستورية بعد أي أنه قد أتيح للوزارة الوفدية مناخ مناسب لتعمل دون أية ضغوط.

كان على الحكومة أن تتابع المفاوضات في أمر هام هو امتيازات الأجانب في مصر، وسافرت هيئة المفاوضات إلى " مونتريه" مع ممثلين للدول صاحبة الامتيازات، واستمرت المفاوضات التي أسفرت في النهاية عن ما سمى " بمعاهدة مونتيره" وعلى أساس هذه المعاهدة ألغيت الامتيازات الأجنبية التي كانت تنتقص من سيادة المصريين في بلادهم نتيجة الأوضاع القانونية في الأمور القضائية، والمالية والأمنية، وبموجب هذه الاتفاقية انتهى وجود إدارات أجنبية في وزارات الداخلية والمالية والحقانية .

وارتاح الناس لهذا الذي تحقق ، وشعروا أن الأمور تسير في طريق أفضل بالنسبة لمستقبل البلاد.

وسوف أختتم أحداث هذا الفصل بحادثة شخصية كانت تمثل تطورا في حياتي على المستوى العام.

رشحت نفسي لرئاسة بورصة البصل، وكان خصمي في هذه المعركة أمين يحيى باشا وقيل يومها أنها منافسة غير متكافئة فخصمي أكبر منى سنا بكثير، وهو أخ لرئيس وزراء مصر القريب العهد عبد الفتاح يحيى باشا كما أنه باشا وأنا بك حديث العهد، وأمين يحيى باشا كان قد شكل ما يسمى بالاتحاد السكندري بعد خلاف بينه وبين محافظ الإسكندرية، شكل هذا الاتحاد بلدية الإسكندرية ولكي يضمن له التأثير في الحياة العامة في المدينة.

عندما علمت كل ذلك عن منافسي، وهو منافسي أيضا في مجال تصدير الأقطان، قلت في نفسي إما أن أخسر المعركة، فيكون عذري أن المنافسة غير متكافئة في نظر المهتمين، أو أن أكسبها فتفتح أمامي الطرق واسعة.

وحاولت أن ألجأ إلى الأساليب الدبلوماسية، فذهبت إلى مكتبه علني أقنعه بالعدول عن ترشيح نفسه، وبدأت حديثي بأن قلت له" يا عمى" فما كان منه إلا أن صاح قائلا "عمك إيه وبتابع إيه"وتحدانى أن نجح ، وأقسم أنه سيلقنني درسا لن أنساه.

جاء موعد الانتخابات وعندي شعور قوى بأنني سوف أحقق النجاح، وكانت مفاجأة عندما كنت أتلقى التأييد من المصدرين المصريين، والأجانب الذين كانوا أعضاء في الاتحاد السكندري الذي شكله منافسي.

أعلنت نتيجة الانتخابات ، وفزت بمنصب الرئيس وكانت المفاجأة لأمين يحيى باشا .

ولقد كان لهذا الانتصار صدى واسع في الأوساط المالية بقدر ما كان له صدى عظيم الأثر في نفسي، وكان مصدر سعادتي أنها المرة الأولى التي ينتخب مصري رئيسا لبورصة مينا البصل أقدم بورصات العالم، وكان على أن أثبت أن المصريين أهلا للثقة، ولم يكن الأمر صعبا ، فلقد شهد بذلك الأجانب أنفسهم.

والذي أدهشهم أن الرئيس المصري لبورصة البصل لم يكن مصريا وحسب، بل كان شابا أيضا وأصغر من شغل هذا المنصب سنا.

فاروق ملكا

في آخر يوليو سنة 1937 وصل الملك فاروق لتولى سلطاته الدستورية، واستقبل الناس هذا الأمر بقدر كبير من التفاؤل نتج من نظرة الناس إلى فتى في السابعة عشرة من عمره، تبدو على ملامحه البراءة، كما أن طلعته جميلة والناس حينما يفتقدون العلم بدخيلة الأشخاص يركنون في تكوين رأيهم إلى السمات الخارجية.

عاد ولم يكن قد أتم تعلميه، ولم يكن قد حصل على القدر الكافي من الثقافة أو الخبرة ولكن عند عودته استقبل استقبالا حافلا.

تولى الملك سلطاته الدستورية في هذا الجو المبشر بالخير، والظروف كلها مواتية فالوزارة الوفدية أتمت توقيع معاهدتين هامتين، والشعب تغمره الفرحة والتفاؤل.

أما المندوب السامي البريطاني، فيؤكد أمين عثمان أنه كان حريصا على احتواء مركز التأثير الجديد في السياسة المصرية ، وهو الملك الغلام كما كانوا يسمونه ، لذلك فقد أحاطه بمجموعة من المربين الانجليز لكي يبقى طوع يديه، لكن المعلومات التي كانت تصله من هؤلاء أكدت أن الفتى يحمل نفورا طبيعيا من كل ما هو انجليزي، مما جعل لامبسون يشعر بالقلق وظن أن هذا الأمر ربما يرجع على بعض أفرد الحاشية من الطليان وعلى رأسهم " فير وتشى" كبير المهندسين بالقصر.

وهؤلاء كانوا يملكون تأثيرا كبيرا على والده أحمد فؤاد الايطالي الثقافة.

قدمت الوزارة استقالتها إلى الملك الفتى بعد تسلمه سلطاته الدستورية، وفى أول أغسطس أعاد الملك تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة التالية، فهل يا ترى سارت الأمور بين الملك والوزارة على خير ما يرام، أم أن التصادم بدأ بينهما منذ الأيام الأولى لعودة الملك؟

بدأت المشكلات بين القصر والوزارة منذ البداية حينما أراد الملك أن يتم تتويجه في حفل ديني كبير، ولم توافق الوزارة على هذا الاقتراح، وبدأت مشكلة على صفحات الصحف، كادت تصل في النهاية على حد الأزمة لكن يبدو أن الوزارة استطاعت أن تقنع الملك بالتراجع عن هذا المطلب.

ولقد عزز من مركز الملك في مواجهة الوزارة الوفدية ظهور بعض الخلافات في قيادة الوفد، وكان من أثر ذلك خروج بعض الوزراء في التشكيل الجديد، ومن بين من خرجوا عضو وفدى بارز هو محمود فهمي النقراشي.

كما أن مشكلة أخرى استرعت الانتباه، وجعلت الوزارة محلا للنقد في الصحف المعارضة لحزب الوفد تلك هي ظاهرة الإرهاب التي انتشرت عن طريق فرق القمصان الزرقاء تلك الفرق التي كان يوجهها حزب الوفد، ويتفق عليها ، هذه الفرق هي التي كانت تقوم بتسيير المظاهرات، ومهاجمة المعارضين وإرهابهم ومحاصرة منازلهم، ومن الحوادث المشهورة في هذا الوقت أن هذه الفرق حاصرت منزل محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين، وحاولت الاعتداء على الرجل ، دون أي محاولة من رجال البوليس لمنعهم أو إثنائهم عن ذلك، ومن الأعمال المشهورة أيضا لهذه الفرق، اقتحام صحف المعارضة وتهديد كل من تسول له نفسه الاختلاف مع الحكومة أو نقدها.

وخرجت صحيفة البلاغ في يوم من الأيام لتقود حملة ضد الحكومة طاعنه في مسلك من مسالكها، وهو أن الحكومة تحابى أنصارها فتعينهم في المناصب الرئيسية، وتستبعد من كل الوظائف التي لها تأثير أي شخص لا ينتمي إلى الوفد، كما تنعم بالرتب والنياشين على أنصارها.

عندما سمعت كل ذلك اتصلت بأمين عثمان الذي أصبحت علاقته بالنحاس باشا وطيدة، كما أنه يراه في منزله يوميا تقريبا، فلم ينف هذا الذي كتب لكنه قال إن القيادة الوفدية تفعل كل ما تفعله الحكومات السابقة التي كانت تلجأ إلى الاستثناءات كما أنها – أي وزارة الوفد- تعين وفديين في المناصب الرئيسية ضمانا لتنفيذ سياساتها، وأضاف أن الوزارة بمجرد وصولها إلى الحكم تكون محاصرة بمطالب الأنصار، وهم كثيرون يطالبون بالإنصاف ويشكون من تنكيل الحكومات السابقة بهم. ولم أوافق أمين عثمان على هذا المنطق، وقلت له إن حكومة شعبية تتمتع بأغلبية في البرلمان لا تجوز أن تلجأ غل مثل هذا الأسلوب حتى لوفعلت ذلك وزارات أخرى.

أزمة أخرى نشأت بين القصر ووزارة الوفد حينما لجأ الملك إلى تعيين على ماهر باشا رئيسا للديوان الملكي، دون الرجوع إلى الحكومة في هذا الأمر الذي كانت تعتقد أنه من صميم اختصاصها.

كما أن الوزارة الوفدية كانت تحمل شكا متزايدا تجاه مطامع على ماهر باشا وتخشى تأثيره السىء على الملك صغير السن، لكن اعتراضات الحكومة لم تجد وبقى على ماهر باشا رئيسا للديوان.

أزمة أخرى حدثت بين الوزارة والقصر، وعندما أقول القصر فأنا لا أعنى الملك فقط، بل أن ذلك يمتد ليشمل من يوجهون الملك، ويملأون رأسه ، خاصة على ماهر باشا رئيس الديوان، وأحمد حسنين أمين الملك الأول.

أما ألأزمة فقد حدثت حول تعيين بعض أعضاء مجلس الشيوخ تقدمت بهم الوزارة، واعترض الملك على بعض الأسماء، وطلب تعيين غيرهم من الكفاءات التي لا تنتمي إلى حزب الوفد، لكن النحاس باشا أصر على موقفه، ولقد علمت من النحاس باشا بعد ذلك في حفل عشاء أن الذي كان وراء هذه الأزمة هو على ماهر باشا الذي يسعى إلى تخريب علاقة الملك بحزب الوفد، وربما قال لي ذلك النحس باشا بغية أن أنقل ذلك على ماهر باشا الذي كان يكثر من زيارتي في المنزل.

اقترح رئيس الديوان حلا لهذه الأزمة، الاحتكام إلى هيئة قانونية محايدة، تتكون من وزراء العدل السابقين، ووزير العدل الحالي، وبعض كبار المستشارين ، لكن النحاس باشا أصر على موقفه.

وهنا بدأ أمين عثمان يحاول تهدئة الموقف عن طريق الاتصال بالسفير البريطاني " مايلز لامبسون" صديق أمسن عثمان الحميم، ولقد حاول السفير أن يصلح الأمور بين الوزارة والقصر، لاقتناع السفير في ذلك الوقت، بأهمية بقاء حكومة الوفد في الحكم رغم تحفظاته على بعض مسالكها، خاصة وأن هتلر كان قد أطلق صيحة الاستعداد للحرب، كما كان السفير حريصا ألا يظهر بمظهر من يتدخل في شئون داخلية بعد توقيع المعاهدة، التي لم يجف حبرها بعد.

وفى الوقت نفسه كان السفير حريصا أيضا على كسب ود الملك الشاب، وكل ما فعله تدخل السفير أنه أجل خروج الوزارة من الحكم لأنه وجد أن الخلاف بين القصر الحكومة كان قد وصل إلى طريق مسدود.

ويبدو أن السفير لم يعد متحمسا لوزارة الوفد بعد كل الانتقادات التي وجهت إليها.

أما أمين عثمان فلم يكف عن المحاولة ، وأصبح الصراع كأنه بين على ماهر باشا رئيس الديوان، وأمين عثمان صديق السفير وموضع ثقة النحاس.

أما الأزمة داخل صفوف الوفد، فلقد أخذت أبعادا أخرى، عندما قبلت الحكومة مشروعا لتوليد الكهرباء من خزان أسوان، واردات الحكومة أو وزير المالية أن يرسى العطاء على شركة انجليزية بعينها مبررة ذلك بدواعي الكفاءة، ويعترض بعض الوزراء ويقترحون أن يطرح المشروع في مناقصة عالمية للحصول على شروط أفضل، وتتمسك الحكومة بموقفها.

تسربت أنباء هذا الخلاف لتصل على صحف المعارضة التي تحدثت عن الموضوع بتفصيل أكثر، وكان من نتيجة هذا الخلاف إخراج النقراشي باشا من الوزارة في تعديلها الأخير.

انتقل هذا الخلاف إلى الهيئة الوفدية ، التي أيدت رئيس الحزب ، ولم يقف في صف النقراشي إلا قلة كان من بينهم أحمد ماهر باشا رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت.

وبدأ النقراشي يدلى بالتصريحات ينتقد فيها الحكومة، ورئيسها مما حدا بالأخير أن يدعو الهيئة الوفدية إلى الاجتماع لتتخذ قرارا بفصل النقراشي من عضوية الوفد.

كان لهذا الانقسام بالإضافة إلى الخلافات بين القصر والوزارة، وكثرة الانتقادات التي وجهت للوزارة فيما يتعلق بالاستثناءات ـ وفرق القمصان الزرقاء. كل ذلك أعطى الملك أو على ماهر الذريعة القوية رغم محاولات أمين عثمان لدى السفير البريطاني، ورغم المظاهرات التي كان يحركها حزب الوفد، اتخذ الملك أمرا بإقالة وزارة النحاس باشا في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر سنة 1937، وكان هذا هو أول مرسوم إقالة يتخذه فاروق.

في هذا الوقت تقريبا خرج أحمد ماهر باشا ومجموعة أخرى من أعضاء الوفد، وأسسوا حزبا جديدا هو الحزب السعدي برئاسة أحمد ماهر باشا ثم النقراشي باشا .

أما خطاب الإقالة فقد جاء فيه أن الوزارة خالفت الدستور ولم تحترم الحريات وعجزت عمل أي إصلاحات.

كان شعور أمين عثمان- في هذه الفترة- مريرا لأنه خسر المواجهة مع رئيس الديوان على ماهر باشا ولأن أمين عثمان كان على ثقة في أن السفير البريطاني سوف يتدخل لصالحه، أي ليبقى على حكومة الوفد بعد أن استطاع إقناع النحاس باشا بحل تنظيم القمصان الزرقاء، لكن السفير في هذه الفترة التي لم يكن قد مضى فيها على توقيع معاهدة 1936 وقتا طويلا، كان حريصا على عدم الظهور بمظهر الذي يتدخل في شئون مصر الداخلية، كما أن بعض الأخطاء الجسيمة للحكومة حالت دون تدخله، وجعلته غير متحمس لهذا التدخل.

على ماهر باشا كان يفعل ذلك ليمهد لنفسه الطريق للوصول إلى منصب رئيس الوزارة، فعل يا ترى هو كان يبغى الوصول على هذا المنصب في هذه المرة؟؟ لا أعتقد ذلك فهو لم يكن عنده مانع في أن يأتي رئيس وزارة ينتمي على حزب سياسي يستطيع أن يقف في مواجهة الوفد، ثم بعد أن يطمئن على استبعاد الوفد ، يرسم الخطط لإبعاد الوزارة.

كلف محمد محمود باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وهو في هذا الوقت رئيس للحزب الثاني في البلاد حزب الأحرار الدستوريين ,كما أنه كان عضوا في هيئة المفاوضات التي وقعت معاهدة 1936، بالإضافة على ثقافته الانجليزية، كل هذه الصفات يسرت له حيازة قبول السفير البريطاني والملك الشاب .

وكانت هذه هي المرة الثانية التي يؤلف فيها وزارة ، وأعلنت أسماء الوزارة في 30 ديسمبر سنة 1937 على صورة وزارة قومية كبيرة من جميع الأحزاب عدا الوفد مضافا إلى ذلك بعض المستقلين، بالإضافة إلى بعض الخارجين – القدامى- على الوفد.

كان أول عمل قامت به الوزارة هو استصدارها مرسوما بحل البرلمان، وإبعاد كبار الموظفين الوفديين الذين يسيطرون على الشئون الإدارية في البلاد، وأعقبت ذلك بالإعلان عن موعد جديد للانتخابات البرلمانية.

لم يكد يمضى على تشكيل تلك الوزارة القومية أسابيع قليلة حتى أعلن أن الملك سيحتفل بزواجه من الآنسة" صافيناز ذو الفقار" التي لجأ إلى تغيير اسمها ليصبح " فريدة" كي يبدأ بحرف الفاء مثل اسم الملك، وعمت البلاد فرحة غامرة لهذا الحدث الاجتماع.

أقيم الاحتفال في قصر القبة ،وتوجهت أعداد هائلة من طوائف الشعب للتعبير عن غبطتها بزواج ملكها الشاب، أما الحفل فكان غاية في الأبهة والفخامة.

أجريت الانتخابات في جو محموم كانت الاستعدادات كلها قد اتخذت لإسقاط الوفديين، ولقد تم بالفعل بشكل لافت للنظر، فقد سقط كل أقطاب الوفد في هذه الانتخابات بما فيهام النحاس باشا ومكرم عبيد باشا أما الأغلبية فقد اقتسمهما تقريبا حزب الأحرار الدستوريين ، والحزب السعدي الجديد الذي تشكل أخيرا تحت رئاسة أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا .

كان من الطبيعي أن تتقدم الوزارة باستقالتها إلى الملك خاصة بعد الانتخابات البرلمانية، وبعد أيام قليلة كلف الملك محمد محمود باشا بتأليف الوزارة ثانية، ويبدو أن على ماهر باشا كان قد قرر وضع العراقيل في وجه الوزارة استكمالا لخطته.

ظهر ذلك عند محاولة محمد محمود باشا تأليف وزارته الثانية عندما أصر على ماهر باشا أن يفرض وزيرا بعينه هو البندارى باشا في الوزارة.

ولقد علمت من محمد باشا محمود وأنا أعوده في منزله أثناء مرضه أنه شعر منذ البداية أن على ماهر باشا مصر على إسقاط الوزارة بكل الوسائل، ليصل هو على المنصب الذي راوده كثيرا، وكان هذا أيضا هو رأى أمين عثمان باشا.

أ‘لنت أسماء الوزارة الثانية في أواخر شهر أبريل سنة 1938 دون أن تشتمل على أحد من أعضاء الحزب السعدي الذي يشارك الأحرار أغلبيتهم في البرلمان.

لم يكن قد مضى على تشكيل هذه الوزارة أكثر من شهر حتى بدأت متاعبها التي كان يقف من خلفها رئيس الديوان، بالإضافة على مهاجمة صحف الوفد التي كانت لا تكف عن اتهام الوزارة بأنها زورت الانتخابات.

لذا فلقد رأى محمد محمود باشا أن يقوم بإجراء تعديل في وزارته ليكسبها قوة، بإدخال الحزب السعدي معه في ائتلاف.

ففي أواخر يونيه، بدأ رئيس الوزارة مشاوراته لإعادة تأليف وزارته ولقد علمت من محمد محمود باشا نفسه أنه قدم بحوالي عشرة كشوف إلى الملك الذي كان يطلب منه إعادة النظر ، حتى وصلت الكشوف إلى هذا العدد، وفى النهاية أعلنت الوزارة المؤتلفة من الدستوريين، والسعديين بالإضافة على عدد قليل من المستقلين، ودخل الوزارة أحمد ماهر والنقراشي باشا .

ولقد كان هذا توفيقا من محمد محمود باشا فلقد توافر لهذه الوزارة قدر أكبر من الاستقرار أبقاها في الحكم أكثر من عام بقليل .

وفى صيف هذا العام 1938 كان محمد محمود باشا ضيفي على عشاء في منزلي بجناطليس حضره لفيف كبير من الوزراء، ورجال المال والأعمال ، عندما قال لي بلهجة ودود أنت مصدر كبير كما أنك صعيدي مثلى وتشغل منصب رئيس البورصة لكن ما الذي فعلته لنا؟

فرددت علي مرحبا : أنت تأمر يا دولة الرئيس.

فقال مبتسما : هل أنت واثق من ذلك؟ فرددت بثقة:

- بالتأكيد .
- إن كل ما أطلبه منك هو أن تعين لي عشرة من خريجي التجارة العليا في الشركات. وربما اعتقد البعض أن هذا العدد قليل ، لكن هذا العدد كان يمثل تقريبا ثلث الخريجين في عام .

ورجوته أن يعطيني مهلة خمسة عشر يوما.

وقبل مرور المهلة اتصلت به تليفونيا ،وأبلغته بأنني عينت له عشرة أضعاف هذا العدد المطلوب عن طريق الاتصال بشركات التصدر، ولا عليه ( أي رئيس الوزارة) إلا أن يرسلهم لتسلم أعمالهم.

وكان مرتب الخريج في هذه الأيام لا يتعدى الأربعة جنيهات في الحكومة.

ودهش رئيس الوزارة وشكرني بحرارة.

وربما كان من الأمور الطريفة أن أحد هؤلاء الشبان واسمه تامر كان من الكفاءة بحيث وصل مرتبه الأربعين جنيها يوم كانت المرتبات ضئيلة جدا، كما أن هذا الموظف ذاته استطاع أن يحقق في موقعه القيادي الجديد بفرع الشركة بالمنصورة ربحا للشركة قدره 40 ألف جنيه، مما دعاني إلى إعطائي 10% من هذا الربح مكافأة له على كفاءته. وكانت هذه عادتي في معاملة الموظفين " العطاء على قدر الجهد".

بدأت الوزارة الجديدة عملها بأن تقدمت إلى البرلمان ببعض مشروعات القوانين التي تحرم إنشاء أي تشكيلات عسكرية، أو شبه عسكرية، وكان هذا التصرف من الحكومة محاولة لقطع خط الرجعة على فرق القمصان الزرقاء، أو الخضراء التي عانت منها البلاد أثناء حكم الوفد .

مع بداية عام 1939 بدأت الخطوات التي تهدف لإعلان الحرب العالمية الثانية، فقد أعلن " أودلف هتلر" عن إلغاء القيود التي تضمنتها معاهدة " فرساي" والتي بمقتضاها تمتنع ألمانيا عن تسليح نفسها على حد معين، وبعد هذه الخطوة بدأ ينادى بوجوب استرداد ألمانيا لأراضيها التي فقدتها خلال الحرب الأولى ، بل إنه قرر بالفعل ضم الأراضي التي تمثل مجالا للدولة الألمانية، وضم كل ارض يتحدث شعبها اللغة الألمانية أو ينحدر من الجنس الآري.

وفى شهر مارس بدأ بضم النمسا وكان لهذه الأحداث المتلاحقة أثرها على العالم كله، وعلى مصر على وجه الخصوص ، خاصة وأن مصر تربطها ببريطانيا الخصم الرئيسي لألمانيا معاهدة عليها التزامات في حالة الحرب أو في حالة التهديد بها.

كانت المادة السابعة من المعاهدة تقتضى بـأن تضع موانيها ومطاراتها وطرق مواصلاتها في خدمة القوات البريطانية وإعلان الحكم العرفي.

وبدأت المناقضات في مصر عما يجب فعله، حال قيام الحرب ، فالناس لم يكونوا متحمسين للدخول في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقد تؤدى على تخريب مرافق البلاد، لأجل ذلك بدأت فكرة المناداة بحياد مصر تظهر على السطح، وكان أول من صرح بذلك هو إسماعيل صدقيباشا .

وعلى الجانب الآخر كان السفير البريطاني قد بدأ يشعر بالقلق من ذلك الشعور العام وبدأت فكرة عدم التدخل في الشئون الداخلية تتراجع أمام هذه الظروف الجديدة لذا- حسب رواية أمين عثمان- فقد بدأ يخطط لما قد تتمخض عنه الأحداث، ويتصل بالوزارة الموجودة في الحكم، أو الموجودين خارج الحكم من كبار الساسة.

أما الأحوال في الوزارة، فكانت صحة رئيسها قد بدأت تتدهور، وأذكر أن أمين عثمان قال لي في ذلك الوقت إن السفير البريطاني عرض عليه قبول منصب مساعد رئيس الوزارة المريض وكان هذا العرض من السفير لضمان أن يكون في الوزارة عنصر من عناصر التأثير لصالحهم، ويحوز ثقتهم وليس معنى ذلك أن محمد باشا محمود كان يفتقد إلى هذه الثقة، لكن تدهور صحته كان السبب في ذلك ، فمحمد باشا محمود كان من مجموعة قليلة تتمتع برضا وثقة السفير البريطاني.

هذا في جانب وفى الجانب الآخر كان رئيس الديوان على ماهر باشا لا يكف عن تدبير المؤامرات لإسقاط الوزارة.

وكان من نتيجة ذلك أن بدأت الإشاعات تروج في منتصف عام 1939 عن استقالة الوزارة، وتناثرت الأسماء المرشحة، فظهر على السطح اسم أحمد ماهر باشا كرئيس لوزارة ائتلافية، أو على ماهر باشا لرئاسة وزارة محايدة تقوم بإجراء انتخابات جديدة والاحتمال الثالث هو تشكيل حكومة ائتلافية من جميع الأحزاب بما فيها الوفد، تلك الفكرة التي لم يقبل بها الوفد أبدا بعد تجربته الأولى.

حادثة أخرى ربما تكون قد عجلت باستقالة الوزارة ، وهى تقديم استجواب في البرلمان عن تصرفات تمس نزاهة وزير الزراعة أدت على استقالته من منصبه.

كان لكل هذه العوامل مجتمعة أثرها في استقالة الوزارة في الأسبوع الثاني من أغسطس عام 1939. وكلف على ماهر باشا بتأليف الوزارة التالية.

على المستوى العالمي كانت هناك محاولة لوقف الاندفاع نحو الحرب تمثلت في زيارة رئيس وزراء بريطانيا لهتلر ،وصدور بيان متفائل عن هذا اللقاء، ولم يلتزم الزعيم الألماني بما دار بينه بين رئيس الوزراء البريطاني، لأن الأول كان قد شرع فعلا في الاستيلاء على أجزاء من أراضى " تشيكوسلوفاكيا" و" بولنيا".

وبعد مرور أيام قليلة على تأليف وزارة على ماهر باشا وبالتحديد في أول سبتمبر أعلنت الحرب العالمية الثانية.

تألفت وزارة على ماهر باشا بالتعاون مع السعديين والمستقلين الذين مثلوا أغلبية الوزارة، ورغم اشتراك السعديين إي أن شقيقه الدكتور أحمد ماهر لم يشترك معه في الوزارة، وهو مالم يحدث في أي وزارة سابقة أو لاحقة، وكان يقال إن الشقيقين لا يفضلان العمل معا.

على ماهر كان الشقيق الأكبر وكان يتميز بأنه قصير القامة لأجل ذلك فهو دائما يظهر مرتديا الطربوش الطويل، كما أنه يصبغ شعره .

ولم يكن ممن يفضلون الانتماء إلى أحزاب سياسية، ولم يكن ذلك دائما، فلقد انتمى إلى أحزاب في بداية حياته السياسية، ولكن بالقدر الذي يتيح له الوصول إلى أهدافه، وعند تأليف هذه الوزارة لم يكن منتميا على أي حزب سياسي.

اشتهر على باشا بالمكر، وكانوا يطلقون عليه لفظ الثعلب وعندما شكلت وزارته كانت في الصيف، وجاء لزيارتي في منزلي كعادته ، وعندما تطرق الحديث إلى تشكيل الوزارة الجديدة، سألني رأيي في تشكيلها فقلت له إن الوزارة تخلو إلى حد بعيد من الكفاءات يا دولة الرئيس فعقب على قولي قائلا:

إنه يفضل أن يكون أعضاء وزارته من محدودي الكفاءة على أن يكونوا من الكفاءات البارزة، لأن هذا ييسر له أمور الحكم، وتسيير دفة السفينة، ويقلل من الخلافات، والتنافس بينهم أما ثقافة على ماهر باشا فكانت قانونية بالإضافة إلى خبرة سابقة في المحاماة والقضاء.

بعد تشكيل الوزارة بأسابيع قليلة حدث حادث أثر كثيرا في نفسي هذا الحادث هو إقصاء طلعت حرب باشا عن إدارة بنك مصر وشركاته، فلقد كنت من المعجبين به أشد الإعجاب والمحبين له أشد الحب.

لقد أتيحت لي الفرصة أن التقى به ، وأسافر معه في وفد إلى لندن ، كما ساهمت معه في إنشاء بعض الشركات، وكانت أول مرة التقيت به فيها، لم أكن قد تعديت الثلاثين من عمري عندما ذهبت على مكتبي في الثامنة صباحا فوجدته في انتظاري حيث بادرني بالقول إنك لم تأت لزيارتي، وهأنذا أبادر بزيارتك، فشعرت بالخجل وقلت له: إن الذي منعني هو كبر مركزك وكانت جلسة ممتعة حدثته فيها عن مشروعاتي ، كما حدثني بإفاضة عن تجربته وكان آخر عمل تعاونا فيه هو مساهمتي معه في إنشاء شركة كفر الدوار.

طلعت حرب هو الذي استطاع بإدارته، أن ينشىء بنك مصر وينشئ أول صناعة مصرية صميمة، وأن يحقق أرباحا مجزية لمساهميه ويكتسب احترام الرأي العام.

اتصل أبى ذات يوم من القاهرة قبل تنحيته ، وقال لي: لقد وضعت باسمك مائة ألف جنيه كمؤسس في شركة كفر الدوار، ولم أتردد لحظة واحدة في الموافقة رغم علمي أن الظروف لم تكن مناسبة نتيجة الحرب، وبعد سنوات قليلة كان هذا المبلغ 400 ألف جنيه.

لقد عانى بنك مصر كما عانت غيره من المؤسسات الاقتصادية أزمة مالية طاحنة خلال مرحلة الثلاثينات، ولم تكن هذه الأزمة قاصرة على مصر، بل إنها الأزمة المالية التي طحنت العالم كله قبل الحرب العالمية الثانية.

وحاول مجلس إدارة البنك الخروج من هذه الأزمة، لكن حدثت خلافات داخل المجلس، مما دعا الحكومة السابقة إلى عرض مساعدتها لإخراج البنك من أزمته، لكن طلعت حرب بإصراره المعروف أصر على أنه سيخرج من الأزمة دون أن يكلف الحكومة أية أعباء.

بل إن البنك الأهلي في اجتماع مجلس إدارته، وكنت أحد أعضائه عرض محافظه الانجليزي تقديم مساعدة 3 ملايين جنيه إلى بنك مصر لإنقاذه من أزمته، والغريب أن بعض أعضاء المجلس من المصريين، عارضوا في تقديم هذه المساعدة، وأذكر أن المحافظ الإنجليزي قال لهم، إن نجاح بنك مصر في الخروج من أزمته هو نجاح لنا جميعا، وأن فشله سيعرض الاقتصاد المصري إلى كارثة محققة وهذا يعد فشلا للبنك الأهلي في القيام بواجبه.

وعندما أتت الوزارة الجديدة استدعى حسين سرى باشا بصفته وزيرا للمالية طلعت حرب باشا وأبلغه أن الحكومة مضطرة للتدخل لحل أزمة البنك حرصا على مصلحة المساهمين فيه، وفى شركاته ، وأنها- أي الحكومة- ترى أن الحل هو استقالة طلعت حرب وإذا لم يفعل ذلك ستجد الحكومة نفسها مضطرة على سحب ودائعها في البنك.

وإني لأتصور مقدار الذهول والألم اللذين ألما بالرجل الكبير حين سماعه هذا التهديد وخرج طلعت حرب يفكر في الأمر وما كان بمحب للمنصب، أو حريصا على البقاء فيه، لكن عز عليه أن يعامل هذه المعاملة بعد أن أمضى ما يقرب من عشرين عاما يبنى هذا الصرح الشامخ.

لم يكن يتصور أن تسحب الودائع فيهتز كل من بناه، لذا آثر الرجل الانسحاب في هدوء، ليحل محله حافظ عفيفي باشا.

ولقد خامرنى شك في أن على ماهر باشا كان وراء هذا القرار يدفعه إلى ذلك إبعاد حافظ باشا عن منافسته في المجال السياسي.

سكان على الحكومة المصرية أن تحدد موقفها من إعلان الحرب في أوربا، واجتمعت الحكومة ولم تجد مسوغا لإعلان الحرب على ألمانيا، لأن ميدان الحرب بعيد جدا عن مصر، لكنها وجدت تنفيذا لمعاهدة 1936 أن تعلن الأحكام العرفية التي يتحول بمقتضاها رئيس الوزارة إلى حاكم عسكري، كما تفرض القيود العامة على الحريات العامة مثل حرية الاجتماع، والتظاهر والرأي والصحافة.

وعرض ذلك على مجلس النواب الذي انتخب أحمد ماهر باشا رئيسا له، فوافق على ما أرادته الحكومة رغم أن أحمد ماهر باشا كان له رأى مختلف في مسألة الحرب فهو كان ن أنصار إعلان الحرب.

كانت أخبار الانتصارات الألمانية في أوربا تصل على المصريين فيستقبلونها بمشاعر متفاوتة، وإن كانت الغالبية تشعر بالفرحة.

في هذه الفترة اندحر الجيش البولونى في مواجهته مع الجيش الألماني، وبدأ الجيش الأخير يتجه صوب " بلجيكا" استعدادا لاحتلالها ، ودخلت الجيوش الانجليزية الحرب بجانب القوات البلجيكية لمقاومة الزحف الألماني، ولم تصمد هذه المقاومة كثيرا ، فما لبثت أن انهارت وكانت موقعة "دنكرك" الشهيرة ولم توقف الجيوش الألمانية ،بل واصلت تقدمها مثلما تفعل السكين في الزبد فاستولت على هولندة والدنمارك بنفس السهولة.

هذا الاكتساح بدأ يحقق أثره بنفوس المصريين وبدأت الهموم التي عانوا منها منذ عام 1882، تجعل الإعجاب الخفي يخرج على السطح إلى شماتة، تتناثر على الألسنة هنا وهناك ، ولقد قيل أيضا في ذلك الوقت إن الملك لا يخفى إعجابه بانتصارات الألمان.

ما كان ذلك ليترك إلا أثرا سيئا في نفس السفير البريطاني الذي لم يعد يخفى استياءه من الملك والحكومة، وبدأت أصابع الاتهام الانجليزية تتجه نحو حاشية الملك التي كان معظمها من الطليان، بدءا من كبير المهندسين وحتى مدرب الكلاب، كما أن المشرف على تربية الملك عسكريا وهو الفريق عزيز المصري كانت له ميول ألمانية لا يخفيها.

بدأ السفير الإنجليزي تحركات سريعة ليسيطر على الأحداث قبل أن يفلت زمام الأمور فاتصل برئيس الوزارة طالبا منه إعلان الحرب تنفيذا لبنود المعاهدة، ورئيس الوزارة يرى أولا: أن المعاهدة لا تحتم إعلان الحرب، كما أنه ثانيا: يرى أن إعلان الحرب لن يحقق أي فائدة لمصر أو لبريطانيا، وعندما يصر السفير على موقفه، يقول له على ماهر باشا إنه سيعرض الأمر على البرلمان، أو يحاول أن يأخذ من السفير وعدا،بإعادة النظر في معاهدة 1936 بعد انتهاء الحرب.

كانت كل هذه الأمور تحدث بينما الحكومة تمارس عملها خلال فترة الصيف من الإسكندرية، ودعوت رئيس الوزارة على العشاء في منزلي، وبعد العشاء حاولت أن أنقل لع بعض ما سمعته من أمين عثمان عن قلق السفير البريطاني ، لكن على ماهر باشا أكد لي أن علاقته بالانجليز على خير ما يرام ، وأنه يتلقى خطابات شكر من قائد القوات البريطانية في مصر على تعاون الحكومة معهم. ولم أكن مطمئنا في الحقيقة لما يقول.

وأثناء هذا العشاء تطرق الحديث إلى تدنى أسعار القطن حيث وصل سعر القنطار على حوالي 11 ريالا وعرضت على " على ماهر باشا" أن تقوم شركة فرغلى ببعض الإجراءات التي سترفع أسعار القطن، وعند ذلك قال رئيس الوزارة متحمسا: إذن لماذا لاتحضر جلسة الوزارة القادمة، وتعرض اقتراحاتك في مذكرة مكتوبة، وذهبت لحضور جلسة الوزارة في القاهرة، وكانت مفاجأة عندما اعترض وزير المالية في هذا الوقت قائلا: إنه لم يحدث أبدا أن دعي أحد رجال الأعمال من أصحاب المصلحة لحضور جلسة الوزارة، فرد على ماهر باشا بحزم قائلا: إنني رئيس الحكومة، ولى أن أدعو من أشاء لحضور جلسة الوزارة إن كان ذلك سوف يحقق مصلحة، وعرضت اقتراحاتي عندما تسربت أخبار ذلك الاجتماع إلى الصحف ارتفعت أسعار القطن تلقائيا لشعور المتعاملين في القطن بأن هناك تدبيرا ما.

يقول أمين عثمان باشا : إن السفير كان يشعر بالمرارة لموقف الحكومة، وموقف القصر وحتى موقف الشعب المصري، في الوقت الذي كانت الأنباء تصل من ميادين القتال عن انتصارات الألمان، واحتلالهم للنرويج. ولم يكن الوفد على علاقة طيبة بالسفارة البريطانية خاصة وأنهم يشعرون بالمرارة، لأن السفير لم يبذل اى جهد لمنع إقالتهم عام 1937.

لم يكن الملك ورئيس حكومته مستريحين لتلك العلاقة القوية التي تربط أمين عثمان بالسفير البريطاني وبالنحاس في نفس الوقت، لذا فبمجرد أن حانت الفرصة اتخذ على ماهر باشا قرارا بإقالته من منصبه الحكومة، ولقد حاول السفير أن يطيب خاطر أمين عثمان فأوصى لدى محافظ البنك الأهلي " سير إدوارد كوك" بأن يعين أمين عثمان عضوا لمجلس إدارة البنك وكان له ما أراد.

لكن السفير البريطاني لم ينس لرئيس الحكومة هذا الموقف، واعتبره موجها ضد بريطانيا وأنه تم بإيحاء من الملك ، وجاءت الإقالة لتزيد من شكوك السفير في مسالك رئيس الحكومة.

أما أمين عثمان نفسه فقد كان يرى أن منصبه في إدارة البنك الأهلي أفضل بكثير من منصبه كوكيل سابق لوزارة المالية، لكنه لم ينس ما فعله على ماهر.

الأيام تتوالى والأزمات تتفاقم بين الحكومة والسفير، والسفير يضغط بكل قواه لكي يجبر على ماهر باشا على إعلان الحرب، لكن الأخير يستجيب لكل شيء إلا قرار إعلان الحرب، ولا يفتأ يردد في مجالسه الخاصة أن علاقته بالجنرال " ويلسن" قائد القوات البريطانية على ما يرام.

ولقد سمعنا في هذه الأيام أن الطائرات الألمانية ألقت قنابلها على باخرة مصرية تدعى " فوزية" ومرت الأيام لأسمع من على ماهر نفسه أن الذي فعل ذلك كان الإنجليز، وادعوا أن الألمان الذين فعلوها في محاولة لإجبار الحكومة المصرية على إعلان الحرب على ألمانيا.

حادثة أخرى علمت بها من أمين عثمان باشا وهى أن السفير البري طاني طلب استبعاد الفريق عزيز المصري من رئاسة أركان الجيش، لأنه أبدى إعجابه بالجيش الألماني ، وهو جالس في أحد المحال العامة وسط القاهرة، ويماطل رئيس الحكومة في البداية لكنه في النهاية يذعن لرغبة السفير ، ويقيل عزيز المصري باشا من منصبه.

عندما شعر رئيس الوزارة أن السفير يضيق من حوله الخناق قرر أن يبتعد عن القاهرة ، فقام بزيارة إلى السودان.

في هذا الوقت كانت القوات الألمانية تدخل الراضي الفرنسية بعد مقاومة ضعيفة، وتصل على مشارف باريس، ولم يجد قائد القوات الفرنسية " الجنرال بيتان" بدا من طلب إعلان الهدنة، وانتقل بحكومته اى مدينة فيشى، وبدأت تظهر بعض المنشورات التي تتهم الإنجليز بأنهم وراء إقالة عزيز المصري الذي كان يتمتع بشعبية جارفة، وكانت المنشورات تطالب بعزل السفير البريطاني.

بعد ما سقطت " تشيكوسلوفاكيا، والمجر، وبولونيا، وبلجيكا، والدنمارك، والنرويج، وهولندة" ووصلت القوات الألمانية إلى مشارف العاصمة الفرنسية، أعلنت إيطاليا دخولها الحرب إلى جانب ألمانيا، وهنا بدأت مظاهر أزمة جديدة بين رئيس الحكومة والسفير الذي طلب من الحكومة تحديد موقفها من إيطاليا.

وتحتج الحكومة المصرية على دخول إيطاليا الحرب، وتعلن عن قطع العلاقات مع إيطاليا التي تملك قوات في ليبيا، أما قرار إعلان الحرب فلم يقدم عليه رئيس الحكومة إبقاء على مصر خارج الصراع الدائر بين الحلفاء والمحور، ويجتمع البرلمان ليؤيد سياسة الحكومة.

ويحتاط السفير ويطلب الاجتماع برئيس الحكومة، ويطلب منه اعتقال بعض المصريين الذين يمثلون خطرا على القوات البريطانية ، ويقدم لرئيس الحكومة قائمة تحمل أسماء بعض الساسة من بينهم إسماعيل صدقيباشا وأحمد كامل مدير بلدية الإسكندرية، وأحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة،لكن على ماهر باشا لا يجد ما يبرر هذا الاعتقال فلا ينفذه.

وبدا أن السفير قد فاض به الكيل من سلوك على ماهر باشا وعلى العكس أصبح على ماهر باشا في نظر الكثيرين من أفراد الشعب بطلا يقف بصلابة في وجه الانجليز، لذا فقد خرجت بعد المظاهرات تهتف بحياته ولم يكن أحد في ذاك الوقت يعرف دوافع الرجل من وراء ذلك، هل كان يراهن على انتصار الألمان؟ أم أنه كعادته كان يحاول أن يركب الجواد الذي سوف يربح، أم أنه كما قال لي كان يحافظ على كرامته، وكرامة بلده ، وعندما سألن أمين عثمان عن رأى السفير صراحة في على ماهر قال أمين عثمان إن السفير يرى أن على ماهر يحقق الكثير من رغباتنا، ولكن بأسلوب غير المقتنع أو المكره على ذلك، وهو – أي السفير- يريده أن يفعل ذلك بقناعة وإخلاص.

وبعد منتصف شهر يونيه يتوجه السفير البريطاني إلى القصر الملكي غاضبا ليعبر للملك عن عدم رضاه عن سلوك الحكومة، ولينقل على الملك بعض الشائعات التي تتردد عن تعاطف الملك مع المحور بل وتصل الشائعات على حد اتهام الملك بأن له اتصالات سرية بالحكومة الايطالية، ويطلب من الملك أن يضع حدا لذلك ويحمله مسئولية ما قد يحدث. كان ذلك في يونيو 1940 بقصر المنتزه عندما طلب السفير من الملك تغيير الوزارة وطالبه بالمساعدة في إيجاد حكومة أكثر فهما لمعاهدة 1936، وتنفذها شكلا وروحا ، وتتردد في هذا الوقت شائعة أن الملك سيهرب لكنه لا يفعل ذلك بل يعود إلى القاهرة ويدعو كبار الساسة على اجتماع بقصر عابدين ، ويحضر هذا الاجتماع كبار زعماء مصر، على ماهر ، إسماعيل صدقي، أحمد زيور، ومصطفى النحاس أحمد ماهر ، عبد الفتاح يحيى، وغيرهم .

ويعرض الملك ما حدث بينه وبين السفير الانجليزي- وكالعادة- يترك لهم الاتفاق الذي يحقق مصلحة البلاد، لكنهم اختلفوا على كيفية الخروج من الأزمة كالعادة حسب رواية أمين عثمان رفض الوفد الاشتراك في وزارات ائتلافية، وفضل وزارة محايدة تجرى الانتخابات النزيهة التي سوف تأتى بأغلبية برلمانية يكون من حقها أن تؤلف الوزارة ، وبالطبع كان الوفد على ثقة من الحصول على هذه الأغلبية.

شعر على ماهر باشا أن السفير البريطاني مصر على إخراجه، فبعد انفضاض الاجتماع توجه إلى البرلمان، وألقى بيانا حمل فيه على موقف انجلترا من الحكومة المصرية، كما ألقى على الحكومة البريطانية تبعة هذا الوضع الذي وصلت إليه العلاقات بين الحكومتين، ولمح بأنهم يتدخلون فى شئون البلاد ويخرقون معاهدة 1936 وبعد هذه الكلمة توجه إلى القصر وقدم استقالته إلى الملك فاروق.

وقبل الملك الاستقالة، واستدعى زعماء الأحزاب ورؤساء الوزارات السابقين، ورئيسي مجلس النواب والشيوخ ليأخذ رأيهم في كيفية الخروج من الأزمة.

وفى هذا الاجتماع أصر زعيم الوفد على موقفه من فكرة الوزارات القومية، وتمسك بفكرة الوزارة المحايدة التي تحل البرلمان وتدعو إلى انتخابات جديدة، وعلى صخرة هذا الموقف تكسرت أي محاولة لتشكيل وزارة قومية.

ويقول أمين عثمان إن السفير لم يكن عنده مانع من تحقيق رغبات الوفد، لأنه في النهاية سوف تأتى وزارة شعبية، يرأسها الرجل الذي وقع معاهدة 1936.

عندما وصل الأمر إلى هذا الحد تردد اسمان من الأسماء التي يرضى اعنها الإنجليز .

حافظ عفيفي باشا ، حسن صبري باشا وكلاهما كان سفيرا لمصر لدى انجلترا، وعلاقتهم بالسفير طيبة.

وفى النهاية يميل الميزان نحو الأخير الذي يبدأ في اتصالاته لتشكيل وزارته، وهنا تحدث مفاجأة لم أكن أتوقعها، فبينما أنا في منزلي بالإسكندرية إذا بحسن صبري باشا يطلبني بالتليفون، ويطلب منى السفر لمقابلته في القاهرة، وعندما التقى به يعرض على أن اضطلع بوزارة من الوزارات، وفهمت أنه وزارة المالية، ولقد تأثرت لثقة الرجل هذه الثقة التي أعتقد أن لقاءنا في لندن سنة 1934 كان سببا في نموها، واعتذرت للرجل وشكرته وكانت مبرراتي اننى أفضل البعد ما استطعت عن المناصب السياسية التي قد تأخذني من عملي الذي هو في أمس حاجة إلى ، وقلت له إنني أضع نفسي وخبرتي تحت تصرف الوزارة في أي وقت ، ولكن بعيدا عن منصب الوزير.

وتتشكل الحكومة من المستقلين ومن الأحزاب الأخرى عدا الوفد، وتبدأ الحكومة جلساتها بمناقشة موقف مصر من إعلان حالة الحرب ، وتنقسم الحكومة إلى أغلبية وأقلية . الأغلبية ترى تجنيب مصر ويلات الحرب ، والأقلية " الوزراء السعديين" يرون ضرورة ‘لان الحرب، ونتيجة لهذا الموقف يستقيل الوزاري السعديون من الوزارة، ولم يكن حسن صبري باشا ليأخذ هذا الموقف إلا بعد جس نبض السفير البريطاني.

ويقول أمين عثمان إن وزارة الخارجية البريطانية كانت قد وصلت في ذلك الوقت إلى قناعة بأن من الأفضل للقوات البريطانية عدم إعلان الحرب.

لكن السفير تقدم بطلبات أخرى تتعلق بتنقية الجو حول الملك، فطلب اعتقال على ماهر باشا وإخراج عبد الوهاب طلعت رجل على ماهر من القصر، وإخراج الطليان من حاشية الملك، ولم يجد حسن صبري باشا فئ طلب السفير ما يبرر استخدامه لحقه كحاكم عسكري، فقال للسفير إنه إذا كان مصمما على هذه المطالب فسوف يتقدم باستقالته. ولما وجد السفير رئيس الوزارة وقد صمم على استقالته ، رأى أن يعطيه فرصة أخرى.

استجاب رئيس الوزارة لبعض رغبات السفير، فنقل عبد الوهاب طلعت من منصبه في الديوان إلى وظيفة أخرى، وسعى إلى تعيين أمين أول الملك أحمد محمد حسنين باشا رئيسا للديوان الملكي. أما فيما يتعلق بالطليان ، فقد تمسك بهم الملك مما أجل إخراجهم إلى حين .

وتحدث مفاجأة فبينما رئيس الحكومة يلقى خطاب العرش في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، وهو في كامل صحته إذا به يسقط ميتا.

وكان لابد إرضاء للسفير البريطاني، أن يكلف القصر رجلا من رجال الانجليز، ودارت التخمينات هذه المرة هل هو حافظ عفيفي باشا أم حسين صبرا باشا ، ويكسب الأخير وهو مهندس ابن مهندس ثقافتهما انجليزية، وكان الأب من أعظم مهندسي العالم، احتكر شغل منصب وزير الأشغال في وزارات عديدة، وكانا على علاقة طيبة بالانجليز، كما كان الابن عضوا في مجالس إدارات عدد من الشركات الأجنبية وحاول الرئيس الجديد إقناع الوفد بالدخول في الوزارة لكنه فشل، فتشكلت الوزارة من المستقلين والأحرار الدستوريين.

لم تختلف سياسة الوزارة الجديدة عن الوزارة السابقة عليها فيما يتعلق باتباع سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب ، وفى أثناء فترة حكم هذه الوزارة كانت قوات المحور تحقق انتصاراتها، وكان باديا أنها ستنتقل بثقلها إلى الساحل الأفريقي لدعم القوات الإيطالية في ليبيا.

في هذه الفترة تطلب الحكومة البريطانية من الحكومة المصرية تحويل رصيدها من الذهب إلى جنوب أفريقيا، أو السودان تحسبا لما قد تأتى به الحرب، كذلك ينتشر خبر خطير بأن عزيز المصري وزميل آخر له استقلا طائرة من طائرات السلاح الجوى، وحاولا الهرب لكن الطائرة سقطت بهما قرب مدينة بنها.

في هذه الأثناء أي في بداية عام 1941 يموت محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين ويذهب إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة، ليحل محله في رئاسة الحزب الدكتور هيكل الذي كان وزيرا في وزارة سرى باشا وكان أمي عثمان في منزلي تلك الليلة، وعندما علم بوفاة محمد محمود باشا حزن حزنا شديدا وقرر السفر لحضور الجنازة، فقد كان يعتبره من كبار رجالات مصر السياسيين وكذلك كنت أعتبره من أنظف الساسة المصريين وأكفأهم .

كرر الانجليز مطالبتهم باعتقال على ماهر باشا ويبدو أن رئيس الحكومة لم يوافق على هذا المطلب ، لكنه نشر في الصحف مقالا ناشد فيه على ماهر باشا أن يكف عن أي نشاط يمك أن يتسبب في مشكلات للحكومة المصرية، ويرد على ماهر باشا مقدرا ظروف الحكومة وواعدا بعدم إحراجها.

وسط هذه الظروف وبينما كنت جالسا إلى مكتبي إذ بالتليفون يدوى، وكان على الجانب الآخر رئيس الوزارة سرى باشا الذي طالبني بأن أسافر للقائه في مكتبه بالقاهرة.

عندما جلست في مواجهة رئيس الحكومة، قال الرجل بابتسامة عريضة، عندي خبر سوف يسعدك، ثم أخرج من درج مكتبه براءة الحصول على الباشوية وأردف متسائلا :هل سبق وأعطاك أحد مثل هذا؟

فشكرته بحرارة، وقلت له ليست أقصى طموحي، فرد الرجل متعجبا ومشيرا إلى كرسي الوزارة أتطمع في هذا أيضا؟ فقلت له مداعبا : الشيء الوحيد الذي لا أطمع فيه أو أتمناه هذا الكرسي فرد قائلا: لماذا؟ فقلت: لأنه مهتز دائما وخائن يا دولة الرئيس.

كان ذلك في صيف 1941 وفى هذه الفترة أيضا أعاد حسين سرى باشا تأليف حكومته، بأن ضمن إلى الوزارة من الحزب السعدي لكي يكسبها قوة، خاصة في البرلمان الذي يملك فيه ذلك الحزب عددا كبيرا من المقاعد.

عندما كان يناير سنة 1942 نزلت قوات ألمانية بقيادة "روميل "إلى الأراضي الليبية لتعضيد القوات الايطالية التي لم تستطيع أن تحقق نتائج إيجابية في مناوشتها مع القوات الانجليزية.

يزداد السفير البريطاني عصبية، ويطلب من الحكومة قطع علاقتها مع حكومة فيش المستسلمة، والاعتراف بحكومة الجنرال ديجول التي تأسست في الخارج وتجتمع الوزارة، وتقرر إيقاف علاقاتها مع حكومة فيشى في الوقت الذي كان فيه الملك بعيدا عن القاهرة في رحلة صيد.

وعندما يعود الأخير يثير أزمة حول سلطة الحكومة في إقامة أو قطع العلاقات الدبلوماسية ويعتبر أن هذا العمل من صميم سلطاته الدستورية، كما اعتبر أن الحكومة بهذا العمل اعتدت على أحد اختصاصاته.

وتنشأ أزمة يكون أطرافها الملك في جانب ثم رئيس الوزارة ووزير خارجيته في الطرف الآخر.

ويتدخل السفير بأهمية وجود حكومة شعبية، ويبدأ أمين عثمان في ممارسة دور أكثر نشاطا، وعندما يطرق شهر فبراير الأبواب تكون مصر كلها مقبلة على أزمة كبرى سوف تكشف عن الأحجام الحقيقية لقوى التأثير في السياسة المصرية.

حادث 4 فبراير

قد يعجب البعض لإفرادي عنوانا مستقلا لهذا الحدث السياسي، لكن الذي قد لا يعرفه البعض أن هذا الحدث على قصر الوقت الذي استغرقه، كان خطا فاصلا بين الأوضاع التي سبقته ، والأوضاع التي جاءت من بعده.

لقد كان هذا الحادث سببا في تغييرات عميقة في التربة السياسية المصرية، تغير وضع الملك بعد هذا الحادث، كما تغير وضع الحزب الشعبي " حزب الوفد" وتغير موقف الناس منه، وظهرت الأحجام الحقيقية لقوى التأثير في توجيه السياسية المصرية، كما ظهرت نتيجة لهذا الحادث قوى سياسية أخرى مثل قوى اليسار والإخوان المسلمين ، أما الجيش المصري فربما كان أكثر المؤسسات التي أثر فيها هذا الحادث.

وربما يعجب البعض أيضا من كتابتي عن الحادث ، رغم أنني لم أكن وزيرا أو مسئولا في موقع من مواقع السلطة يتيح لي الرؤية أو المشاركة، لكن الذي قد لا يعرفه هذا البعض جيدا وهذا ما أشرت إليه من قبل أن صداقة متينة الأواصر كانت تربطني بأمين عثمان باشا ، وهو أحد أبطال هذا الحادث بشكل من الأشكال، هذه العلاقة أتاحت لي معرفة تفاصيله في حينها، وقبل أن أسرد التفاصيل التي مهدت له، والتفاصيل التي أعقبته ربما كان حريا بى أن ألقى بعض الضوء على أمين عثمان وعلى طبيعة علاقتي به.

تعرفت بأمين عثمان ونحن تلامذة في كلية فكتوريا بالإسكندرية، رغم أنه كان يسبقني في الدراسة بسنتين دراسيتين، ونمت العلاقة مع الوقت إلى أن سافر هو لاستكمال دراسته في جامعة أكسفورد بانجلترا، ثم يعود ويعمل بالتدريس لوقت قليل في كلية فكتوريا، بدأ تفكيره السياسي مثل معظم الشباب المصري متعاطفا مع الوفد، لكنه لم ينتم إليه، بعد ذلك عمل موظفا في مكتب مكرم عبيد باشا ثم عمل مفتشا للشئون المالية في مديرية البحيرة، ثم مديرا للضرائب، وعندما وصل إلى منصب وكيل وزارة المالية ، كان من أصغر من شغلوا هذه الوظيفة سنا، سافر سكرتيرا في وفد المفاوضات الذي وقع معاهدة سنة 1936 ، شغل أيضا منصب رئيس ديوان المحاسبات ، ومن أبرز العلامات في حياته السياسية صداقته الوطيدة بالسير مايلز لامبسون السفير البريطاني في مصر.

عرض عليه النحاس باشا منصب الوزارة، لكنه لم يقبله إلا بعد إلحاح من السفير البريطاني في يونيه عام 1943 ، ولمدة لا تزيد على العام بقليل.

أما من حيث التكريم ، فلقد حصل على لقب الباشوية عام 1937 بناء على تزكية من النحاس باشا ، ولم يكن حينئذ قد تعدى الثامنة والثلاثين من عمره.

كان من القلائل الذين حصلوا على اللقب الانجليزي "سير" ولقد تم ذلك بالطبع بناء على تزكية من السفير البريطاني، كما منحت زوجته لقب "ليدى" ومن الألقاب النادرة التي أنعم عليه بها لقب فارس الإمبراطورية ، وهذا اللقب كان يعطى للقلائل من الأجانب وهو غالبا كان قاصرا على الانجليز.

أما عن ظروفه الشخصية ،فلقد نشأ في أسرة ميسورة الحال واعتقد أن من الحوادث التي أثرت في حياته حادث موت أخيها لأكبر غرقا عندما كان أمسن في السادسة عشرة، حيث حاول الأخ الأكبر إنقاذه أي أمين من الغرق فمات الأخ الأكبر حين اصطدم بصخرة بعد أن أنقذ أمين، ولقد ظل أمين يشعر بالذنب طوال حياته لدرجة كانت تجعله يصحو من النوم فزعا صارخا.

أما عن أسباب صعود نجم أمين عثمان سريعا فأتصور أن ذلك كان راجعا إلى عدة عوامل من بينها ذكاؤه الشديد، وثقافته الانجليزية ، وقدرته على العمل لساعات طويلة، وتلك العلاقة الوطيدة التي ربطته بالسفير البريطاني، إضافة على موقفه السياسي الذي لم يتغير فلقد كان متعاطفا مع الوفد رغم عدم انتمائه إليه، وكان محل ثقة النحاس باشا ثم إنه كان يرى أن مصر يمكن أن تحقق تقدما في مختلف الميادين من خلال الاستفادة من المدنية الانجليزية، أما حل المشكلات بين بريطانيا ومصر، فكان يرى حيث لا توجد القوة العسكرية، أو السياسة المؤثرة أن التفاهم هو الأسلوب الأمثل لحل تلك المشكلات.

لقد كانت حياته السياسية محاولة للتوفيق بين عاطفتين قويتين، حبه الشديد لوطنه وانبهاره بالمدنية الانجليزية.

أما الملك فاروق فكان يحمل نفورا نحو أمين عثمان ، كذلك رجل القصر الأول أحمد حسنين باشا الذي كان ينظر لأمين عثمان كخصم بالرغم من تظاهره بالود نحوه.

لقد لعب أمين عثمان دور المهدئ في السياسة المصرية، وهذا الدور كان يبدو جليا عند ظهور أي أزمات يكون السفير طرفا فيها، وهو غالبا ما كان طرفا في معظم الأزمات، لعب أمين عثمان هذا الدور أثناء وزارة النحاس سنة 1937 ، عندما حاول منع إقالة الوزارة ولعب نفس الدور أثناء وزارة محمد محمود باشا التي تلت وزارة النحاس وفى أثناء تولى على ماهر ساءت العلاقة بين الأخير والانجليز وبالتالي بأمين عثمان، ثم عاد أمين عثمان ليلعب دورا أكثر نشاطا قبل وأثناء وبعد حادث 4 فبراير ، فهل كان أمين عثمان عميلا للانجليز كما اتهمه البعض ، هذا ما سوف أجيب عنه عند الوصول بالذكريات إلى حادث قتل أمين عثمان سنة 1946.

نعود مرة أخرى إلى الظروف التي مهدت لحادث 4 فبراير سنة 1942، كانت الحرب تدور رحاها بين قوات المحور وقوات الحلفاء في ميادين متفرقة من بينها الساحل الأفريقي، وبالتحديد في الصحراء الليبية، ولم يكن حال القوات البريطانية يسر فالقائد الألماني روميل يتقدم محققا الانتصارات، وذلك كان يقع موقعا طيبا في نفوس الكثيرين من المصريين.

والملك فاروق تدور حول تأييده لقوات المحور الشائعات، وها هو قد عاد من رحلة صيد في البحر الأحمر ليصنع أزمة حول إيقاف حكومة حسين سرى علاقاتها بحكومة "فيشى" المستسلمة، وإقامة علاقة بديلة مع حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديجول مما أدى بوزير الخارجية "صليب سامي" إلى الاستقالة التي جعلت رئيس الوزارة يتعاطف معه، ويلوح بالاستقالة هو الآخر ويغضب لذلك السفير البريطاني الذي تم إيقاف العلاقات تحقيقا لرغبته.

في ذلك الوقت أيضا تخرج بعض المظاهرات الجماهيرية تهتف بحياة روميل وحياة الملك، كما توزع المنشورات المعادية للسفير والانجليز فئ أماكن كثيرة.

ويقول أمين عثمان إن السفير بدأ يشعر أن الأمور تسير نحو الأسوأ بالإضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية في مصر نتيجة الحرب، وحزب الوفد خارج الحكم يهاجم الانجليز.

والقوات البريطانية أصبحت أكثر من أي وقت مضى شديدة الحاجة إلى قاعدة آمنة مستقرة.

لذا – وفى جلسة جمعت السفير بأمين عثمان- حدد الأول ما يريده في مجموعة من النقاط هي:

1- إن هدوء واستقرار الأحوال الداخلية في مصر في هذا الوقت ضرورة ملحة لاستقرار خلفية القوات البريطانية.
2- إن الملك فاروق بتوجيه بعض من يملكون تأثيرا قويا عليه أصبح خطرا على ذلك الاستقرار المنشود، وحدد السفير هؤلاء بعلي ماهر باشا ،وبعض رجاله وأفراد الحاشية من الطليان ، وأن الضرورة قد تقتضى الوقوف في وجه الملك، وبحزم حتى لو أدى الأمر إلى تنحيته، وسوف يبدأ هذا الحزم بفرض إعادة وزير الخارجية المستقيل.
3- إن الاستقرار في مصر يقضى بأن تكون فئ السلطة حكومة قوية يؤيدها الوفد، أو يشترك فيها.
ويكمل أمين عثمان قائلا: إنه بعد سماعه لهذا الحادث ذهب إلى النحاس باشا وعرض عليه ما سمعه من السفير البريطاني ، ويوافق النحاس باشا على تحليل السفير ، لكنه يفضل أن يتولى الوفد منفردا السلطة عن طريق انتخابات برلمانية سوف يحصل فيها الوفد على الأغلبية، وهو يرفض الاشتراك في أي وزارة ائتلافية ، ذلك لكي يتحمل مسئولية ما سوف يترتب على تأليف الوزارة.
ويعود أمين باشا إلى السفير ليحمل له وجهة نظر النحاس باشا ، ويستعرض مع السفير الاحتمالات المختلفة.

وفى نهاية الجلسة يصل السفير على قناعة بأن حكومة وفدية على رأسها النحاس باشا سوف تضمن عدة أمور:

1- تحقيق رضاء الجماهير العريضة التي تؤيد حزب الوفد ، وكسب دورها.
2- إن النحاس باشا بما يملك من شعبية هو الشخص الوحيد القادر على الوقوف في وجه الملك وأعوانه، وهو القادر على اتخاذ قرارات قوية بتطهير الحاشية، والحد من نشاط المعادين للانجليز.
3- ثن إن النحاس باشا هو الذي واقع معاهدة 1936، وهو أكثر الزعماء قدرة على تنفيذ روح هذه المعاهدة، وتقديم كل التسهيلات الممكنة للقوات البريطانية التي كانت تواجه موقفا غاية في الصعوبة.

ويبدأ ضغط السفير على الملك عن طريق الاتصال برئيس الديوان أحمد حسنين سرى ويتم استرضاء وزير الخارجية " صليب سامي" ويعود لممارسة مهام منصبه، ولكن تبقى المظاهرات على ما هي عليه، والجو المعادى للانجليز، كما هو وتقدم وزارة حسين سرى استقالتها يوم 2 فبراير 1942 ، وهنا لا يترك السفير الفرصة تفلت من يده فيرسل إلى الملك فاروق رسالة ظهر نفس اليوم بها مجموعة من المطالب، كان أهمها الإيحاء بضرورة تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة وختم رسالته بعبارة تحمل معنى التهديد وهى أن الملك سوف يكون مسئولا عن أي متاعب قد تحدث لتسويفه.

ويستدعى الملك النحاس باشا ويعرض عليه الأمر، ويحاول الملك إقناعه بتشكيل حكومة ائتلافيه ، لكنه يعتذر قائلا إن الظروف دقيقة والبلاد بحاجة إلى الحزم والإصلاح، وذلك لن يتم إلى بحكومة قوية تسندها أغلبية برلمانية، وعن طريق تأليف حكومة محايدة لإجراء الانتخابات، لتأتى حكومة الأغلبية على أساس ما تسفر عنه هذه الانتخابات.

ويرسل الملك في استدعاء زعماء البلاد من قادة الأحزاب ورؤساء الوزارات السابقين، ورؤساء مجلس الشيوخ والنواب ،ويعرض عليهم الأمر ، وخلال هذا الاجتماع يوافق كل الزعماء على تشكيل حكومة قومية تحت رئاسة النحاس باشا لكن النحاس باشا يصر على موقفه في ضرورة تشكيل حكومة وفدية تتحمل المسئولية، وينتهي الاجتماع دون نتيجة.

وعندما وصلت نتيجة هذا الاجتماع إلى السفير يتصل برئيس الديوان ويبلغه أنه يفضل منطق النحاس باشا ويعده رئيس الديوان بتدبير الأمر.

ويمر يوم 3 فبراير ويأتي يوم 4 فبراير دون نتيجة ، ولكن أمين عثمان كان قد نقل كلا من وجهة نظر النحاس باشا إلى السفير والعكس.

وفى ظهر 4 فبراير يذهب السفير لمقابلة حسنين باشا ويسلمه إنذارا صريحا هذه المرة مضمونه إنه على الملك أن يكلف النحاس باشا بتأليف الوزارة قبل السادسة من بعد ظهر اليوم وعليه أن يتحمل ما قد ينجم عن تأخيره.

ويستدعى الملك للمرة الثانية كبار الساسة الذين سبق استدعاؤهم أول أمس، ويحيطهم علما بمضمون التهديد البريطاني، ويترك لهم التصرف . ووصل هذا الاجتماع إلى نفس النتيجة السابقة، وإن اتفقوا جميعا بما فيهم النحاس باشا على رفض الإنذار البريطاني.

وحمل رئيس الديوان رد المجتمعين إلى السفير ,وكان مضمون الرد أنهم يرون أن الإنذار البريطاني تدخل في شئون مصر الداخلية، وإخلال بالمعاهدة المصرية البريطانية.. لذا فإن الملك لا يمكنه هو الآخر إلا أن يشارك هؤلاء الزعماء الرأي .

واتصل السفير بأمين عثمان وسأله، هل أنت متأكد أن النحاس باشا سوف يقبل تشكيل الوزارة لووصل الأمر إلى عزل الملك، أو إجباره على التنازل ويرد عليه أمين عثمان مؤكدا بأن ما يعرفه أن النحاس باشا سوف يقبل ذلك، وأنه يرى في ذلك خدمة لمصلحة البلاد.

وفى الساعة التاسعة مساء، وبينما الظلام يسدل ستائره على شوارع القاهرة تتقدم المدرعات البريطانية، وتحاصر قصر عابدين، وتفتح باب القصر عنوة ليدخل السفير مصاحبا بقائد القوات البريطانية في مصر الجنرال "ستون" تحميهم من الخلف قوة من الجنود المسلحين الذين قاموا بتنحية حر القصر، وسحب أسلحتهم وعندما حاول كبير الأمناء الاستفسار من السفير عن سبب ما يحدث، أزاحه من طريقه ليسود الذعر كل موظفي القصر.

ويحكى السفير بعد ذلك لأمين عثمان كيف ظهر الملك الشاب أو الصبي- كما كان يسميه السفير- في حضور رئيس ديوانه مرتبكا، وقد أذهلته المفاجأة ، حاول الملك أن يجادل ، لكن السفير حسم الأمر، وقدم إليه خطاب التنازل عن العرش حيث قال الملك باسما: هل هذه ورقة تليق بتنازل ملك عن العرش.

وتحادث حسنين باشا مع الملك باللغة العربية بعدها نظر الملك بتردد على السفير ، وقال له : أليس من الممكن إتاحة فرصة أخرى لإصلاح الأمور، ففكر السفير للحظة ووجه إليه سؤالا حاسما، أأنت مستعد لتكليف النحاس باشا بتأليف وزارة وفدية؟ وأقسم الملك أنه سيفعل ذلك على الفور، وإن شاء في حضوره ، لكن السفير اكتفى بذلك وانصرف ( هذه كانت رواية لامبسون لأمن عثمان) بعدها استدعى الملك زعماء البلاد للمرة الثالثة خلال ثلاثة أيام، وأبلغهم بما حدث وقال لهم إنه يكلف النحاس باشا أمامهم بتأليف الوزارة، وقد يتساءل البعض لماذا استدعى الملك الزعماء هذه المرة؟ ألم يكن كافيا أن يستدعى النحاس باشا وحده ويكلفه؟ وفى ظني أن أحمد حسنين باشا حاول أن يلعب بالورقة الأخيرة؟ حينما يبلغ النحاس باشا بالتكليف أمام زعماء البلاد، وبالتهديد البريطاني، كما حرص أن يرى هؤلاء الزعماء بعيونهم المدرعات البريطانية .

كل ذلك قد يؤدى إلى إحراج النحاس باشا فيرفض ، ويكسب القصر أو حسنين الجولة في مواجهة السفير.

وفى أثناء الاجتماع قيل ما كان ينتظره الملك، أو حسنين فلقد وجه أحمد ماهر باشا اتهامه إلى النحاس باشا بأنه يأتي إلى الحكم مسنودا بالحراب البريطانية ، ودافع النحاس باشا عن نفسه بأنه لا علم له بما حدث من حصار، وأنه لن يقبل بتأليف الوزارة إلا حسب القواعد الدستورية أي بتكليف من الملك. لكن الملك وجه إليه الكلام بحسم " إنني أكلفك بتأليف الوزارة، وأرجوك أن تمر على دار السفارة البريطانية لتبلغ السفير ذلك".

ويمر النحاس باشا على السفير ويدور الحديث حول الأمور الهامة : تنفيذ معاهدة 1936 نصا وروحا، والتعاون مع القوات البريطانية.

ولكي يتفادى النحاس باشا الاتهام بأنه جاء بمساندة الحراب البريطانية يعقد اجتماعا مع أناره ويحضر الاجتماع أمين عثمان الذي لعب دورا كبيرا في هذه الأزمة، وفى نهاية الاجتماع يرسل النحاس باشا خطابا حازما إلى السفير يؤكد فيه أنه قبل تأليف الوزارة بتكليف من الملك، وأن الأساس الذي يجب أن تسير عليه العلاقات بين البلدين هو معاهدة 1936، دون تدخل في سياسة مصر الداخلية، وخصوصا في تأليف الوزارة أو تغييرها.

ويرد السفير برسالة يؤكد فيها حرصه على نفس المبادئ دون أي تدخل في شئون مصر الداخلية خصوصا تأليف الوزارة أو تغييرها. ولم تنشر الصحف أي خبر عما حدث، ولم يقرأ الناس إلا نص هاتين الرسالتين، لأن الرقابة كانت مفروضة على الصحف نتيجة الأحكام العرفية أمام ما ترتب على هذا الحادث فهو موضوع الفصل القادم.

ما بعد حادث 4 فبراير

في السادس من فبراير سنة 1942 أعلنت أسماء الوزارة الوفدية ( التي قيل أنها جاءت على أسنة الحراب البريطانية) برئاسة مصطفى النحاس باشا في أعقاب ذلك الحادث الذي كان له أكبر الأثر في البنيان السياسي المصري.

عندما تسربت أنباء ما حدث إلى بعض طوائف الشعب قوبل ذلك بردود فعل مختلفة يمكن أن نجملها فيما يلي:

1- أثبت هذا الحادث أنه رغم تصيح 28 فبراير 1922، ومعاهدة سنة 1936 وكلاهما يؤكد على استقلال وسيادة مصر ، أثبت أن هذا الاستقلال مجرد هراء، وأن السفير البريطاني قادر على تحويل رياح السياسة المصرية في أي اتجاه يعتقد أنه يحقق مصلحة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس دون أي اعتبار للسلطات الدستورية الأخرى.
2- يبدو أن ضباط الجيش ( خاصة الشباب منهم) قد شعروا بأن العرش قد اهتز، وبعنف وأن الملك الشاب( وكانوا يكنون له الحب حتى الآن) لا يستطيع عمل اى شيء أمام إرادة السفير البريطاني، بل أنني أعتقد أن هذا الحادث كان بذرة تكون تنظيم الضباط الأحرار، كما أنه ساهم أيضا في ظهور بعض القوى السياسية على الساحة المصرية.
3- بدا واضحا في أذهان كثير من أفراد الشعب المستنيرين، أن لعب السياسة أصبحت لعبة سخيفة، لن يتحقق عن طريقها مصلحة البلاد، طالما ظلت على أرض مصر قوات احتلال أجنبية.
4- أما عن جماهير الشعب، فمن الواضح أن تأثير حزب الوفد عليهم كان قويا حتى الآن، فبمجرد أن يأتي الوفد إلى الحكم- وليس مهما كيف كانت الطريقة التي جاء بها- حتى تهب هذه الجماهير ومعظمهم من العامة، والبسطاء لتهتف للوفد ولزعميه صاحب الرفعة مصطفى النحاس باشا .

بل أن الأمر العجيب هذه المرة حدث عندما ذهب السفير البريطاني "سير مايلز لامبسون" لتهنئة رئيس الوزراء، فما كان من الجماهير المحتشدة عندما رأت السفير مع النحاس باشا إلا أن هتفت بحياة السفير، والأغرب من ذلك أنهم حملوه على الأعناق، وما كان من الصحف البريطانية إلا أن أبرزت صور هذا المشهد في صدر صفحاتها، وأقول إنه لأمر عجيب، لأنه لم يكن قد مضى إلا أيام قليلة على هذه الجماهير تهتف للقائد الألماني " روميل" وتقول له تقدم " يا روميل" وينادون بسقوط الانجليز.

5- كان السفير البريطاني بهذا العمل قد حقق نصرا ساحقا على القصر ورجاله، فما كان من الحكومة البريطانية- مكافأة له- إلا أن منحته لقب " لورد" وأصبح منذ ذلك الوقت " لورد كليرن" .
6- أما عن موقف الطلاب، فقد انقسموا فبعضهم كان يشعر بالمهانة نتيجة هذا التدخل السافر في السياسة المصرية. وبطريقة غاية في الهمجية ، والبعض الآخر خاصة الموالين للوفد كانوا يرون أن الانجليز بهذه العمل قد أسهموا في إحقاق الحق بإعادتهم للوفد.

ولقد تجلت ردود الفعل واضحة أثناء احتفال الملك بعيد ميلاده يوم 11 فبراير ، عندما تجمع بعض الضباط ،والجنود يهتفون بحياة الملك، ولقد شاركتهم بعض الجماهير في ذلك.

ومن الجدير بالذكر أن بعض الشائعات ترددت في ذلك الوقت عن أن الملك رفض الإنذار البريطاني، ورفض التنازل عن العرش مما جعل الجماهير- التي كانت أسيرة حبه حتى الآن- تنظر له وكأنه أحد الأبطال.

أما الملك ذاته فلقد مثل هذا الحادث بالتأكيد نقطة تحول في تفكيره ، فهو لم يكن يحب الانجليز ( وهذا أمر معروف). ..........كما أن هذا الأمر زاد من نفوره.

والأيام لا تمضى هادئة دائما، ولا تخلو من المفاجآت ، والمفاجأة هذه المرة كانت شرخا في جدار الوفد أكبر الأحزاب في البلاد، ذلك عندما حدث ثاني أكبر انشقاق في صفوفه بعد خروج أحمد ماهر والنقراشي.

فعندما أعاد النحاس باشا تأليف وزارته الثانية بعد حادث 4 فبراير وكان ذلك في آخر مايو سنة 1942 ، ظهرت أسماء الوزارة، ولم يكن بينهم مكرم عبيد باشا سكرتير عام حزب الوفد ،وصديق النحاس ووزير المالية والتموين في الوزارة السابقة.

لقد أتيحت لي معرفة وثيقة بكلا الرجلين، أما مكرم عبيد باشا فلقد درس القانون في أكسفورد، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، وعاد على مصر ليعمل في وزارة الحقانية، ثم تركها ليعمل مدرسا بالجامعة، ونتيجة مناصرته لسعد زغلول فصل من منصبه في الجامعة.

اشترك في ثورة 1919 وكان من الذين وقع عليهم عقوبة النفي إلى جزيرة " سيشيل" وبعد أن عاد واستقبل الأبطال، اشترك مع الوفد الذي سافر لمفاوضة الانجليز.

انتخب عضوا في أول برلمان مصري منتخب عن دائرته في الوجه القبلي، وبعد تولية النحاس باشا رئاسة الوفد أصبح هو سكرتيرا عاما للحزب، والرجل الثاني الذي يملك تأثيرا كبيرا على رئيس الحزب.

توطدت علاقتي به عندما كان وزيرا للمالية، وكنت أنا رئيسا لاتحاد المصدرين، وكثيرا ما اجتمعت به في منزله، أما الانطباع الذي تكون عندي من خلال اللقاءات، أنه متحدث بارع وخطيب لا يبارى، من السهل عليه أن يدخل قلوب الآخرين ، شديد إذا خاصم عنيد إذا اختلف في الرأي ، كما اشتهر بالنزاهة لدرجة أن خصومه لم يجدوا أدنى فرصة للتشكيك في ذمته المالية. كما اتصف أيضا بالذكاء والمكر.

أما النحاس باشا فلست بحاجة للحديث عن وطنيته ، وإخلاصه وتفانيه في خدمة بلاده، كان أهم ما يميزه أنه كان صريحا ومباشرا، ولا يهتم بالتفاصيل كما كان متحدثا وخطيبا بارعا، ومن السهل عليه إثارة مشاعر الجماهير، عندما تجلس إليه كان الحديث – دائما- طبيعيا وغزيرا على لسانه، لكنه لا يستمع جيدا إلى محدثه، ثقافته قانونية ,وعمل في سلك القضاء، اشترك في ثورة 1919 ونفى مع سعد سنة 1921 وعين وزيرا في وزارة سعد زغلول الأولى.

تعرفت به عن طريق أمين عثمان وتوطدت العلاقة لدرجة كنت أستطيع مقابلته في اى وقت دون أي موعد سابق ، تزوج في سن متأخرة، وكان يكن للسيدة زوجته حبا كبيرا، وكان ذلك من أسباب مشاكله، وكثيرا ما كان ضيفا على في الإسكندرية خاصة في فصل الصيف، وكان لا يجد أي صعوبة في الحديث بمنتهى الصراحة عن المشاكل التي تصادفه سواء كان في الحكم أو في مقاعد المعارضة.

أما عن الروايات التي قيلت في تفسير الخلاف بين الصديقين الحميمين فإليكم أهمها:

قيل مثلا إن الخلاف كان أساسه سوء تفاهم وصل إلى حد القطيعة بين السيدة حرن النحاس باشا ومكرم عبيد باشا ، وبدأت المشكلات عندما طلبت السيدة حرم النحاس باشا بعض التسهيلات، والاستثناءات لبعض أقاربها من وزارة التموين وكان مكرم عبيد باشا هو وزير التموين، لكن الوزير لم يستجيب إلى مطالبها، وبدأ يتهرب من تنفيذها فما كان من السيدة الشابة إلا أن ذهبت إلى زوجها، وشكت مر الشكوى من سوء معاملة مكرم عبيد باشا .

ومعرفتي بالسيدة الفاضلة حرم النحاس باشا تجعلني لا أصدق هذه الرواية الأخيرة بالرغم من انتشارها.

من الروايات أيضا التي استمعت إليها من النحاس باشا نفسه، أن الملك فاروق بعد حادث 4 فبراير 1942 كان حريصا على انتهاز الفرصة للانقضاض على حزب الوفد، فدعا مكرم عبيد باشا إلى لقائه بالقصر وخرج مكرم عبيد باشا من المقابلة وصرح لجريدة الأهرام تصريحا أثنى فيه على الملك، ونعته بنعوت عظيمة مثل جلالة الملك المحبوب، وما إلى ذلك من الصفات التي كانت تطلق على الملك في تلك الأيام.

وغضب النحاس لذلك، لأنه شعر أن هذا الأمر تم من خلف ظهره، وأن الملك يحاول إحداث شرخ في صف حزب الوفد، وأن الأداة كانت هذه المرة هي مكرم عبيد صديق النحاس الحميم وسكرتير حزب الوفد.

ولقد سمعت من أمين عثمان أن من أسباب فتور العلاقة بين النحاس ومكرم – بالإضافة على ما سبق- شعور مكرم عبيد باشا بظهور نجم جديد أصبح من المقربين إلى زعيم الوفد هذا النجم هو فؤاد سراج الدين باشا .

ولقد حاولت في هذا الوقت أن العب دور الوسيط بين الرجلين، خاصة وعلاقتي بمها كانت تؤهلني لممارسة هذا الدور.

وعندما التقيت بمكرم باشا بدأ يشكو من بعض تصرفات السيدة حرم النحاس باشا بسبب رفضه بعض الطلبات الخاصة بها وبأقاربها ، وفى دفاعه عن الكلام الذي صرح به لجريدة الأهرام، قال من من زعماء مصر لا يقول مثل هذا الكلام عن الملك، حتى النحاس باشا نفسه؟

وشعرت أن الأمر وصل بين الرجلين إلى نقطة اللاعودة، لذا فلقد آثرت ترك الأمور تجرى في أعنتها.

تفاقمت المشاكل بين الرجلين، وطلب النحاس باشا من مكرم عبيد باشا التخلي عن وزارة التموين، والاكتفاء بوزارة المالية، ولكن الأخير رفض وأصر على الاحتفاظ بالوزارتين، وقال في أسباب ذلك أنه مصر على الوقوف في وجه الاستثناءات إلى آخر مدى.

ونشر في إحدى الصحف رفض لجنة من وزارة المالية لبعض الاستثناءات التي طلبتها الحكومة، وأغضب ذلك النحاس باشا .

لم يكن قد مضى على تشكيل الوزارة أربعة شهور، عندما تقدمت باستقالتها إلى الملك، بسبب الخلاف بين رئيس الوزارة ووزير المالية والتموين، الهدف من هذه الاستقالة هو إخراج مكرم عبيد من الوزارة وتم ذلك بالفعل.

شكلت الوزارة وأخرج مكرم عبيد باشا منها ليحل محله في منصب وزير المالية، كامل صدقي باشا وفى وزارة التموين أحمد حمزة باشا .

كان ذلك في أوائل شهر يونيو 1942 بينما قوات المحور تحقق انتصاراتها على مختلف الجبهات، فالقوات اليابانية وصلت في تقدمها إلى جزر الهند الغربية، والقوات الألمانية تقترب من "ليننجراد" بينما روميل أصبح على مشارف " مرسى مطروح" .

ولقد ازدادت حالة الذعر هذه بعد وصول القوات الألمانية إلى منطقة تبتعد حوالي 60 كيلو مترا عن الإسكندرية، وبدأ الكثير من المصريين يرتبون سفرهم إلى الصعيد رغم حرارة الجو، وكان أكثر من أصيبوا بالذعر اليهود الذين كانوا يحملون كراهية شديدة لهتلر.

لذلك كان اليهود هم أكثر من لجأ إلى تصفية ممتلكاتهم ، وبيعت السلع برخص التراب. كما أن السفارات الأجنبية بدأت تضع لترحيل رعاياها والتخلص من أي مستندات هامة.

بينما كنت جالسا في نادي محمد على بالقاهرة في إحدى الأمسيات وأخبار الانتصارات الألمانية على كل لسان، استمعت من بعض الجالسين معي ومعظمهم من الوزراء السابقين أن الانجليز سوف يلجأون إلى إغراق مديرية البحيرة في حالة وصول الألمان إلى مشارف الإسكندرية ، وكان الهدف من ذلك هو تعويق دخول القوات الألمانية إلى دلتا النيل، ما قيل أيضا إنهم سيدمرون الكباري وآبار البترول.

وأذكر أيضا أنني في هذه الجلسة راهنت أحمد عبود باشا على أن الانجليز والحلفاء سوف ينتصرون في النهاية، ولم يستغرق ذلك أكثر من ثلاث سنوات.

عندما وصلت القوات الألمانية إلى منطقة العلمين بقيادة روميل وجها لوجه مع القوات الانجليزية بقيادة القائد الجديد " مونتجمرى" سمعت من أمين عثمان باشا أمورا عجيبة في هذا الوقت، فلقد طلب السفير البريطاني من النحاس باشا عن طريق أمين عثمان أن تنقل الحكومة المصرية مكانها إلى السودان، وأن النحاس باشا قال إنه لن يفعل ذلك إلا إذا قرر ملك البلاد نقل موقعه إلى السودان.

كما عرض على النحاس باشا إرسال سيارة لتنقلني إلى القاهرة ومنها إلى السودان لكنني شكرته وفضلت البقاء في الإسكندرية .

وقيل أيضا في ذلك الوقت إن الوزارة اجتمعت وقررت إرسال خطاب إلى القائد الألماني " روميل " يؤكد حرص مصر على السلام، وأنها كانت طوال فترة الحرب دولة محايدة، وعلمت من محافظ الإسكندرية حينئذ عبد الخالق حسونة باشا أنه كان المكلف بإيصال هذه الرسالة إلى القائد الألماني، لكنه عندما استفسر من الوزارة عن كيفية إيصال الرسالة وكيفية المرور وسط القوات الانجليزية ولم تجد الوزارة ردا على ذلك وبقى الخطاب لدى محافظ الإسكندرية دون أن يسلمه- أبدا- القائد الألماني.

جاءت الأنباء في منتصف يوليه بأن القوات البريطانية جعلت من موقعة العلمين، حصنا منيعا سوف يكون من الصعب على الألمان تجاوزه، ويمر بعد هذا التاريخ شهر ونصف الشهر، ويتعجب الناس من طول المدة التي توقفتها القوات الألمانية ، وفى أكتوبر تقريبا تحدثت الأنباء عن أول هزيمة منيت بها القوات الألمانية في موقعة العلمين، وتنفس الأجانب الصعداء، أما المصريون فقد انتابتهم مشاعر متضاربة هي خليط من الفرح أحيانا وخيبة الأمل أحيانا أخرى.

الفرح لأن المعارك لم تصل إلى مدنهم وقراهم فتصيبها بالدمار، وخيبة الأمل الذي راودهم في ذلك الوقت في إمكان التخلص من الانجليز.

قيل في تفسير هزيمة القائد الألماني ، إنه سبب دخول أمريكا الحرب، أو أن إمدادات البترول لم تكن كافية لتسيير المدرعات الألمانية، أو عدم وجود غطاء جوى، أو ها مهارة القائد الجديد للقوات الانجليزية الجنرال " مونتجمرى" وغيرها من الأسباب.

قامت الوزارة المصرية في فترة المعارك بكل ما من شأنه جعل مصر قاعدة آمنة لقوات الحلفاء، اعتقلت كل من شعر الانجليز أنهم يمارسون نشاطا معاديا لهم، أو يملكون أي قدرة للتأثير على الأحداث وكانت أبرز من تم اعتقالهم في هذه الفترة على ماهر باشا النبيل عباس حليم ، محمد طاهر، صالح حب، عزيز المصري، أحمد حسنين .

ولم ينس أبدا السفير البريطاني هذا الجميل الذي أسدته له وزارة الوفد في هذه المرحلة الحساسة من تطور المعارك.

كان لاعتقال على ماهر باشا قصة عشت بعض فصولها فبعد تحديد إقامته في عزبته القريبة من الإسكندرية ، لم يحتمل هذا التحديد فتسلل خفية ليحتمي في حصانة مجلس الشيوخ الذي كان عضوا فيه، وكان يرأسه محمد محمود خليل وطلب على ماهر باشا الكلمة ليتحدث عن تحديد إقامته ، لكن رئيس المجلس لم يعطه الكلمة، وحاول بعض أعضاء المجلس إقناع رئيسه بالسماح لعلى ماهر باشا بالحديث، وتذكيره بما بينه وبين دولة رئيس الوزراء السابق عن علاقة طيبة وصداقة، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح.

عندما انتهت جلسة مجلس الشيوخ كان على رئيس الوزارة السابق مغادرة القاعة، ولما كان وجوده خارج القاعة يجعله خارج نطاق الحصانة، فلقد قام البوليس بإلقاء القبض عليه، ولم يرسل هذه المرة على عزبته محددة إقامته، بل إنه أرسل معتقلا إلى منطقة السرو.

وترك هذا الحادث أثرا عنيفا في نفوسنا جميعا، وكان السؤال الذي يتردد في أذهاننا إذا كان ذلك قد حدث لرئيس وزارة سابق، ورئيس ديوان سابق، فأين حرية الأفراد العاديين.

وجاء دور رئيس الوزارة للرد ، فتحدث عن الظروف التي تمر بها البلاد، وعن الأحكام العرفية وسلطات الحاكم العسكري ، ثم نشاط على ماهر باشا وكيف إنه لم يقبل النصيحة ويبقى عزبته القريبة من الإسكندرية، وقال إن مصلحة البلاد قد تقتضى باعتقال بعض الأشخاص حتى ولو كانوا أعضاء في البرلمان.

وفى الحقيقة لم أسترح إلى رد رئيس الحكومة رغم احترامي الشديد له، وبعد أيام من اعتقال على ماهر باشا تم اعتقال عضو آخر من أعضاء المجلس بإيعاذ من السفارة البريطانية هو محمد طاهر باشا وقبل مجلس الشيوخ الوضع وكأنه أمر عادى ولم تكن الصحف تشير إلى ذلك الذي يحدث نتيجة لوجود الأحكام العرفية والرقابة المفروضة تبعا لها على الصحف.

حدثت حادثة أخرى استرعت انتباه الناس، فبينما كان الملك فاروق يقود سيارته بالقرب من الإسماعيلية ، إذا بسيارة تابعة للجيش الانجليزي تصطدم به، ويدخل الملك مستشفى عسكري في قرية القصاصين، ويطير نبأ الحادث ليملأ البلاد، ويشعر الناس بالحزن على إصابة ملكهم الشاب الذي كان محبوبا وقتها.

هرع الكثير من الساسة إلى المستشفى لزيارة الملك، كما توافد عدد كبير من أفراد الشعب للاطمئنان عليه.

لكن المفاجأة أن رئيس الوزارة أو أحدا من وزرائه لم يكونوا بين من هرعوا إلى المستشفى وأعتقد أن هذا الحادث، كان من بين الأمور التي زادت في الجفوة التي كانت قائمة بالفعل بين الملك، وحزب الوفد.

ومن الجدير بالذكر أنه حدث في أواخر عام 1942 وصول ثلاثة من قادة الحلفاء لعقد مؤتمر اختيرت له مدينة القاهرة كمكان لاجتماع هؤلاء القادة، وهم " ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا، " وتيودور روزفلت" رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، و" شيانج كاى شيك" رئيس جمهورية الصين، تم هذا الاجتماع في فندق مينا هاوس بجوار أهرام الجيزة.

في ربيع عام 1943 وبينما قوات الحلفاء تواصل انتصاراتها التي بدأت بموقعة العلمين إذا بحدث سياسي مصري يفجر ضجة غير منتظرة، أما الحدث فهو ظهور ما سمى بالكتاب الأسود.

والكتاب الأسود أعده مكرم عبيد باشا ومجموعة من الشباب الخارجين على الوفد، في صورة مجموعة كبيرة من الوقائع تكشف النقاب عن محسوبيات واستثناءات واستغلال المنصب وانتهاز لظروف الحرب لتحقيق الثراء السريع وبعض صور التنكيل بالخصوم وإلقائهم في المعتقلات ، وكل هذه التجاوزات نسبت إلى قيادة حزب الوفد.

كان دافع مكرم عبيد باشا واضحا، فبعد اختلافه مع زعيم الوفد وإخراجه من الوزارة، حاول أن يكشف النقاب عن بعض هذه التجاوزات في البرلمان أو في الصحف لكن ظروف الحرب حالت بينه وبين ذلك، ثم إن قيادة الوفد لجأت إلى التنكيل بأنصار مكرم وبمكرم نفسه ، فتم إخراجه من الهيئة الوفدية، وأيضا تم إقصاءه من منصب سكرتير عام الحزب، كما تم إخراج بعض النواب الذين يناصرونه بحجة أن سنهم لم تكن قانونية وقت ترشيحهم.

ولم يكن بإمكانه أن يطبع الكتاب ........في البرلمان لتدافع الحكومة عن نفسها أمام أغلبية وفدية لكن صحة بعض ما جاء في الكتاب حالت دون إثارته في البرلمان.

لكن الحكومة اختارت طريق الصمت مطمئنة إلى أن تأثير الكتاب سوف يبقى محدودا، نظرا لفرض الرقابة على الصحف، وخطر تداول الكتاب نفسه، لم يتوقف الأمر عند ذلك، فالملك يلح في طلبه بأن تدافع الوزارة عن نفسها، أو يتخذ هو إجراء ما.

والسفير – بتعليمات من حكومته- يساند الحكومة التي وقفت معهم أثناء الحرب.

وأمين عثمان باشا متيقظ تماما كي لا يسخر جولة ثانية في مساندته للوفد، أما الحكومة فكانت تفكر في وسيلة تخرجها من هذه الأزمة بأقل قدر من الضرر.

والشعب نفسه بدأ يتململ خاصة الأوساط المتعلمة منه.

عندما شعر الملك بإصرار السفير على مساندة بقاء الوزارة إلى آخر مدى، أحال الكتاب إلى النحاس باشا ،ولم يجد الأخير مفرا من مواجهة الأمر، فأوعز إلى بعض أعضاء البرلمان بتقديم أسئلة عن بعض ما جاء في الكتاب الأسود، وتحددت جلسة لمناقشة الموضوع، وتقدم مكرم عبيد باشا باستجواب.

وفى اليوم المحدد لإثارة الموضوع امتلأت قاعة البرلمان للاستماع إلى ما سوف يحدث.

عرض مكرم عبيد باشا الوقائع التي تضمنها الكتاب وأتى بالأدلة على صحتها.

ثم يقف رئيس الحكومة النحاس باشا ليفند اتهامات صديقه القديم والأغلبية البرلمانية تصفق عند كل دفاع يسوقه النحاس باشا ، ولما كان الأمر بالأغلبية ،فلقد تاهت حجج مكرم عبيد وانتهى الأمر، وكأن الحكومة حققت نصرا وتنقل الصحف في اليوم التالي بعضا مما حدث.

لم يغفر النحاس باشا لمكرم عبيد فعلته ، فطالب في مجلس النواب بإسقاط العضوية النيابية عنه بتهمة إثارة الرأي العام، وتوجيه اتهامات بغير سند، ولم يكن إسقاط العضوية بالأمر الصعب، فالوفديون يمثلون أغلبية ساحقة، وكان للنحاس باشا ما أراد .

لم يقف الأمر بزعيم الوفد عند حد فصل خصمه، بل إنه استخدم حقه كحاكم عسكري، وأمر باعتقاله بحجة أنه يمارس نشاطا ضارا بمصالح البلاد فى زمن الحرب.

وضع مكرم عبيد باشا الصديق الحميم لزعيم الوفد في المعتقل ليظل به حتى إقالة وزارة الوفد في أكتوبر 1944.

مرت الأزمة الأولى بين الملك والوزارة لصالح الوزارة بمساندة السفير البريطاني ومساعدة أمين عثمان.

وبعد هذه الأزمة كان على النحاس باشا أن يجرى تعديلات في وزارته استجابة لبعض تلميحات السفير بأن يدخل دما جديدا إليها، وتم ذلك بالفعل في يونيه 1943، وفى هذا التعديل عين أمين عثمان وزيرا للمالية، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يشغل فيها منصب الوزير، كما نقل فؤاد سراج الدين باشا الذي بدأ نجمه يلمع من وزارة الزراعة إلى وزارة الداخلية.

وكان شعور الوزارة نحو السفير هو الامتنان لموقفه الصلب في مساندتها.

والأزمات بين الملك الوفد لا تنتهي ، فهي إن لم توجد بطبيعتها يخلقها الملك.

في شتاء عام 1944 اجتاح وباء الملاريا بعض مدن الصعيد مما أدى إلى وفاة عدد كبير من أفرد الشعب، وقرر لملك زيارة المناطق المنكوبة، وأحيطت الزيارة بدعاية هائلة، وتقابل زيارتاه باستقبالات جماهيرية ، وينتهز الفرصة ليحمل الوزارة مسئولية هذا البؤس الذي رآه، ويتهمها بإخفاء الحقائق.

ويحاول رئيس الحكومة أن يرد على الهجوم، فينظم رحلة إلى نفس الأماكن التي زارها الملك، وتنسق مكاتب الوفد في تلك الأقاليم استقبالا حماسيا لزعيم الوفد، الذي يخطب في الجماهير ويعود ليصرح بن الناس في حالة طيبة وأنهم راضون عن حكومة الوفد.

ويشعر الملك بأنه أهين، ويثور لكرامته ويسعى إلى إقالة الوزارة، لكنه لا يفعل ذلك بالطبع، إلا بعد استشارة السفير، وكالعادة يظهر أمين عثمان ويتمسك السفير بوزارة النحاس باشا.

ويقف الملك بمطالبه عند حد إدخال عناصر غير حزبية في الوزارة لكي تساعد على حد قوله في إيقاف الفساد المتفشي.

ويقف السفير بحزم في وجه هذا المطلب، ويقول للملك إنه لابد من استشارة حكومة جلالة ملك بريطانية في مثل هذا الأمر.

وتتمسك الحكومة البريطانية ببقاء الوفد الذي يتمتع بأغلبية كبيرة في البرلمان وبتأييد شعبي واسع.

وتنتهي الأزمة الثانية لا لشيء إلا لأن الحكومة البريطانية واللورد كليرن تمسكوا ببقائها.

يهدأ الحال بين الملك ووزارته حوالي أربعة شهور قبل أن تظهر الأزمة الثالثة والأخيرة في حياة هذه الوزارة.

في شهر سبتمبر 1944 ذهب الملك لصلاة الجمعة، وهو يفعل هذا لكي يكسب إعجاب الشعب.

ويعترض الملك على بعض لافتات الترحيب التي رآها وكان اعتراضه منصبا على ظهور اسم رئيس الوزارة بجوار اسمه في نفس اللافتة، ويأمر الملك مدير الأمن في ذلك الحين، وكان غزالي بك يأمره برفع هذه اللافتات وينفذ مدير الأمن أوامر جلالة الملك.

ويصل الخبر إلى الحكومة فتجتمع لمناقشة الأمر، وتتخذ قرارا بعزل مدير الأمن، وبعد مناقشات يخفف وزير الداخلية القرار من العزل إلى الإيقاف، ويثور الملك الذي كان حريصا على حماية من يتعاونون معه، وتتمسك الحكومة بموقفها.

ومن حظ الحكومة السىء- كما يقول أمين عثمان باشا أن اللورد كليون كان يقضى إجازته في جنوب أفريقيا عندما ثارت هذه الأزمة، وكان يقوم مقامه مستر شون الوزير البريطاني المفوض.

وعندما يذهب أمين عثمان يستحثهم على مساندة الحكومة كعادته، يلاحظ أن مستر شون ووالتر سمارت المستشار الشرقي للسفارة غير متحمسين لمساندة الحكومة واعتبروا أن هذه أزمة داخلية لا شأن لهم بها.

فماذا حدث ليتصرفوا هكذا؟

- كانت حكومة النحاس باشا قد أدت الأغراض التي جيء بها من أجل تنفيذها وهى ضمان مصر قاعدة آمنة لقوات الحلفاء.
- كان الفساد قد انتشر في الأداة الحكومية بدرجة متزايدة، واستغل بعض أقارب كبار المسئولين ظروف الحرب لتحقيق ثراء سريع، كما أن الرشوة والمحسوبية أصبحتا ظاهرتين مألوفتين وأصبح من الصعب الدفاع عن كل هذه التراكمات.
- ظهور بعض صور القلق الشعبي نتيجة التقشف والحياة القاسية التي عاشها سواد الشعب في ظل الحرب، والتغيير في حد ذاته مطلوب في مثل هذه الحالات.
- عدم رضاء الإنجليز عن بعض إجراءات اتخذتها الحكومة ضد الأجانب مثل عزل الأجانب من مجلس بلدية مدينة الإسكندرية.
- انتصار الحلفاء تقريبا في معظم جبهاتهم خاصة في أفريقيا التي لم يعد باقيا فيها جندي واحد من جنود المحور.
- كان غزالي بك محور المشكلة من أصدقاء السفارة البريطانية ولم يكن له في نظر السفارة ذنب فيما حدث.

لأجل كل هذه الأسباب في تصوري لم تتحمس الحكومة البريطانية لمساندة حكومة الوفد رغم إلحاح أمين عثمان الذي اتهمه بعد ذلك بعض أعضاء الوزارة بالتقصير.

وفى الأسبوع الأول من أكتوبر 1944 يصدر مرسوما ملكيا بإقالة الوزارة الوفدية، ويجيء في أمر الإقالة أن الحكومة جافت أحكام الدستور، ولم توفر الحياة الكريمة لأفراد الشعب.

وبدا أمر الإقالة وكأن سببه هو إيقاف مدير الأمن، ولم يتدخل الانجليز بحجة أنها مسألة داخلية، ولم يكن ذلك صحيحا فكل الأزمات السابقة كانت داخلية، ولم يكن إيقاف مدير الأمن بالطبع هو السبب إنما كان الذريعة.

مصر ما بعد الحرب

وتبدأ مرحلة أخرى وهى مرحلة ما بعد الحرب .

أقيلت وزارة النحاس باشا في أكتوبر 1944 بينما لورد كيلرن يمضى إجازته في جنوب أفريقيا.

هل استغل الملك هذا الوضع؟ ليس ذلك بمستبعد، وإن كانت السفارة البريطانية لا تخلو ممن يستطيع إملاء الأوامر وتعديل الأوضاع حسب الهوى البريطاني.

لقد كان السكرتير الشرقي مستر سمارت قادرا على القيام بهذه المهام جيدا، فهو أكثر الدبلوماسيين البريطانيين خبرة بالشئون المصرية، حيث بقى فى مصر أكثر من عشرين عاما مثله في ذلك مثل مواطنه لورد كرومر ، كما أنه يجيد الحديث باللغة العربية، ومتزوج من ابنة فارس نمر باشا مالك جريدة المقطم، وكثيرا ما ذهب إليه زعماء مصريون يطلبون التشاور.

إذن ، كانت الحكومة البريطانية في لندن غير ممانعة في إبعاد وزارة النحاس باشا للأسباب التي ذكرتها في الفصل السابق.

كلف الدكتور أحمد ماهر باشا بتشكيل وزارة ائتلاف غير وفدية بالطبع من أحزاب الدستوريين والسعديين، والحزب الجديد الذي أنشأه مكرم عبيد باشا "حزب الكتلة الوفدية" والذي خرج من المعتقل الذي وضعه فيه النحاس باشا بمجرد إقالة الوزارة.

أما عن رئيس الوزارة الجديدة، فلقد ربطتني به صلات وثيقة حيث كنا زملاء في البنك التجاري المصري الذي كان هو رئيسا له.

كان رحمة الله عليه قصيرا سمينا ذي كرش بارز، ممتلئ الوجه نال تعليما رفيعا حيث درس القانون وحصل على درجة دكتوراه فيه من إحدى الجامعات الفرنسية، تزاملنا في مجلس الشيوخ، كان معارضا ممتازا يعرف كيف يعرض راية، ويفند الرأي الذي يعارضه، كان من المؤسسين لحزب الوفد ، عمل تحت رئاسة سعد زغلول باشا ، ومصطفى النحاس باشا وكان من عناصر الوفد النشطة، اتهم هو والنقراشي باشا باغتيال السيردار الانجليزي ،انشق على الوفد عام 1937 وشكل حزب السعديين عام 1938.

عمل في المجالات الاقتصادية كعضو مجلس إدارة في بعض الشركات، كما كان رئيسا للبنك التجاري المصري، يعاب عليه أنه كان يسرف في المقامرة والشراب.

عندما كلف برئاسة الوزارة اتصل بى، وطلب منى أن أخلفه في رئاسة البنك التجاري، وشكرته على ثقته واعتذرت عن قبول المنصب، وحينما سألني مندهشا عن السبب قلت له أنني مرشح لعضوية إدارة البنك الأهلي، وكان أكبر البنوك في ذلك الوقت، ولم يكن مسموحا للتجار أن يكونوا أعضاء في مجلس إدارته، لكنني استثنيت كما أن العضوية كانت مقفلة فيه تقريبا على الوزراء السابقين والأجانب.

عندما استمع الرجل إلى حججي لم يتمسك بمطلبه.

كانت أوضاع كثيرة ليست على ما يرام خلفتها حكومة الوفد، فالمحسوبيات والرشاوى، وتوزيع الوظائف على الأنصار كانت متفشية، وعدد زعماء البلاد ممن خاصمهم الوفد، أولم ترض عنهم السفارة رهن الاعتقال . كان على الحكومة أن تنهى كل هذه الأوضاع نكاية في الوفد، وتصفية أي مركز يمكن أن يكو له أي تأثير يشغله وفدى أو حتى متعاطف مع الوفد.

وبودي هنا أن أشير على ملحوظة هامة، هي أن توزيع الوظائف على الأنصار لم يكن تقليدا وفديا فقط، بل إن حكومة تأتى إلى السلطة كانت حريصة على أن تكون الوظائف المؤثرة في أيدي أنصارها، كي تتمكن من تسيير أمور الحياة، وهذا أمر يكون أكثر وضوحا في ظل حكومة الوفد لا لسبب إلا لأن أنصار الحزب أعدادهم كبيرة، ومطالبهم لا تنتهي.

لذا فلقد كان أول الأعمال التي قامت بها الوزارة إلغاء الترقيات والاستثناءات حصل عليها أفراد في ظل حكومة الوفد، وتم إخراج المعتقلين وإعادة الموظفين الذين تم عزلهم، كما سمح للصحف رغم بقاء الأحكام العرفية بتوجيه الانتقادات المسهبة لحكومة الوفد، ولتجاوزاتها أثناء حكمها.

أما العمل الثاني فهو حل مجلس النواب الوفدي، والدعوة إلى انتخابات جديدة بعد ثلاثة شهور.

قررت أن أرشح نفسي لعضوية مجلس النواب، لذا فقد ذهبت للتشاور في هذا الأمر مع رئيس الحكومة الجديد أحمد ماهر باشا ورحب الرجل بفكرتي رغم عدم انتمائي إلى الحزب الذي يرأسه، وأضاف قائلا: لكي لا يرشح الحزب السعدي أحدا في دائرة مينا البصل عليك أن تمر على النقراشي باشا نائب رئيس الحزب في مكتبه بوزارة الخارجية، تركت مكتب رئيس الوزارة وتوجهت إلى مكتب وزير الخارجية، الذي كان ينتمي إلى البلدة التي انتمى إليها أي مدينة الإسكندرية.

وبعد قليل جاء مدير مكتبه وأبلغني أن الوزير غير مستعد لمقابلتي ، فأعدت مدير المكتب مرة ثانية ، وأبلغته أن ينقل لوزير الخارجية أنني لم آت بصفتي الشخصية، لكن بتكليف من رئيس الحكومة .

ويأتي مدير المكتب بعد قليل ليبلغني اعتذار وزير الخارجية عن مقابلتي لأسباب لم أصدقها.

بعدها بأيام كنت جالسا في نادي " محمد على" وإذا بإسماعيل باشا يبدأ الحديث معي بقوله لقد سمعت حديثا لم أصدقه يا باش فقلت له ما هو يا دولة الرئيس؟ فقال الرجل وفى عينيه ابتسامة لها مغزى ، سمعت أن النقراشي باشا رفض مقابلتك .

وفوجئت بالأمر،وكان يجلس معنا الأمير محمد على وبعض الوزراء السابقين وقلت له وقد شعرت بالاهانة: إن من حق معالي وزير الخارجية ألا يقابل من يشاء، لكن الذي ليس من حقه أن يقص هذه الحكاية على سبيل التشفي.

وحملت هذه الأمور في نفسي ، وانتظرت الفرصة المناسبة للرد.

أجريت الانتخابات، التي قاطعها حزب الوفد عندما شعر أن الحكومة عقدت العزم على إسقاطه.

في هذه الأثناء جاء أنتونى إيدن رئيس الوزراء البريطاني الجديد لزيارة مصر، واجتمع بالملك فاروق وبرئيس الوزارة ، كما أقيمت الحفلات على شرفه ، ومن بين هذه الحفلات حفل أقيم في قصر عابدين دعي لحضوره أعضاء الوزارة الحالية، والوزراء السابقون وقادة الأحزاب والأمراء، والأعيان وكبار الضباط،ولقد حضرت هذا الحفل ورأيت كيف كان الساسة يتسابقون على كسب وده.

ظهرت نتيجة الانتخابات ،وفازت أحزاب الائتلاف بهذا الترتيب:

الحزب السعدي، ثم حزب الأحرار، فحزب الكتلة الوفدية، وألغيت تعيينات حزب الوفد لمجلس الشيوخ، وتم تعيين أعضاء محلهم.

قدم رئيس الوزارة استقالته حسب التقاليد الدستورية ، وأعاد تأليف وزارته الثانية، والتغيير الوحيد الذي طرأ على الوزارة هو خروج الدكتور هيكل باشا من صفوف الوزارة ليرأس مجلس الشيوخ.

لم يكن حزب الوفد صامتا على ما يحدث، لكنه كان يهاجم الحكومة فى صحفه، وكان يحرك بعض المظاهرات الطلابية .

لم تكن مصر قد أعلنت الحرب حتى الآن منذ وزارة على ماهر باشا التي بدأت برفع شعار تجنيب مصر ويلات الحرب .

اجتمعت الوزارة لمناقشة إمكانية اشتراك مصر في المؤتمر الدولي الذي سيعقد في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة لإنشاء الأمم المتحدة، ولكي تشترك مصر في هذا المؤتمر كان عليها أن تعلن الحرب على اليابان ، وفى اليوم التالي، نشر في الصحف أن مصر قررت أنها ستشترك في مؤتمر سان فرانسيسكو وبالتالي أعلنت الحرب على اليابان، ولم يكن الأمر صعبا بالنسبة لأحمد ماهر باشا فهو من أنصار إعلان الحرب منذ فترة طويلة هو وحزبه، ولقد كان ذلك سببا في خروج الحزب مستقيلا من وزارة حسن صبري باشا .

وكان لابد والأمر كذلك من أخذ موافقة البرلمان على إعلان الحرب والذهاب إلى المؤتمر.

وذهب رئيس الوزراء إلى مجلس النواب أولا لأخذ موافقته، وبعد أن أنهى خطابه الطويل، خرج ليستريح قليلا قبل أن يدخل إلى مجلس الشيوخ.

وهو في طريقه إلى غرفة رئيس الوزارة إذا بشاب يتجه نحوه لمصافحته، وعندما هم الرجل بمصافحة الشاب إذا بهذا الأخير يطلق عليه الرصاص فيرديه قتيلا في التو واللحظة، ويسود البلاد وجود مشوب بالدهشة والقلق.

كلف الملك النقراشي باشا نائب رئيس الهيئة السعدية بتشكيل الوزارة الجديدة وشغل الناس بالحديث عن مقتل الدكتور أحمد ماهر باشا الذي كان مقتله بداية لظهور العنف في الحياة السياسية المصرية.

توفرت لا معرفة وثيقة بالنقراشي باشا ، فهو من نفس المدينة التي انتمى إليها، كان طويلا متحمسا، بدأ حياته مدرسا في مدينة الإسكندرية، كما شارك في ثورة 1919 ، واتهم باغتيال السيردار لى ستاك ، كما كان يتميز بالشجاعة وأذكر حادثا يدل على ذلك، حينما حدث اعتصام لقوات الأمن في الإسكندرية ،وكان هو وزيرا للداخلية ركب طائرة، ومن غير حراسة ذهب إلى المعتصمين، وخطب فيهم وأقنعهم ، كان من أبرز المنشقين على حزب الوفد سنة 1937 ، اتسم بنزاهته المالية فعندما اغتيل عام 1948 لم يترك لأسرته غير معاشه الوظيفي.

من عيوبه أنه كان يفضل الإخلاص على الكفاءة، ولا يقبل الاختلاف معه في الرأي ، كما كان ميالا إلى حب المظاهر.

لم تكن علاقتي به طيبة كما سبق وذكرت، ولم أنس له موقفه حين فض مقابلتي، وقص الحكاية على سبيل التشفي.

وتمر الأيام ، وفى أحدها كنت جالس في نادي محمد على بصحبة إسماعيل باشا وآخرين، وبينما نحن كذلك إذا برئيس الوزارة الجديد النقراشي باشا يدلف إلى داخل النادي، ووقف الجميع لتحيته، أما أنا فظللت جالسا في مكاني، ونظر رئيس الوزارة نحوى وتساءل مندهشا، أليس هذا هو فرغلى باشا؟ فرددت دون أن أنظر إليه إنه أنا يا دولة الرئيس ، ولم أغير من جلستي.

بهت الحاضرون من تصرفي حيال رئيس الوزارة، وبعد هنيهة مال على إسماعيل صدقيمعاتبا: ما كان يجب أن تفعل ذلك يا باشا ، فقلت له إنه الرد المناسب لى تصرف سابق.

فهز صدقي باشا رأسه وقال إنك لجبار، فضحكت قائلا: بعض ما عندكم يا دولة رئيس الوزراء القادم، وقصصت عليه قصة رفضه لمقابلتي في مكتبه بوزارة الخارجية.

رغم هذه الحادثة فإنني أؤكد أن النقراشي باشا كان من أنزه رؤساء الحكومات وأفقرهم، كما أن حياته العائلية والشخصية، كانت غاية في النقاء.

لم يكن تأليف الوزارة عملا سهلا، فالعلاقة بين رئيس الوزارة الجديد ورئي حزب الكتلة الوفدية لم تكن طيبة،فمكرم عبيد باشا كان يعتقد أنه أحق من النقراشي باشا بتأليف الوزارة، ألم يكن من أوائل المجاهدين في ثورة 1919؟ ألم يكن هو الذي أسهم بنصيب كبير في إسقاط الوفد بإصداره للكتاب الأسود؟ ألم يكن هو سكرتير عام الوفد وقت كان النقراشي باشا مجرد عضو في الهيئة الوفدية؟

تتناثر الخلافات حول تأليف الوزارة وتعلق عليها بعض صحف الوفد، لكن بعد مشاورات ومداولات تعلن أسماء الوزارة بتعديل واحد فقط هو إحلال النقراشي باشا محل سلفه أحمد ماهر باشا في رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية. انتهت الحرب العالمية الثانية في مايو 1945، وبدأت وزارة النقراشي باشا ، تفك جديا فى تجديد المفاوضات مع بريطانيا حول جلاء القوات البريطانية عن مصرن وذلك بعد إنشاء عصبة الأمم التي أصبحت مصر عضوا فيها، والذي ينص ميثاقها على حق الشعوب في تقرير مصيرها.

كان دور السفير البريطاني قد بدأ يتقلص، وبدأ دور الملك يصبح أكثر وضوحا وتأثيرا، لا لشيء إلا أن الظروف اختلفت ، فرغم أن بريطانيا العظمة قد خرجت منتصرة من الحرب إلا أنها خرجت منهكة اقتصاديا، في ظروف دولية أصبحت موازينها في غير صالح الإمبراطورية التي بدأت الشمس تغرب عنها رويدا رويدا، كما بدأت الدول المستعمرة تستقل ، وتتناثر من التاج البريطاني.

كان المأمول في انجلترا بعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، وتقديم مصر كافة التسهيلات للقوات البريطانية أن تعيد النظر في اتفاقية 1936، وتقرر الجلاء عن الأراضي المصرية نهائيا، حتى تصبح مصر مستقلة حقيقة لا شكلا، وبدأ هذا الأمر يثير الجدل والنقاش في أوساط المتعلمين، وصحف الوفد بعد إلغاء الأحكام العرفية لا تكف عن الحديث عن هذا الأمر، والسخرية من الحكومة، وتأكيد أن الحكومة أضعف من أن تتمكن من الوصول على أي اتفاق ينصف الجانب المصري.

وبدأ الوفديون من الطلبة يسيرون في مظاهرات تطالب بالجلاء، وبإلغاء المعاهدة. في يناير 1946 وفى هذا الجو المشبع بالعنف اغتل أمين عثمان ولهذا الاغتيال قصة عشت كل دقائقها وسوف أقصها:

كان ذلك في أكتوبر 1945 عندما سافرت في وفد تحت رئاسة أمين عثمان بمناسبة مرور ثلاث سنوات على انتصار القوات البريطانية في موقعة العلمين.
وقبل هذا السفر بحوالي عام تقريبا حدث خلاف كبير بيني وبين أمين عثمان، كان سببه أن أحمد عبود باشا في ظل حكومة الوفد، وعن طريق علاقته الطيبة مع السفير البريطاني، حاول أن يحصل على موافقة رئيس الحكومة بأن يحل في رئاسة بنك مصر وشركاته محل حافظ عفيفي باشا ، والأخير كان قد حل محل طلعت حرب باشا كما سبق وذكرنا.

علمت ذلك من احد أصدقائي الانجليز، فتوجهت لتوى إلى أمين عثمان باشا ن وكان وزير للمالية، وفى حضور حسن رسمي باشا ، وكيل الوزارة حذرته من إجابة طلب عبود باشا وحاولت إقناعه بأنه سوف يكون هناك تفسيرا ن لهذا القبول ، فإما أن يقال إنه تلقى رشوة من عبود باشا ، أو أن عبود ضحك عليه، وغضب أمين عثمان باشا من نصيحتي هذه ، وظلت العلاقة بيننا فاترة لمدة ستة شهور ، لكن المهم في الأمر أنه أقتنع في النهاية بوجهة نظري، وعلم أنني لا أبغى إلا الحفاظ على سمعته، وعلى سمعة رئيس الوزارة النحاس باشا ، وأمين عثمان باشا بالتأكيد ليس من الأشخاص الذين يحصلون على رشوة لكنه فعل ذلك – أي استمع إلى عبود باشا- بعد رجاء من السفير البريطاني.

وربما يعتقد البعض أن ذلك كان بسبب منافسة تقليدية بينىوبين عبود باشا وهذا غير صحيح بالمرة، فلم يكن هناك مجال للتنافس بيننا إلا في أحوال نادرة، وقد يكون من المناسب أن أتحدث قليلا عن عبود باشا وعلاقتي به.

عندما أقارن بين رجلين من رجال الأعمال في هذه الفترة هنا طلعت حرب وأحمد عبود أستطيع أن أقول بالإضافة على الفروق التي يعرفها البعض أن طلعت في إدارته لبنك مصر كان ديمقراطيا إلى أقصى الحدود، خاصة في مناقشات الجمعيات العمومية، وأذكر أن مناقشات بعض هذه الجمعيات كانت تستغرق أكثر من خمس ساعات أحيانا، وتوجه فيها الانتقادات إلى طلعت حرب الذي كان يتقبل ذلك بصدر واسع كما أنه كان شديد الحرص على أن تتخذ القرارات بالإجماع، ونادرا ما كانت تتخذ بالأغلبية.

وكما أن لكل عظيم أخطاء ، فقد كانت من أخطاء طلعت حرب أنه لا يحسن اختيار معاونيه، ومديريه في اغلب الأحيان، كما أنه توسع بسرعة شديدة للدرجة التي تسببت للبنك في أزمته الشهيرة التي انتهت بإخراجه من البنك.

فارق آخر أن طلعت حرب باشا كان حريصا على أن يكون المساهم في شركته مصريا، كما كان يشعر بأن مصالح الشركة الخاصة، ومصلحة المساهمين فوق كل اعتبار، وذمة طلعت حرب باشا لم تكن أبدا موضع شبهات، لذلك كان إقبال المساهمين على شركات بنك مصر كثيفا في حين أنهم كانوا ينفضون من حول عبود باشا . .

لقد استفاد عبود باشا من ظروف الحرب ليحقق جزءا كبيرا من ثروته، عن طريق أسطول السفن الذي كان يملكه، وارتفاع أجور النقل في ذلك الوقت إلى أرقام خيالية.

من الحوادث التي تلتبس على البعض أيضا، القول بأن عبود باشا هو الذي أسس شركات السكر في مصر والواقع الذي أعرفه غير ذلك، لقد أنشأ هذه الشركة رجل أعمال بلجيكي يدعى هنرى توس وعندما مات هذا الرجل كان من الطبيعي أن يحل محله ابنه ، لكن عبود باشا الزى كان أحد المساهمين، وكان عضوا في مجلس الإدارة استغل هذه الفرصة، وأوعز إلى قيادة القوات البريطانية وكانت تربطه بهم صداقة حميمية لتقوم بتجنيد الابن رغم أنفه ويتم ذلك فعلا، ويذهب الابن ليشترك في الحرب ، ولا يعود منها فقد قتل في إحدى المعارك وخلا الجو لعبود باشا ، فسيطر على الشركة ولقد أكد لى هذه القصة بعض أصدقائي من الأجانب، أما هنرى توس فكان من الرعايا البلجيكية ومن أصدقاء البارون إمبان مؤسس ضاحية مص الجديدة.

وعبود باشا رغم هذا الثراء كان بخيلا للغاية، فقد سبق وراهنته ونحن في حفل عشاء أمام لورد كليرن وأمين عثمان وحافظ عفيفي وحسين سرى راهنته على أن الحرب العالمية الثانية لن تستمر أكثر من ثلاث سنوات في حين أنه قال إنها سوف تستمر لأكثر من خمس سنوات، وأصر على رأيه لدرجة أنه أبدى استعداده لمراهنتي على صحة هذا الكلام بمبلغ عشرة آلاف جنيه، ولكي يبدو الأمر منطقيا وافقت على الرهان، ولكن على مبلغ مائة جنيه فقط. وعندما انتهت الحرب كما توقعت لم يدفع الرهان، وذهبت إلى صديقه سرى باشا وطلبت منه أن يدفع دين صديقه لكن الأخر قال إنه مستعد أن يدفع 50% من الدين بدلا منه، وعندما ذهبت وعرضت الأمر على حافظ عفيفي باشا رئيس بنك مصر في هذا الوقت، وكان على علاقة وثيقة بعبود باشا ضحك، وقال لى إنه سيفكر في الأمر، وعبود باشا كان من مصلحته أن تطول الحرب لأن فترة الحرب كانت من أكثر الفترات التي حقق فيها كسبا، لذلك فهو في اعتقادي كان يراهن على أمنية يتمناها ، وليس على حقيقة يراها.

ومن المشاكل التي ثارت بيني وبينه أيضا أنني كنت أحضر سباق الخيل في نادي الجزيرة، وكان "بنوار" وعبود باشا يجاور " بنوارى" تماما، وجاء صحفي شاب أظن أنه الأستاذ سعيد سنبل وطلب أن يجرى حديثا صحفيا عن أسباب النجاح في العمل وقال عبود باشا إن من أسباب النجاح الأمانة والوفاء والصدق كصفات يجب أن تتوافر في رجل الأعمال الناجح.. الخ.

وعندما جاء دوري للإجابة عن نفس السؤال قلت إنني اختلفت مع رأى عبود باشا لأن الأمانة والصدق صفات يجب أن تتوفر في رجل الأعمال ، بل هي واجبات لابد وأن تكون موجودة في اى إنسان، والحديث عنها قد يعطى إيحاء بأنها غير موجودة ونشر المحرر الحديث في مجلة من المجلات المصورة، وأغضب كلامي عبود باشا على ما يبدو، لأنني تحدثت عن الكفاءة والتعليم والثقافة كعناصر للنجاح، واعتقد عبود باشا أنني أوحيت في حديثي بأنه غير أمين أو غير كفء أو غير مثقف.

وبعد أيام اتصل بى الأستاذ زهير جرانه ، وكان من أشهر المحامين في ذلك الوقت كان يحصل على أعلى أجر في مرافعة لا تستغرق أكثر من ساعة وكان محامى الخاص، ومحامى عبود باشا أيضا ، وقال لى إن عبود باشا سيرفع عليك قضية يطالبك فيها بتعويض يتهمك بالقذف، وقلت له إنني مستعد لقضيته لأن عندي الشهود، ولم يرفع القضية بالطبع.

أ‘ود إلى سياق الحديث الأصلي، وهو قصة اغتيال أمين عثمان سافرنا إذن إلى لندن لحضور الاحتفالات بذكرى معركة العلمين، وحدثت حادثة أسيء فهمها حتى اليوم، ولقد قيل إن أمين عثمان خطب في هذا الاحتفال ، وقال إن علاقة مصر ببريطانيا يجب أن تكون مثل الزواج الكاثوليكي، وذلك لم يحدث على هذه الصورة، أما الذي حدث فعلا فهو أنه أثناء الاحتفال ألقى أمين عثمان كلمة عن العلاقات بين مصر وبريطانيا وكيف يجب أن تتطور هذه العلاقات لتحقق مصالح البلدين.

ثم أضاف قائلا إننا شعب دينه الإسلام، وأنت شعب بروتستانتي، والعلاقة بيننا يجب أن تكون على الطريقة الكاثوليكية، وأوضح عبارته قائلا أقصد أن تكون العلاقة في مجالات التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي، ولم يكن يقصد بالطبع أن تبقى مصر محتلة إنجليزيا، فجلاء القوات البريطانية كان أمنية كل المصريين دون استثناء واستقلال مصر كان أمنية كل مصري، لكنه تمنى أن تتوطد العلاقات المصرية الانجليزية، وتبقى دائما وطيدة، لأن الغرب بحضارته كان يمثل نموذجا للدول المتقدمة يجب الاستفادة منه لنرقى ببلادنا، ونصل بها إلى مصاف الأمم الناهضة، وقام مستر بيفين وحيا كلمتي واختلف مع أمين عثمان في الرأي وقال أن مصر تمثل حتى الآن موقعا هاما للمصالح البريطانية، وهذا يعنى أنه فهم كلمة أمين عثمان فهما صحيحا.

والغريب أن الصحف المصرية التي صدرت بعد يومين من هذا الحدث أساءت فهم هذه الكلمات، ونقلتها مبتورة على طريقة ولا تقربوا الصلاة، وهاجمت أمين عثمان واتهمته بأنه دعا إلى بقاء مصر محتلة انجليزيا، والحقيقة أن الرجل كان بريئا من هذا الاتهام، وكعادة أمين عثمان استهان بالاتهام ، ولم يفكر حتى في الدفاع عن نفسه، ونفس الصحف أثنت على كلمتي، ووصفتني بالاستقلالـ ولقد حاولت أن أقنع أمين عثمان بأن أدافع عنه، وأوضح الأمر على حقيقته لكنه رفض، وقال إن الصمت حل لهذه المشكلة.. وبعد أيام التقيت في بهو الفندق الذي كنا ننزل فيه بالسير ونستون تشرشل الذي بادرني بامتداح كلمتي، ولغتي الانجليزية، ثم سألني أين تعلمت الانجليزية، وعندما قلت له إنني تعلمت جانبا منها في كلية فيكتوريا والجانب الآخر في لندن سر لذلك وتمنى لى حظا طيبا، ثم أعطاني سيجارا ظللت أحتفظ به كتذكار من سياسي داهية.

كانت هذه الحوادث التي دعمت الأفكار، والشائعات التي كانت تتردد عن أمين عثمان وعن ولائه للانجليز.

كان بيت أمين عثمان قريبا من بيت النحاس باشا في جاردن سيتي ،وفى موجة العنف التي سادت في ذلك الوقت، وبينما أمين عثمان في طريقه على بيت النحاس باشا سيرا على الأقدام دون أي احتراز، إذ بشاب يخرج له ويطعنه بخنجر ويهرب وأنقذ أمين عثمان من هذه المحاولة، لأن الخنجر اصطدم بمصحف شريف كنت أعطيته إياه هدية، وكان يحتفظ به دائما في جيب سترته.

بعد ذلك في يناير 1946 تناولنا طعام الغذاء سويا، واتفقنا على لقاء النحاس باشا في منزله في الرابعة بعد الظهر، وهى الساعة التي يدخل بعدها مصطفى باشا إلى فراشه ليستريح.

سبقني أمين عثمان لبيت النحاس،لكن الأخير كان قد دخل فعلا إلى الفراش فآثر أمين باشا عدم إيقاظه وانتظرني قليلا، ولما شعر لأنني ربما تأخرت عليه، ترك خبرا في بيت النحاس باشا أن ألحق به وقت وصولي في الجمعية المصرية البريطانية لخريجي كلية فيكتوريا التي كانت وسط البلد، وكان يرأسها أمين عثمان.

وعندما وصلت على منزل النحاس باشا قيل لي إن أمين عثمان باشا غادر المكان قبل عشر دقائق من الآن وهو في انتظارك في الجمعية.

حينما وصل أمين عثمان إلى العمارة لم يجد المصعد موجودا، فقرر أن يصعد على أقدامه، وبينما هو يهم بذلك فإذا بأربع رصاصات تنطلق نحوه من الخلف فيسقط غارقا في دمائه، وعندما وصلت صدمت بما حدث، وعلمت أن أمين عثمان نقل إلى المستشفى وفى المستشفى كان بجوار فراشه لورد كليرن وزوجته، والنحاس باشا وزوجته، وكان باديا عليهم شدة التأثر والحزن، ولقد سمعت السفير البريطاني يأمر باستدعاء طبيبه الخاص، ويقول لأحد الموظفين لو اقتضى الأمر إحضار طبيب من لندن فأحضروه.

وبعد أن أفاق أمين عثمان قليلا طلب أن يحدثني،ودخلت عليه وأمسكت بكفه بين يدي، وتحدث بصعوبة قائلا: إنني أشعر أن هذه اللحظات هي الأخيرة أوصيك بابنتي .. وبعد قليل فارق الرجل الحياة.

وفى حفل التوديع الذي أقيم للورد كليرن قالت زوجة السفير والدموع في عينيها: من يوم أن مات أمين عثمان باشا بدأ كل شيء يتغير في مصر نحو الأسوأ ، وأضافت السيدة في تأثر بالغ لقد كان مرشحا ليصبح رئيسا للوزارة في مصر في يوم من الأيام كان ذلك بعد وفاة أمين عثمان باشا بحوالي شهرين.

يجدر أبى هنا أن أتوقف قليلا لأجيب على السؤال الذي طرحته قبل ذلك، وطرحه غيري هل كان أمين عثمان عميلا للانجليز؟

بداية أود أن أقول إن ما من سياسي مصري كبير في ذلك الوقت إلا وسعى لكي تكون علاقته بممثل بريطانيا طيبة، ولم يكن دافع هؤلاء الزعماء هو حب السفير، أو خدمة مصالح بريطانيا العظمى، لكن دافعهم كان محاولة تحييد أو كسب تأييد ذلك الرجل الذي كان له تأثير كبير في سير الأمور السياسية في مصر، شاء هؤلاء الزعماء أم أبوا، وعندما كانوا يعملون ذلك فهم يعتقدون أن في ذلك تحقيقا لمصالح شعبهم.

السفير البريطاني كان يمثل القوة المؤثرة الأولى، ولقد بدا ذلك واضحا طول فترة الاحتلال، وكانت قمة هذا الوضوح حادث 4 فبراير 1942 وأمين عثمان كان واحدا من هؤلاء الزعماء الذين سعوا على توطيد علاقتهم مع السفير البريطاني، لكن الفارق بن أمين عثمان وهؤلاء أن الأول كان قليل الاحتراز ولم يكن يخفى ذلك عن أحد.

وأنا لا أقول إن أمين عثمان باشا كان ملاكا، أو كان ممثلا للوطنية المصرية كما يجب أن تكون، لكنه كان رجلا واضحا، كان يعتقد أن الوفد هو أحق الأحزاب بالوصول إلى حكم البلاد، وأقدرها على تحقيق مصالحها، كما أنه كان يعتقد أن هذا الأمر يمكن أن يتم عن طريق التفاهم مع الانجليز، وكان يكن لمدنيتهم وتحضرهم إعجابا ، وكانت حياته السياسية محاولة لتحقيق هذا التصور، لم يغير جلده أو أهدافه، ولم ينتم على حزب سياسي حتى الوفد الذي كان متعاطفا معه. ورغم هذا التعاطف فهو لم يبخل بتقديم المساعدة لرؤساء الوزارات غير الوفدية، إذا شعر أن في هذه المساعدة خدمة لبلده.

أما عن سر ثقة الإنجليز فيه، فلقد سبق وعددتها، وربما كان من المناسب إعادتها وهى ثقافته الانجليزية، ذكاؤه ووضوحه ، إعجابه بالمدنية الغربية بالإضافة إلى بعض سمات شخصيته، مثل الحضور وخفة الظل.

كل هذه الظروف أتاحت صداقة وطيدة بين أمين عثمان والسفير البريطاني ، وحاول أمين عثمان أن يحقق من خلال هذه الصداقة الأفكار التي اقتنع بها، وربما كان العيب الرئيسي في أمين عثمان أنه استهان بالاتهامات التي وجهت إليه، ولم يعرها الاهتمام الواجب، ولم يقدر الرأي العام تقديرا لذا جاءت عملية اغتياله وكأنها أمر متوقع وذهب أمين عثمان ضحية التعصب، وليت الاغتيالات تحل أي مشكلة وطنية،الاغتيالات في رأيي لم تؤد إلى المزيد من الاغتيالات والألم والأحزان دون نتيجة إيجابية.

في هذا الجو المشحون بالتوتر تخرج المظاهرات هادرة تطالب بانسحاب القوات البريطانية، وتحدث اشتباكات بين رجال البوليس والمتظاهرين مما أسفر عن إصابة عدد كبير منهم وموت البعض.

أدى ذلك على نمو شعور شعبي مضاد للحكومة، كانت تغذية صحف الوفد، وظهر ذلك واضحا عندما هب الملك لافتتاح أحد المباني الجديدة في جامعة القاهرة، فامتنع الطلبة عن الذهاب، وقبض رجال الأمن على مجموعة كانت تنوى إلقاء قنبلة على الموكب الملكي ويتكهرب الجو وتضطرب الأمور.

في هذا الوقت تقع حادثة أخرى يروح ضحيتها أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، فبينما كان يقود سيارته ، إذا بسيارة نقل إنجليزية تنزلق رغما عن قائدها بفعل المطر، وتصطدم بسيارة رئيس الديوان الذي نقل على المستشفى ليلفظ أنفاسه الأخيرة وسط أحزان زوجته بعقد عرفي نازلي والدة الملك فاروق.

في هذا الجو المضطرب يتقدم السفير البريطاني بآخر طلب له إلى الملك فاروق يطلب منه إقالة وزارة النقراشي باشا التي عجزت عن الحفاظ على الأمن، ويستجاب له ويتقدم النقراشي باشا في الأيام الأخيرة من شهر فبراير باستقالته.

وبعد الاستقالة بشهر تقريبا، يستدعى لورد كيلرن إلى بلاده منقولا من مصر التي قضى فيها اثني عشر عاما، لعب دورا لم يسبقه فيه إلا مواطنه لورد كرومر.

ويعود إسماعيل صدقيإلى رئاسة الحكومة، طلبا للحزم المفقود، ويضع الناس أياديهم على قلوبهم فهم لم ينسوا بعد فترة حكمه القاسية في بداية الثلاثينات.

قلت قبل ذلك إن إسماعيل صدقيباشا كان.....عملوا في المجالات الإدارية ومن أكثرهم حزما وإيثارا ..............ورؤوس كبيرة تنحني له وتذهب لتتشرف بسماع توجيهاته السامية، كل ذلك شارك في دفعه نحو الهاوية.

تألفت وزارة صدقي باشا وسط هذه التحولات ، وكان على رئيس الوزارة أن يجارى أو يسكت على تصرفات الشاب المتردي.

كانت أول هذه التصرفات تعيين الملك للأستاذ كريم ثابت مستشارا صحفيا له دون أخذ رأى الحكومة،رغم أن هذا العمل من صميم اختصاصها، وعندما ذهب صدقي باشا ليبلغ الملك أن كريم ثابت كان يحصل على مرتب من المصروفات السرية، وهذا لا يليق بمستشار لجلالة الملك، فما كان من الأخير إلا أن ضاعف هذا المرتب، وسكت رئي الوزارة.

كما أن الملك بدأت تراوده في هذه الفترة أحلام عظمى ، فبدأ يصرح للصحف عن قومية عربية تخيل أن يكون هو زعيمها.

حاول صدقي باشا أن يحقق بوزاراته شيئا فاتجه تفكيره إلى المفاوضات مع الحكومة البريطانية للوصول إلى اتفاقية جديدة، وتتعثر المفاوضات في بدايتها ويكاد هذا التعثر أن يطيح بالوزارة ، بل إن الإشاعات قويت بأن الوزارة في طريقها إلى الاستقالة.

وبالفعل يتقدم صدقي باشا باستقالته، ويبدأ البحث عن أسماء جديدة يمكن أن تؤلف وزارة بديلة، وتطفو على السطح أسماء شريف صبري باشا ، وحافظ عفيفي باشا وعلى الشمسي باشا .

تفشل المشاورات التي جرت لتشكيل وزارة جديدة في الوصول على نتيجة، فيرفض الملك استقالة صدقي باشا ، ويكلفه بالاستمرار في وزارته لمهامها.

تعود وزارة صدقا باشا التي كان قد أدخل عليها بعض التعديل بإشراك بعض الوزراء من السعديين، وعادت لممارسة مهمتها الأساسية، وهى التفاوض مع الانجليز بشأن معاهدة جديدة، وتأتى الأخبار بالتوصل على مشروع سمى بمشروع صدقي بيفين نسبة إلى وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت، واعترض بعض زعماء ممن كانوا أعضاء في هيئة المفاوضات على بعض ما جاء في المشروع.

وبدأت الصحف المعارضة تندد بالمشروع وتبرز ما فيه من ثغرات، مما دعا صدقي باشا إلى اتخذا بعض الإجراءات العنيفة مثل تعطيل بعض الصحف ، أو تفتيش بعض المنازل، وقامت المظاهرات كأعنف ما تكون، واشتبك الطلبة مع قوات الأمن.

وتقترب سنة 1946 من نهايتها، وقد امتلأت شوارع العاصمة بأعمال العنف والتخريب وكان من المألوف الاستماع إلى أصوات انفجار القنابل، وبدأ الناس يصابون بالهلع من جراء هذه الحوادث، وظهر أن الحكومة لا تستطيع السيطرة على أمن البلاد فقدمت استقالتها في شهر ديسمبر سنة 1946.

انتهت السنة الدامية 1946 باستقالة إسماعيل صدقيباشا ، وبدعوة النقراشي باشا ثانية إلى تأليف الوزارة الجديدة.

تشكلت الوزارة من السعديين، والأحرار الدستوريين، واستبعد حزب الكتلة الوفدية من هذا التآلف لسوء العلاقة بين النقراشي باشا ، ومكرم عبيد باشا كما استبعد أي وزير مستقل من الاشتراك في الوزارة.

كان أول ما فكر فيه رئيس الحكومة الجديد امتصاص غضب الناس فأعاد النظر في مشروع صدقي بيفين، وبدأ مفاوضات جديدة مع انجلترا، وبعد أيام حدث تقدم في هذه المفاوضات وبدأت الصحف تتحدث عنه، وتلخص هذا التقدم في أن الانجليز وافقوا على نقل قواتهم إلى منطقة قناة السويس ، والتقليل من حجم هذه القوات.

وفى تصوري أن انجلترا- التي خرجت منهكة من الحرب- لجأت إلى هذا الحل بالموافقة للتقليل من النفقات. كانت مشكلة السودان على ما يبدو هي العقبة الكأداء التي تقف دائما في سبيل الوصول على اتفاقية بين مصر وبريطانيا، وهى التي أدت على إطالة أمد المفاوضات التي قامت بها وزارة النقراشي باشا .

رأت الحكومة المصرية عندما وصلت المفاوضات على طريق مسدود، وتجنبا للجمود أن تجرب وسيلة أخرى غير المفاوضات ، فلجأت إلى الأمم المتحدة، وعرضت القضية على مجلس الأمن في نفس الوقت الذي كانت تعرض فيه مشكلة فلسطين.

وفى أروقة الأمم المتحدة- التي كانت تسيطر على أعمالها الدول الكبرى- تعثرت المشكلتان وعاد الوفد المصري من نيويورك دون الوصول على نتيجة ، وبدأت بعض الصحف تتحدث عن أهمية توحيد جهود الأحزاب المصرية في جبهة قومية واحدة، كي تتمكن من الضغط على الجانب البريطاني، لكن الأحزاب كانت قد وصلت على حالة من الفرقة، والتشتت بحيث استعصى توحيدها.

وكان من أثر ذلك بداية التفسخ في الحياة السياسية المصرية، كما أصبح الوصول على كرسا الوزارة غاية، وليس وسيلة.

كما أن الملك كان سادرا في أسلوبه لا يلوى على شيء، ولا يأبه لأي قوة أخرى في البلاد.

فسدت علاقته بزوجته، ولم يكن يتورع عن الخروج إلى الملاهي وأندية القمار، دون أي اعتبار لمنصبه أو مكانته محاطا بحاشيته التي تخطط لنزواته مثل بوللى وكريم ثابت وأندراوس ، وأصبح لأفراد الحاشية من الحظوة ما جعل بعض الساسة يتقربون إليهم، ويسألونهم تحقيق مصالحهم.

ولم يكن ملك البلاد الشاب يتعفف عن الاستيلاء على بعض أموال الدولة، أو الابتزاز وأصبح كل شيء بثمن، الحصول على ترقية ،منح لقب أو استثناء، وكل من يطمع في ذلك يتصل بالحاشية ويدفع الثمن لكي يتحقق له ما يريد.

وبدأ الجمهور يغير موقفه من الملك الشاب الذي تمتع بحب هذا الشعب فترة طويلة، كما أن هذا الجمهور كان متفائلا بصلاح حال البلاد على يديه.

لكن النزوات والسهرات وتصرفات الحاشية بدأت تنتشر ، ولا يملك الشعب حين سماعها إلا أن تمتلئ قلوب أفراده بالغيظ والكمد وهذا أقصى ما كانوا يستطيعونه .

بينما الناس على هذا الحال من الغيظ والغليان، إذا بالأنباء تتحدث عن أن بريطانيا أنهت انتدابها على فلسطين في 15 مايو 1948 وأن القوات البريطانية سوف تنسحب، وتعلن المنظمات اليهودية في فلسطين إنشاء دولة إسرائيل.

وبدأت مهزلة [[حرب فلسطين]] التي انتهت بضياع فلسطين وبدأ البرلمان المصري يناقش في جلسات سرية دخول قوات جيشه إسرائيل.

بالإضافة إلى أن القضية برمتها كانت معروضة في الأمم المتحدة، والجامعة العربية الجديدة تحاول أن تلعب في هذا الاتجاه.

دفعت الدول العربية الأخرى قواتها لمحاربة العصابات الصهيونية وبدأت الصحف تنشر أنباء تقدم هذه الجيوش بما فيها الجيش المصري، ولم يكن هناك شك في انتصار هذه الجيوش على مجموعة عصابات صهيونية مسلحة، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.

بينما أنباء القتال تأتى بأن القوات العربية تقترب من تل أبيب إذا بمبعوث دولي يأتي من الأمم المتحدة، ويطالب بوقف القتال، وعمل هدنة ولم يتحمس لهذه الدعوة بين العرب ، فما هي إلا أيام حتى تستعيد الجيوش العربية أرض فلسطين .

وبعد أيام قليلة من وساطة المبعوث الدولي خرجت الأنباء تتحدث عن قبول الدول العربية لهدنة ثلاثة أسابيع ، وعكف ذلك المبعوث على وضع مشروع الصلح.

في أثناء فترة الهدنة كانت العصابات الصهيونية تعيد ترتيب نفسها، وتنظيم صفوفها، وكان المأمول أن تفعل الجيوش العربية نفس الشيء. طلب المبعوث الدولي مد الهدنة ثلاثة أيام أخرى بعد انتهاء فترة الأسابيع الثلاثة، ورفضت الدول العربية، واشتعلت المعارك مرة أخرى، وبالرغم من رنة التفاؤل التي كانت تذيعها القيادة المصرية، إلا أن الإذاعات الأجنبية كانت تتحدث عن انتصارات يحققها اليهود.

لم يصدق الناس هذه الأنباء في أول الأمر، ومعهم الحق فليس من المعقول أن تنتصر مجموعة من العصابات المسلحة على ستة جيوش نظامية.

لم يمر على ذلك وقت طويل حتى تحدثت الأنباء عن تخلى الجيش المصري عن بعض مواقع كان قد احتلها، ووصل الأمر إلى حد محاصرة بعض قوات الجيش المصري في موقعة الفالوجا.

في هذه الأثناء كان الكونت برنادوت الوسيط الدولي يعد مشروعا للتقسيم يرضى كل الأطراف، وبينما هو يؤدى هذا الواجب إذا بنبأ مفاجئ يعلن اغتيال هذا الرجل السويدي، وكان اغتياله بيد يهودية.

ترك حادث الكونت برنادوت أثره في الرأي العام العالمي، وبدأ شعور عام معاد لإسرائيل.

اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة المشروع الذي وضعه الوسيط الدولي قبل اغتياله، ورفضت إسرائيل المشروع، واعتبرته لا يحقق مصالحها، بل يحقق مصالح الدول العربية، أما الدول العربية فلم تستطع أن تحدد موقفها من المشروع لذل عجزت الجمعية العامة عن إقراره .

عندما كانت سنة 1948 تقترب من نهايتها وشعور بالأسى لما أصاب الجيوش العربية يملأ نفوس الناس إذا بالأنباء تعلن عن اغتيال رئيس الوزارة المصري النقراشي باشا أمام مبنى وزارة الداخلية بواسطة شاب من جماعة الإخوان المسلمين- التي صدر قرار بحلها بواسطة الوزارة منذ أيام، وكان النقراشي باشا قد اخذ على عاتقه التصدي للاتجاهات المتطرفة سواء كانت جماعة الإخوان المسلمين ، أو بعض التنظيمات الشيوعية التي بدأت تظهر في هذا الوقت.

قدمت الأمم المتحدة بعد مشاورات ومناورات مشروعا آخر للتقسيم بدا واضحا منه أنه يحقق مصلحة إسرائيل أكثر مما يحقق مصالح العرب، والغريب أن المشروع السابق الذي وقفت منه الدول العربية موقفا سلبيا كان يعطيها ميزات أفضل من المشروع الأخير، وفى رأيي أن إقرار المشروع الأخير كان ترجمة لحالة العرب الضعيفة، وقواهم المبعثرة كما كان يحقق – ككل نتائج المفاوضات- مصالح الطرف المنتصر، وهو بالطبع دولة إسرائيل الناشئة.

عاد الجيش المصري من هذه الحرب كسيرا ممتلئة نفوس أفراده بالمهان’ وحاول الملك أن يمحو ما علق في نفوس الضباط الشبان، فأقام الاحتفالات ترحيبا بعودتهم من الحصار- وكأنهم عائدون من انتصار، ولكن ما حدث من ارتباك في إدارة المعارك وسوء حالة الأسلحة ترك في نفوسهم جروحا لم يكن من السهل شفاؤها باحتفالات مهما كانت فخامة هذه الاحتفالات.

في هذه الفترة تقريبا، وبينما البلاد غارقة في مشكلاتها إذا بالأنباء تتحدث عن علاقات الملك الغرامية، ونزواته العاطفية، وكان طبيعيا ألا تحتمل الملكة فريدة كل ذلك، فحدث الطلاق بينهما وتداولت الألسنة- هذا الحادث بكثير من المرارة.

بعد مقتل النقراشي باشا الذي بقيت وزارته في الحكم أكثر من عام بقليل بدأ الملك يمارس لعبة مثيرة، وهى لعبة الوزارات ففي الفترة من يناير 1949 حتى يوليه 1952 تغيرت الوزارة حوالي سبع مرات. كلف الملك إبراهيم عبد الهادي باشا بتأليف الوزارة، وعبد الهاادي باشا من الذين شاركوا في ثورة 1919 ، وكان من أبرز من انشقوا على حزب الوفد، وشاركوا في تأسيس الحزب السعدي، وشغل منصب رئيس الديوان الملكي حوالي عام 1947 كما تولى بعد اغتيال النقراشي باشا الحزب السعدي.

كان أبرز ما فعلته هذه الوزارة هو مناهضة الجماعات السياسية المتطرفة، وتوقيع اتفاق الهدنة، كما حدثت أزمة بين الأحزاب المؤتلفة حول تقسيم الدوائر الانتخابية استعدادا للانتخابات البرلمانية.

لم تكن قد مضت ستة شهور على تكاليف الوزارة- التي لم تعجب الملك على ما يبدو- حتى قام الأخير باستدعاء رئيسها الزى ذهب يمضى إجازة الصيف في أوربا ,وطلب منه أن يستقيل فقدم استقالته في أواخر شهر يوليه 1949.

بدأت المشاورات للبحث عن رئيس للوزارة ترضى عنه كل الأطراف يستطيع أن يؤلف وزارة قومية، تفاوض الانجليز وتمهد للانتخابات.

كان الشخص الذي وقع عليه الاختيار هو حسين سرى باشا الذي لم ينتم أبدا إلى أحزاب ويحوز في نفس الوقت رضا الإنجليز والقصر وحزب الوفد.

ولقد تمكن الرجل فعلا من تأليف وزارته القومية من أحزاب الوفد السعديين والأحرار الدستوريين والحزب الوطنيوبعض المستقلين،وكانت هذه هي المرة الأولى التي يوافق فيها حزب الوفد على الاشتراك في حكومة ائتلافية بعد فترة طويلة من رفض هذه الفكرة.

وفى تصوري أن الوفد وافق على الاشتراك في هذه الوزارة بعد شعوره أنه ظل مستبعدا لفترة طويلة تقترب من الخمس سنوات، وربما لو لم يوافق لظل مستبعدا فترة أطول، كما أن السبب الثاني هو أن هذه الوزارة كانت وزارة انتخابات، ولقد فضل الوفد الاشتراك فيها كي يتمكن من تحقيق مصالحه الانتخابية،ويراقب أمورها عن كثب. كانت الصخرة التي تحطمت عليها جهود الوزارة القومية هي تقسيم الدوائر الانتخابية فيما بين الأحزاب المشتركة فيها، وترك بعض الدوائر لبعض الأحزاب من غير الوفد، لكن حزب الوفد يصمم على الترشيح في كافة الدوائر، وتتفاقم الخلافات ليؤدى إلى استقالة الوزارة بعد حوالي ثلاثة شهور من تأليفها.

ويكلف الملك رئيس الوزارة المستقيل بتشكيل وزارة محايدة تكون مهمتها الأساسية إجراء الانتخابات. ويؤلف حسين سرى باشا الوزارة المحايدة ، ويعد بإجراء انتخابات لا تدخل فيها لصالح احد الأحزاب، وتبدأ الاستعدادات للانتخابات، وكان الملاحظ في هذه الانتخابات أن الحكومة كانت ميالة إلى إنجاح مرشحي الوفد، وهذا ما حدث بالفعل عندما فاز حزب الوفد بأغلبية ساحقة من مقاعد مجلس النواب، فهل كان القصر الملكي- العدو التقليدي للوفد- ميالا لعودة الوفد للحكم؟

كما قلنا كان سلوك الملك قد أصبح مختلفا، ومترديا كما أنه وقع تحت تأثير مجموعة من المستشارين من أمثال بوللى وكريم ثابت ، وأندراوس باشا وغيرهم، وهؤلاء أصبحت لهم صولة في الحياة المصرية السياسية بعد تضاؤل دول السفارة البريطانية ، وربما شعر هؤلاء أن مصلحتهم الخاصة تتحقق أكثر لو عاد الوفد إلى الحكم، واستطاعوا إقناع الملك الغارق في نزواته بذلك، ومنصب رئيس الديوان الملكي كان شاغرا منذ تركه إبراهيم عبد الهادي باشا ، لكن بعض الحوادث وقعت قبل هذا الوقت بقليل، تبادل الوفد والقصر على أساسها الاتهامات ، كان النحاس باشا قد تعرض لمحاولة اغتياله، .............لهذا المنصب لكنه لم يرأس الوزارة أبدا، كان هادئا مرنا محبا للثقافة الانجليزية حتى إنه ألف كتابا مشهورا هو الإنجليز في بلادهم.

كان تعيين حافظ باشا إذن في رئاسة الديوان الملكي دون استشارة الوزارة ، وسكوت الوزارة على ذلك من التنازلات التي تحسب عليها.

التنازل الثاني، وهو أكثر وضوحا من الأول له قصة، فقد استقال رئيس ديوان المحاسبة لوجود بعض المخالفات المالية تتعلق ببعض المقربين من القصر، ويتقدم أحد الأعضاء مجلس الشيوخ، وأظنه الأستاذ مصطفي مرعي المحامى المشهور باستجواب يتعلق بتصرفات مالية مشبوهة للمستشار الصحفي للملك كريم ثابت صاحب جريدة المقطم ، وهو لبنان الأصل ، هذا جانب من الاستجواب، والجانب الثاني يتعلق برشاوى حصل عليها بعض المقربين من القصر في صفقات الأسلحة التي استخدمت في حرب فلسطين.

وجاء فؤاد باشا سراج الدين سكرتير الوفد وأحد وزراء الحكومة الوفدية ليرد على الاستجواب، ونشرت الصحف رده، الذي كان دفاعا عن كريم ثابت المتهم بحصوله على أموال من جمعية المواساة بالإسكندرية، ولقد عجبت لدفاع الوزارة عن رجل مشبوه، أما عن صفقة الأسلحة فلقد نفى سكرتير الوفد مسئولية الوزارة عن أي مخالفات مالية فيها، حيث أن هذه الصفقة حدثت في وزارة أخرى لكنه بالطبع لم يقر بوجود هذه المخالفات ويؤجل نظر الاستجواب نحو أسبوع آخر، أما كريم ثابت نفسه فقد رفع استقالته على الملك فاروق الذي رفضها ثقة منه في مستشاره الصحفي، ومنظم سهراته ونزواته.

وبعد فترة من تقديم الاستجواب تعلن اللجنة التي شكلتها الحكومة الوفدية أنه لم تثبت أية مخالفات مالية ارتكبها من وجهت إليهم الاتهامات فى شراء صفقة الأسلحة والذخائر.

وكان هذا الاستجواب قد أغضب الملك، وجعله يشعر بالغيظ تجاه مقدم الاستجواب ومن يقفون من خلفه.

وأرادت الحكومة أن تسترضى الملك فقررت ارتكاب مخالفة خطيرة حين قررت في شهر يونيه 1950 تنحية رئيس مجلس الشيوخ عن منصبه، هيكل باشا وإسقاط العضوية عن ثمانية عشر عضوا من أعضاء المجلس بينهم بالطبع مصطفى بك مرعى مقدم الاستجواب .

وكان هذا المسلك سببا في تعرض الوزارة الوفدية للمزيد من النقد والاتهام بأنها مستعدة لفعل أي شيء من أجل البقاء في السلطة، ووجدت هذه الاتهامات أذنا صاغية لدى الرأي العام، وشعر بعض أعضاء الحزب الكبير، بأن ذلك ربكا يكون سببا في انصراف الناس عن تأييد الحزب الذي بني مجده على مواقفه الصلبة تجاه القصر والانجليز.

لذا فلقد اضطرت الحكومة إلى فتح التحقيق من جديد في موضوع الأسلحة الفاسدة، مستغلة وجود الملك خارج البلاد لقضاء صيف عام 1950 في أوربا.

كان الملك سادرا في نزواته وكان الناس يتحدثون عن خطفه لخطيبة أحد الشبان، حين التقى بها عند أحد الجواهرجية فراقت له وعندما علم أنها مخطوبة مارس الإغراء والضغط حتى فسخت الفتاة خطبتها، واقترنت بالملك فاروق أما الفتاة فكانت ناريمان صادق ابنة حسين بك صادق وكيل وزارة المالية التي أصبحت من بعد ملكة مصر ، وأن ولى العهد أحمد فؤاد.

تصادف أنني كنت أمضى الصيف في أوربا كعادتي في العمل حين قرأت في الصحف الفرنسية عن بعض تصرفات الملك المصري الذي كان يمضى الصيف على شاطئ دوفيل وتحدثت الصحف عن الآلاف التي يخسرها الملك الشاب على موائد القمار كل ليلة، وهن ذلك الحشد من الفتيات الفرنسيات اللاتي يحطن به، وكأنه ملك خرافي من ملوك ألف ليلة.

ولم تكن الصحف الفرنسية فقط هي التي تتناول سلوك الملك، بل إن هذا السلوك أصبح المادة المفضلة والمسلية لصحف كثيرة فئ العالم الحر، كانت تجد في مغامراته النسائية وبعثرة أمواله على الموائد ، وتصرفات حاشيته مادة لقرائها، بينما معظم الشعب المصري يطحنه الفقر والجهل.

وصحف المعارضة في مصر لم تكف بعد عن الحديث عن المخالفات المالية للمستشار الصحفي للملك، وعن صفقة الأسلحة الفاسدة، وعن مخالفات حكومة الوفد في فصلها لبعض أعضاء مجلس الشيوخ.

عند عودتي من الخارج مشمئزا مما قرأته في الصحف الأوربية ، علمت أن مجموعة من الساسة المصريين بينهم الدكتور بهيكل باشا ومكرم عبيد باشا وإبراهيم عبد الهادي باشا وحافظ رمضان باشا وغيرهم، كتبوا إلى الملك ينتقدون مسلكه، ويهيبون به أن يرعى سمعة الوطن الذي يجلس على عرشه، وأن يفكر في مستقبل وسمعة البلاد التي خدشها بسلوكه في الخارج، ولقد علم بأمر هذا الكتاب من صديقي المرحوم عبد السلام الشاذلي باشا الذي كان أحد الموقعين عليه.

والعجيب في الأمر أن حكومة الوفد حرصا منها على إرضاء الملك صادرت الصحف التي نشرت الرسالة ، أو أي أنباء عنها، بل الأكثر من ذلك أنها اتهمت الموقعين عليها بالإجرام ، وألقت القبض على بعض من قاموا بتوزيع نص الخطاب.

ولقد حدا ذلك بالوزارة إلى التقدم بمشروع قانون إلى مجلس النواب للحد من حرية الصحافة خاصة في الأمور التي تتعلق بالقصر، لكن بعض النواب الوفديين تصدوا للمشروع ولم يوافقوا عليه، وكان ذلك من الأسباب التي أغضبت الملك من الوزارة.

كان ذلك يحدث بينما الحكومة تفاوض الإنجليز. تلك المفاوضات التي بدأت بعد تأليف الوزارة بأسابيع قليلة، واستمرت لأكثر من سنة ونصف دون جدوى، فلما كان شهر أكتوبر ولم يتوصل الطرفان على نتيجة في مفاوضاتهما لجأت حكومة الوفد إلى إلغاء المعاهدة من جانب واحد، وكان هذا القرار من جانب الحكومة محاولة لاستعادة سمعتها التي بدأت تفقدها خاصة في علاقتها بالقصر وعرض قرار الإلغاء على البرلمان بمجلسيه فوافق عليه.

بدأت الحكومة تعد التشريعات المنفذة لهذا الإلغاء، وتم تعديل الدستور ليصبح الملك ملكا لمصر والسودان، ولم توافق بريطانيا على ذلك الإلغاء بالطبع، وأعلنت أنه تصرف باطل من جانب الحكومة المصرية، وتوترت العلاقات بين الحكومتين المصرية والبريطانية.

ومما يذكر في بداية عام 1951 أن الملك فاروق رزق بأول طفل ذكر هو الأمير أحمد فؤاد من زوجته الجديدة الملكة ناريمان، حيث لم يرزق من الملكة السابقة فريدة إلا ببنات فقط، واحتفالا بهذا لحدث ، أقيم حفل ضخم في قصر عابدين دعي لحضوره أعيان المجتمع وكبار ساسته ورجال السلك السياسي الأجنبي.

السيناريو الأخير

كانت العلاقات قد وصلت بين بريطانيا ومصر إلى درجة عالية من التوتر خاصة بعد شروع الحكومة المصرية في اتخاذ الإجراءات التنفيذية لقرارها بإلغاء معاهدة 1936، والحكومة البريطانية لم تعترف بذلك الإلغاء، ولم تستجب له وقامت المظاهرات ضد الإنجليز، وانتشرت أعمال العنف ضد قواتهم، وكثرت حوادث التسلل إلى معسكراتهم في منطقة قناة السويس لوضع المتفجرات فيها.

وفى حوالي 20 يناير 1952 دخلت بعض القوات البريطانية إلى مدن القناة، واحتلت بعض أحيائها واعتصمت مجموعة من قوات الأمن في مدينة الإسماعيلية في بلوكات النظام احتجاجا على ذلك، وتنفيذا – على ما يبدو- لتعليمات وزير الداخلية، فما كان من القوات البريطانية إلا أن حاصرت هذه القوات، وأنذرتهم بالانسحاب ولما لم تستجب القوات للإنذار أطلقت عليهم القوات البريطانية نيرانها يوم 25 يناير 1952، وأدى ذلك إلى موت حوالي مائة فرد من قوات الأمن المصرية.

وفى صباح اليوم التالي فوجئ الناس بمدينة القاهرة، وشعر الناس بأن قوات الأمن وقفت عاجزة أمام ما حدث، ولم يكن أحد يدرى من الذي فعل ذلك اللهم إلا بعض التخمينات والشائعات ، البعض يقول الانجليز والبعض الآخر يقول إنهم بعض الجماعات المتطرفة فاض بها الكيل ، فلجأت إلى ذلك ، والبعض قال إنه القصر الملكي لكن الحقيقة ظلت مجهولة.

وصدر المرسوم الملكي بإقالة وزارة النحاس باشا وكانت هذه رابع إقالة تتعرض لها وزارة يرأسها النحاس باشا .

وبدأت مرحلة بداية النهاية للنظام الملكي تطرق الأبواب، وقبل أن أتحدث عن أحداث هذه الشهور التي سبقت قيام الثورة سوف أتوقف عند حدثين شخصيين الأول حدث في نهاية عام 1949، والثاني حدث في نهاية عام 1951 وبداية عام 1952.

أزمة 1949

كانت الفترة من عام 1934 إلى عام 1950 هي السنوات التي وصلت خلالها إلى قمة النجاح في حياتي الاقتصادية والعامة، وأصبحت مساهما في عدد كبير من الشركات، وعضوا في مجلس إدارات العديد من الشركات، والبنوك وحصلت على لقبي بك وباشا ودخلت مجلس الشيوخ عضوا وأطلقت على الصحف الأجنبية والمصرية لقب ملك القطن، كما أن شركة فرغلى للأقطان والأعمال المالية توسعت في أعمالها ، وبدأت تحقق ربحا سنويا يصل إلى حوالي المليون جنيه، وتوطدت علاقتي مع كبار الساسة المصريين، وصناع القرار وانتخبت رئيسا لبورصة القطن، ورئيسا لاتحاد المصدرين عدة مرات وساهمت في أعمال الكثير من الجمعيات الخيرية، وحصلت على عدد من الأوسمة.

إلى أن كان عام 1949 حيث اتفقت مع على يحيى باشا وآخرين على تكوين مجموعة شرائية، وتعاقدنا على شراء نصف مليون قنطار قطن، ومن المعروف أن هذا التعاقد يتم في بورصة العقود قبل أن يوجد القطن فى الأسواق .

وعندما يقوم صغار وكبار التجار بين أقطانهم إلى المصدرين فهم يفعلون ذلك ثقة منهم في إمكان تدبير هذه الكميات عن طريق شرائها من المزارعين.

بعد فترة اكتشف هؤلاء التجار أنهم لن يتمكنوا من تسليم الكميات التي تعاقدوا على بيعها لنا بالمواصفات المحددة في العقود، وفى الوقت المحدد أيضا، بدأوا يفكرون في الخروج من المأزق، ونظرت البورصة فئ الشكوى وأقرت بضرورة تسليمهم الأقطان حسب ما جاء في العقود وعندما خسروا الجولة الأولى في البورصة، بدأوا جولة أخرى بأن قدموا شكوى للحكومة، ونظرت الحكومة شكوى التجار وبعد مداولات، واتصالات في وزارة المالية أفتت الوزارة بإمكانية تسليم التجار أقطان لا تطابق المواصفات المحددة في العقود.

لم يكتف التجار، ومعظمهم من جنسيات ليست مصرية بهذا الكسب الذي تحقق لهم في جولتهم الثانية ، ففكروا في جولة أخيرة أمام مجلس الدولة، فرفعوا قضية طعنوا فيها بعدم شرعية المضاربات والمعاملات في البورصة ، وكان واضحا أن المجلس سوف يؤيد شكواهم.

بدا واضحا أن خسارتنا سوف تصل على ملايين الجنيهات إذا اقر مجلس الدولة بحقهم في الامتناع عن تسليم الأقطان المتعاقد عليها.

كانت الوزارة الموجودة في ذلك الوقت وزارة وفدية برئاسة النحاس باشا ، ووزير المالية فيها هو زكى عبد المتعال باشا ، وحاولنا التفاهم معه حول الموضوع لكسب تأييده في خلافنا مع التجار لكن وزير المالية أخذ موقفا يميل نحو صالح التجار، وأصر على هذا الموقف.

اتجه تفكيرنا إلى طريق آخر أنه أيسر السبل لكسب المعركة مع التجار، ورشح على يحيى باشا للقيام بهذه المهمة.

سافر على يحيى باشا وعرض الأمر على إلياس أندوارس باشا المستشار المالي للملك فاروق والذي وعده بعرض الأمر على جلالة الملك والرد عليه خلال ثلاثة أيام.

كان أندوارس باشا دقيقا في موعده، اتصل بعد ثلاثة أيام بالضبط وأبلغ على يحيى باشا أن الملك على استعداد للتدخل لصالحنا على شرط أنندفع للملك مبلغ 250 ألف جنيه، وللأركسترا (الحاشية) مبلغ 25 ألف جنيه وفوجئنا بالمطلب تماما.

وبدأت المساومات، والحسابات حول تخفيض المبلغ، وبعد فترة من الأخذ والرد .

وصل المبلغ على 150 ألف جنيه للملك، 10 آلاف جنيه للأوركسترا بما فيهم أندوارس بالطبع.

كل ذلك لكي يمارس الملك سلطاته على الوزارة كي تقف موقفا محايدا ومنصفا.

وبعد أن تمت الصفقة واطمأن الملك لحصوله على المبلغ المحدد، دعا مجلس الوزراء إلى غداء في قصر عابدين، وأثناء الغذاء وجه الكلام إلى النحاس باشا قائلا:

" أظن أنه لا يرضيك يا رفعة الرئيس أن يكون وزير ماليتك سببا في هدم وخراب بيوت مال مصرية نعتز بها، ومن الواجب أن نشجعها ونحافظ عليها تلك البيوت التي استطاعت بجهدها أن تنافس وتتفوق على بيوت مال أجنبية".

وأجابه النحاس باشا بأنه سوف يبحث الأمر مع وزير المالية.

وفى اليوم التالي مباشرة علمت بتفاصيل هذا الحديث ، كما صدر من وزير المالية زكى عبد المتعال باشا تراجع فيه عن قراره السابق.

على هنا انتهت مشكلة الحكومة، وبقيت مشكلة مجلس الدولة، ولم يكن هناك أمل في كسب هذه الجولة.

لم يكن باقيا على الموعد لتسليم الأقطان طبقا للمواصفات المحددة في العقود غير أيام قليلة ، ولو أمكننا تعطيل مجلس الدولة عن إصداره فتواه إلى أن يحين هذا الموعد لحلت المشكلة ورشحت أنا للقيام بهذا الدور.

كان رئيس مجلس الدولة في ذلك الوقت هو السنهوري باشا ،وتقدمنا عن طريق محامينا ندفع بعدم حياد رئيس المجلس، كوسيلة للتعطيل وكسب الوقت.

كان علينا أن نتقدم بالمستندات التي تثبت صحة الدفع المقدم منا، وتلكأنا في تقديم تلك المستندات حتى حان الموعد المحدد في العقود لتسليم الأقطان، وأثبتت البورصة عدم تسليم التجار للأقطان، كما أثبتت فئ نفس الوقت قدرتنا على السداد، وكسبنا الجولة.

وبعد أيام صدرت فتوى مجلس الدولة وجاءت لصالح التجار، ولكن بعد فوات الأوان.

انتقلت بعد ذلك القضية على ساحة المحاكم، وظلت مستمرة حوالي عشرين عاما، لنكسبها نحن في النهاية وكانت من ضمن حجج المحكمة أن فتوى مجلس الدولة بعدم شرعية أعمال البورصة التي تتم يوميا في ملايين الجنيهات تضر بالاقتصاد الوطني ضررا بالغا.

انتهت هذه الأزمة عام 1950 بعد ضجة إعلامية كبيرة على صفحات الصحف، وفى المنتديات العامة، ولقد كسبت بعض الصحف نتيجة مساندتها لنا آلاف الجنيهات، كما كسب المحامون مبالغ طائلة وسميت هذه العملية أيامها بعملية الكورنر.

أزمة 1951/1952

لم يكن قد مضى عام ونصف على الأزمة السابقة التي سميه بعملية الكورنر، حتى حدثت أزمة أخرى، كادت تعصف بكل ما حققته من نجاح مالي، وأذكر جيدا أن هذه الأزمة هي الوحيدة التي جعلتني أبكى أمام زوجتي .

اجتزت أزمة 1949 متحالفا مع عدد من كبار المصدرين، أما هذه الأزمة فقد خضتها وحدي ضد مجموعة من المصدرين يساندهم ويتعاطف معهم أحد كبار وزراء الحكومة الوفدية.

وعالم التجارة بلا قلب قد يتحالف معك زميل اليوم وغدا تجده متحالفا مع غيرك ليدوسا عليك بالأقدام.

والذي حدث أنني تعاقدت على بيع 250,000 قنطار من القطن بسعر القنطار ثمانية جنيهات أي حوالي 2 مليون جنيه، وبعد أن تعاقدت على تلك الكمية الضخمة، فوجئت بمجموعة الخبراء الرسمية في البورصة ترفض القطن الذي تقدمت به بحجة أنه لا يطابق المواصفات، وطلبت مجموعة أخرى من الخبراء لتحكم بيننا، ولكنى فوجئت باللجنة الثانية توافق على نفس الراى الذي قالته اللجنة الأولى.

وعرفت من أحد الخبراء ، وكانت تربطني به صلة قرابة أن وراء رفض قطني مجموعة من المصدرين يساندهم أحد الوزراء.

وشعرت أن الضربة سوف تكون قاسية، والخسارة فادحة ، اتصلت بأحد كبار الصحفيين وكان في نفس الوقت صاحبا لدار صحفية، وطلبت منه أن يكتب مقالا باسمي يتهم فيه مندوب الحكومة في البورصة بأنه متحيز ومغرض ، وقال لى الصحفي الكبير إنه لا مانع عنده أن يفعل ذلك لكن في مقابل دفع مبلغ 5000 جنيه، وعندما قلت له إن المبلغ ضخم قال لى إن نشره لمثل هذا المقال قد يعرضه للسجن.

وافقت على دفع المبلغ ، واشترطت أن يظهر في الصفحة الأولى تحت عنوان "إني أتهم " وبنفس الألفاظ .

وخرج المقال كما اتفقنا، لكنه لم يترك الأثر الذي توقعته.

وبدأت أشعر أن على أن أتحمل خسارة المليونين من الجنيهات، ولم يكن ذلك بالنسبة لى أمرا سهلا.

قلت في بداية هذه الذكريات إنني مؤمن بالحظ، ذلك الذي يجعل حصانين توأمين أحدهما يشتريه مربى خيول ليشترك به في السباق، والآخر يشتريه عربجى ، فالأول يجد من العناية والاهتمام ما يفوق في أحيان كثيرة ما يلقاه الإنسان، أما الثاني فلا يجد من صاحبه إلا القسوة والشدة والأعمال العنيفة.

ذلك الحظ هو الذي وقف بجانبي هذه المرة، فبينما أنا في حيرتي وحزني، إذا بحكومة الوفد تقال بسبب حريق القاهرة، وتأتى وزارة جديدة، ومندوب جديد للحكومة، ويقبل القطن وبدلا من خسارة 2 مليون من الجنيهات حققت ربحا.

عندما أقليت الوزارة الوفدية في 26 يناير 1952 كانت البلاد في وضع لا تحسد عليه، الحرائق منتشرة في العاصمة، والفوضى تملأ البلاد، والملك سمعته سيئة للغاية، وزعماء الأحزاب المعارضة فقدوا رضا الملك عليهم بعد الرسالة التي أرسلوها إليه، والأحوال متردية في منطقة قناة السويس بين القوات البريطانية وبعض العناصر الفدائيون كما أن الحكومة البريطانية تطلب تعويضا عما أصاب ممتلكات الأجانب من أضرار ، ومن يا ترى إذن سيرأس الوزارة القادمة؟

كان هذا السؤال وسط هذه الأوضاع المتردية من الصعوبة بحيث لم يكن من السهل الإجابة عليه.

الوفد مستبعد وزعماء الأحزاب المعارضة مستبعدون، وبدأت بعض الأسماء التي عرفت بتعففها تطفو على السطح مثل أحمد نجيب الهلالي باشا أو بهي الدين بركات باشا ولم يكن أمر الاتفاق على أحد الأسماء في القصر أمرا ميسورا ، فالملك كان موزع الفكر بين فريقين في القصر الملكي، الفريق الأول وهو الأضعف يرأسه حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي، ووكيله حسين يوسف بك، والفريق الآخر هو فريق المستشارين من خارج القصر مثل اندراوس وكريم ثابت وغيرهما.

وقد يتساءل القارئ عن الذي أجبر حافظ عفيفي باشا على قبول مثل هذا الوضع المهين لماضيه السياسي المشرف، ولقد سمعت الإجابة من الرجل نفسه حين قال لى: لقد كان استبعاده من رئاسة بنك مصر، لإخلاء المكان لأحد رجال الملك المقربين وهو إلياس أندراوس ويضيف الرجل أن مرسوم تعيينه صدر دون أخذ رأيه، وأنه وافق على مضض، فربما استطاع أن يقدم إلى بلده خدمة من خلال هذا المنصب الهام، لكن الظروف السيئة في القصر كانت أكبر من أماني الرجل فلم يستطع أن يفل شيئا، لكن بقى له شرف المحاولة.

وصلت الصراعات إلى اختيار على ماهر باشا السياسي المحنك ليقود السفينة وسط هذه العواصف والأنواء، وقبل الرجل – كما قال لى فيما بعد- المنصب على شرط ألا يتدخل في شئونه احد، لكي يتمكن من معالجة الأمور المتردية في حزم، ويجاب لشروطه.

وتتألف الوزارة بسرعة شديدة، ويحاول الرجل أن يكسب تأييد كل الأطراف ألأحزاب ورئيس الديوان، ويظهر بمظهر المتشدد تجاه الإنجليز، ويصرح أنه مصر على مفاوضة الانجليز حول جلاء قواتهم نهائيا عن مصر، ويعيد إلى الأذهان صورة الرجل الصلب التي ظهر بها في بداية الحرب العالمية الثانية.

وبينما الرجل يحاول أن يحقق ما أعلنه، إذا بكل الأطراف تتخلى عنه، الأحزاب لا تتعاون ولا تتحمس بالشكل الكافي، والقصر يفكر في غيره، وعندما يرى السفير البريطاني ذلك لا يتحمس هو الآخر للتعاون معه، ويطلب الرجل موعدا لمقابلة الملك فلا يجاب طلبه، ويحال على رئيس الديوان.

ويبر الرجل بوعده، فعندما يجد أنه لن يتمكن من فعل ما وعد به من إصلاح ومفاوضة، يتقدم باستقالته، بعد حوالي شهر تقريبا من تأليف وزارته وخرج هذه المرة بصورة كريمة.

ويبدأ القصر بفريقيه المتضاربين يحاول الخروج من الأزمة، ويتجه البصر إلى رجل من رجال الوفد القدامى اشتهر بالصلابة في الحق والنظافة والاعتزاز بنفسه وبكرامته، وبأنه من السياسيين الأدباء ذلكم هو نجيب باشا والعجيب أن أكثر ما عرف عنه أنه من ألد أعداء القصر، وأنه قد أخذ عهدا على نفسه ألا يدخل القصر الملكي.

تشكلت وزارة نجيب الهلالي باشا ، وقيل يومها إن هذه الوزارة جاءت من أجل أهداف محددة، وهى تطهير البلاد من الأمراض الخلقية التي انتشرت مثل الرشوة والمحسوبية، وما إلى ذلك.. ولكن هل استطاعت هذه الوزارة أن تفعل ذلك؟ .. إنها لوفعلت ذلك أي لو سمح لها بذلكن لوصل الأمر للملك ومن حوله من المستشارين الذين يتلقون الرشاوى من أجل أي شيء يستطيع أن يتدخل فيه الملك.

لم يكن الأمر ميسورا بالنسبة للوزارة، ولم تجد اللجان التي تشكلت من يعاونها، أو يقدم لها المعلومات أو الوثائق، وشعر الرجل الذي جاء ليطهر أن الأمر لم يكن بالسهولة التي تصورها، فالنظام كله كان قد استنفذ أغراضه، ووصل إلى حالة من العفن أكبر من أمانيه الإصلاحية.

لذا فقد راجت إشاعة في ذلك الوقت بينما الوزارة تمارس عملها في الإسكندرية مفادها أن مجموعة من مستشاري الملك ومعهم أحمد عبود باشا دفعوا للملك رشوة مقدارها مليون فرنك لكي يقيل الوزارة التي جاءت لتنقب في الملفات، وعندما سمعت تلك الإشاعة من حافظ عفيفي باشا قلت له أنت تعرف عبود باشا وأنا أعرفه، وهو أبخل من أن يدفع مليون مليم لأي هدف، وابتسم الرجل وصمت وبعد أيام ولنفس السبب اتخذ رئيس الوزارة هذه الشائعة ذريعة، وقدم استقالته في بداية شهر يوليو 1952 وكذلك فعل حافظ عفيفي باشا ، وقبلت استقالة الأول، أما الثاني فرفضت استقالته، لا تمسكا بحافظ عفيفي ولكن خوفا من الشائعات التي كانت رائجة عن الرشوة.

من يا ترى الرجل القادم الذي ينال رضاه مستشاري الملك، كان المرشح هذه المرة هو رجل المواقف التي لا لون لها، حسين سري باشا بعد أ راج اسم رجل آخر على نمط الهلالي باشا هو بهي الدين بركات باشا وأعتقد أن الأخير كان ترشيح حافظ عفيفي باشا والأول ترشيح مجموعة المستشارين.

تألفت وزارة حسين سري في الأيام الأولى من شهر يوليو 1952، وكان أكثر ما لفت النظر هذه الوزارة هو ظهور اسم كريم ثابت باشا مستشار الملك الذي راجت من حوله الشائعات كوزير دولة، وبدا أن الوزارة واقعة تماما تحت تأثير الملك دون أدنى مقاومة من جانب رئيسها، ولقد أسل لى رئيس الوزارة أحد كبار الضباط في مقصورة السباق بنادي سبورتنج ليصطحبني لمقابلته في بولكى، وبعد أن وصلت عرض على منصب وزير المالية وقال إنه ترك المنصب شاغرا لحين أخذ رايى، لكنني اعتذرت لنفس الأسباب التي سقتها قبل ذلك وتمنيت له ولوزارته التوفيق.

كانت منشورات جماعة الضباط الأحرار قد بدأت تظهر فى ذلك الوقت، تتحدث عن الإصلاح الذي كان رئيس مجلس إدارته دائما هو المرشح الملكي، كما أن الجيش نفسه كان يعد مؤسسة موالية للملك.

وينجح الضباط الشبان لأول مرة في تاريخ ناديهم في انتخاب ضابط غير ملكي هو اللواء محمد نجيب ويثور الملك ثورة عارمة ويوجه إنذارا إلى قائد الجيش حيدر باشا يأمره بحل مجلس إدارة نادي الضباط وينفذ قائد عام الجيش الأمر على الفور، فيحل مجلس الإدارة المنتخب، وأدى ذلك إلى حركة عصيان في صفوف الضباط، واستقال على أثره اللواء محمد نجيب من منصبه، ويحاول رئيس الوزارة أن يجد مخرجا لهذه الأزمة التي صنعها الملك بصلفه، وغروره بأن اقترح تعيين محمد نجيب وزيرا للحربية في وزارته، لكن الملك يرفض طلبه ويعتبر ذلك ضعفا من رئيس الوزارة، الذي لم يجد بدا من تقديم استقالته ولم يكن قد مضى على تأليفه للوزارة أكثر من ثلاثة أسابيع.

وبدأت الاتصالات بالهلالي باشا مرة أخرى لكي يعود على تأليف الوزارة، ويشترط الرجل لعودته مجموعة من الشروط، تجاب له إنقاذا للموقف، وتؤلف آخر وزارة في العهد الملكي.

لم يكن قد مضى على تأليف الوزارة الأخيرة غير يوم واحد فقط حين استمع الناس من إذاعة القاهرة إلى بيان يعلن عن قيام تنظيم الضباط الأحرار بانقلاب، وقيام عهد جديد كما أعلن أن الملك فاروق عهد إلى على ماهر باشا بناء عل طلب الضباط الأحرار بتأليف الوزارة الجديدة.

وفى صباح السادس والعشرين من يوليو 1952 قبل الملك الإنذار، وتنازل عن العرش، وعلى اليخت الملكي المحروسة كان الملك الشاب 32 سنة يصطحب بناته الثلاث وزوجته ناريمان، وطفله الوحيد أحمد فؤاد.

تهادت السفينة على صفحة مياه الإسكندرية ، وهى تطلق صفارتها نهاية النظام الملكي في مصر، بينما وقف على الرصيف على ماهر باشا رئيس الوزراء، واللواء محمد نجيب وبعض الضباط من قادة الثورة، والسفير الأمريكي في مصر.

وتطوى صفحة من التاريخ الكفاح المصرة، لتبدأ صفحة جديدة مختلفة في ظروفها وسماتها ، لكنها تبقى لبنة ون لبنات الكفاح المصري من أجل العدل والحرية والاستقلال.

في أسباب الثورة

ربما تصور البعض خطأ أنني من بين الذين لم يسعدهم قيام ثورة يوليو، هذا ظلم فادح لى ن وللكثيرين من أمثالي، أقول ذلك لأن هؤلاء ينسون أننا قبل كل شيء مصريون ننتمي للأرض والسماء والناس الذين نعيش بينهم.

كانت أعظم أمانينا أن نرى وطننا وقد أصبح في عداد الأوطان الحرة، التي تملك مقدراتها وتصنع بعقول وايادى أبنائها نهضتها وتقدمها.

كانت أسعد أمنياى أن أستمع لمن ينادون بمصر الحرة المستقلة التي يسود ربوعها العدل والحب والسلام ، وذلك كان يقتضى ضمان حد أدنى من الحياة الكريمة لأبنائها.

وقد يتساءل البعض، عما فعلته أنا كرأسمالي كي أحقق هذا الحلم المنشود.

وإجابتي على هذا التساؤل ، لن تكون ادعاء لبطولة، أو بحثا عن دور ادعيه، فكلنا يحلم بالعدل والحرية والسلام، لك لكل منا أسلوبه في تحقيق ما يحلم به، الذين يملكون القدرة على تصور المستقبل في أي مكان من العالم هم المفكرون، والفنانون المثقفون ، هؤلاء بما أتيح لهم من حساسية وثقافة وقدرة على الرؤية قادرون على الاختلاف مع الحاضر، وتصور المستقبل في أعمالهم الفنية، أو إنتاجهم الفكري، مكونين وجهة نظر تجاه المجتمع، محاولين تحقيق تصوراتهم عن طريق الدعوة إليها.

تأتى بعد فئة المفكرين، والفنانين فئة الثوار، وهم الأشخاص الذين يؤمنون بتصورات المفكرين لتغيير الواقع، ويسعون على جعل هذه التصورات واقعا حقيقيا بوسائلهم المختلفة.

بهاتين الفئتين السابقتين يحدث التغيير والتطور ومن المؤكد اننى لم أنتم لإحدى الفئتين بل أقولها بكل تواضع، وسرور إنني كنت أحد أبناء مصر الذين وجدوا في عالم المال والأعمال طريقهم لتحقيق ذواتهم، وخدمة أوطانهم.

لقد كان محركي إلى تحقيق النجاح هو التفوق على الأجانب في عملي إيماني بمصريتي، وبأن المصري لو أتيحت له الظروف المناسبة، فسوف يظهر بمعدنه النفيس الأصيل.

ولقد حاولت ذلك بالفعل وبعد أن كان مجال التصدير من المجالات التي يحتكرها الأجانب ، تمكنت خلال سنوات معدودة من أن أتفوق عليهم، وأصبح المصدر رقم واحد في مصر كلها .

ولقد كان تفوقي على الأجانب في عملي يعوضني عن الإحباط الذي كنت أشعره نتيجة عجزي عن تغيير الواقع الذي لم أكن راضيا عنه من الناحية السياسية.

كما أننا رأسماليين في دولة مستعمرة يحكمها ملك ليس من أبنائها، وكان المحك الحقيقي أن يكون الإنسان رأسماليا في دولة مستقلة تحكمها إرادة أبنائها.

لذلك لم أندهش عندما قامت الثورة، فكل وطني كان ينتظرها ويتوقعها ، والضباط الأحرار كانوا تحقيقا لإرادة شعبية، وثمرة لكفاح شعبي متصل، كانت حركتهم قمته ، والذي أدهشني حقا هو أن هذه الثورة تأخرت كثيرا، ولقد كنت أتوقع نتيجة لبعض الحسابات والظروف أنها لابد قائمة خلال عامي 1949، 1950 على الأكثر .

ما هي الظروف التي مهدت للثورة إذن؟

لقد مثل عام 1946 في رأيي عام الانكسار والتفكك في الحياة السياسية المصرية، وسوف أتناول بالحديث عناصر التأثير في الحياة السياسية المصرية.

أولا: الأحزاب السياسية، والقوى الوطنية

نستطيع القول من خلال استعراضنا السابق لمرحلة تربو قليلا على النصف قرن، أن الحركة الوطنية ظلت صاعدة متطورة منذ بداية هذا القرن.

ولقد صادف هذه الحركة أوقات توهج مثلما حدث سنة 1919 ، وظل مشتعلا ومؤثرا حتى آتت ثماره في تصريح 28 فبراير 1922 وفى دستور 1923 كما صادف هذه الحركة أوقات ذبول وخفوت.

وليس من الإنصاف أن نتهم زعماء البلاد قبل ثورة 1952 بالتفريط والتساهل ، فلقد عمل هؤلاء الزعماء في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد، وكانوا تعبيرا عن عصرهم بكل ما يحمل من تغيرات على المستوى العالمي، أو على المستوى المحلى، وجاهدوا- قدر استطاعتهم- جهادا شريفا بكل الأسلحة التي يملكونها، ولقد وقفوا أحيانا وجانبهم التوفيق في بعض الأحيان، ويكفى أن نتذكر أن كفاحهم جاء محاطا بمعوقين رئيسيين، المعوق الأول هو الانجليز والمعوق الثاني هو الملك ، إضافة إلى ظروف دولية تمثلت فئ الحرب العالمية الأولى( 1914- 1918) والحرب الثانية( 1939- 1945) ومرحلة الركود الاقتصادي في بداية الثلاثينات.

وإذا كنا نتذكر لهؤلاء الزعماء حسنات، فلنذكر أن جميعهم نالوا قدرا عاليا من العلم، والثقافة أهلهم للوصول إلى الصفوف القيادية في وطنهم، كما نذكر لهم إيمانهم بالحكم والنظام الديمقراطي، واحترامهم للحرية وحقوق الإنسان، وإذا استثنينا بعض التجاوزات سنجد أن هؤلاء الزعماء، كانوا أشد حرصا على الحريات العامة، وحقوق الإنسان من حكام بلاد أكثر تقدما، وأفضل ظروفا من مصر.

كانوا يحملون نوايا إصلاحية، وبرامج للتغيير نحو الأفضل ، لكن لم تتح لهم الظروف لتنفيذ برامجهم ، فمتوسط بقاء أي وزارة في الحكم كان حوالى خمسة عشر شهرا، وهى فترة غير كافية لتحقيق أي برامج. كما كانوا – معظمهم- على درجة عالية من احترام القانون، ومعظمهم امتثل أمام المحاكم شاهدا، أو متهما، وعندما يكونون في الحكم لا يسمحون لأنفسهم بالتدخل فئ سلطة القضاء بأي صورة من الصور.

إذن لماذا وصل النظام الديمقراطي في مصر على طريق مسدود؟

في الواقع لم يكن العيب في النظام الديمقراطي، أو في الزعماء المصريين، لكن دار السفارة البريطانية والقصر الملكي من جهة أخرى استطاعا أن يحولا المعركة بين القوى الوطنية وقوات الاحتلال إلى معركة فيما بينهم أي فيما بين القوى الوطنية. كما استطاعا- السفرة والقصر- أن يجعلا من الوصول إلى كراسي الحكم غاية، وليس وسيلة بالنسبة للقوى الوطنية، وكان المستفيد من هذا التناحر كلاهما معا الانجليز والقصر.

فعلى سبيل المثال الحزب الشعبي الكبير حزب الوفد، بني كل مجده واكتسب شعبيته من خلال مواقفه الصلبة تجاه الانجليز والقصر، والتعبير عن أماني القوى الشعبية وكان زعماء هذا الحزب مخلصين أشد الإخلاص في نواياهم، لكنهم تعرضوا للترويض منذ البداية من أيام سعد زغلول، وعمل الانجليز من ناحية، والقصر من ناحية أخرى على تفتيت الحزب الكبير وإحباطه حتى لو أدى الأمر على إقالة حكومته في معظم الأحيان.

والمتابع المدقق لما حدث من انقسامات في القيادة الوفدية، سوف يكتشف بوضوح يدا إما للانجليز أو للقصر، وراء كل انقسام منذ الانقسام الأول الذي تمثل في خروج عدلي وعبد الخالق ثروت ومحمد محمود أو في الانشقاق الثاني الذي تمثل في خروج أحمد ماهر والنقراشي ، أو الشرخ الثالث الذي تمثل في خروج مكرم عبيد ، ثم انقسامات أخرى كثيرة لم تحدث ضجة كما أحدثتها الانقسامات السابقة مثل خروج بهي الدين بركات أو الهلالي وغيرهم.

والأحزاب الرئيسية الأخرى الموجودة في الساحة نشأت كانقسام على الوفد أو تفتيتا له، فحزب الأحرار الدستوريين نشا من الانقسام الأول في العشرينات، والسعديين نشأ من الانقسام الثاني في الثلاثينات، وحزب الكتلة نشأ من الانقسام الثالث، كما أن بعض القوى الثورية الأخرى أيضا خرجت من أحضان الوفد مثل الاشتراكيين، والشيوعيين.

وعندما جاء عام 1946 بعد حادث 4 فبراير 1942، ونهاية الحرب العالمية الثانية، وانحدار الملك فاروق خلقيا، كانت القوى السياسية المصرية قد فقدت حيويتها، وطغت بعض المصالح الفردية على المثل العليا، والأماني العامة، وبدأت الشروخ تملأ جدران الأحزاب وكان واضحا أن البلاد في طريقها إلى هزة تعيد للقوى الوطنية حيويتها، وتجدد شبابها وتوقف تفاقم الأمور المتدهورة.

أحوال الشعب المصري

لم تكن الشريحة الحاكمة في مصر تعبيرا عن أحوال الشعب أو إفرازا له ، فالمتابع للحكومات المصرية سيجد أن الوزارة المصرية كانت تمثل إما طبقة كبار الملاك، أو الشريحة العليا من مثقفي الطبقة المتوسطة المصرية، وهؤلاء رغم ثقافتهم العالية إلا أنهم لم يمثلوا إلا نسبة ضئيلة للغاية من مجموع الشعب المصري الذي كان حتى قيام الثورة- بحق- في معظمه شعبا فقيرا يعانى معظمه من الأمية، وسوء الأحوال المعيشية ،كما يعانى من الأمراض وسوء الخدمات التي تقدم له، وحياة قوامها الفقر والجهل والمرض دون تحسن ملموس ، حيث زعماء البلاد مشغولون بقضية التحرير والديمقراطية السياسية.. مما أدى إلى خفوت أمل سواد الشعب في حياة أفضل، والطموح على حد أدنى من الحياة الكريمة.. حياة قوامها هذا كانت لابد أن تقود إلى عوامل أخرى إلى التغيير والثورة.

الملك

أتى فاروق إلى الحكم فتى يافعا ليخلف والده المتعجرف الملك فؤاد ولقد تعلقت ببراءته الآمال ، وتفاءل به الشعب خيرا، لكن هل مثل السلطة والمال مفسدة للخلق ؟ خاصة لمرهق لم ينل القدر الكافي من العلم والثقافة ؟

وجد الفتى نفسه محاطا بهالات من الإجلال والإكبار ، ورؤوس كبيرة تنحني له وتذهب إليه لتلقى النصح والتوجيه السامي، وتخرج من عنده بظهرها تعظيما وإكبارا، كما أنه تلقى تربيته وتوجيهه من أشخاص ينظرون له على أنه الأعلى والأرفع مكانة، بالإضافة لإذلال السفارة البريطانية له الذي تمثل في حادث 4 فبراير 1942، وغيره من الحوادث التي لم تصل على أهميته.

وبانتهاء الحرب العالمية وانحسار سلطة السفارة البريطانية، وبلوغ الملك من العمر السادسة والعشرين، بدأ في الانحدار والانغماس في النزوات، والاستهانة بكل القيم، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو دستورية ، وفى خلال السنوات الخمس السابقة على الثورة، كان الملك يتلقى الرشاوى ويبيع الرتب والنياشين، ويسهر يوميا تقريبا ليلعب القمار، كان يرتاد الملاهي، بل إنه كان يغش ويكذب أثناء لعبه القمار ، إضافة على أنه كان سكيرا.

أما عن فضائحه النسائية فلم يكن يتورع عن الارتباط بسيدات سيئات السمعة، ولم يكن يتعفف عن اشتهاء ومحاولة إغراء أية امرأة حتى وإن كانت مرتبطة بالخطبة أو الزواج وبالطبع يتم ذلك عن طريق حاشيته، أو مستشاريه الخصوصيين.

وربما كان من الجدير بالذكر أن أشير إلى بعض الحوادث التي عرفتها عن قرب، وكان الملك أحد أطرافها.

كانت المرة الأولى التي التقيت فيها بالملك فاروق في قصر المنتزه، وكان في الفترة الأولى من تنصيبه على عرش البلاد، وذهبت لتحيته قبل سفري إلى خارج البلاد، وعندما وصلت كان أحد التشريفاتية في انتظاري، وعندما صحبني إلى غرفة المكتب الملكية انزلقت قدمي وكدت أسقط على الأرض ، فما كان من الملك الشاب إلا أن قفز من مكانه برشاقة وأنقذني من السقوط على الأرض، ثم قال مبتسما لا يسقط أحد في حضرة الملك، وبعد لقائي به الذي استمر حوالي ربع ساعة، وقر في نفسي أن هذا الشاب يمكن أن يكون خيرا للبلاد، وكان تفاؤلي نابعا من طلعته الفتية الموحية بالبراءة، لكن تأتى الرياح على غير ما تشتهى السفن.

من الحوادث التي أذكرها أن الملك فاروق كانت تحجز له مائدة ثابتة في بعض الملاهي الليلية، وفى إحدى الأمسيات من عام 1948 توجه إلى ملهى "حلمية بالاس" في مصر الجديدة لقضاء سهرته، وتصادف أن كان في نفس الملهى مجموعة من وزراء وزارة النقراشي باشا ، وعند دخول الملك الملهى انصرف اثنان وبقى اثنان هما على ما أذكر عطية باشا وزير الدفاع، وعبد المجيد بدر باشا وزير المالية، فما كان من الملك في اليوم التالي إلا أن طلب من النقراشي باشا إخراج الوزيرين من وزارته ولم يجد الأخير بدا من إجابته لطلبه وأخرج الوزيرين.

حادثة أخرى أذكرها: كنت ليلة في القاهرة، وذهبت لقضاء بعض الوقت في شرفة فندق شبرد وبالمصادفة جاءت جلستي مجاورة لمائدة مجموعة من الفنانات المغمورات، وكانت دهشتي عظيمة عندما وصل إلى مسامعي أطراف من أحاديثهم تدور حول الملك وحياته الجنسية، وبعض ما جاء على لسان إحداهن كان عن تجربة خاصة لها مع الملك، أما الألفاظ التي كانت يدور بها الحديث فكانت غاية في السوقية.

كما ذكرت قبل ذلك كان الملك واقعا تحت تأثير "شلة " مكونة من كهربائي القصر وسائقه وبعض صغار الصحفيين، وبعض مستشاري السوء، هذه المجموعة وبعضهم طليان كانوا المخططين الرئيسيين لنزوات الملك بعد عام 1946 ، وكانوا من أكثر الناس تأثيرا عليه.

في عام 1949 تقريبا كان لدى بعض الضيوف من الأجانب، ودعوتهم لتناول العشاء في أحد المحال المشهورة بضاحية مصر الجديدة اسمه " فونتانا" وكنوع من آداب الواجب الاجتماعي قمت للرقص مع إحدى ضيفاتي، وبينما أنا أفعل ذلك إذ بأحد عمال المحل يقترب منى ويبلغى أن هناك ما يطلبني على التليفون.

استأذنت السيدة وذهبت للرد، وعندما وصلت إلى مكان التليفون وجدت أحد رجال الحاشية الملكية في انتظاري، وبعد أن سلم عل قال لى : إن جلالة الملك موجود في المحل، ويبلغك أنه ليس من المناسب أنترقص وأنت مرتد الطربوش في الحضرة الملكية.

وبامتعاض شديد قلت له: إن ذلك حق الملك في السراي، أما في الأماكن العامة فأعتقد أن هذا ليس من حقه، وانصرفت عنه لأكمل الرقص مع ضيفتي، وأعتقد أن هذه الحادثة كانت بداية خلافات بيني وبينه.

بينما كنت في منزلي بالإسكندرية بعد ظهيرة أحد الأيام، غذ بتليفون من القاهرة، والمتحدث هو " الياس أندراوس باشا " ومن المعروف أن أندرواوس باشا كان من أقرب المقربين إلى الملك ،وكان يقال إنه مستشاره الاقتصادي، وفى الواقع إنه لم يكن مستشارا اقتصاديا وزلا يحزنون فهو كان مجرد كاتب صغير في شركة البيضا، ثم تعرف الملك عليه، فبدأ نجمع يصعد بسرعة حتى وصل إلى رئيس لمجلس إدارة الشركة ، ورشح لرئاسة بنك مصر خلفا لحافظ عفيفي باشا ، كما استخرج له الملك جواز سفر دبلوماسيا ، وحصل بسرعة البرق على لقب باشا ،وكان عمله الأساسي هو تهريب أموال الملك، وتسهيل حصوله على الأموال من مختلف المصادر بطرق غير مشروعة.

طلب منى أندراوس باشا أن أسافر للقائه في مكتبه بشارع الانتكخانة في القاهرة، وسافرت فعلا في اليوم التالي، وكان يوم سبت وشعرت أن هناك أهمية في الأمر.

بعد جلوسي بقليل دار بيننا هذا الحوار الذي بدأه أندراوس قائلا:

- إنني مكلف من قبل الملك بأن أبلغك رسالة.
- وشعرت بأن الأمر لا ينطوي على خير.
- خيرا .. هات ما عندك.
- الملك يطالب بأن تدفع 150 ألف جنيه.
- لأي غرض ؟

- واتسعت ابتسامته قليلا، وأضاف:

- مقابل الموافقة على بقائك عضوا في مجالس إدارات العديد من الشركات.
- ورددت عليه بتأكيد.
- لكنني لست عضوا فخريا أو شرفيا، بل عضوا منتخبا من قبل جمعيات عمومية كأحد المساهمين في هذه الشركات أو احد المؤسسين.

- قال لى وكأنه ينفض يديه من رسالة كلف بإبلاغها :

- إنني فقط أبلغ أوامر جلالة الملك يا باشا .
- وأنا لا أمتثل لأوامر من هذا النوع.
- فقال هذه المرة بهدوء وخبث:
- هل نسيت ما حدث لأمين باشا يقصد اغتيال أمين باشا ؟

- قلت وقد بدأت أشعر بالضيق:

- لم أنس يا سعادة المستشار والأعمار بيد الله.

- - ربما تكون محتاجا إلى فرصة أكبر للتفكير؟

- الأمر لا يحتاج إلى تفكير ، وكلمتي الأخيرة أنني لن أدفع.

- ووقفت لكي أنصرف لكنه قال :

- سوف تندم يا سعادة الباشا.
- لا أظن أن ذلك سيحدث.
- لكنني أعتقد أنك ستدفع في النهاية، ولا تنس أن هناك مبلغ عشرة آلاف جنيه أخرى للأركسترا.
- وصفقت الباب من خلفي ، وغادرت القاهرة في نفس اليوم، وأنا أكاد أشتعل غيظا مما حدث.

بعد أيام من هذا اللقاء اتصل بى حافظ عفيفي باشا وكان رئيسا لبنك مصر وشركاته، وطلب لقائي في اليوم التالي ساعتها حذرت الهدف من اللقاء.

ذهبت للقاء حافظ عفيفي باشا وقد أعددت نفسي لما قد يحدث، وبدأ حافظ عفيفي حديثه بهدوء كعادته، وقد بدا عليه الحرج مما هو مقدم عليه.

- هناك حديث كلفت بنقله إليه.
- خيرا.
- طلب منى أن أطلب منك بعض المطالب.
- أعرفها.

- قال الرجل وقد تنفس بارتياح:

- إنك بذلك تكون قد وفرت على جهدا ومشقة

- . قلت له بنفس الهدوء:

- لقد طلب منك أندراوس أن أترك عضوية مجلس إدارة شركات بنك مصر.
- هو كذلك.

- قلت له بلهجة مؤكدة:

- لكنني لن أترك عضوية مجالس إدارة الشركات تحت أي ظرف، سواء كان ذلك باللين أو بالشدة، وغنى أرجوك يا حافظ باشا ألا تساعد على ذلك، أو لا لأن هذا ليس من سلطتك، وثانيا لأنني لم أقصر في أداء واجبي كعضو في مجالس إدارات الشركات، وثالثا لأنني عضو منتخب من قبل جمعيات عمومية هي وحدها التي تملك أن تسحب ثقتها منى، وإذا أردتم فعل ذلك فإن هناك طريقا قانونيا يجب أن يتبع وهو أن يعرض الأمر على مجلس الإدارة ، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الجمعية العمومية لمناقشته، وإذا حدث ذلك فسوف أذكر الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء هذا المطلب، وهذه الأسباب تتلخص في مساومتي على دفع مبلغ 150 ألف جنيه للملك و10 آلاف جنيه للأوركسترا.
- وانتهى لقائي بحافظ عفيفي باشا بالتزامه الحيدة، وتكررت المحاولة من على الشمس باشا فكررت له نفس الكلام.

وللحقيقة أقول إن كلا الرجلين لم يحاولا التأثير على ، بل ظهر بمظهر المستريح لموقفي دون أن يعبرا عن ذلك بالطبع.

ووصل كلامي بالطبع لأندراوس وللملك وخوفا من افتضاح الأمر آثرا الصمت. وتمر الأيام والتقى بكل من حافظ عفيفي وعلى الشمس باشا اللذين قالا لى: إنك بهذا الموقف الحازم ضربت مثلا ممتازا . لأنك لو امتثلت لهذا الابتزاز لأصبحت تلك سابقة خطيرة تتيح للملك حرية التدخل في شئون البنوك والشركات والعبث بمجالس إداراتها ونهب أموالها.؟

من الأحداث التي أذكرها للملك فاروق أيضا أن شركة جنرال موت ورز عندما بدأت تنتج العربة الكاديلاك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، ووصلت أول سيارة من إنتاجها إلى مصر اتصل بى مندوب الشركة وقال لى:

- هل عندك مانع في أن تحصل على أول سيارة كاديلاك تصل إلى مصر؟

وبعد تفكير سريع قلت له:
- ليس عندي أي مانع بالطبع.

فرد المندوب قائلا:

- ولكن على شرك.

- ما هو الشرط؟

- ألا تعطى هذه السيارة لأي سبب من الأسباب للملك فاروق،وعندما أبديت دهشتي لهذا التحذير أردف الرجل شارحا.
- لقد كلف الملك مستشاره أندراوس باشا أن يتصل بلا ليبلغني أن جلالة الملك سوف يأخذ السيارة له.
وشعرت بأن طريقة الطلب وقحة فأبلغت أندراوس باشا بأن شركة جنرال موتورز لا تؤمر، وقررنا بيعها لأي شخص آخر غير الملك.

وحصلت على السيارة فعلا لنفسي، لكنني فوجئت بأندراوس يتصل بى تليفونيا ويبلغني أن الملك يريد الحصول على السيارة لنفسه، واعتذرت به بأنني أهديت السيارة لزوجتي، ومن المستحيل أن أفاتحها في بيعها.

كانت هذه بعض مسالك الملك، ولعلني لو استرسلت فيها لأخذت مساحة كبيرة وربما آخر ما أود أن أذكره أنه كان لا يتورع أن يرسل رسولا ليقول إن جلالة الملك يطلب منك أن تضارب له هذا الأسبوع في البورصة، وهذا معناه أن أرسل له النقود التي يريدها دون أن يضارب أو يدفع شيئا، لكنها تمثيلية يخفى رغبته في الحصول على المال.

كان سلوك الملك إذن في السنوات الخمس الأخيرة من الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة .

سبب جوهري آخر أدى إلى قيام الثورة هو ما حدث للجيش المصري في حرب فلسطين، خاصة موضوع الأسلحة والذخائر الفاسدة وتضارب الأوامر التي أدت إلى إجهاض النتائج الطيبة التي حققها الجيش في بداية القتال، وانتهت به إلى ما عرف بحصار الفالوجة.

سبب أخير أدى أيضا إلى قيام الثورة هو بقاء القوات البريطانية على الأرض المصرية، وتدخل السفارة في الشئون المصرية الداخلية، وتعثر المفاوضات حول الوصول إلى اتفاقية جديدة ونشوب اشتباكات مع هذه القوات، وعجز الحكومات المصرية المتعاقبة عن الوصول إلى حل لهذه المشكلة العويصة .

حوادث متفرقة في بداية العهد الثوري

قرأت في صحيفة البلاغ أن محمد فرغلى، على يحيى ، أحمد عبود، وأحمد عبد الغفار) سيقدمون للمحاكمة بتهمة التلاعب في بورصة الأقطان بناء على مذكرة قدمت من مجموعة من التجار إلى مجلس قيادة الثورة، ويبدو أن هؤلاء التجار أرادوا استثمار الوضع الجديد، الذي ينادون بالتغيير والتطهير، ومحاسبة كل من حامت تهمة استغلال الشعب، وشعرت بقليل من القلق ، وكان مبعث الشعور أن المناداة بالإصلاح الثوري كثيرا ما ينجم عنها ضحايا لم يعطوا الفرصة للدفاع عن أنفسهم.

لكنني أسجل هنا أن ما حدث في البورصة خلال السنوات الخمس السابقة على الثورة، وكان من العوامل التي أدت إلى تزايد حدة الاستياء للأسباب التالية:

1- إن مضاربات البورصة بكل ما تحمله من مغريات الكسب السريع استطاعت أن تجتذب مجموعة كبيرة من الوزراء، ورجال الحاشية وحتى الملك نفسه.
2- كان من نتيجة ذلك تدخل بعض الحكومات في أعمال البورصة ن مما أدى إلى رفع أسعار القطن رفعا لا يعبر عن حقيقة قيمته لدرجة أن سعر القنطار وصل على أكثر من أربعين جنيها للقنطار، وفى الوقت ذاته لم يستفد الفلاح نفسه فائدة تذكر من هذا الارتفاع، فهو قد باع القطن بسعر القنطار عشرة جنيهات أو أقل.
3- وبدأت البورصة في أعين الشعب المركز الذي يحقق الثراء لشريحة ضئيلة من الشعب، بينما هم يعيشون حياة قاسية في أغلب الأحيان، وكان من الطبيعي أن يكون شعورهم نحوها هو النفور.

عندما نشر ذلك الحدث، كان اللواء محمد نجب رئيسا للجمهورية، وجمال عبد الناصر رئيسا للوزراء والدكتور عبد الجليل العمري نائبا لرئيس الوزراء وبدأنا نفكر في وسيلة نشرح بها موقفنا لهؤلاء الحكام الجدد قبل أن نصبح في عداد ضحايا التغيير.

اتفقنا على يحيى ، أحمد عبود ، وأنا على الذهاب لمقابلة الدكتور العمري في مكتبه وضرب لنا الرجل موعدا، وعندما كنا في لقائه كان الخوف قد أثر تأثيرا كبيرا على رفيقي فعبود كان غرقا في عرقه لدرجة أن ثلاثة مناديل اعتصرها من كثرة الاستعمال، أما على يحيى فقد كان يبكى ويتصرف بعصبية إنه ظل يرفع في بنطاله لدرجة أنه كاد يبين عن ركبتيه، أما أنا فلقد كنت واثقا أنني لم أفعل أي شيء مخالف للقوانين القائمة، وأنني كنت أمارس نشاطي، دون أن يكون هدفي إيذاء أحد، وكنت أؤدي واجب الدولة على ، لذا فلقد ظهرت هادئان واثقا من أنكل شيء سوف يمر بسلام، بل إنني ذهبت واضعا قرنفلتي المعتادة، ولقد لاحظ ذلك الدكتور العمر فأبدى إعجابه قائلا: أنا معجب بموقفك في مواجهة المشكلة ، ولقد ذكرني أخيرا بهذا الأمر ، وقال لي لقد كنت صلبا وشجاعا في مواجهة الأزمة.

خرجنا من لقاء الدكتور العمري بشعور أن السلطة في يد العسكريين وهم وحدهم يملكون القدرة على التصرف في هذا الأمر.

رغم ثقتي في الدكتور العمري فهو من أكفأ وأنزه الاقتصاديين الذين أنجبتهم مصر.

وبدأنا نفكر في لقاء اللواء محمد نجيب وذهبت بمفردي لألقاه في منزله ولقد كان الرجل كريما مرحا كعادته، وأخذ يخفف من قلق تجاه هذا الأمر، لكنني شعرت يومها أن هذا الرجل ليس هو الشخص الأول في السلطة الجديدة، وبدأت أبحث عن المحرك الأساسي، والأول للأحداث وعلمت أنه البكباشي جمال عبد الناصر، وقررت أن أجرب التحدث معه، وساعدني السيد أمين شاكر على تحدي الموعد، وكان لطيفا حين استقبلني ، وحدد لي موعدا مع البكباشي جمال عبد الناصر.

ذهبت للقائه ولقيت السيد صلاح الشاهد الذي أبلغني أن الرئيس مشغول جدا، ولأن الوقت المسموح به هو خمس دقائق لا أكثر، ودخلت للقاء الضابط الأسمر الشاب، وكان الإرهاق والعصبية باديين على ملامحه، لكن من الأمور التي لاحظتها أنه كان يحسن الاستماع، بعد عشرة دقائق من اللقاء دخل السيد صلاح الشاهد ليبلغني أن الفترة المحددة قد انتهت، لكن الرئيس عبد الناصر أبلغه أن ينتظر حتى يطلبه بنفسهن وطال اللقاء الذي كان مقدرا له عشر دقائق ليصل على حوالي ساعتين، قصصت فيها عليه قصة البورصة والمعاملات الجارية فيها، ووسيلتي في إدارة اعمالى، وكيف استطعت أن أنافس الأجانب، وأتغلب عليهم كما لن أخف عليه انتقادي لما كان يدور من تجاوزات في البورصة،أما الرئيس عبد الناصر نفسه فكان يستمع باهتمام بالغ كأنه يكتشف مجالا كان خافيا عليه، واضعا ذقنه على راحة يده، وبعد أن انتهيت من حديثي فاجأني بسؤاله:

- لماذا تؤيدنا رغم أننا ألغينا امتيازات كثيرة كنت تتمتع بها؟

- قلت له :

- يا رفعة الرئيس، كيف لا أؤيد تغييرا يسعى إلى تحقيق الأفضل، لقد كنت أتوقع مثل هذا التغيير بدءا من عام 1949، وكان كل خوفي من أن تقع السلطة في أيدي الإخوان المسلمين، فيعودون بالمجتمع إلى الوراء، وكانت الاحتمالات في تصوري تنحصر في :

1- بقاء الحكم الملكي الذي فقد مبررات وجوده.
2- قيام انقلاب عسكري.
3- سيطرة إحدى الجماعات السياسية المتطرفة.

وعندما تحقق الاحتمال الثاني شعرت أنه أفضل الاحتمالات، التي كنت أتمناها.

هذا الذي تقوله يتناقض مع ما صرحت به صحيفة " تايم" البريطانية الشهيرة" كانت هذه الجريدة قد قالت بقلم أحد محرريها كيف يتعاون فرغلى باشا ملك القطن ومع هذه العصابة العسكرية، التي اعتدت على الديمقراطية في مقال تحت عنوان "فرغلى باشا ملك القطن".

فقلت له:

- يا رفعة رئيس الوزراء لابد أن الذي نقل إليك إذا إما أنه مغرض ،أو لم يفهم فما كتبه المحرر يشرفني ويدين من بلغك وقلت له نص ما كتبه المحرر.

- كان شعورا بالطمأنينة يغمرني مع مضى وقت اللقاء، وفاجأني الرئيس بسؤال آخر:

- إذا كنت بريئا مما نسب إليكن فلماذا تخشى المحاكمة؟

قلت له:

- يا رفعة الرئيس سيادتكم يعرف أن محاكمة السياسي تختلف عن محاكمة رجل الأعمال ، فالأول ترفع المحاكمة من أسهمه، فسواء أدين أو بريء فسوف يخرج من المحاكمة بطلا، أما رجل الأعمال الذي هو أحوج ما يكون إلى الثقة والسمعة لطيبة، فسواء بريء أو أدين فسوف تبقى الشبهات تحوطه، وسيخرج من المحاكمة مثل صينية الزجاج التي خدشت.
وفى نهاية اللقاء قام وصافحني واصطحبني حتى الباب، وقال قولا أعتقد في صحته قال " يا أخي لا تقلق إن الزمن كفل بعلاج كل الجروح".

كانت المحاكمة مشكلة من السيد عبد اللطيف البغدادي رئيسا، وعضوية السادة حسن إبراهيم، وأنور السادات، أما المحامون فكانوا زهير جرانة، وحامد زكى، وفى أول جلسة قال رئيس المحكمة بأن السيد محمد فرغلى أخرج من القضية لعدم توفر أي أدلة على إدانته.

وأثناء المحاكمة قال أحمد عبد الغفار باشا دفاعا عن نفسه أنه لا علاقة له بالقطن تجارة، أو تصديرا ، وأن المتحكمين في سوق القطن كانوا فرغلى باشا وحرمه.

وعندما قرأت ذلك في صحف اليوم التالي أرسلت برقية إلى رئيس المحكمة اعترض فيها على ما قاله عبد الغفار باشا خاصة فيما يتعلق بالزج باسم زوجتي في الموضوع، لأن زوجتي لم تمارس أبدا أي نشاط تجارى ، أو عملي من أي نوع..

وتلا رئيس المحكمة البرقية، وهنا قال عبد الغفار باشا إنه يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود ويصححه بأنه يقصد فرغلى باشا وحرم النحاس باشا كانا المتحكمين في سوق القطن.

كانت هذه القضية هي التي أتاحت لي أول لقاء بالرئيس عبد الناصر خرجت منه وأنا أكثر تفاؤلا بمستقبل البلاد، فالرجل في بداية تسلمه زمام الأمور كان يبدو من سلوكه أنه يجنح نحو المثالية ، واحترام الديمقراطية والحرية ، كما أنه كان منحازا لمصلحة المجموع ويطمح إلى الإصلاح وتحقيق العدالة.

عندما وقعت حرب سنة 1956، وكان من نتيجتها سوء العلاقات مع انجلترا وفرنسا وطرد الخبراء الذين ينتمون إلى هذه الدول من شتى المؤسسات التي يعملون فيها، ومن بينها الجامعة، وكان من نتيجتها ذلك وجود عجز في هيئات التدريس بالجامعات في بعض الفروع، ومنها الاقتصاد وإدارة الأعمال ، اتصل بى مدير جامعة القاهرة، واستسمحنى أن أذهب للقائه في مكتبه بالقاهرة.

وعندما التقيت به في مكتبه شرح لي أن الجامعة تمر بأزمة في بعض أفراد هيئة التدريس نتيجة لطرد بعض الأساتذة من الأجانب، وأضاف بأن السيد كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت رشحني لأقوم بتدريس مادة إدارة الأعمال لطلبة كلية التجارة، ولقد فوجئت بالطلب والترشيح تماما، وشعرت بالرهبة لأسباب عديدة، من بينها أن مهنة التدريس لم أمارسها، ولم أفكر في ممارستها طوال حياتي، كما أن التدريس في جامعة مصرية لابد أن يكون بلغة عربية، ولم تكن لغتي العربية جيدة بحيث تسمح لي بالتدريس بالعربية الفصحى.

وبينما أنا على شرودي هذا إذا برئيس الجامعة يضيف مبتسما : ونحن نرجو أن يكون التدريس باللغة الفرنسية لأن الأستاذ كان يقوم بتدريسها باللغة الفرنسية، وشعرت أن أهم المشكلات قد حلت من تلقاء نفسها، ووافقت بالطبع لا حبا في المهنة أو ميلا إليها لكن لأن الواجب الوطني يحتم ذلك، ثم بدأ مدير الجامعة يحدثني عن الأجر، وهنا قلت له إنني لست بحاجة إلى الأجر، وسوف يسرني أن أقوم بهذه الخدمة الوطنية دون أي مقابل .

لكن الرجل أصر على أن اللوائح تحتم حصولي على الأجر، فوافقت على شرط أن تحول هذه المبالغ لتقدم للطلبة المتفوقين في صورة جوائز مالية، كما وعدت أيضا بتعيين الحاصل على المركز الأول في شرك فرغلى للقطان والأعمال المالية بمرتب مغرى.

وبدأت أمارس العمل الذي كنت آتى من أجله إلى القاهرة مرة كل أسبوع ،ولقد أحببت المهنة لأنها توفر قدرا أكبر من العلاقات الطيبة مع طلاب يسعون على المعرفة بعقول شابة متفتحة.

ومن الطريف أن الأول على الدفعة جاءت فتاة تتمتع بقدر عظيم من الجمال، وكان على أن أبر بوعدي وأعينها موظفة في شركة فرغلى للأقطان والأعمال المالية، لكنني خشيت القيل والقال ، فسعيت إلى تعيينها في البنك الأهلي الذي كنت عضوا في مجلس إدارته بعد أن عرضت الأمر عل المرحوم على الشمسي باشا ، وشرحت له الحرج الذي وقعت فيه، وتم تعيينها بالفعل.

وأتذكر أنني التقيت أخيرا بأحد كبار الضباط برتبة اللواء، وصافحني بحرارة وذكرني بأنه كان طالبا لي في الخمسينات، وعندما عدت بذاكرتي إلى الوراء تذكرت أنه كان من الطلبة النابهين.

ولقد التقيت بعدئذ بالسد كمال الدين حسين وشكرته على حسن ظنه. وأشهد أنه رجل دمث الخلق طيب القلب.

لم تكن مؤازرتي لحكم الرئيس عبد الناصر طمعا في منصب و سعيا إلى تحقيق مغنم لكن ذلك كان من قناعة بأن بإمكان هذا الرجل أن ينتقل بمصر من حياة التخلف والتبعية على حياة أفضل، ولقد كانت سنوات الخمسينات، بكل ما تحقق فيها من إنجازات، دافعا نحو زيادة تفاؤلي بحكمه.

وربما تساءل البعض عن رأيي في إلغاء عبد الناصر للأحزاب ولجوئه إلى نظام الحكم الفردي؟

وإجابتي على هذا السؤال هو أن الدول في مراحل انتقالها من نظام إلى نظام آخر، قد تحتاج إلى فترة تتركز فيها السلطة في يد حاكم لكي يعاد ترتيب الأمور في سرعة، وحسم بعيدا عن العوائق الدستورية التي تخلقها الممارسات الحزبية، على أن يعود النظام الديمقراطي مرة أخرى.

ولقد كانت سنة 1958 في تصوري هي السنة المناسبة لكي يعود النظام الديمقراطي إلى مصرن فلقد حقق الرئيس عبد الناصر من النجاح داخليا وخارجيا لدرجة أنه لو ألف حزبا معبرا عن فكر الثورة، وأتاح الحرية لمن يختلفون معه في الرأي ليكونوا أحزابا أخرى لفاز حزبه بأغلبية كبيرة، ولأيدته غالبية الشعب، ولقد كان مثل هذا التطور خليقا بأن يجنب الثورة أخطاء كبيرة نجمت في تصوري عن غياب الرأي الآخر، وظهور طبقة جديدة من المستفيدين بالثورة ممن عملوا على خلق ما عرف بمراكز القوى التي وقفت في سبيل تطوير النظام السياسي في مصر حفاظا على المصالح التي حققوها.

والذي أعرفه ويعرف غيري أن الرئيس عبد الناصر كان في بداية الثورة من أنصار الحكم الديمقراطي فالرئيس أنور السادات يقول في كتابه قصة الثورة إن الرئيس عبد الناصر كان الوحيد الذي صوت مع الحكم الديمقراطي في مقابل بقية الأعضاء الذين نادوا بالحكم الدكتاتوري.

ولقد ظل منحنى الثورة في الصعود حتى بداية الستينات التي كانت تمثل – في رأيي- بداية الهبوط التدريجي في منحنى الصعود الذي تحقق في الخمسينات، في هذه الفترة حدثت انتكاسة الانفصال بين سوريا ومصر، واللجوء إلى التأميمات بطريقة عشوائية غبر مدروسة والحراسات الرهيبة، وربما يتصور البعض أنني أقول ذلك نظرا لما أصابني من جراء التاميمات لكن الذي لا يعرفه البعض أنني أرسلت إلى الرئيس عبد الناصر في مذكراته مكتوبة أقترح عليه القيام بالتأميمات لأن هذا حق من الحقوق السيادية للدولة، ولقد قام به ديجول في فرنسا لكن مفهومي للتأميم يخالف تماما الأسلوب الذي تمت به التأميمات، وكنت أتصور أن يبقى 49% لأصحاب الشركة، وللمساهمين وهذا كان من شأنه أن يحقق ميزتين أساسيتين، ميزة تحقيق مصلحة الدولة بملكيتها العامة لـ 51% من راسمالى الشركات الكبرى، وأقصد هنا الكبرى فقط، والميزة الثانية هي الاستفادة من خبرة وحوافز الملكية الخاصة.

هذا ما تصورته ، أما ما حدث فهو أن الدولة لجأت إلى تأميم كل الشركات الرابح منها والخاسر ، ولجأت على ملكيتها بنسبة 100% وعينت على رأس هذه الشركات أهل الثقة ممن لا يملكون أي خبرة في إدارة الأعمال مثل هذه المؤسسات المتخصصة.

ولقد حدثت في غمرة التأميمات، وفرض الحراسات مآس لم يشعر بها إلا الذي عاناها على سبيل المثال.

عوض الأجانب بالعملة الصعبة عن شركاتهم التي أممت، وكان بين هؤلاء يهود، أما المصريون فلم يعوضا إلا بالقيل وكانت لجان تقييم الشركات ترتكب أخطاء فادحة، فتقوم الشركات بطريقة تدعو إلى الرثاء، فمثلا الكثير من الشركات التي كانت تساوى عشرات الآلاف من الجنيهات قومت بعشرة آلاف جنيه فقط، وأمثلة كثيرة تدل على أن الانتقام والحقد كان من بين دوافع من قاموا بالتقويم أو معظمهم.

لقد قدرت شركاتي بمبلغ مليونين من الجنيهات رغم أن قيمتها الحقيقية كانت تصل إلى أكثر من 8 ملايين جنيه، وكان واضحا أن سوء النية يقف وراء هذا التقييم الظالم.

وعندما فرضت الحراسة على أموالى، وصل منى شيك من إدارة الحراسة بمبلغ 2,5 جنيه جنيهان ونصف كمرتب شهري، وللقارئ أن يتصور كيف تعيش أسرة تعودت أن تنفق مئات الجنيهات في الشهر بمبلغ جنيهين ونصف، المهم أنني حملت هذا الشيك إلى صديقي والد الرئيس عبد الناصر وأنا في غاية الألم ، وبعد أيام اتصل بى الحاج عبد الناصر وقال لي إن الرئيس غضب غضبا شديدا لما حدث لك، وقال إن هذه إحدى سخافات الحراسة. لكن حتى الخطأ الذي لم يوافق عليه الرئيس لم يصحح إلا بعد ستة شهور.

كان على والأمور تتغير على هذا النحو وبهذه السرعة أن احدد علاقاتي مع السلطة الجديدة، ولم يكن هذا الأمر ميسورا، حيث لم يكن أحد يعرف على وجه التحديد اتجاهات القيادات الجديدة.

بدأت علاقاتي بالرئيس عبد الناصر منذ اللقاء الذي تم بيني وبينه في مكتبه في بداية الثورة، في الوقت الذي كان فيه اللواء محمد نجيب لا يزال رئيس للجمهورية، وبعد هذا اللقاء شعرت أن عبد الناصر هو مركز الثقل في حركة ضباط الجيش، وأنه العقل المفكر والمدبر وراء ما حدث ويحدث.

ولم يكن في دوامة التغييرات المتتالية، وإعادة بناء البلاد على أسس جديدة يخلو الأمر من ظلم هنا أو انتهاك هناك، وفكرت تفاديا لذلك في تكوين علاقة تربطني بأحد المقربين، أو بعضهم من الرئيس عبد الناصر بحيث يمكن تفادى أي ظلم يمكن أن يقع على أو على غيري ، وكونت هذه العلاقة مع شخصين أساسيين هما والد الرئيس عبد الناصر والثاني هو صديقه الصحفي محمد حسنين هيكل فيما بعد، ومن خلال هاتين العلاقتين تمكنت من تفادى أزمات، ومشاكل وربما مصائب كانت يمكن أن تحدث.

والد الرئيس عبد الناصر الحاج عبد الناصر حسين كان رجلا فاضلا بسيطا شجاعا في قول الحق، وكان يختلف كثيرا مع ابنه في بعض ما يحدث من إجراءات، وأخص بالذكر أنه كان ضد التأميم والحراسات وكثيرا ما ذهب إلى الرئيس وعبر له عن عدم رضاه عن بعض القرارات، أو التصرفات التي يتخذها ولقد ضاق الرئيس بتدخل والده في مثل هذه الأمور فلجأ على تحديد إقامته أكثر من مرة.

ولقد حدث كثيرا عندما كنت أذهب للقائه أنه كان يتأكد أولا من عدم وجود أي شخص معنا، لكي يهمس إلى ببعض الأخبار وعندما يدخل الخادم حاملا القهوة يغير الموضوع، وبعد أن ينصرف الخادم يهمس لي، لا أحد يعرف ربما كان هو الآخر مكلف بمراقبتي، ونقل أحاديثي.

لقد علمت بمرض الرئيس عبد الناصر من والده في بداية الستينات فبينما كنت في زيارة إذا به يهمس في أذني قائلا، إن جمال يجب أن يأخذ راحة طويلة، وعندما وافقته على ذلك مؤكدا كلامي بأن الرئيس يجهد نفسه، رد الرجل الطيب وفى عينيه بعض القلق إن المرض ينهكه وأبديت دهشتا لسماع كلمات المرض، فالرئيس لا يزال شابا في الأربعينات من عمره، لكن الحاج عبد الناصر أضاف قائلا إنه مصاب بالسكر، وبتصلب في الشرايين، كما أنه لا يستمع إلى نصائح الأطباء، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعرف فيها بمرض الرئيس.

كانت لي علاقة طيبة أيضا بأشقاء الرئيس عز العرب ، والليث وشوقي، وكنت حريصا على توطيد هذه العلاقة دائما خوفا من الدسائس، والوشايات التي يمكن أن ينقلها البعض إلى الرئيس، فتكون أسرته هي واسطتي في توضيح الأمور.

أما عز العرب فكان من أفضل من عرفت عاش فقيرا ومات فقيرا، ولم يحاول قط أن يستغل وجود الرئيس في السلطة في تحقيق منافع، فلقد كان مدير لتحرير الجمهورية في الإسكندرية، وظل في هذا المنصب إلى أو وافاه الأجل، كما كان مثالا للتواضع والخلق الفاضل.

شخصيات وأحداث

عندما فكرت في وضع عنوان لهذا الفصل , تملكتني الحيرة , فأنا في هذا الفصل على وجه الخصوص لم أتبع منهجا زمنيا مرتبا , لكنها مجموعة من الأحداث المتفرقة ارتبطت بمجموعة من الشخصيات عاصرتها كمتابع أحيانا , أو كمشارك في أحيان أخرى , ومعظم هذه الأحداث جرت في مرحلتي الخمسينيات , والستينات , لذلك فلقد تعمدت كتابتها كما وردت على ذاكرتي بعفوية , ودون تفصيل أو إسهاب , أما الأشخاص الذين سيرد ذكرهم في هذا الفصل , فلقد عرفتهم عن قرب واقتربت من عالمهم , وتكون لدي انطباع عنهم أو رأي فيهم , وقد يجانبني الصواب فيما اعتقدته , أو تصورته , لكنني آثرت أن أقص تجربتي معهم مهما كانت قصيرة , فربما أفاد ذلك في إلقاء بعض الضوء على جوانب قد تكون مجهولة أو غير واضحة في شخصياتهم .

الرئيس جمال عبد الناصر

في الخمسينيات , وبعد قيام الثورة سألني البعض في داخل مصر , وفي خارج البلاد خاصة في إنجلترا , وفرنسا وألمانيا وبلجيكا , سألوني وقد تملكتهم الدهشة عن أسباب تأييدي , وتعضيدي لثورة ألغت الامتيازات التي كانت تتمتع بها طبقة كبار الملاك , والطبقة الرأسمالية التي كنت أنتمي إليها .

وكنت أقول لهؤلاء وأولئك إن تعضيدي للثورة , وقائدها ليس تجنبا لبطشها , أو ركوبا لموجتها , بل عن قناعة بأن هذه الثورة كانت ضرورة حتمتها الظروف السياسية , والاجتماعية في مصر , كما أنها كانت مرحلة طبيعية للتطور في حياة الأمة المصرية .

ولقد جاءت هذه الثورة بيضاء بغير عنف أو إراقة دماء , كما كان واضحا من أقوال قادتها أنهم لم يجيئوا متعطشين للسلطة أو الحكم , وقد بدا ذلك واضحا من أهدافهم الستة التي أعلنوها والتي كانت ـ بحق ـ تعبيرا عن أماني شعب بأكمله .

ولقد شعرت أن قائد الثورة ـ جمال عبد الناصر ـ يتسم بالإخلاص , وبتأييد الحكم الديمقراطي وبرغبته الملحة في التغيير نحو الأفضل في ظل القانون .

وكان ذلك في الخمسينيات بالطبع . إذ كانت الثورة قام بها أبناء مصر وبأهداف نبيلة تمناها الشعب , وكان هذا هو سلوك قائدها , فلماذا لا أؤيدها , وأنا الذي عشت العهد السابق على الثورة أشعر بضرورة التغيير الذي هو سنة الحياة , وإذا لم نتفهم هذه الحقيقة , ونسعى إليها فسوف تفرض علينا , صحيح أن هناك بعض الأخطاء , وبعض المظالم صاحبت الثورة في بدايتها , لكن هل هناك ثورة في التاريخ بلا أخطاء أو مظالم .

وعندما كانت مرحلة الخمسينيات تقترب من نهايتها , ومن خلال متابعتي لسلوك الرئيس عبد الناصر , ومتابعة مواقفه الخارجية والداخلية و وجدتني معجبا بشخصيته , بل شعرت بأنه يمثل رمزا للكرامة والمصرية والاعتزاز والاعتداد بالنفس , وبالوطنية المصرية التي كان قد ضعف الإحساس بها في ظل الحكم الملكي .

قبل عمليات التأميم التقيت بالرئيس عبد الناصر عدة مرات , مرة كما سبق وذكرت إثر نشر اسمي في الصحف بين من سيقدمون للمحاكمة إلى إحدى محاكم الثورة , ومرة أخرى في حضور السيد خالد محيى الدين لأعرض عليه بعض المشروعات الاقتصادية التي تقدم بها بعض المستثمرين الإنجليز , تلك المشروعات تحمس لها السيد خالد محيى الدين أثناء عرضها على الرئيس جمال عبد الناصر , وعرضت المشروعات على سيادته , وشرحت له الفوائد المالية , والاقتصادية التي ستعود على مصر من تنفيذها , ولم يكن لهؤلاء المستثمرين من شروط غير شرط واحد هو ضمان ألا تتعرض مشروعاتهم للتأميم , وهذا حق طبيعي من حقوقهم , لكني فوجئت بالرئيس يغضب لهذا المطلب العادل , ويقول " إننا لا نحب من أحد أن يشترط علينا شروطا مثل هذه , إن لم يثقوا بنا فلسنا بحاجة إلى مشروعاتهم " .

ويبدو أن الرئيس وقتها كان لا يزال متأثرا بالاحتلال الإنجليزي , ومبالغا في تخوفه من كل ما هو إنجليزي , وبالطبع لم تتم هذه المشروعات , وكان ذلك في عهد الثورة .

وفي مرة أخرى , وبالغم من علاقاتنا المتنامية مع المعسكر الشرقي , ظهرت في الصحف ووسائل الإعلام موجات للهجوم على الشيوعية ومبادئها , وكانت لي دائما علاقات اقتصادية مع دول المعسكر الاشتراكي , وعلى وجه الخصوص الصين , والاتحاد السوفيتي خاصة في مجال تصدير الأقطان , وخشيت أن تفسر هذه التفاعلات التجارية تفسيرا خاطئا , وبالرغم من بعد الشبهة عن رأسمالي مثلي .

لكنني تجنبا للتفسير الخاطئ طلبت موعدا مع الرئيس عبد الناصر, وأجيب طلبي , وأثناء لقائي به , عرضت عليه الأمر , وقلت له إن ظروف العمل في تصدير الأقطان تقتضي مني التعامل مع الاتحاد السوفيتي والصين , وإني أخشى أن تفسر علاقتي هذه بطريقة خاطئة كما أخشى أن يكون هذا التعامل التجاري لا يتفق وسياسية الدولة عامة , وفي هذه الحالة فأنا على استعداد لقطع هذه العلاقات , والبحث عن أسواق أخرى لتصدير القطن إليها .

واستمع الرئيس إلى كلامي باهتمام ـ كعادته ـ وعندما قاربت من نهاية حديثي ابتسم وقال لي : " إنه ليس من المعقول أو المتصور أن يكون لك أنت بالذات ميول شيوعية " ثم أضاف قائلا : " تعامل معهم كيفما تشاء في مجال التصدير فهذا لا غبار عليه " .

وفي مرة أخرى ذهبت للقائه بصحبة مجموعة من رجال المال , والأعمال الإنجليز وحضر المقابلة من أعضاء مجلس قيادة الثورة المرحوم جمال سالم الذي كان مسئولا عن الشئون الاقتصادية , ذهب الوفد وجميعنا يضع في عروة جاكتته قرنفل أبيض , ولقد بدت الدهشة على ملامح الرئيس منذ الوهلة الأولى , وبدأت مناقشات رجال الأعمال , ولاحظت أن الرئيس كان يحيل كل الأسئلة التي تتعلق بالاقتصاد إلى المرحوم جمال سالم , ربما لأن اهتمامه بالاقتصاد كان محدودا في ذلك الوقت أو لأنه كان يفضل أن يمنح الفرصة للمسئول عن الاقتصاد , وكي يكون مسئولا عن مجال تخصصه , وخرج الوفد بشعور طيب عن الرئيس , وكان ذلك بالطبع في مرحلة الخمسينيات .

وفي مجال العلاقات الاجتماعية , أتذكر أنني ( كواحد من هواة صيد الغزلان والبط ) كنت أذهب كثيرا لصيد الغزلان , وفي إحدى المرات حملت غزالا من الذي اصطدته , وتوجهت به إلى استراحة الرئيس في المعمورة لأقدمه له هدية , وكان كريما حين استقبلني , وقبل الهدية , ودار بيننا خلال هذا اللقاء حديث ودي للغاية .

وفي إحدى المرات حملت إليه تصورا لبعض المشروعات , وذهبت أعرضها عليه , وكان ذلك خلال فصل الصيف , لذا فلقد توجهت إلى برج العرب , وكان يقضي بضعة أيام في استراحة رئاسة الجمهورية في هذه المنطقة , وعندما وصلت إلى هناك علمت أنه قد سافر فجأة إلى يوغسلافيا .

وبعد هذا اللقاء الذي لم يتم بعدة أسابيع التقيت بالرئيس أثناء افتتاحه معرضا للفنون في فندق سميراميس , وأثناء مصافحتي له ذكرني بالموعد الذي كان من المفروض أن أعرض فيه بعض المشروعات , ودهشت لقوت ذاكرته , وقلت إن المشروعات لا تزال لدي , فطلب مني أن أسلمها إلى أمينه السيد صلاح الشاهد الذي كان في غاية الرقة واللطف حين استقبلني , وتسلم مني هذه المشروعات .

من خلال كل تلك اللقاءات , وغيرها في الخمسينيات تكون لدي انطباع قوي بأن الرئيس عبد الناصر يفكر جيدا في كل كلمة تقال له , ويناقشها بالتفصيل , ويبحث عن الدوافع من وراء قولها , لذا كان علي أن أكون حذرا في عرض أفكاري و ومستعدا لتبريرها .

وعندما أكون في حضرته كنت أشعر ببعض القلق , والتوتر , ربما لأنه لم يكن مجاملا , أو لأنه كان جادا في معظم اللقاءات .

هذا ليس عن الرئيس ، أما عن الثورة فمن الظلم أن نقول إن طريق الثورة كان سهلا أو ممهدا، بل إنه كان مليئا بالعقبات الخارجية والداخلية، صحيح أن بعض تلك العقبات صنعتها الثورة أحيانا نتيجة سوء تصرف، لكنني أقول دون تردد إن الثورة المصرية كانت رغم بعض عثراتها واندفاعاتها في الخمسينات- نموذجا ناجحا لحركات التحرر الوطني في العامل الثالث، والدليل على ذلك أن تأثيرها قد تعدى حدود مصر ليشمل بلادا أخرى كثيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

وإني إذ أتذكر قرار تأميم قناة السويس، فإني أعده من القرارات الهامة التي اتخذت في بداية عهد الثورة ،لكنني كنت أتصور أنه كان بالإمكان اتخاذه بطريقة أفضل من الطريقة التي اتخذ بها، فهذا القرار – رغم أهميته- اتخذ كرد فعل لموقف الولايات المتحدة الأمريكية من تمويل بناء السد العالي ، لكنه أعطى مبررا قويا لانجلترا، وفرنسا وإسرائيل لشن حرب السويس التي استهدفت الإطاحة بحكم الثورة.

وكان من رأيي وقتها أنه كان من الواجب التجهيز لهذا القرار بإشاعة تخرج عن نية الحكومة المصرية لتأميم قناة السويس، وبهذه الطريقة تنخفض أسعار أسهمها في البورصة، وعندما يتم التأميم بالفعل تكون التعويضات التي تدفع- للمساهمين – أقل ما يمكن نتيجة لانخفاض أسعار الأسهم وقت التأميم .

كانت الخمسينات في تصوري هي سنوات الصعود، والتقدم والازدهار في عمر الثورة ، وعمر عبد الناصر أيضا، وفى هذه المرحلة ومن خلال تعاملي المباشر مع الرئيس عبد الناصر تفاءلت بمستقبل البلاد، وشعرت بالثقة في الرئيس عبد الناصر.

وبالرغم من أن الرئيس عبد الناصر كان من الصعب أن يثق في إنسان، إلا أنني أستطيع أن أزعم أنني حزت ثقته، رغم انتمائي على طبقة ظهر في الستينات أنه لم يكن يميل إليها، أو يثق فيها.

ومن علامات ثقته أنني كنت الباشا السابق والرأسمالي الوحيد تقريبا الذي اختير في بعثات اقتصادية لتمثيل مصر في الخارج.

في سنة 1956 كنت أحد أفراد وفد معظمه من الحكوميين تحت رئاسة السيد محمد أبو نصير، وضم في عضويته الأستاذ أحمد فؤاد رئيس بنك مصر، وسافر هذا الوفد إلى لندن لدراسة أوجه التعاون الممكنة خاصة في المجالات الاقتصادية بين مصر وبريطانيا.

وأثناء وجودنا في لندن عقدنا لقاءات متعددة مع ممثلين للحكومة البريطانية ، ورجال المال والأعمال ، وزرنا المصانع والشركات والبنوك، وبعد مناقشات مستفيضة حول مجالات التعاون الممكنة توصلنا إلى مجموعة من الاتفاقيات، وبينما نحن على وشك توقيع عدة اتفاقيات، استدعينا للعودة فجأة على القاهرة ولم نعلم شيئا عن سبب الاستدعاء.

لكننا علمنا بعد وصولنا بأيام قليلة السبب لاستدعائنا، وكان السبب هو نية الرئيس لتأميم قناة السويس ، حيث لم يكن قد مضى على وصولنا أيام حتى وجهت لنا الدعوة لحضور خطاب الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية الذي أعلن فيه تأميم شركة قناة السويس.

أما البعثة التالية التي سافرت فيها ممثلا لمصر، فكانت إلى سوريا بعد إتمام الوحدة معها عام 1958 بهدف دراسة مشروعات التكامل في المجالات الاقتصادية بين القطرين الشقيقين.

اتصل بى الدكتور عبد المنعم القيسونى، وأبلغني أنه قد وقع الاختيار على للاشتراك في وفد مسافر إلى سوريا واعتذرت له بشدة لأنني كنت عائدا وقتئذ لتوى من موسكو، وعندي خطط للسفر في عمل إلى نيويورك ، وأعربت له عن خشيتي في ألا أتمكن من إعداد نفسي السفر مع الوفد المسافر إلى سوريا، واستمع الرجل إلى حججي ولم يعلق عليها.

وفى اليوم التالي اتصل بى وأبلغني أن الرئيس عبد الناصر يرى في سفري مع الوفد أهمية، وهو أي الرئيس على استعداد للحديث معي تليفونيا ليطلب منى ذلك.

وعند هذا الحد شعرت أن الاعتذار غير مقبول ، وأنه تكليف من الرئيس عبد الناصر، لذلك وافقت على الفور، وقلت للدكتور القيسونى إذا كان السفر يحمل كل هذه الأهمية مع الوفد المسافر، فسوف أؤجل سفري إلى نيويورك.

وسافرنا بالفعل إلى سوريا، وكان الوفد برئاسة السيد محمد أبو نصير ، ومن بين أعضائه السيد حسن زكى رئيس بنك القاهرة في ذلك الوقت، ووصل الوفد إلى دمشق وقوبلنا بترحاب من المسئولين، وكان المتحدث الرسمي باسم الوفد هو السيد حسن زكى.

ويبدو أن مظهري المختلف عن مظهر بقية أعضاء الوفد حيث ارتدى الطربوش وأضع القرنفلة كان ملفتا للنظر مما جعل السوريين في احد اللقاءات التي عقدت لنا يطلبون منى التحدث.

واستسمحتهم أن أتحدث باللغة العامية لأنني لم أكن أجيد اللغة الفصحى.

تحدثت عن أهمية التكامل في المجالات الاقتصادية، وكانوا يستقبلون حديثي بالترحاب ، لكن ما أن تحدثت عن أهمية التمسك بالوحدة، والحفاظ عليها حتى شعرت أنهم لا يقبلون هذا الكلام بالترحيب كنت أتصوره، وأثناء العشاء تأكد لي ما كنت أشعر به، فلقد سمعت منهم ما جعلني أتأكد من أنهم كانوا غير مؤمنين بقضية الوحدة.

وبعد عودتي إلى القاهرة كتبت للرئيس عبد الناصر عما شعرت به، وعن بعض ما سمعته، لكن يبدو أن أمانيه في الوحدة العربية، وإيمانه بالقومية العربية كان أكبر من أن يجعله يشعر بالواقع ، لأنه لم يمض غير سنوات قليلة حتى انفضت عرى هذه الوحدة التي لم تبن على الأسس الصحيحة ، فليس بالأماني وحدها تتحقق الأهداف العظيمة.

مسألة الوحدة أيضا- رغم نبل الهدف- كانت من الأخطاء التي يمكن أن تؤخذ على الرئيس عبد الناصر، فالوحدة في تصوري بين بلدين تعد من المسائل الشائكة والمعقدة ، والتي يجب أن تسبقها الدراسات والبحوث والخطوات القصيرة.

صحيح أن هناك عوامل تساعد على إتمام هذه المرحلة مثل اللغة المشتركة والدين والأمن والأماني والمصلحة ، لكن هذه العوامل وحدها لا تكفى لإنجاح الوحدة ، فالوحدة لا تأتى بقرار من القيادات السياسية، بل إنها يجب أن تكون رغبة جارفة لشعوب تجد في هذه الوحدة تحقيقا لمصالحها، والشعوب كي تصل على مرحلة من التطور في كافة المجالات تؤهلها للاختيار الواعي الناضج ، وهذا التطور يجب أن يشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

فالوحدة بين ولايات الشعب الأمريكي ناجحة لأنها تمت بين شعب وصل إلى مرحلة النضج والتطور التي أهلته للاختيار ،وتحمل مسئولية هذا الاختيار.

ولقد كان الحال مختلفا بين مصر وسوريا ، فالشعب في كلا الدولتين لم يكن قد مضت على تحرره من نير الاستعمار والأنظمة الفاسدة إلا سنوات محدودة غير كافية لنضجه، وتطوره وإعادة ترتيب المجتمع، والوصول به إلى الدرجة التي تجعله يحسن التقدير والاختيار.

لقد تمت الوحدة، ولم يكن الشعب في كلا الدولتين قد تعدى مرحلة الطفولة بعد استقلاله، لذلك فشلت الوحدة، وإن بقيت هدفا عزيزا .

نأمل أن يحقق بين الشعوب العربية ، وهذا لن يتأتى بشكل مستقر إلا بعد ووصل شعوب الأمة العربية إلى درجة من التطور، والتحضر تؤهلها لهذه الخطوة الهامة.

قبل أن أنتقل إلى مرحلة الستينات، أود أن أذكر خطوة هامة من الخطوات التي اتخذها الرئيس عبد الناصر، هذه الخطوة هي تمصير البنوك، وهى تصوري من الخطوات التي كانت ضرورية لتدعيم الاقتصاد المصري، والحفاظ على استقلاله، وهى خطوة بالإضافة على أثرها المعنوي الهام جدا، قد دفعت بالدماء في شرايين المجتمع وساعدت على القيام بعملية التحضير من كلمة حضارة في جنبات المجتمع.

كانت مرحلة الخمسينات- بحق- هي مرحلة الانتصارات والتوهج وزيادة رصيد الثورة ، ورصيد عبد الناصر على المستوى الداخلي والخارجي ( قانون الإصلاح الزراعي- تأميم قناة السويس – التمصير- والاهتمام بعامة الشعب) وبدأت مرحلة الستينات برصيد ضخم تجمع من سنوات الخمسينات، وفى تصوري أن الازدهار الاقتصادي و الاجتماعي والثقافي الذي شعر بها الشعب المصري في بداية مرحلة الستينات كان انفاقا من الرصيد الذي تجمع في الخمسينات، لكن للستينات وجها آخر لم يكن مشرفا ، فلقد تغير كل شيء في كثير من الأحوال نحو الأسوأ.

التأميم والحراسات

كان من الممكن أن تكون مرحلة الستينات خطوة أخرى إلى الأمام فى حياة الشعب المصري مثلما كانت مرحلة الخمسينات، لكن للسف شاب هذه المرحة أخطاء فادحة مثل:

1- التأميم والحراسات بأسلوب انتقامي.
2- تهميش دور القطاع الخاص والوطني ومطاردة كفاءاته.
3- الإبقاء على نظام الحكم الفردي المشوب بالقهر والمظالم.
4- التقليل من المشاركة الشعبية في إدارة شئون البلاد.
5- عدم وجود الرأي الآخر، وإغلاق نوافذ حرية التعبير عنه.
6- سيطرة البيروقراطية وأهل الثقة على معظم مؤسسات الدولة.
7- التدخل في شئون القضاء والصحافة والجامعات.
8- لا يستطيع أحد أن يجادل في حق دولة ما في التأميم، فهو من الحقوق السيادية، ولك الذي يمكن أن يجادل فيه هو أسلوب التأميم، وكيفية التقويم والتعويض عن الشركات المؤممة.

لقد لجأت دول رأسمالية عريقة إلى أسلوب التأميم في عهد بعض حكوماتها الاشتراكية، كان مجال نشاطها ضروريا أو هامشيا، وعندما قررت أن تؤمم لم تفاجئ أصحاب هذه الشركات ولم تنتقم منهم بسلب أموالهم ، وتقويم شركاتهم بطريقة ظالمة تعسفية كما أنها لم تضعهم تحت الحراسة انتقاما من كدهم وتعبهم ونجاحهم وأدائهم لدورهم تجاه المجتمع.

الدول العريقة عندما تؤمم الشركة تشكل لجنة لتقويمها حسب آخر سعر للأسهم في البورصة، وإذ لم يوافق صاحب الشركة على هذا التقويم، ويرى فيه ظلما أو إجحافا فسيظل ضعيفا أمام الدولة التي تملك السلطة.

والمؤلم في معظم عمليات التأميم التي تمت في مصر أنها جاءت مشوبة بالأخطاء والمظالم التي قلت أنها لا تقع في الدول المتقدمة، وسوف أسوق بعض الصور.

لقد وقع التأميم على مصريين وأجانب لكن كانت هناك تفرقة في المعاملة،فلقد عوض الأجانب تعويضا مجزيا، وحصلوا على معظم حقوقهم، ولم يوضعوا تحت الحراسة، بينما لم يحصل المصريون إلا على مبالغ تافهة والكثير منهم عوقب بالوضع تحت الحراسة، وكان على هؤلاء المصريين أن يذهبوا ليحصلوا على مستحقاتهم القليلة في طوابير طويلة، وكأنهم يتلقون برا أو إحسانا من الحكومة.

ولقد كان القائمون على الحراسة يفعلون ذلك تشفيا ن وانتقاما من مجموعة من مواطنيهم الناجحين النابهين، وكان هذا فيما ه ذنبهم الوحيد.

لقد كان موقف الحكومة من الأجانب عادلا ورحيما نتيجة لضغط حكومات هؤلاء الأجانب، وأتذكر جيدا أنني التقيت بصديق لبناني أممت أملاكهم مثلى حيث قال لي: الحمد لله أنني احتفظت بجنسيتي اللبنانية ، وإلا لكنت في هذا الوضع المهين الذي تعانونه أنتم المصريين.

والكثيرون من هؤلاء الذين أممت ممتلكاتهم ،ووضعوا تحت الحراسة من العصاميين الذين أضاعوا حياتهم في البحث عن النجاح، وتحقيق الذات ،كما كانوا يؤدون واجب الدولة عليهم وهو دفع الضرائب، ومن هؤلاء أذكر حسن الشامي باشا وهو من أغنى أغنياء الإسكندرية بدأ حياته بائعا بسيطا للغاية، وتيسرت أحواله فافتتح محلا للبقالة، وعندما راجت الأحوال أسس مصنعا للزيوت، واشترى الأرض وبني العمارات ، لم يحدث ذلك في لمح البصر.

كما حدث أخيرا ، لكن ذلك استغرق الأعوام الطوال والكفاح المستمر وكان الرجل يؤدى حق الدولة عليه دون تهرب، أو تحايل كما حدث من بعض مليونيرات السبعينات.

وفجأة وبعد هذه المرحلة الطويلة من الشقاء التي كللت بالنجاح، وبعد أن وصل الرجل إلى مرحلة الشيخوخة وجد نفسه مؤمما، وموضوعا تحت الحراسة، ويرسل له معاش شهري مقداره 27 جنيها، وإذا أراد أن يشكو فليس هناك من يسمع شكواه، وإن سمعها أحد منه فماذا يفعل ، ولم يكن هذا المبلغ التافه يكفيه ثمنا للدواء، ماذا فعل هذا الرجل ليحدث له هذا وهو في نهاية عمره؟

لقد كان هناك من أصحاب رؤوس الأموال من كان يشعر أن التأميم قادم لا ريب في ذلك لذا فلقد شرعوا في تهريب أموالهم إلى الخارج، ولقد كنت واحدا من الذين توقعوا التأميم، بل وطالبوا به الرئيس عبد الناصر كتابة، لكنني لم ألجأ إلى إخراج مليم واحد من أموالى على الخارج، لأنني كنت من الواثقين في الثورة، وفى قائدها وكنت أقول لنفسي ولغيري إن الدولة لو لجأت إلى التأميم وهذا حقها فإنها ستعوضنا تعويضا عادلا، وستنظر لنا نظرة كلها إنصاف واحترام لما بذلنا من جهد وعرق في إنشاء هذه المؤسسات الناجحة التي آلت للدولة، ولكننا كنا ضحايا حسن نوايانا.

لذلك كانت صدمتي شديدة لما حدث في عملية التأميم من ظلم وإجحاف، ووضعنا تحت الحراسة والحديث عنا في الخطب وكأننا لصوص أو مصاصي دماء.

ومن المحزن أيضا أن الشركات التي يملكها أجانب , ثم أممت احتفظت بأسماء أصحابها مثل "ريفولي" , و شيكوريل ,وهانو , وعدس " وغيرهم ,وبعض هذه الأسماء يهودية , أما الشركات التي كانت تحمل أسماء مصرية مثل " يحيي وفر غلي ولطفي منصور " وغيرهم فقد ألغيت أسماؤها , وكأنهم كانوا يودون أن يزيلوا أي اثر لنجاح أي مواطن مصري .

لقد كانت لجان التقويم التي شكلت ظالمة للغاية لدرجة أن بعض الشركات الهامة الناجحة ,والتي كانت تتعامل مع مئات الألوف قومت بصفر واذكر علي سبيل المثال شركة الصديق العزيز "لطفي منصور " لتصدير الأقطان ,كما أن شركات فرغلي لم تقوم التقويم الذي تساويه , وغيرها شركات , ومصانع , ومعامل كثيرة .

لم يكن الضرر الذي نتج عن هذا التأميم العشوائي، وعن الحراسة التي تبعته واقعا فقط على أصحاب الشركات التي أممت، ووضع أصحابها تحت الحراسة، بل إن الاقتصاد المصري ضرب هو الآخر في الصميم نتيجة فوضى التأميم الذي لم يفرق بين شركات تكسب، وأخرى تخسر كما أن إجراءات التأميم، والحراسة أفقدت الحكومة المصرية ثقة الحكومات الأخرى وثقة رجال المال والأعمال، بل إن المصريين الذين يملكون الأموال، والخبرة أصيبوا بالهلع مما جعلهم يعزفون عن استثمار أموالهم في أي مجال، ولا حتى بوضعها فى البنوك، واكتفوا بتهريبها خارج البلاد، أو بوضعها تحت البلاطة كما يقولون.

وبالرغم من أن عبد الناصر كان سياسيا وطنيا بارزا في حركة التحرر العالمي، أحيى في العالم العربي وروح التحرر، والاستقلال والقومية والاعتزاز بالنفس ، إلا أن ما حدث من ظلم في التأميمات والحراسات كان من خطاياه الكبرى والتي أدت إلى نتائج وخيمة لم تظهر آثارها إلا بعد سنوات.

إني لأزعم أن اللجوء إلى التأميمات، ومن بعدها الحراسات ، والاعتقالات كان من أهم دوافعه السياسية تغطية الفشل في الوحدة مع سوريا، والتورط في الحروب خارج الحدود بما يفوق طاقة البلاد، ومواجهة القلق الاجتماعي الناشئ عن توقف أو بطء التنمية الاجتماعية والاقتصادية ، وإني لأتصور أن هذا الأسلوب القهري كان أحد أسباب هزيمة يونيه 1967 التي كشفت كل عيوب نظام الحكم في الستينات.

أعتقد أن الكثير من المآسي التي حدثت في الحراسات للشيوخ والنساء والأطفال لم يكن يعلم بمعظمها الرئيس عبد الناصر، أو كان يعلم ببعضها لكنه لا يعيرها الاهتمام الواجب، وهذا في رأيي خطأ لن يغفره له التاريخ لأنني مؤمن بالحكمة التي تقول "إن كنت تدرى فهذه مصيبة ، وإن كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم" وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

والذي يجعلني أقول إنه لم يكن يعلم : حادثة وقعت لي عندما أرسلت لي الحراسة حوالة بريدية بمبلغ جنيهين ونصف، وحملتها إلى الحاج عبد الناصر حسين والد الرئيس، وكان طيب القلب واسع الصدر وقلت له والأسى يعتصرني، هل تصدق أن يدور الزمن علينا بعد كل السعة والرغد الذي عشنا فيه وترسل لي الحكومة حوالة كهذه ، وأعطيته الحوالة وما كاد يطلع عليها حتى ارتسم الحزن على وجهه ، وحملها بعد أيام وذهب لمقابلة الرئيس ، وبعد أن عاد قال لي " لقد دهش الرئيس وتألم وقال لي إنها إحدى سخافات القائمين على الحراسة".

المشكلة في رأيي أن العدل لا يمكن أن يتحقق بواسطة ديكتاتور عادل كما يقولون، في هذا الزمن المعقد لا بديل عن الدستور والقانون والمؤسسات وحرية الرأي والتعبير،وبغير هذه العناصر لن يتحقق العدل مهما كان الحاكم عادلا لأن قدراته كفرد لن تمكنه من متابعة كل ما يجرى من أحداث، ومظالم ترتكب باسمه واسم الشعب، وتحت شعارات العدل والحرية.

ومن المآسي التي لا أظن أن الرئيس عبد الناصر علم بها في ظل الحراسة بعض المساومات على الأعراض ، فلقد كنت أعلم بأحوال امرأتين الأولى كانت مطلقة شابة والثانية كانت أرملة ، وهما ثريتان وضعتا تحت الحراسة، ووصل الأمر بأحد كبار المسئولين عن الحراسة أن استغل حاجة إحداهما للمال وساومها ليزيد من دخلها الشهري ليصل على 150 جنيها، بينما الأرملة كبيرة السن التي لا تملك جسدا تعرضه لا تحصل على نصف هذا المبلغ بالرغم من حاجتها الماسة إلى المال.

لم أكن أعرف كيف تم تحديد أسماء فرضت عليهم الحراسة، ولقد أصابني الذهول عندما علمت من أحد أصدقائي أن الأسماء كانت تؤخذ من دليل التليفون، وأتذكر أنني كنت في زيارة أحد كبار المسئولين عن الحراسة السيد عبد اللطيف عزت وكم عانينا من هذا الرجل ، وقلت له لقد فرضتم الحراسة على نصف أغنياء ، بينما تركتم بعض الأغنياء، فما كان منه إلا أن أخرج نوتة وقلما من جيبه ,وقال لي : قل لي من هن هؤلاء ونظرت إليه نظرة غاضبة، وقلت له: لست أنا يا عبد اللطيف بك الذي يتسبب في خراب البيوت ، أو في إفقار من أفنوا حياتهم بحثا عن حياة أكثر أمنا.

فرد مبتسما بعد أن أعاد النوتة الحمراء إلى موضعها يا سيدي أنا مجرد موظف فقير ينفذ سياسة عامة فعقبت على قوله:

أنا لست حزينا على المال الذي ذهب، فالمال يمكن أن يأتي في أي وقت طالما وجدت الصحة وسلامة التفكير، لكن ما يضايقني أننا نصور الآن من خلال الصحف ووسائل الإعلام وكأننا مصاصو دماء أو قتلة أو قطاع طرق، وأنتم تعلمون أن هذا غير صحيح.

أذكر يوما في بداية الستينات بعد التأميم والحراسة أن اجتمعت وبناتي على الغداء في منزلي مثلما تعودنا دائما، وحضرت إحدى بناتي، ومعها طفلتها المريضة جدا وبدأت ابنتي تشكو حالها وعجزها عن تقديم المعونة للطفلة المريضة، وكنت أشعر أنها محقة في ذلك فلم يكن من المتصور أن تتمكن من علاج طفلتها، وكل ما تصرفه لها الحراسة كي يعيشوا منه مبلغ 150 قرشا في الشهر.

وأمام إحساسي بألمها قلت لها إنني سوف أساعدها بقدر ما أستطيع فسألتني:

- بكم سوف تستطيع مساعدتي وعليك أن تحسب السنوات القادمة، وكلها سنوات ضنك؟ ولما لم أرد عليها رفعت رأسها نحو السماء، والدموع تترقرق في عينيها وقالت :
- ربنا يفعل بأولاده مثلما فعل بنا وكانت تقصد بالطبع الرئيس عبد الناصر ونهرتها قائلا:
- إن هذا لا يجوز فأبناؤه ليس لهم ذنب فيما حدث.

- فأعادت الدعاء على أبنائه مرة أخرى وشعرت أن ما تفعله لا يليق بأخلاقنا فقمت من مكاني وصفعتها على وجهها، فبكت وبكت أخواتها معها كذلك فعلت زوجتي.

وشعرت بالألم يثقل صدري ويعتصرني ولم أملك إلا أن أقول لنفسي (منه لله).

العجيب في هذه الحكاية أنني التقيت بعد أيام بعز العرب عبد الناصر، وهو شقيق الرئيس وكانت تربطني به علاقة وطيدة لطيبته، وتواضعه حيث عاش فقيرا ومات فقيرا.. وعندما قابلني بادرني بالقول:

- تسلم يا باشا .

ولم أفهم ما يقصده، فاستفسرت منه عما يعنيه ، فأوضح لي أنه يقصد موقفي من ابنتي في المنزل.

ساعتها شعرت أن هناك بين العاملين في المنزل من ينقل ما يحدث داخل المنزل إلى أجهزة الدولة، وأعتقد أن ما كان يحدث في منزلي لابد وأنه كان يحدث في منازل أخرى كثيرة أغلقت على مآسي عديدة من هذا النوع.

لا يعرف آلام الحراسة إلا من وضع تحتها حيث لا حرية في الحركة، ولا في التعامل وحيث تكثر الممنوعات :

ممنوع السفر ، ممنوع الذهاب حتى إلى الأندية وحيث يخاف الناس أن يحادثوك مباشرة أو بالتليفون ، ومن يغامر بحريته ويضع نفسه في شبهة الحديث مع شخص فرضت عليه الحراسة ؟ والأسوأ من ذلك ممنوع السعي إلى الرزق ، وتعيش تحت رحمة دراهم تجود عليه بها إدارة تسمى إدارة الحراسة، وإذا كان لي أن أكره كلمة فإن كلمة حراسة تعد أسوأ الكلمات وقعا على أذني حين أسمعها، وعلى عيني حين أقرأها.

أنا والقطاع العام

يتصور البعض خطأ أنني بحكم انتمائي الاجتماعي لابد وأن أقف ضد القطاع العام، وبحكم أنني راسمالى لابد وأن أقف ضد مبدأ التأميم، ولقد دهش البعض أيضا عندما وجدوني أدافع عن القطاع العام بداية من عام 1974 حيث بدأت أنشر بعض مقالاتي على صفحات الأهرام، وربما زالت دهشة هؤلاء وأولئك إذا علموا أنني كتبت للرئيس عبد الناصر قبل عام 1961 أكثر من مذكرة أطالبه فيها بالتأميم ولكن كما قلت قل ذلك هناك فارق شاسع بين ماكنت أطالب به وما حدث بين القطاع العام كما تصورته، وبين القطاع العام في وضعه الحالي.

فعندما حدث التأميم أممت كل شركة وأي شركة سواء كانت تحقق ربحا أو لا يتحقق ربح على الإطلاق، ومن غير المعقول أن تكون هناك شركات تخسر في ظل ملكية صاحبها لها، ثم نؤمها وننتظر منها في ظل ملكية الدولة النامية أو المتخلفة أن تحقق هذه الشركة ربحا.

وبعد التأميم أجرت الحكومة دمجا لبعض الشركات التي تعمل في مجال واحد , وفي ظل هذا المبدأ اندمجت شركات تكسب مع شركات تخسر , كما أنه لم تكن هناك كفاءات لإدارة هذه الشركات بعد إخراج أصحابها , حيث تم الاعتماد على أهل الثقة الذين لم يكن لهم أي خبرة في مجالات عمل هذه الشركات .

ولقد سبق وقلت إن القطاع العام مظلوم لأسباب عديدة من بينها أن التأميم تم على أسس سياسية دون مراعاة المبادئ الاقتصادية , كما أن الذين تولوا إدارته كانوا في بعض الأحيان من العسكريين الذين لم تكن لهم خبرة في مجال عمل الشركات بالإضافة إلى تكديس العمالة في مرافق القطاع العام , والتحكم في أسعار منتجاته , والبيروقراطية , والإسراف في الإنفاق على المظاهر .

كل هذا لا يجعل فكرة إنشاء قطاع عام فكرة خاطئة بقدر ما يشير بإصبع الاتهام إلى أساليب تأسيسه , وإدارته , فلا احد يستطيع أن يفكر الآن في إلغاء القطاع العام فهو عصب الاقتصاد المصري وعموده الفقري , ويجب أن يظل كذلك عن طريق تدعيمه , وتطويره , وترشيده .

ولا يفوتني أن أذكر في أسباب ارتباك القطاع العام سببا آخر هو خوف الرؤساء من التصدي لمسئولياته , ومحاسبة المخطئ , وإثابة المجتهد , فلقد كان من المألوف بعد عمليات التأميم أن أي موظف , أو عامل يشكو رئيسه أو يكتب تقريرا حتى ولو بدافع كيدي حتى تأتي النيابة الإدارية لتحقق في شكواه , ويجد الرئيس نفسه موضع اتهام بغير سند أو دليل , حتى سيطر الخوف على هؤلاء الرؤساء , ولقد أثر ذلك تأثيرا سلبيا على الابتكار , والرغبة في التجديد , والتطوير خوفا من الخطأ والمسألة . وبدأت السلبية تزحف إلى مرافق القطاع العام رويدا رويدا .

كان المفروض أن ننمي عند هؤلاء الموظفين الشعور بالانتماء إلى القطاع العام , وبأنه ملكهم , كي لا تنتشر تلك الظواهر السلبية مثل " الزوغان " وإهمال المال العام بل وأحيانا تبديده .

لكنني أحذر هؤلاء الذين ينادون بتصفية القطاع العام , والعودة إلى القطاع الخاص , إن نداءهم هذا سيكون كارثة سياسية , واقتصادية , واجتماعية لأن الزمن لا يعود للوراء , علينا أن نحافظ على القطاع العام , ونشجع القطاع الخاص , ونضع القوانين التي تحمي نشاطه .

بقي أن أذكر فحوى المذكرة التي أرسلتها إلى الرئيس عبد الناصر عام 1960 أقترح عليه فيها الأخذ بمبدأ التأميم , حيث الأسس التي اقترحت أن يأخذ بها عند القيام التأميم وكانت كالآتي :

1 ـ أن تؤمم الشركات الضخمة التي تحقق ربحا خلال السنوات الثلاث السابقة على سنة التأميم , كما يكون مجال نشاطها مناسبا . 2ـ أن تمتلك الحكومة 51 % فقط من أسهم الشركة والمساهمون 49 % من أسهمها , وأن تدفع الحكومة 51 % بسندات الخزانة لصاحب الشركة .

3ـ أن ينتخب المساهمون رئيس وأعضاء مجلس الإدارة من خلال جمعية عمومية , ويكون للحكومة حق الاعتراض .

وعندما لم يصلني رد من الرئيس عبد الناصر , أرسلت بفكرتي إلى ممثل وزير الاقتصاد " حسن عباس زكي " في الإسكندرية عرضت عليه تأميم شركة فرغلي للتجارة والأعمال المالية بالشروط السابقة .

والأستاذ " حسن عباس زكي " من وزراء القلائل الذين كان لهم اهتمام عميق بالقطن , كما كان يتمتع بثقافة واسعة في مجال تصدير الأقطان , ويعتبر من الكفاءات المصرية النادرة في المجال الاقتصادي عامة . وعندما حدث التأميم سنة 1961 كان قطاع القطن هو القطاع الوحيد الذي أممته الحومة بنسبة 51 % , والفضل في الأخذ باقتراحي في هذا المجال يعود إلى السيد " حسن عباس زكي " الذي اقتنع بوجهة نظري , وأقنع الرئيس عبد الناصر بها .

لكن لم يمر أكثر من ستة شهور على التأميم حتى خرج السيد " حسن عباس زكي " وأممت الحكومة قطاع القطن بنسبة 100 % مثل كل القطاعات الأخرى .

بهذه المناسبة أذكر أنني عدت ذات مرة من الخارج , وكنت أحمل عرضا مغريا من فرنسا , واتصلت بمكتب السيد حسن عباس زكي وزير الاقتصاد كي انقل له تفاصيل العرض , وعرض علي أن أذهب للقائه بمنزله , وعندما وصلت إلى المنزل , وجدت الرئيس مريضا ودرجة حرارته مرتفعة , وبالرغم من ذلك قرر مقابلتي , وتناقشا حول المشروع الذي كنت أحمله , وهو مقدم من أحد ملوك المال في فرنسا ( مسيو مارسيل بوساك ) هذا الرجل كانت تربطني به صداقة وطيدة , وكان يملك مصانع , وممتلكات كانت تصل وقتئذ إلى ما يقرب من المليار دولار , وأذكر أنني كنت مع الوفود السياحية في مدينة باريس أيام مجد " بوساك " حين أشار المرشد السياحي إلى أحد ميادين السباق الضخمة وسط باريس , وقال لنا : وهذا الميدان يمتلكه ملك النسيج " مارسيل بوساك " .

الغريب أن هذا الرجل مات في باريس عام 1980 فقيرا لا يملك شيئا , وأسباب فقره كانت في عدم تطويره لصناعته , واشتغاله بالسياسة , ويبدو لي أنني ربما كنت المصري الوحيد الذي زار هذا الرجل قبل وفاته بشهور ـ قليلة حيث جلسنا نتناقش في أسباب إفلاسه بعد كل المجد الذي حققه , وقلت له قد ضيعتك السياسة , فلقد هاجمت ديجول , ومن بعده بومبيدو , ثم ديستان لذلك عندما وقعت شاركوا هم في الإجهاز عليك .

وكان ذلك صحيحا بالفعل , فعندما فكر في بيع ميدان السباق الذي يملكه وكان هذا يكفي لتغطية كل ديونه , ويحقق فائضا يعيش منه حياة رغدة إلا أن الحكومة رفضت ذلك , واعتبرت أن الميدان يمثل أحد المعالم الهامة في باريس , وليس من حقه التصرف فيه , لذا فقد باعه بأقل مما يساويه بكثير جدا .

ولقد كان رأي دائما ولا يزال أن رجل الأعمال يجب أن يحتفظ بعلاقات طيبة مع الحكومات المختلفة كي لا تتربص به .

إن شعوري بالامتنان نحو السيد حسن عباس زكي يجعلني أتذكر قولا قاله لي السيد عبد اللطيف عزت حين قال : لقد سمع حسن عباس زكي يقول ذات مرة " لو قدر لي أن أوقع قرارا بإبعاد فرغلي عن مجال القطن , فسوف ترتجف يدي لأنني أعرف كيف يعشق هذا الرجل العمل في مجال القطن " .

في نهاية حديثي عن التأميم والحراسة , وهو حديث قد يطول كثيرا أذكر على سبيل التذكرة أن الحكومة الاشتراكية الفرنسية ( 1981 ) قبل أن تقوم بتأميم الشركات الكبرى اتصلت بأصحاب هذه الشركات , وطمأنتهم على أنها لن تصادر أموالهم , بل إنها ستترك لهم إدارة هذه الشركات .

وفيما يتعلق بمبدأ التأميم , فأنا أفضل أن تترك الحكومة الشركات العاملة في مجال الخدمات مثل التليفونات , والمياه , والكهرباء , والنقل تتركها للقطاع الخاص على أن يكون للحكومة الحق في الاعتراض على الأسعار التي تحددها هذه الشركات الخاصة , بل قد يكون من الأفضل للحكومة أن تسهم بمبلغ لدعم هذه الشركات بدلا من المبالغ الباهظة التي تتكلفها الآن نتيجة لإدارتها لهذه الشركات .

كما أنني أفضل أن تهتم الحكومة بصيانة وتطوير الشركات القديمة القائمة، وهذا أفضل في رأيى من توجيه جديد لإنشاء شركات جديدة إلا عند الضرورة.

أرجو أن يكون فيما قلته أنصاف للرئيس عبد الناصر الذي لم أحمل له في أي وقت قدر من الكراهية رغم ما حدث لي في مرحلة الستينات، وأرجو أن أكون موضوعيا فيما سقته من آراء ، لأنني كنت من بين قلى قليلة من أعمدة مجتمع ما قبل الثورة الذين حازوا ثقة الرئيس عبد الناصر، رغم صعوبة حيازة هذه الثقة وأسوق مثالا على ذلك:

في منتصف الستينات تقريبا- وكنت من الممنوعين من السفر بحكم قانون الحراسة- ذهبت إلى الرجل الكريم محمد أحمد في رئاسة الجمهورية، وعرضت عليه رغبتي في السفر إلى الخارج للعلاج من حصوة في الكلى، وقلت له بين ما قلت إن كل ما أطلبه أن يثق الرئيس عبد الناصر في ، وأن يثق في أنني لا أرغب في الحياة في أي بلد غير مصر، ولا أرغب في الحياة والعمل فيها بديلا.

وكتبت ذلك في رسالة كي يسلمها بدوره إلى الرئيس ، ثم حملت أشيائي من الفندق، وغادرت القاهرة متوجها إلى الإسكندرية، وما كدت أدخل إلى منزلي في السكندرية حتى أبلغتني زوجتي أن هناك شخصا يدعى محمد أحمد اتصل بك من القاهرة، ويطلب أن تتصل به فور وصولك، واتصلت به بالفعل وقال لي الرجل برقته المعهودة:

- إن الرئيس يبلغك تحياته ويقول لك طريق السلامة في أي وقت تشاء ولقد أعطينا تعليمات على مدير الجوازات لإتمام كافة الإجراءات دون أن تكلف نفسك عناء الحضور إلى القاهرة.
- وفى اليوم التالي اتصل بى مدير جوازات الإسكندرية، وقال لا إن تعليمات قد وصلت بشأن تسهيل إجراءات سفري، وأنه على استعداد لأن يأتي إلى مكتبي بنفسه لإنهاء هذه الإجراءات كما أبلغني أيضا أن بإمكاني الحصول على المبلغ الذي أحتاجه ( كان المبلغ المسموح به عند السفر هو خمسة جنيهات).

بعد مرور خمسة عشر يوما من موافقة الرئيس على سفري اتصل بى السيد محمد احمد من رئاسة الجمهورية وقال لي:

خيرا.. لماذا لم تسافر ، الرئيس يستفسر عن أي عائق يمكن أن يكون قد وقف في سبيل سفرك أن نذلله لك.

وشكرته وشكرت الرئيس من خلاله ، وقلت له لا يوجد أي عائق.. إن الأمر يحتاج لبعض الوقت لحجز موعد لدى الأطباء، وسوف أسافر قريبا، ولن أبقى في أوربا أكثر من شهرين.

وسافرت بالفعل ، وعدت قبل انتهاء الموعد بثلاثة أيام.

بعد عودتي التقيت بوالد الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية ، وقال لي بين ما قاله إنه التقى بالرئيس بعد سفري، وأنه ( الرئيس) قال له تعليقا على سفري إنني أعتقد أن هذا الرجل بريء من كل ما نسب إليه من أنه هرب أموالا للخارج، وأشعر أنه سوف يعود في نهاية المدة التي حددها، وعودته سوف تثبت صدق ظني، أما إذا لم يعد فسوف يكون معذورا لأنه يكون قد تخلص من هذا الجو غير المريح الذي يعيش فيه.

لم أنقطع أبدا عن الكتابة للرئيس عبد الناصر إما في صورة اقتراحات أو مشروعات أو برقيات ، ولم أكن أعرف مصير هذه الاقتراحات، هل كان يوليها الاهتمام الواجب أم أنه كان يهملها، وتأكد لي أخيرا أنه لم يكن يهملها ففي لقاء بالأستاذ عبد المحسن أبو النور نائب رئيس الوزراء في عهد الرئيس عبد الناصر سنة 1978 قال لي" هل تعرف أن الرئيس عبد الناصر كان يناقش في بعض الاجتماعات لمجلس الوزراء بعض الاقتراحات التي كنت ترسل بها إليه".

وأسعدتني معرفتي بهذا الأمر، فليس هناك ما يسعد الإنسان أكثر من أن يعرف أن الجهد الذي كان يبذله في صياغة المقترحات كان يلقى الاهتمام الواجب.

رحم الله الرئيس عبد الناصر، فلقد قاد مصر في ظروف بالغة التعقيد، وحاول أن يقود السفينة في الاتجاه الذي أعتقد أنه يحقق صالح الشعب المصري ولقد وفق أحيانا وجانبه التوفيق في أحيان أخرى، كانت له حسنات عظيمة، كما كانت له أخطاء ضخمة مثل كل تجربة إنسانية.

كان أكثر ما يميز سياسته ردود الفعل العنيفة لقد تصادف أن كنت في زيارة لانجلترا، والتقيت بأحد رؤساء الشركات الكبرى حيث قال لي:

- إنه ما من مرة يقال فيها إن الرئيس عبد الناصر سوف يلقى خطابا إلا ونتوقع فيها مصيبة .

وفى آخر مرة التقيت برئيس إحدى الشركات الألمانية الذي بادرني بقوله لقد علمت أن الرئيس عبد الناصر قرر علينا أنه لن يدفع دينا على مصر لألمانيا مقداره 75 مليون مارك، ثم أضاف: إن هذا المبلغ لا يساوى قطرة في بحر الاقتصاد الألماني، لمنه سوف يضر الاقتصاد المصري أكثر لأنه سوف يفقد ثقة العالم الغربي.

- وف مرة أخرى التقيت بالرئيس عبد الناصر في اجتماع خاص، وقال عندما تحدث عن الاقتصاد دعونا نجرب، وعندما قلت له لماذا التجارب ولدينا الخبراء، فرد قائلا : نحن للأسف لا نثق في الباشاوات، فقلت له وأنا أشعر بالألم ، فلنستعن بالأجانب ،فقال: إن هؤلاء لا يعملون إلا لصالحهم.

وسألني كثيرون عن السر في بناء علاقات طيبة مع الحكام في العهد الملكي، وفى عهد عبد الناصر، وعهد السادات، بعضهم كان يسألني عن ذلك مندهشا والبعض الآخر كان يقول ذلك متهكما وكان البعض يقول لقد ضحكت على عبد الناصر.

وفى الحقيقة أنا لا أجد في الأمر ما يثير الدهشة أو التهكم ، فلقد اعتقدت طول الوقت أن بإمكاني أن أقدم المشورة وأؤيد السياسات التي أراها صائبة، وعندما لاتعجبنى سياسة ما فإنني ألزم الصمت، وألتمس العذر للقائمين على تنفيذها.

لم أبخل أبدا بتقديم الرأي أو المشورة في صورة مذكرات أو بالنشر في الصحف ابتداء من عام 1974 خاصة في مجال خبرتي، وهو المجال الاقتصادي على وجه العموم، ومجال القطن على وجه الخصوص .

وبالرغم مما تعرضت له من قسوة إجراءات الحراسة، وقسوة وصف انتمائي إلا أنني لم أفكر أبدا في ترك الميدان، أو الانطواء لأن ذلك يعد هروبا من إمكانية أن أكون نافعا.

ولأنني مؤمن بذلك فلم تسعدني استقالات بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة لأنهم لو تحملوا وظلوا بجوار الرئيس عبد الناصر لقلت كمية الأخطاء التي وقعت في عهده، وإن أعتقد أيضا وهذا رأى شخصي أن وراء الكثير من الأخطاء التي وقعت في عهد الرئيس عبد الناصر وجود المشير عبد الحكيم عامر وتزايد نفوذه وسلطاته، رغم افتقاره على الخبرة العميقة في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.

ومات الرئيس عبد الناصر في سبتمبر سنة 1970 بعد الصدمة الهائلة التي حدثت له بهزيمة 1967 والتي عجلت بنهايته، وكنت أعتقد أنه لو عاش قليلا لحاول تصحيح مسار الثورة، ورفع بعض المظالم التي وقعت على بعض أفراد الشعب نتيجة بعض الممارسات الخاطئة وهذا ما فعله من بعده المرحوم الرئيس محمد أنور السادات.

قبل أن أنهى هذه الكلمات عن الرئيس عبد الناصر أتذكر بمناسبة هزيمة يونيو سنة 1967 أنني كتبت له قبل بداية هذه الحرب بحوالي عشرة أيام فلقد علمت من أحد سفراء الدول الغربية في حفل خاص فأن إسرائيل تخطط لاستدراج الرئيس عبد الناصر، ومصر على حرب لم يستعد هو لها، وأن عواقب دخولها سوف تكون وخيمة، وكتبت إلى الرئيس وسلمت نسخة من رسالتي على الأستاذ هيكل والنسخة الثانية إلى السيد محمد أحمد لكن للسف حدثت الحرب وكانت نتيجتها المحزنة.

محمد حسنين هيكل

عندما اتخذت قرارات التأميم، وفرض الحراسات عام 1961 هاجر معظم الأجانب والكثيرون من المصريين للعمل خارج البلاد، وكان الأمر سهلا بالنسبة للأجانب لأن أموالهم كانت خارج البلاد، وكان من الطبيعي أن يلجأ المصريون ممن وضعوا تحت الحراسة أو أمموا إلى التفكير في العمل تحقيق لذواتهم وكسبا للعيش.

ولقد بدأت بطرق أبواب كبار المسئولين من معارفي كي يتوسطوا لدى الرئيس ليسمح لي بالعمل إما حرا أو حتى في الحكومة فمن القسوة أن يجد إنسان أم يجد نفسه بلا عمل بعد أن كانت حياته مليئة به، وقلت لهؤلاء إنني لم آت إليكم الآن لأعترض على التأميم أو الحراسات ، كل ما أطلبه حقي في العمل، ولقد أبدى الكثير من هؤلاء تفهمهم لمطلبي، ورغبتهم في مساعدتي ، منهم من اقترح ترشيحي رئيسا لمجلس إدارة شركة فرغلى وهى الشركة التي كنت أملكها ثم أممت، أسوة بما اتبع مع الأجانب الذين عينوا رؤساء لمجالس إدارات الشركات التي كانوا يملكونها، لكن محاولات هؤلاء لم تفلح لاعتراض عبد الحكيم عامر لدى الرئيس عبد الناصر، ولقد عرفت ذلك من الليثى عبد الناصر شقيق الرئيس.

وشعرت أن هذه الاتصالات كانت تصل في النهاية إلى طريق مسدود، وهنا قفز في ذهني اسم الأستاذ محمد حسنين هيكل الصحفي اللامع جدا في هذا الوقت والصديق المقرب من الرئيس عبد الناصر وموضع ثقته.

كنت في مكتبه بصحيفة الأهرام في تمام الثامنة صباحا، حيث أبديت لسكرتيرته السيدة نوال المحلاوي رغبتي في لقائه ، وكان بين المنتظرين السيد محمد أبو نصير وزير العدل وآخرون، وما أن خرجت السيدة نوال المحلاوي من عند الكاتب الكبير حتى أذنت لي بالدخول على الفور، وكانت المرة الأولى التي التقى به فيها.

في تمام الثامنة والربع استقبلني الرجل في مكتبه، وكان استقبالا حارا أدخل بعض الطمأنينة إلى نفسي ، وبدأت اشرح له سبب مجيئي للقائه، وقال لي لماذا تأخرت كل هذه المدة، فقلت له إنني شعرت بالحرج أن آتيك في أيام الضنك، وأنا الذي لم آتيك في أيام الرخاء.

وبدأت في شرح قضيتي ولخصتها في الاتى:

قلت له لقد جئت إليك بعد أن طرقت أبواب أكثر من مسئول ، لم آت إليك طلبا لإلغاء تأميم أو رفع حراسة ، لكنني فقط جئت طالبا لحق بسيط وهو أن أعمل ، إنني لا أتحمل أن أبقى هكذا بلا عمل بعد أن كان العمل هو كل حياتي، وإذا كان العمل على أرض مصر أصبح مستحيلاـ وإن لم يعد بالإمكان أن نتساوى بالأجانب الذين عينوا في شركاتهم المؤممة، فإنني أرجو أن يسمح لي الرئيس بالسفر للعمل بالخارج، وأنا على ثقة من أنني سوف أجد من أصدقائي في الخارج التشجيع لقد عرض على البعض المساعدة في الهرب إلى الخارج وطلب اللجوء السياسي، لكن نفسي أبت على أن أفعل مثل ذلك، إنني أحب بلدي وأتحرق شوقا للعمل على أرضها، وإن لم أجد مجالا للعمل فيها، فسوف أسافر بموافقة سلطاتها، لقد تعاونت مع الثورة إلى أقصى حد ول أبخل بالمشورة والمشاركة لكن ما حدث الآن يضعني في موضع مؤلم للغاية.

استمع إلى الرجل بكل جوارحهن وبعد أن أنهيت حديثي قال لي: إنه يقدر شعوري ويعرف قسوة البقاء بلا عمل، ويقدر دوري في الحياة الاقتصادية كما يقدر تعاوني مع الثورة، وأضاف قائلا : إنه سوف يعاونني بقد ما يستطيع في لثقته عدالة قضيتي.

واعتذرت له بأنني أخذت من وقته الكثيرون، وهناك من هم في انتظاره خارج الحجرة، وطلبت أن يحدد لي الموعد المناسب لزيارته، وكان الرجل كريما حين قال لي – تستطيع أن تأتى في أي وقت تشاء، أي يوم أي ساعة فيما عدا يوم الثلاثاء لأنه اليوم الذي أكتب فيه مقالي الأسبوع، واصطحبني حتى الباب ، ولأنه كان يشعر بما أعانيه من ألم وحرج فقد جعل وداعه حارا مما بث في نفسي بعض الثقة في الغد.

وتكررت لقاءاتي به بعد ذلك بشكل متصل، وطوال هذه الفترة شعرت بتفانيه في تقديم خدماته لمن يحتاجها، خاصة وقت الشدائد، وظلت زيارتي له جزءا هاما من برنامج سفري إلى القاهرة طوال فترة وجوده بالأهرام.

ولقد لاحظت من خلال لقاءاتي به أنه حاد الذكاء وسريع البديهة، ودقيق النظام بل المدهش أنه كان يتمتع بذاكرة قوية جدا، وقدرة على التوقع، والتنبؤ لدرجة كانت تجعله بعض الأحيان يعرف الغرض الذي جئت من أجله بمجرد الحديث لبضع دقائق.

ومن ملاحظاتي أيضا على أسلوبه في التعامل أنه كان يحرص دائما على تسجيل ملاحظات أثناء الحديث إذا شعر أن محدثه يذكر شيئا له قيمة، وهذا يدل على أنه يتمتع بحاسة مرهفة لمخبر صحفي ولقد كنت ألاحظ أحيانا أثناء اطلاعي على مقاله الأسبوعي الشهير بصراحة أن بعض ما تحدثنا حوله قد ذكر في هذا المقال، وفى ظني أن مقاله هذا كله كان يلقى كل هذا الرواج ، ليس فقط لما يحمله من أخبار جديدة، أو أسرار لا يعرفها أحد غيره، لكن لأسلوبه الفريد في عرض أفكراه، ولغته الجميلة البسيطة وقدرته الفائقة على التحليل والربط بين ألأحداث وثقافته المتعددة الروافد.

من ملاحظاتي أيضا بالنسبة له أنه ظل حتى هذه اللحظة مؤمنا بأن الكاتب الجيد يجب أن يظل تلميذا يتعلم دائما من كتاب يقرأه أو متحدث يجلس إليه.

رغم زياراتي المتعددة له أيامها دون أن أشعر بنتيجة ملموسة بدأ بعض اليأس يتسرب إلى نفسي وصارحته بذلك في إحدى زياراتي ، فما كان منه إلا أن رد على مبتسما:

- إن كلمة اليأس غريبة عليك، ولو قلتها مرة أخرى فلن أصدقك لأن ما فعلته في حياتك يجعلني متأكدا من أن هذه الكلمة ليست في قاموس حياتك.

وقلت له بصراحة:

- إني أخشى أن يكون أمر الموافقة على عمل أضحى من الأمور المستحيلة فقال لي:

- أرجو ألا تفكر فئ هذا الأمر كثيرا، بل أرجوك أن تعتبر هذه قضيتي بقدر ما قضيتك.

في هذا الوقت تقريبا وصلني عرض للعمل كمستشار في أحد البنوك الانجليزية الشهيرة في لندن بمرتب 25ألف جنيه بالإضافة إلى المسكن والسيارة والسائق ، مع ملاحظة أن هذا المبلغ كان يعد ضخما في وقتها ( أوائل الستينات) وحملت العرض وأطلعت عليه الأستاذ هيكلن ورجوته أن ينقله إلى الرئيس:

وعندما اطلع على تفاصيل العرض دهش وقال لي:

- ولماذا تعتذر عن مثل هذا العرض؟

فقلت له:

- لأني لا زلت – رغم قسوة الظروف- أفضل البقاء في بلدي، والعمل على أرضها، ورجوته أن يعلم الرئيس بموقفي هذا .

- في صبيحة أحد الأيام من عام 1964 ذهبت في زيارة عادية للأستاذ هيكل في مكتبه ، فأبلغتني سكرتيرته الشهيرة السيدة نوال المحلاوي بأنه يرجوني أنأمر عليه هنا في تمام السادسة بعد ظهر اليوم لأمر هام.

والتقيت سبه بالفعل في الموعد المحدد، ونفسي تجيش بأمل غامض، وأثناء هذا اللقاء أبلغني بأن الرئيس عبد الناصر وافق في حديث معه على تعييني في عمل ما في مؤسسة القطن، ثم طلب منى أن أسطر رسالة أشكر فيها الرئيس على هذه الموافقة.

وأخذت مكانا جانبيا في الحجرة، وكتبت للرئيس رسالة شكر فيها على إتاحة الفرصة لي للعودة لخدمة بلدي، وتحقيق ذاتي وسلمت الرسالة للأستاذ هيكل وما أن اطلع عليها حتى علق عليها قائلا:

- الرسالة طيبة ولكن الخط رديء على العموم لقد كان خط نابليون بونابرت رديئا أيضا .

وشكرته على المجاملة وانصرفت.

بعد ذلك بفترة اتصل أبى السيد عبد اللطيف عزت الذي كان رئيسا لمؤسسة القطن في ذلك الوقت، وأبلغني أنه تلقى أمرا من الجهات العليا بتعييني مستشارا لمؤسسة القطن بمرتب يعادل مرتب رئيس مجلس الإدارة.

اجتمع مجلس إدارة المؤسسة لمناقشة هذا الأمر، وكان بين هؤلاء من لا تسعدهم عودتي ، فأفتوا بأن أعين بمرتب لا يزيد على المائة جنيه لأن التعيين بمرتب أعلى من ذلك يقتضى إصدار قرار جمهوري والأمر الذي تلقاه السيد عبد اللطيف عزت كان شفويا من السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة.

عندما علمت بهذه التفاصيل شعرت بالضيق والألم وقررت السفر إلى القاهرة للقاء الأستاذ هيكل، وبالفعل عرضت عليه الأمر فما كان منه إلا أن رجاني أن أقبل الأمر كما هو في هذه اللحظة، ووعد بـأنه سوف يصلح الأمر في الوقت المناسب.

وبناء على نصيحته قبلت الوظيفة رغم ضآلة المرتب وقلة أهمية المنصب، وعندما علم البعض ممن سافروا إلى الخارج بأمر الوظيفة التي شغلتها، ومرتبها علقوا على ذلك بقولهم:

إن هذا يسيء على نظام الحكم بأكثر مما يسيء على فرغلى باشا وظل الوضع على هذا الحال إلى مل بعد هزيمة 1967 وبعد موت عبد الحكيم عامر حيث صدر قرار جمهوري بتعييني مستشارا لمؤسسة القطن بمرتب وبدلات رؤساء مجالس الإدارات، وهذا جعلني أعتقد أن لعبد الحكيم عامر يدا في هذا الأمر.

وبهذه المناسبة أذكر أنه في أحد اللقاءات التي سبقت الموافقة على عملي قلت للأستاذ هيكل : إنني أشعر أن من يقف وراء عدم الموافقة على تعييني هو المشير عامر، وأردفت قائلا: إن هذا الموقف ليس موجها إلى على وجه الخصوص بقدر ما هو موقف عام موجه لكل الطبقة التي انتمى إليها.

لكن الأستاذ هيكل لم يقتنع بوجهة نظري هذه وقال لي بالانجليزية:

- أنت تتسرع في الاستنتاج .

ولم يزد على ذلك كلمة.

حدث بعد عملي كمستشار لمؤسسة القطن أن اجتمع مجلس الإدارة برئاسة السيد عبد اللطيف عزت لتحديد سعر تصدير القطن المصري، وأثناء الاجتماع اقترح رئيس المؤسسة سعرا منخفضا للبيع، مما جعلني أعترض بأن هذا السعر يعد منخفضا للغاية، ولا يتناسب والأسعار العالمية كما لا يتناسب وجودة القطن المصري، وشدة الطلب عليه وشاركني الرأي البعض من الحاضرين من رؤساء شركات التصدير.

ولأن الرأي يؤخذ بأغلبية الأصوات، فلقد ووفق على السعر المنخفض، وبعد إعلان السعر نفذ القطن المصري في يوم واحد، وبطريقة أثارت الدهشة والتعليقات، مما دعا الدكتور القيسونى إلى تقدير الخسارة التي تحملتها الحكومة المصرية نتيجة هذا التصرف ،حيث دعا إلى عقد اجتماع للمؤسسة بصفته الوزير المسئول وأثناء الاجتماع وبطريقته المهذبة الحازمة وجه اللوم إلى رئيس المؤسسة وقال له:

- إنني أشعر يا سيادة رئيس المؤسسة أنك ضللتني .

ولقنه درسا فيما كان يجب أن يكون عليه التصرف.

ولقد حاول الدكتور القيسونى بصفته الوزير المسئول عن التجارة الخارجية أن يخفف من الخسارة ، ويعالج الأمر بحكمة عن طريق الاتصال بالمشترين ، وتعديل الشروط معهم.

بعد هذه الحادثة كلفنى الأستاذ هيكل إلى لقاء معه في القاهرة، وسألني رأيي فيما حدث.

وشرحت له وجهة نظري ، وطلبت إليه أن يتأكد من مصادر أخرى، ولم تمض إلا أيام قليلة حتى كانت المشكلة موضوعا لمقال له حمل فيه بشدة على رئيس المؤسسة، وكان من نتيجة هذه الأزمة وهذا المقال خروج السيد عبد اللطيف عزت على المعاش بالرغم من أنه كان يطمح في الوصول على منصب الوزير.

وبالرغم من عدم وجود عمار بيني وبين السيد عبد اللطيف عزت منذ كان حارسا عاما، وشعوري بأنه كان يفرق في المعاملة بين من فرضت عليهم الحراسة ، إلا أنه حين طلب زيارتي في المنزل رحب به، وأثناء هذه الزيارة رجاني أن أتوسط الأستاذ هيكل ليلقاه.

واستجبت لرغبته رغم علمي بما فعله، ورغم علمي ببعض الشائعات التي تناثرت حول تصرفاته أثناء عمله في جهاز الحراسة وفى مؤسسة القطن.

لكن الأستاذ هيكل رفض المقابلة.

من الأشياء التي تؤخذ على الأستاذ هيكل قول البعض إنه شارك في معظم السياسات الخاطئة التي حدثت في عهد الرئيس عبد الناصر، وإني أعتقد مخلصا أن العكس هو الصحيح، فأنا أعتقد أنه شارك بقدر كبير في تصحيح مسار سياسات خاطئة، بل إنه كان عاملا مخففا للإجراءات الاستثنائية التي حدثت في تلك الفترة، وإني لعلى علم كامل بوقوفه بجانب الكثيرين ممن أضيروا بالثورة، وساعدهم بإخلاص واقتناع،دون انتظار حتى لكلمة شكر وإني لأذكر جيدا كيف وقف بجواري في محنتي دون سابق معرفة بيننا، كما أعرف أنه ساعد أحمد عبود باشا في محنته ليسافر إلى الخارج للعلاج، ولم تكن مساعدته هذه مخالفة للقانون . بل على العكس كانت محاولة منه لأن يسود قانون الرحمة والعدل.

إني لأذكر جيدا أيضا زياراتي له خلال سنوات الضنك، والمحنة في أوائل الستينات، وقد كنت أقول له إن كلماتك هي إبر الفيتامين بالنسبة لي ، وكان يبتسم على بصدر رحب رغم كثرة مشاغله، وفى أحيان كثيرة ومن شدة تأثري بموقفة لم أكن أملك إلا أن اشد على يده تأثرا وامتنانا.

كان من الطبيعي أن يكون في الصحافة، وفى السلطة من يضمرون الكراهية أو حتى الشر له، وهذا أمر إنساني، وطبيعي ساعد على وجوده صعوده ونجاحه، وقربه من الرئيس عبد الناصر وثقة الرئيس عبد الناصر فيه.

ومن بين هؤلاء الذين كانوا يضمرون له الكراهية السيد على صبري، وأتذكر أنني التقيت بالسيد على صبري لأول مرة أثناء مرافقته للسيد زكريا محيى الدين في طلعاته لصيد البط التي كانت من هواياته مثلما كانت من هواياتي.

وفى بداية الستينات كان السيد على صبري أحد الذين طلبت مقابلتهم لأشرح لهم مشكلتي ولقد حدد لي في إحدى المرات موعدا، وبعد أن وصلت على مكان اللقاء في مكتبه اعتذر لي مدير المكتب بأنه ذهب فجأة للقاء الرئيس عبد الناصر.

وفى لقاء آخر كان مكانه نادي سموحة بالإسكندرية حيث كان يذهب للعب الجولف، ودعوته لتناول قهوته معي، وأثناء جلوسه معي لمح في يدي مجلة فسألني عما أقرأه فقلت له:

- إنه مقال تحليلي ممتاز لرئيس تحرير مجلة الاكسبريس.

وناولته المجلة وبعد أن طالع المقال قال لي:

- إنه يتحدث بثقة العامل ببواطن الأمور مثل واحد عندنا في مصر.

قال ذلك بلهجة تنم عن عدم ارتياح، وشعرت بالطبع أنه كان يقصد الأستاذ هيكل من ألأحداث التي ضايقتني وذهبت أقصها ذات مرة على الأستاذ هيكل، أن احد الأصدقاء كان حاضرا في اجتماع مع أحد الوزراء في ذلك الوقت، وهو الدكتور لبيب شقير واقترح هذا الصديق على السيد الوزير اقتراحا قال له فيه:

- لماذا لا تستفيد بعلم وخبرة فرغلى في مجال القطن عن طريق إعطائه وظيفة مناسبة، وبذلك تحقق هدفين:

نستفيد بخبرته، ونعمل على إخراجه من ضائقته المالية التي نجمت عن التأميم والحراسة.

فما كان من الدكتور لبيب شقير إلا أن رد عليه بقوله:

- يا سيدي يبيع نجفة من بيته، ويعيش منها لمدة سنة.

وعندما استمع الأستاذ هيكل لهذه الحكاية بدا على ملامحه أنها لم تعجبه، وبعد تفكر قال لي:

- وهل تعتقد أن وزرائنا لا ينطقون بسخافات في بعض الأحيان؟

من المعروف أنه كان يوجد تليفون مباشر يربط مكتب الأستاذ هيكل بالرئيس عبد الناصر، كثيرا ما كان الرئيس يطلبه أثناء وجودي في زيارته، عندها كنت أهم بالخروج لتركه على حريته لكنه كان يومئ برأسه مشيرا لي كي أبقى ، وأحيانا كانت تطول المكالمة لتصل إلى ساعة.

في تصوري أن الأستاذ هيكل كان يلعب بالنسبة للرئيس عبد الناصر دور الخبير بطبيعة البحار الذي يقف بجوار الربان على سطح سفينة تحيطها الأنواء ، والأمواج العاتية، ولقد وقف هو بجوار الرئيس هادئ الأعصاب ،رابط الجأش يجمع المعلومات ليقدمها إلى القبطان كي تكون الرؤية أمامه واضحة، وبالطبع لم يكن هو الخبير الوحيد الذي كان يقدم المعلومات، لكن في تصوري أنه كان أكفأ من أحاطوا بالرئيس.

ذات مرة قلت له: لقد سمعت أن الرئيس يطلع على مقالك الأسبوعي قبل نشره، فما كان منه إلا أن قطب حاجبيه، ولمعت الدهشة في حدقاته وقال لي:

- هذا ليس صحيحا على الإطلاق، والذي سمعته لا أساس له من الصحة.

حدث في بداية السبعينات أن كنت في زيارة للندن، والتقيت بأحد الأصدقاء الذين يعملون في مجال المال والاقتصاد، وكان على معرفة جيدة بالأستاذ هيكل، وجلس يحدثني عن اثر زوجة تشرتسل في حياة رئيس الوزراء العظيم، وكنت م،اشد المعجبين به ولا زلت سياسيا وكاتبا، وقال لي هذا لصديق لقد لعبت زوجة تشرتشل دورا عظيما في حياة بريطانيا ن وشرح لي كيف كانت تذهب إلى المستشفيات أثناء الحرب، وكيف كانت ترأس الاجتماعات لترفع الروح المعنوية، وأثناء حديث هذا الصديق لمعت في ذهني فكرة، وقلت في نفسي إن السيدة جيهان السادات تستطيع أن تلعب مثل هذا الدور في حياة زوجها، وحياة مصر ، وأرسلت إلى الأستاذ هيكل برسالة قلت له فيها إن عندي اقتراحا هاما سوف أعرضه عليه بعد عودتي من لندن.

وعندما وصلت إلى مكتبه كان أول شيء حدثني عنه أن سألني عن مضمون الاقتراح الذي أشرت إليه وتحدثت معه عن الدور الذي تصورت أن تقوم به السيدة جيهان السادات في حياة مصر ورجوته أن ينقل اقتراحي إلى الرئيس السادات، وكعادته أخرج قلمه وسجل الاقتراح ، لكنني لم أعرف مدى حماسة الفكرة لأنني لم ألاحظ أي انفعال بالحماس على وجهه، لكن ما حدث بعد ذلك أن السيدة جيهان لعبت هذا الدور الذي تمنيته دون أن أعرف هل كان لاقتراحي من أثر في هذا الدور الذي لعبته.

ودار الزمان، وحدث الخلاف المشهور بين الرئيس السادات والأستاذ هيكل وكلاهما عزيز على نفسي، ذلك الخلاف الذي تمنيت ألا يحدث، لأن وجود كاتب ومحلل سياسي في براعة الأستاذ هيكل كان من الضروري أن يفيد الرئيس السادات.

عندما علمت أن الأستاذ هيكل رفض منصب المستشار السياسي للرئيس، شعرت أن الرجل ربما كان يمر بمحنة، وتذكرت موقفه النبيل بجواري في أزمتي، لذا فقد بادرت بأن كتبت إليه رسالة طويلة ثم التقيت به مرتين، وتحدثت معه بإفاضة وتمنيت أن يقبل منصب المستشار لأن وجوده بجوار الرئيس أمر هام، وذكرته بكلامه يوم نصحني بقبول الوظيفة التي كدت أرفضها يوم عرضت على، وطلبت منه أن يقدر ظروف الرئيس، وبأن سلطة اتخاذ القرار من أصعب الأمور، خاصة إذا كان هذا القرار سياسيا.

وبعد أن استمع إلى حججي قال لي:

- إنك الشخص الثالث الذي قبلت أن أفتح معه هذا الموضوع أظن أن الشخصين الآخرين هما : الدكتور محمود فوزي، والمهندس سيد مرعى.
- لكنه لم يقتنع بوجهة نظري وقال لي : إنني رجل قلم ولست رجل مناصب، فإما قلمي وإما بيتي.

وكنت أقدر صعوبة ابتعاده عن الأهرام بعد كل هذا المجد الذي حققه داخل جدرا هذه الصحيفة.

لكن كما يقولون رب ضارة نافعة فإني أظن أن الأستاذ هيكل استفاد من خروجه من الأهرام فائدة كبرى، فلقد وجد الوقت المناسب للتأمل، وتأليف الكتب التي ما كان ليستطيع كتابتها في دوامة العمل الصحفي، هذا بالإضافة إلى الكتابة في الصحف العالمية في لندن وباريس ونيويورك.

لكنني حتى هذه اللحظة أشعر بالأسف للخلاف الذي وقع بين الرئيس السادات وبينه فلكليهما أحمل حبا كبيرا واحتراما عظيما.

لقد اشتركت مع الأستاذ هيكل في حب العمل، وحب القراءة والشغف بالتاريخ وسوف أذكر له دائما مساعدته لي، ولمن احتاجوا إلى مساعدته في أحلك لحظات حياتهم.

جمال سالم

لم يكن قد مضى على قيام الثورة غير سنوات قليلة حين اتصل بي سكرتير السيد : " جمال سالم " لمقابلته في مكتبه بمبنى رئاسة الوزراء في الغرفة التي كانت تعلو الغرفة التي يشغلها الرئيس جمال عبد الناصر كرئيس للوزراء في ذلك الوقت , وتوجست خيفة من هذا اللقاء , لأن المعلومات التي وصلتني عن السيد جمال سالم لم تكن تبعث الطمأنينة في النفوس , حيث اشتهر بأنه كان عصبيا للغاية , وكان من السهل عليه أن يفقد أعصابه , كذلك لم يكن قد مضت على حادثة وقعت بينه وبين " علي الشمسي باشا " غير أيام معدودة .

كان " علي الشمسي باشا " يشغل منصب رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي في الوقت الذي كان " جمال سالم " يشغل منصب نائب رئيس الوزراء , ونشب خلاف في الرأي بينهما حول أمر يهم البنك , وتمسك كلاهما برأيه , ويبدو أن "الشمسي باشا " بحكم خبرته الطويلة عامل " جمال سالم " معاملة شعر منها الأخير بأنه يعامل معاملة الأستاذ للتلميذ , فما كان من جمال سالم إلا أن ثار ثورة عارمة , وطلب من " الشمسي باشا " مغادرة المكتب , وقيل إنه ظل يطارده ضاربا إياه " بالشلوت " حتى أخرجه من المكتب , ومن المعروف أن " الشمسي باشا " شغل منصب الوزارة قبل قيام الثورة بسنوات طويلة , كما كان عضوا في مجالس إدارة البنوك , والعديد من الشركات .

كانت صورة هذا الحادث المفزع في مخيلتي , وأنا في طريقي للقائه , وقررت أن أكون غاية في الحذر أثناء لقائه . وصلت إلى مكتبه , وعندما دخلت عليه , كان منهمكا في الكتابة فلم يرفع وجهه من على الأوراق , وظللت منتظرا في مكاني لمدة دقيقة , وعندما رفع وجهه نحوي وجدني مبتسما فقال لي في اعتذار :

ـ ألم أطلب منك الجلوس ؟ ........ ثم أضاف معتذرا :

ـ تفضل .

بعد أن أخذت مكاني على مقعد في مواجهته , عاد إلى أوراقه يكتب لمدة خمس دقائق أخرى مرت علي وكأنها خمس ساعات , لأنني لم أكن أعرف بالضبط ماذا يريد , وكانت خشيتي أن يفتح موضوع علي الشمسي باشا معي .

بعد أن فرغ من كتابته رفع بصره نحوي , فوجدني بشوشا مبتسما , فسألني سؤالا لم أتوقعه حيث قال لي :

ـ أريد أن أعرف الحكمة من وضعك قرنفلة حمراء في عروة الجاكتة .

ولم أشأ أن أكرر إجابة سبق وقلتها للرئيس جمال عبد الناصر حين سألني نفس السؤال , لكن الفرق أن القرنفلة في تلك المرة السابقة كانت بيضاء , ولم أكن بمفردي , لكنني كنت أصطحب وفدا من رجال الأعمال الإنجليز , وكانوا جميعهم يضعون قرنفلا أبيض , كما أن الرئيس جمال سالم كان قد شهد هذا اللقاء , لذا قلت له بدون تردد :

ـ إنها عادة قديمة تعودتها , كما أنني أحب الزهور بكل ألوانها وأتفاءل بوضعها .

بعد ذلك دخل في الموضوع , وقال لي إنه استدعاني ليتحدث معي في بعض الشئون الاقتصادية العامة , ثم نظر في ساعته وأضاف , لكن يبدو أننا لن نتمكن من ذلك لأن لدي موعدا مع جمال ( كان بقصد بالطبع جمال عبد الناصر ) , ولقد لاحظت طوال فترة تعاملي مع السيد جمال سالم , وشقيقه السيد صلاح سالم أنهما كانا يذكران اسم جمال عبد الناصر بدون ألقاب سابقة على الاسم , واقترح أن يكون موعد لقائنا القادم هو يوم السبت , وبرر اختياره لهذا اليوم بأنه يوافق موعد سباق الخيل في نادي الجزيرة حيث تعودت أن آتي من الإسكندرية لمشاهدة خيولي .

ووعدني بـأن يبدأ اللقاء في الحادية عشرة , وينتهي قبل الساعة الثانية أي موعد بداية سباق الخيل .

في اللقاء التالي لم أشأ أن أجعل الرجل يشعر بان هناك ما قد يقف عائقا في سبيل جلوسنا لفترة طويلة , فاتصلت بالقائمين على شئون سباق الخيل , وطلبت منهم إلغاء اشتراك تسعة خيولي كان المفروض أن يشتركوا في هذا اليوم .

عندما استقبلني في مكتبه في الموعد المحدد كان أول شيء سألني عنه هو أن قال لي :

ـ لقد علمت من أحد زملائي من الضباط أنك ألغيت اشتراك تسعة من خيولك في السباق اليوم ولم أفهم لماذا ؟

وقلت له :

ـ أبدا , لقد فضلت في حالة لو رغبت في إطالة الجلسة ألا يكون هناك ما يقلقك .

وارتاح لهذه الإجابة , وبالفعل استمرت الجلسة أربع ساعات كاملة , حتى إنه حين حل موعد الغذاء , أرسل في طلب " سندوتشات " , واعتذر لي بقوله :

ـ قد يكون الغذاء أبسط مما تعودت عليه .

فقلت له في الحقيقة إن الغذاء على بساطته يعد من أمتع الوجبات التي تناولتها .

ولقد كان كذلك بالفعل , فلقد جاء بعد مناقشات مستفيضة , وطرح لكل القضايا الاقتصادية , كما أنه كان طوال الجلسة بسيطا غير متكلف حتى إنه كان يجلس متربعا على إحدى أرائك حجرة المكتب .

لقد تحدثنا عن القطن زراعة ومحصولا , وتصديرا , وعن الأسواق العالمية , وعن التصنيع , وعن كيفية جذب رؤوس الأموال الأجنبية كي تستثمر في مصر .

شرحت له تصوراتي حول كل هذه الأمور , وأعدت عليه قصة دعوتي لبعض المستثمرين الإنجليز الذين جاءوا لعرض بعض المشروعات , ولم يكن لهم غير شرط واحد وهو ضمان ألا تتعرض أموالهم للتأميم , وقلت له كيف تحمس السيد "خالد محيى الدين " للمشروعات , لكن الرئيس " عبد الناصر " رفض بحجة ،أنه لا يقبل شروطا , وأن هذا معناه أن النظام الجديد ليس محل ثقة هؤلاء .

وعندما علم أن المبالغ التي كانوا سيستثمرونها كانت ستصل إلى حوالي 500 مليون جنيه، دهش وقال لي:

- عجيبة هل جمال فعل ذلك؟ غير معقول؟

وفى أثناء اللقاء حدث ما توقعته، وحدثني في موضوع على الشمسي باشا حيث سألني عما أنوى فعله بعد استقالة الشمسي باشا من رئاسة مجلس إدارة البنك الأهلي واستقالة بعض أعضاء المجلس تضامنا معه، وكنت عضوا في مجلس الإدارة وقلت له:

لقد وجدت نفسي مخيرا بين واجبين الواجب الأول هو التضامن مع رئيس البنك، وأعضاء مجلس الإدارة في موقفهم، والواجب الثاني هو البقاء لأن الاستقالة في مثل هذه الظروف ربما تؤدى إلى انهيار البنك الأهلي، وهو أحد مؤسستين ماليتين في البلاد، أو على الأقل قد تؤدى على إرباك أعماله، أو إضعاف الثقة فيه.

ولقد اخترت الواجب الثاني ، وكنت بالفعل أحد ثلاثة ل يقدموا استقالتهم وهم على ما ذاكر الأستاذ الدكتور على الجريتلى ، والأستاذ عبد الرحمن حمادة.

عندما سمع هذه الإجابة تهلل وجهه وقال لي:

- لو كان كل رجال المال يفكرون بهذا الأسلوب ما وجدنا أنفسنا بحاجة إلى اتخاذ أية إجراءات استثنائية ثم أضاف قائلا:

- على العموم هذا اللقاء الطويل شعرت أن السيد جمال سالم يحمل في صدره قلبا طيبا، كما أنه كان شديد الحماس للثورة ويتصف بالبساطة والاندفاع والتلقائية.

- التقيت به بعد ذلك أكثر من مرة، وتحدثنا كثيرا في نفس المشكلات الاقتصادية التي كانت تواجه الثورة، واقتنعت أنه كان رجال الثورة إخلاصا وحماسا.

- وفى آخر مرة التقيت به فيها شعرت أنه أصبح عازفا عن المشاركة قليل الحماس، ولم يكن قد مضى على هذا اللقاء الأخير غير أيام محدودة حتى علمت بنبأ استقالته وأسفت لذلك، ثم علمت بنبأ مرضه ثم وفاته وشعرت ومها بمقدار الخسارة التي تكبدتها الثورة بفقده بل الأكثر من ذلك اننى شعرت وأنا أسير في جنازته اننى أودع شخصا عزيزا لدى.

صلاح سالم

كان من أكثر من أعجبت بهم من رجال الثورة، ومن أكثر من التقيت بهم ، التقيت به في منزله وفى مكتبه وفى نادي الجزيرة.

في الخمسينات استدعاني لمقابلته وكان وزيرا وبالرغم من أن غرفة الاستقبال كانت مكتظة بطالبي اللقاء، إلا أنه استقبلني على الفور وبادرني بقوله:

أن أعرف أنك من المتعاطفين مع الثورة، وشرح لي بإسهاب ماذا تريد أن تحققه الثورة من إصلاحات ، كما شرح لي بحماس ما تحتاجه الثورة من عون كل ابن من أبناء مصر المخلصين وبعد هذا الشرح سألني:

- لماذا لا يثق رجال المال، والأعمال في النظام الجديد؟

ثم أضاف قائلا:

إن جمال يقصد جمال عبد الناصر يريد أن يعرف بنفسه إجابة هذا السؤال.

شعرت من خلال لقاءاتي مع هذا الرجل أنه يحمل حبا، واحتراما للرئيس عبد الناصر، وبدأت في هذا اللقاء الأول أشرح له كيف أن رجال المال والأعمال ينشدون الاستقرار، والاطمئنان على هذا المستقبل وفى هذا الجو الثوري هناك إشاعات كثيرة تترد عن التغيير وعدم الاستقرار.

ثم لاحظ أنني صمت فجأة فسألني:

- ما مضمون هذه الشائعات التي تقلقكم قل لي؟

وشعر أنني متردد فأخرج من مكتبه قرآنا، وأقسم عليه بأن كل ما أقلوه مهما كان لن يؤثر على موقفه منى.

حينئذ قلت له بعد أن شعرت بصدق وعده.

-لقد سمعت مثلا أن هناك خلافات واسعة بين أعضاء مجلس قياد الثورة ، وأن أوضح هذه الخلافات بينك أنت شخصيا وبين الرئيس عبد الناصر.

فقال الرجل بحماس صادق:

هذا طبيعي أن نختلف لكن الذي يجب أن تعرفه جيدا أن اختلافي مع الرئيس عبد الناصر هو مجرد خلاف في الرأي لا يمكن أن يدفعني إلى الوقوف ضده، وأن هذا لا يحدث أبدا، ويوم أشعر أن هذا الخلاف قد حال دون إمكانية التعاون بيننا فسوف أستقبل هذا أقصى ما سوف أفعله.

ولقد كان الرجل صادقا بالفعل ت فيوم اختلف مع الرئيس عبد الناصر انسحب في هدوء شديد.

لم يمض على هذا اللقاء غير أسابيع قليلة حين اتصل بى مدير مكتبه من القاهرة، وقال لي إن السيد صلاح سالم يرغب في مقابلتي .

وسافرت في اليوم التالي إلى القاهرة، ومن الفندق اتصلت بمكتبه فأبلغني مديره أن الوزير أصيب بوعكة صحية، وأنه سوف يستقبلني في المنزل، ومر مدير المكتب واصطحبني إلى منزل صلاح سالم في العباسية وكان المسكن بسيطا للغاية ، وحراسته كانت في نفس القدر من البساطة ،وأثناء الاستقبال أبلغني أنه قد أبلغ نتيجة مقابلتي السابقة للرئيس عبد الناصر أو جمال كما كان يقول، وأن جمال يطلب منك أن تنقل إلى زملائك تأكيده بأن الثورة لن تلجأ إلى أى إجراءات دون أن يرجع إلينا، ويأخذ برأينا وعلينا أن نطمئن ونمارس عملنا بمنتهى الثقة كي ندعم الاقتصاد الوطني الذي يحرص لنظام الجديد على تدعيمه لأنه لا يوجد استقلال سياسي بغير استقلال اقتصادي.

بعد سماعي لرأيه سعدت أن يكون هذا هو رأى الرئيس عبد الناصر ووعدته بأن انقل ما سمعته إلى كل الزملاء والأصدقاء داخل البلاد، وخارجها ، فقلت له إنه سوف يكون أكثر تأثيرا لو انتهز الرئيس عبد الناصر أقرب فرصة من خلال خطاب، أو حديث صحفي تنقله وكالات الأنباء ليؤكد على هذا المعنى.

واستحسن صلاح سالم هذا الرأي ووعد بنقله.

لم تمض غير أيام قليلة حتى كان على الرئيس عبد الناصر أن يلقى كلمة في افتتاح أحد المصانع في السيوف بالإسكندرية ، وظهر جليا أنه قد اخذ بالمشورة، حيث ألقى خطابا ممتازا طلب فيه من العمال أن يتعانوا مع أصحاب الأعمال لإعلاء شأن المصانع، وزيادة الإنتاج وأشاد بدور أصحاب الخبرة المصرية ورجال المال والأعمال وأكد على معاني الاستقرار ، وطلب من كل رجل أعمال أو صاحب كل أن يستثمروا أموالهم دون خوف أو قلق ، ووعد بأن تشجعهم الدولة وتدعمهم.

نالت الكلمة استحسان وإعجاب الحاضرين من رجال الأعمال ، فاستقبلوها استقبالا حافلا.

وبعد الخطاب كنت أصافح السيد عبد اللطيف البغدادي الذي كان يجلس عن يمين الرئيس فابتسم وقال لي، لابد أن الخطاب وما جاء فيه أسعدك تماما ثم أضاف:

- لقد كانت السعادة تغمر وجهك.

فأمنت على كلامه وقلت له:

- بالفعل إن الخطاب يدعو للسرور والثقة.

وفى اليوم المشهود الذي أطلق فيه الرصاص على الرئيس عبد الناصر بينما كان يلقى خطابا في ميدان المنشية بالإسكندرية ، جاءت جلستي في المقصورة قريبا من الرئيس عبد الناصر وما أن أطلق الرصاص ، حتى حدث هرج سقطت على أثره على الأرض بين الأقدام المضطربة التي كانت تهرع نحو الأبواب أثناء ذلك فوجئت بيد قوية ترفعني من مكاني، ولم يكن صاحب هذه اليد غير السيد صلاح سالم الذي رفعني، وأدخلني إلى غرفة وطلب من أحد الضباط الشبان أن يبقى بجانبي، وأحضر لي كوبا من الماء ، واستأذنني في الانصراف ليقف بجوار الرئيس عبد الناصر بعد أن أوصى الشاب بالاهتمام بى حتى أستعيد هدوئي ثم يقوم بتوصيلي إلى المنزل.

كان موقفا إنسانيا نبيلا منه.

ويوم مات هذا الرجل في بداية الستينات سافرت لأسير في جنازته ، وأنأ اشعر أنني أسير في جنازة أحد أفراد اسرتى.

ولا زلت أعتقد حتى هذه اللحظة أن الله لو أطال عمر هذا الرجل، وبقى في السلطة لتغير وجه الحياة السياسية في مصر نحو الأفضل، ولما حدثت بعض الأخطاء التي عانينا منها فيما بعد.

حسن إبراهيم

من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين التقيت بهم مرارا، وشعرت نحوهم بالتقدير والطمأنينة، كما شعرت به رجلا متواضعا دمث الخلق هادى الطباع لم تغيره المناصب، أو تبدل من خلقه الكريم.

أتذكر جيدا بعد عمليات التأميم والحراسات أنني ذهبت للقائه في استراحة باستانلى لأشكو له أزمتي، وحرماني من العمل، وكان حسن الاستماع مقدرا للأزمة التي كنت أعيشها في ذلك الوقت وبعد أن استمع إلى المشكلة وعد بأن يبذل ما يستطيع من جهد في مساعدتي .

وفى زيارة أخرى قلت له لقد تعودت قبل التأميم والحراسات عندما أزور القاهرة أن أنزل في أحد فنادق الدرجة الأولى، لكن بعدما حدث تعودت على النزول في أحد فنادق الدرجة الثانية ، وهو فندق الكونتنتال ولقد تصادف أن فتحت نافذتي ، فوقع بصري على لافتة موضوعة تقول :العمل شرف ، العمل حياة... وكنت كلما ذهبت إلى الفندق فتحت النافذة، وتأملت اللافتة وكنت أفكر في نصيب هذا الكلام الذي تحمله من حقيقة، هل هؤلاء الذين أمروا بوضعها يؤمنون بها القول فعلا؟ هل يؤمنون بأنه حق، وشرف وحياة؟ وإن كانوا كذلك بالفعل فكيف يأمرون بحرمان بعض أفراد المجتمع منه؟

واستمع الرجل كعادته لكلماتي وحيرتي، محاولا أن يخفف عنى.

والغريب في الأمر أنه بعد أسبوع من هذا اللقاء ذهبت على الفندق نفسه، ودهشت حين لم أجد اللافتة في مكانها هل كان ذلك مصادفة؟ أم أن هناك من أمر برفعها ، لست أدرى.

وكان السيد حسن إبراهيم هو عضو مجلس قيادة الثورة الذي تولى- فيما بعد- إبلاغ قرار تعييني مستشارا لمؤسسة القطن إلى رئيس المؤسسة.

وإني لعلى ثقة من أن هذا الرجل تعاطف معي ودافع عن قضيتي، وكان من القليلين الذين فعلوا ذلك، وإني واثق أيضا من انه تحدث في هذا الموضوع مع الرئيس عبد الناصر مرارا .

ولن أنسى له هذا الجميل.

خالد محيى الدين

لم التق به كثيرا، لكن من خلال المرات القليلة التي التقيت به فيها شعرت أنه يتمتع بصفات عديدة مثل الذكاء الشديد ، والثقة العالية، وأعتقد أنه كان من أوسع أعضاء مجلس قيادة الثورة ثقافة، يضاف إلى ذلك أنه بشوش دائم الابتسام متواضع مجامل إلى أقصى حد.

سعيت للقائه في مكتبه بجريدة الأخبار بعد عمليات التأميم والحراسة، وإنى أذكر جيدا كيف أحسن استقبالي ، وأحسن الاستماع على شكواي، ووعد بأن ينقلها إلى الرئيس عبد الناصر، وبعد انتهاء الاجتماع أصر على توصيلي بنفسه حتى باب السيارة، وكان هذا كرما منه، ولقد لفت نظري في هذا اللقاء بلباقته وبأنه مهذب للغاية.

وإني لأعجب الآن كيف اتجه هذا الرجل الارستقراطي الخلق إلى اعتناق المبدأ الماركسي كما يقال عنه، كنت كثيرا ما أسأل نفسي هذا السؤال، ولا أجد له جوابا شافيا غير أنني كنت أقول: لله في خلقه شؤون وعندما أذكر كيف اختلف مع زملائه، وكيف فضل الانسحاب، والاستقالة مبتعدا عن بريق المناصب إيمانا بالديمقراطية كنت أقول لابد أن هذا الرجل يتمسك بمبادئ يؤمن بها، وبالتالي يحترم نفسه.

وقد تختلف مع إنسان فيما يعتنقه من مبادئ اختلافا جذريا، لكنك قد تحترمه احتراما شديدا بالرغم من ذلك.

وأعتقد أن السيد خالد محيى الدين من بين هؤلاء الذين اختلفت معهم في أرأى لكنني لا أمل إلا احترامهم أعظم احترام.

الأمير محمد على

ما يكاد يصل إلى الإسكندرية حتى يتصل بلا سكرتيره الخاص في السابعة والنصف صباحا ليطلب منى أن أحضر لمقابلة أفندينا في الثامنة صباح اليوم التالي.

وأذهب غليه لأتناول شاي الصباح معه، وينتهز هو هذه الفرصة ليوجه انتقاداته وجام غضبه إلى الملك فاروق ، وتصرفاته الطائشة ومن المعروف أنه كان يتحدث دائما في هذا الموضوع ليثبت لمن يستمع إليه أنه كان أحق بكرسي المملكة من ذلك الفتى المتهور فاروق.

وفى يوم من هذه الأيام ما كدت أدخل عليه، وأبادره بالتحية حتى وجدته ثائرا وبادرني هو بالقول:

- كيف وأنت الرجل الناجح العاشق لعمله تسمح لشقيقك الأصغر أن يبعثر أموالكم على موائد القمار؟

وهدأت من ثورته بعد أن شركته على اهتمامه بهذا الأمر الخاص بشقيقي الذي كنت أعرفه عنه، وللحقيقة فلعب القمار وشرب الخمور كانت من ألأشياء غير المحببة إلى نفسي، ولا أذكر أنني وجدت في أى يوم من ألأيام أدنى دافع للاقتراب من هين العالمين وكنت أرى فيهما إراقة للجهد والمال والطاقة ولا طائل من ورائهما، فضلا عن تحريمهما الديني.

ومن المعروف أن الملك فاروق كان ينفق معظم وقته في هذين المجالين كذلك قيل أيضا إن لورد كيلرن كان يخسر هو الآخر كثيرا على موائد القمار.

لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو من أين للورد كيلرن بالأموال التي يمكن أن ينفقها على موائد القمار، وهو مجرد موظف عمومي يحصل على دخل ثابت؟

عندما توجهت بهذا التساؤل ذات مرة لأحد أصدقائي من المصريين الذين حصلوا على جنسية إنجليزية رد على قائلا:

- إذا أردت على لقب سير من الحكومة البريطانية ،فذلك يتم عن طريق دفع مبلغ خمسة آلاف جنيه للورد كيلرن.

ولم أتأكد ن صحة هذا القول لأنني لم أكن راغبا في لحصول على مثل هذا اللقب الذي قد يعطى للمرء تقديرا أدبيا، وتسهيلا لعمله في انجلترا لكنه يجر عليه اللعنة والمتاعب في مصر.

المهم في هذا الموضوع أنى ذهبت إلى أخي الذي كنت أعرف أنه قد يتواجد على بعض موائد اللعب، لكنه لم يكن منغمسا في لعب القمار، لذلك فما كاد ما دار بين الأمير محمد على وبيني ، حتى وعد بالانصراف عن ذلك تماما.

أتذكر أيضا أنني دعيت ضيفا على حفل شاي في قصر الأمير محمد على وكان بين الحاضرين رؤساء وزارات سابقون، ووزراء وأذكر من بينهم إسماعيل صدقيباشا وعبد الفتاح يحيى باشا وأدهشني أن حسونة باشا محافظ الإسكندرية لم يحضر هذا الاحتفال لكن دهشتي هذه زالت بعد أن استمعت إلى الكلمة التي ألقاها الأمر محمد على ، وهاجم فيها الملك فاروق، وتصرفاته مثل لعب القمار، والتلاعب بتغيير الوزارات وسوء أخلاق المقربين منه، وكنا نعرف بالطبع الدوافع الكامنة وراء هذا الهجوم، لكن أحدا من الحاضرين لم يعلق على قوله بكلمة واحدة.

وفهمت ساعتها لماذا لم يحضر حسونة باشا إلى الحفل ، فليس من المفروض أن يحضر موظف عمومي إلى حفل يوجه فيه النقد إلى الملك، وتصرفاته دون أن يعترض وتحاشيا للحرج، كان يعتذر عن الحضور حيث تنقل وقائع الحفل بطريقة ما إلى الملك فاروق.

وبمناسبة رغبة الأمير محمد علة في الوصول إلى العرش أذكر أنه في مناسبة من المناسبات بعد حادث 4 فبراير 1942 كنت في زيارة للأمير محمد على في منزله، وبعد لحظات من زيارتي فتح درج مكتبه، وأخرج بعض المراسلات بينه وبين السفارة الانجليزية يبدى فيها استعداده للحلول محل الملك فاروق في حالة تنحيته عن عرش البلاد.

ومن المعروف عنه أيضا اندفاعه في القول، وصراحته الزائد عن الحد، بهذه المناسبة أذكر أنني أقمت حفلا كبيرا على شرفه في منزلي دعوت لحضوره رجال السلك الدبلوماسي في الإسكندرية، وبعض كبار المسئولين وكان من بين الحضور عميد الجاليات الأجنبية في الإسكندرية قنصل عام اليونان وزوجته، وما كاد الأمير محمد على يقف ليتحدث حتى أدهشنا وأخجلنا بحديثه، أما موضع الحديث فكان عن النساء حيث أبدى إعجابه بلابس السهرة الطويل المحتشم لكنه أضاف قائلا:أليس هذا أفضل من المايوهات التي ترتدونها لتكشف عن معظم أجسادكن بحجة الاستمتاع بالشمس، وما هي إلا وسيلة لاصطياد اهتمام الرجال.

وبالطبع كان الحديث مفاجأة احمرت له وجوه النساء الحاضرات، لكن لا أحد كان بوسعه أم يلوم أفندينا على تصرفه.

وفى مرة أخرى كنا نجلس في نادي محمد عل بحضور مجموعة من الشخصيات السياسية مثل صدقي باشا وعلى ماهر باشا وسرى باشا وما كاد الأمير محمد على يدخل حتى بادرني بالقول:

لماذا لم تزوج ابنتك باكينام للملك فاروق بدلا من هذه الفتاة التي اختطفها خطيبها؟

وأدهشتني المفاجأة، ولم أعرف كيف أرد عليه، غير أنني بعد هنيهة قلت له، إن الزواج لا يتم بهذه الطريقة، كما أن مثل هذا الحديث لا يدور هكذا في أماكن عامة يا أفندينا.

رحم الله الأمير محمد على فقد عاش على هامش الحياة السياسة يبحث عن دور يلعبه، لكنه لم يتح له أبدا، وحين قامت الثورة تم التضييق عليه، وكان هو خوافا بطبيعته فلم يحتمل الحياة بهذه الأسلوب فمات بعد سنوات قليلة من قيام الثورة.

اللواء محمد نجيب

يعد اللواء محمد نجيب متعه الله بالصحة أحد ضحايا الإجراءات الثورية المرتبكة التي صاحبت الثورة في بداية عهدها، ولقد ذهب ضحية إيمانه بالديمقراطية والدستور وكذلك لطيبة قلبه وبساطته.

التقيت به حوالي أربع مرات، كانت المرة الأولى في بداية عهد الثورة حينما أتى لحضور سباق الخيل في نادي سموحة حيث استقبلته الجماهير استقبالا حافلا، وكانت هذه الاستقبالات تسعده، فكان يقول ليرد تحية الجماهير بين وقت وآخر، ثم يعود للجلوس.

وفى هذا اللقاء طلب منى أن أتكفل بعمل تخطيط لمساكن شعبية في منطقة مينا البصل بصفتي أحد أبناء هذه المنطقة التي شهدت معظم نشاطي العملي، ورحبت بهذه التكليف حيث سافرت إلى الخارج وطلبت من بعض بيوت الخبرة الهندسية في انجلترا إعداد هذه التصميمات، وبعد وقت تسلمت التصميمات، وعدت لأعرضها على اللواء محمد نجيب، لكنني ما كدت أصل إلى أرض البلاد حتى علمت بإقالة اللواء محمد نجيب.

وفى إحدى المرات دعيت لحضور حفل أقامته بورصة الأوراق المالية بالقاهرة كان يحضره اللواء محمد نجيب وقام ليلقى كلمة يبدو أنها كانت معدة له سلفا، لأنني لاحظت أنها كانت مليئة بالهجوم على بورصة القطن بالإسكندرية، ووجدت الأمر غير معقول، لأنه ليس من المعقول أن يمتدح المرء شيئا قبل أيام، ويعود ليهاجمه وأغضبني ذلك لأنني كنت رئيسا لبورصة الأقطان.

والتقيت به مرة أخرى بينما كنت في زيارة لبعض الأصدقاء الذين تربطه بهم صلة قرابة، ووجدته في هذه الزيارة مهموما قلقا حيث أسرف في الشراب، وافتقدنا مزاجه المرح الذي اشتهر به، وهمس أحد الحاضرين في أذني قائلا:

- إنه يعانى معاناة هائلة من أعضاء مجلس الثورة.

وعندما قام لينصرف ارتدى معطفه، ثم نظرن إلينا وأشار إلى نفسه متهكما، هل هذا بربكم منظر رئيس جمهورية؟ ثم أضاف إنني أكثر شبها بوسطجى وكان فيما بدا لي يشير من بعيد إلى مهنة والد الرئيس عبد الناصر الشخص القوى في مجلس قيادة الثورة في ذلك الوقت.

وفى لقاء آخر قال لي:

- هل تعرف أننا ضحكنا على صديقك على ماهر باشا كنا نعرف انه يحب على حد العشق منصب رئيس الوزراء، لذلك لم نجد صعوبة في إقناعه لنحقق من خلاله ما أردنا تحقيقه .

ومن خلال لقاءاتي بهذا الرجل شعرت كم هو طيب القلب محب للدعاية، لكنه لم يكن يملك مؤهلات قيادة ثورة تحيطها المؤامرات من خارجها وتضج من داخلها.

عبد المنعم القيسونى

من الكفاءات المصرية النادرة، يتسم بالصراحة والوضوح، مفتوح العقل والقلب عند سماعه الآخرين، ومن أفضل من تحدثت معهم في أمور الاقتصاد والإدارة لا يتحدث في أي موضوع إلا إذا قام بدراسته دراسة وافية، ويجد المرء في الحديث معه متعة لا حدود لها.

التقيت به للمرة الأولى في مكتبه سنة 1954 بغرض إقناعه بالعمل على إعادة فتح بورصة القطن التي كانت مغلقة منذ عام 1951 على اثر ما حدث فيها من مضاربات.

ولقد تكررت هذه اللقاءات ، حيث كنت أذهب إليه بصفتي رئيسا لاتحاد المصدرين.

كان على أن أقنعه بأهمية إعادة فتح البورصة ليتولى هو بعد ذلك إقناع الرئيس عبد الناصر وبالفعل ووفق على افتتاح البورصة، ونظمت حفلا بالمنتزه دعوت لحضوره عددا كبيرا من رجال المال والأعمال المصريين والأجانب ، كذلك بعض كبار المسئولين عن الشؤون الاقتصادية وعلى رأسهم الدكتور القيسونى.

وخلال الحفل ألقى رئيس بورصة ليفربول لورد بارمل كلمة أشاد فيها بكفاءة الدكتور القيسونى الاقتصادية، كما تحدث عن تفاؤله بمستقبل الاقتصاد المصري، وأشاد بقرار إعادة فتح بورصة الأقطان في الإسكندرية التي كانت تعد من أهم ثلاث بورصات للقطن في العالم، من أقدمهم جميعا.

وإني أذكر جيدا كيف أدهشني، وأخجلني حين وقف يلقى كلمته ليقول بين ما قاله للحاضرين إن أستاذي في مجال القطن هو فرغلى الذي يتسم بفهمه العميق للواقع.

وفى ردى على كلمته الرقيقة قلت، وكنت أعنى ما أقول إن الدكتور القيسونى يعد عبقرية مصرية في مجال الاقتصاد، وإنه يدير دفة الاقتصاد المصري بطريقة تتسم بمهارة السحرة الذين يظهرون على المسرح.

وبعد افتتاح البورصة، بدأت تلعب دورا كبيرا في بناء جسور الثقة بيني وبين الدكتور القيسونى، حتى إنه ذات مرة أعطاني رقم تليفون لأتصل به فيه، وقال لي إن هذا الرقم لا يعرفه سوى الرئيس عبد الناصر.

ولم تقتصر علاقتي بالدكتور القيسونى على أمور البورصة فقط، بل لقد حرصت على إمداده بكم هائل من المعلومات عن أسواق القطن في الخارج خاصة أسواق البلاد الشرقية الذين كنت أتعامل معهم وكانوا يثقون بى.

أذكر ذات مرة أنني ذهبت لمقابلته للحديث حول أم رهام يدور حول بعض ما دار بيني وبين السفير الروسي في القاهرة، وما كدت أصل على مكتبه حتى وجدته يتأهب للذهاب إلى مطار القاهرة لاستقبال أحد الوزراء الأجانب وعندما علم بأهمية الحديث الذي جئت من أجله عرض على أن أصحبه حتى المطار لنتحدث في السيارة.

وفى السيارة قلت له لقد علمت من السفير الروسي أن بلاده على استعداد لتزويد مصر بالأسلحة، وكل ما يتمناه الروس هو ألا يعلم الأمريكان بهذا الأمر، وربكا يكون من الأفضل أن تتم الصفقة عن طريق طرف ثالث، وهو تشيكوسلوفاكيا الدولة الاشتراكية الأخرى التي تنتج السلاح.. والغريب أن دول المعسكر الاشتراكي، وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي لم تكن لديهم ثقة في الثورة في بداية عهدها، وكانوا ينظرون إلى قيادتها على أنها قيادة برجوازية تميل إلى الغرب بطبيعتها.

والذي حدث بعد ذلك، ونتيجة لتطورات عديدة هو اتجاه الثورة للشرق والحصول على أول صفقة سلاح للجيش المصري من تشيكوسلوفاكيا.

والمعروف أيضا أن الدول الاشتراكية كانت تصل لسنوات عديدة في ذلك الوقت على ما يقرب من 75% من القطن المصري، وكنت أنا أكبر متعامل معهم في مجال التصدير.

وفى مرة أخرى كان الدكتور القيسونى على عشاء أقمته على شرفه في اتحاد المصدرين، وبينما نحن جلوس في جو يسوده المرح إذا بشخص يدخل ويترك له قصاصة من الورق وما أن قرأها الدكتور القيسونى حتى تغيرت ملامحه، ولاحظت أنا ذلك حيث كنت أجلس بجواره عل المائدة، واستفسرت منه عما يضايقه فقال لي وكان تأميم القناة قد تم : إن الإشارة تقول إنهم لاحظوا أن قطعا من الأسطول الانجليزي تقوم بمناورة خارج ميناء الإسكندرية وأضاف قائلا كمن يطمئن نفسه لا أظن أنهم يفكرون في مهاجمة الإسكندرية، وإلا كانوا يتصرفون كمن فقد عقله.

حضرت جلسات كثيرة رأسها وزراء، وكنت ألاحظ في كثير من الأحيان أن هناك أكثر من شخص يتحدثون في آن واحد، وترتبك المناقشات، وتكثر الأحاديث الجانبية، وتتفرع المناقشات ، لكنني لاحظت أن ثلاثة وزراء بالذات اتسما بالحزم في إدارة المناقشات هما الدكتور القيسونى، والمهندس سيد مرعى والدكتور حامد السايح الذي أعتقد أنه كان من أكفأ وزراء الاقتصاد بعد الثورة.

كان الدكتور القيسونى بارعا في إدارة الجلسات التي يرأسها ، كيف يدير الحوار بين الحاضرين، كيف يعطى الفرصة لكل متحدث ليعبر عن رأيه، وكيف يتناول هو طرف الحديث في الوقت المناسب ليحسم المناقشة؟ كان الدكتور القيسونى يحسن معاملة مرءوسيه إلى أقصى حد، لكنه حين يشاهد خطأ في سلوك واحد منهم، لم يكن يتوانى عن توجيه أشد اللوم له.

بعد مشكلة التأميمات والحراسات، وفى الهوجة التي أعقبت هذه الأحداث وجهت إلى تهمة تهريب أموال إلى الخارج، وأحلت للتحقيق ولما كنت واثقا من براءتي ومن أنني لم أهرب مليما واحدا خارج البلاد، فلقد توجهت للدكتور القيسونى وشرحت له الأمر وكان واثقا من براءتي ومتأثرا لما اصابنى من ألم.

وفى هذه الجلسة طلبت منه مطلبين أن يشرف على التحقيق وكيل وزارة المالية لشئون النقد، وأن يتم التحقيق في إحدى قاعات البنك الأهلي، وليس في شركتي أمام الموظفين كما كان مقررا.

ولقد كان الرجل كريما حين استجاب لمطلبي، كما كان كريما حين هنأني يوم ثبت كذب ادعاء تهريب الأموال.

ولقد قابلت الدكتور القيسونى بعد ذلك، وبعد أن ابتعد عن المناصب وهو في الأيام الأخيرة أصبح عازفا عنها، ربما بسبب صحته.. لكن يظل هذا الرجل من الكفاءات الاقتصادية النادرة في مصر.

المهندس سيد مرعي

يعد المهندس سيد مرعي من الشخصيات القليلة التي اشتعلت بالحياة السياسية قبل الثورة، وشاركت في مسيرة الثورة بعد ذلك في مواقع متعددة لفترات طويلة.

وهو من الشخصيات التي تتمتع بجاذبية خاصة كما يتمتع ببعد النظر وسعة الأفق.

في بداية الستينات وكان وزيرا للزراعة عقد اجتماعا حضره حوالي خمسة عشر شخصا من رؤساء الشركات، وبعض كبار الزراع لتبادل الراى حول موضوع يتعلق بالقطن، وكنت أنا أحد الحاضرين بصفتي صاحب شركة لتصدير الأقطان، وخبيرا في مجال التصدير ودرات مناقشات طويلة، لكنني لم أشترك في المناقشات لأن الآراء التي قيلت لم تعجبني

لأنها غير عملية، وصعبة التنفيذ وعندما لاحظ هو عدم مشاركتي قال لي لماذا لا تبدى رأيك؟

وعرضت اقتراحي ملخصا في وقت لم يستغرق أكثر من عشر دقائق، واستفسر منى عن بعض التفاصيل ، لأن الاقتراح على ما يبدو حاز إعجابه، فقام من فوره وطلب الرئيس عبد الناصر، ولخص له ما دار في الاجتماع وأشار على اقتراحي.

وبعد أن أنهى المحادثة التليفونية توجه لنا قائلا: إن الرئيس عبد الناصر طلب الأخذ برأى فرغلى.

أذكر أيضا اقتراحا تقدمت به من خلال خطاب أرسلت به للمهندس سيد مرعي شرحت له فيه كيف أن حجم محصول القطن يقل سنويا وأن هذا يرجع على عدة عوامل أهمها السعر المنخفض الذي يدفع للمنتج، والذي يجب أن يترك تحديده تبعا لأحوال الأسعار العالمية، أما العامل الثاني فهو أسلوب تسليم القطن على بنك التسليف الذي يخصم من الفلاح تكاليف كثيرة يخرج الفلاح وكأنه لم يتسلم شيئا.

ولقد اقترحت عليه أن يدفع بنك التسليف لكل مزارع قبل جني المحصول أربعة جنيهات عن كل قنطار وهو مبلغ يقترب من نصف سعر القنطار في ذلك الوقت مهما كانت مديونية الفلاح لدى بنك التسليف ومن شأن الأخذ بهذا الاقتراح أن يجعل الفلاح يضمن أن يدخل في حصيلته نصف سعر القطن على الأقل.

وبعد أيام من تقديمي هذا الاقتراح قرأت في الصحف عن الأخذ بالاقتراح الذي تقدمت به ولا يزال هذا الاقتراح مأخوذا به حتى اليوم.

بعد أسابيع من ذلك التقيت بالمهندس سيد مرعي وبعد أن صافحته قلت له أهنئك على الأسلوب الجدي الذي اتبعتموه في التعامل مع المزارعين، فابتسم ابتسامته العريضة وقال لي:

تهنئني على ماذا يا باشا على اقتراح تقدمت به أنت؟ وأضاف قائلا إنك الذي تستحق التهنئة والشكر أيضا.

وفى الستينات حدث أن خرج من الوزارة، والتقيت به جالسا على شاطئ المنتزه بصحبة صديقنا المشترك الأستاذ محمد حسنين هيكل، وعندما حادثته قلت له معاليك فرد الأستاذ هيكل محولا مداعبته واستفزازه؟

لماذا تقول له معاليك وهو الآن خارج الوزارة.

فرد المهندس سيد مرعي:

وماذا يغضبك في ذلك يا آخى دعه يذكر ما يشاء.

وضحكنا ثلاثتنا.

ممدوح سالم

من الأشخاص الذين تعاملت معهم، وكان شعوري نحوه أنه رجل مستقيم يتسم بالنزاهة وبالرغم من أنه عمل ضابطا للمباحث، وهى مهنة تعطى الشعور بعدم الثقة والخوف تجاه من يمتهنونها إلا أنني ما جلست يوما إليه إلا وشعرت بالطمأنينة والثقة والارتياح.

أقول ذلك وفى ذاكرتي تلك اللقاءات التي تمت بيني وبينه في مكتبه كرئيس للمباحث العمة بالإسكندرية، كان ودودا لأقصى حد رزينا مستقيما في فكره لدرجة تدفعك لأن تفضي له بكل شيء ليس ذلك فحسب بل إنه كان يتسم بالشجاعة لذا لم أشعر بالغرابة عندما صعد من منصبه كرئيس للمباحث إلى منصب محافظ الإسكندرية، ثم وزيرا للداخلية فرئيسا للوزراء.

عندما فرضت الحراسة على أصبح التعامل معي ومع كل من فرضت عليهم الحراسة يجلب للمتعامل معنا الشبهة والمتاعب وكان الناس يتصورون أن التعامل مع من فرضت عليهم الحراسة قد تحدث عنه مصيبة، وقد تجلب لهم المصائب، وكم كان قاسيا علينا نحن أن نشعر بتلك العزلة الرهيبة، ولقد كنت أفضل ألا اتسبب في إحراج أحد أومضايقته بالتعامل معه.

أربعة أشخاص فقط يمكن استثناؤهم هم السادة محمد حسنين هيكل ربما بحكم موقعه من الرئيس جمال عبد الناصر وعبد العزيز محيى الدين وكيل وزرة الزراعة، وزكريا توفيق وكيل وزارة المالية في ذلك الوقت، وممدوح سالم ، هؤلاء تعاملت معه بالرغم من الحراسة ورحبوا دائما بلقائي دون أن يضعوا في اعتبارهم الحراسة التي فرضت على .

ذهبت مرة أشكو له من القيود التي فرضت على بصفتي موضوعا تحت الحراسة، ومن هذه القيود القاسية منعي من ارتياد الأندية الاجتماعية والرياضية، فما كان منه إلا أن قال لي: تستطيع أن تذهب إلى الأندية وقتما تريد، وعندما ذهبت إلى نادي سموحة حيث كنت أفضل وجدت لدى مدير النادي تعليمات بتحديد عضويتي، وممارستي حياتي داخل النادي، كأي شخص آخر.

وعندما شكا لي شقيقي وكان هو الآخر ممنوعا من دخول الأندية طلبت إليه الذهاب إلى السيد ممدوح سالم، وعندما ذهب لمقابلته وعرض عليه مشكلته قال له إنكم تسمحون لشقيقي الأكبر فلماذا لا تسمحون لي أيضا بذلك، فرد عليه السيد ممدوح سالم بقوله:

إن فرغلى باشا مستثنى من هذا القرار بأمر الرئيس عبد الناصر نفسه، وظل شقيقي على هذه الحال ممنوعا من دخول الأندية ممنوعا من العمل حتى عام 1971.

وبعد أن أصبح السيد ممدوح سالم رئيسا للوزراء كنت أحرص على الكتابة له معبرا عن رايى في بعض المشكلات الاقتصادية، وعن تصوري لأسلوب علاجها ولم تكن تمضى غير أيام قليلة حتى أجده قد اهتم بما كتبت ، وبمكتبه يتصل بى ليطلب معلومات أكثر عن اقتراحاتي، أو يخطرني أنه قرأ الاقتراح، وأحاله على جهة الاختصاص ، وكان هذا الاهتمام يسعدني، ويطمئنني على أن الرجل الجالس على مقعد رئيس الوزراء يهتم بكل ما يصله من اقتراحات .

وعندما أفكر في السيد ممدوح سالم أتذكر على الفور إسماعيل النقراشي باشا حيث يوجد بينهما شبه كبي في الأسلوب، فكلاهما شغل منصب وزير الداخلية، وكلاهما شغل منصب رئيس الوزراء، وكلاهما من الإسكندرية، وكلاهما اشتهر بطهارة اليد واللسان والاستقامة والشجاعة ، ربما الفارق بينهما أن النقراشي باشا بدا حياته مدرسا بينما ممدوح سالم بدأها ضابطا للبوليس،والنقراشي باشا كان متصلبا بينما ممدوح سالم كان أكثر منه مرونة.

زكريا توفيق

عرفته بعد التأميم والحراسات حيث كان يشغل منصب وكيل وزارة المالية، كما تعاملت معه حين أصبح رئيسا لمؤسسة القطن، ثم وزيرا للتجارة، ومن خلال تعاملي معه لا أستطيع وصفه إلا أنه كان جنتلمان بمعنى الكلمة.

لقد سبق وذكرت أنه كان أحد أربعة أشخاص مدوا لي يد المساعدة في أحلك ظروف التأميم ، والحراسة بالرغم من أن ذلك قد يثير حولهم الشبهات.

كان يقول لي: بالرغم من أنني أعرف أن التعامل مع أحد المفروض عليهم الحراسة قد يتسبب في مصيبة إلا أنني أشعر أن ذبك من حقك أن تعرض مشكلاتك علينا، ومن واجبنا أن نستمع إليك، ويمكنك أن يأتي على مكتبي وقتما تريد لتشرح قضيتك.

وكانت القضية التي ذهبت لشرحها له هي إحالتي للتحقيق بتهمة تهريب أموالى للخارج بناء على بلاغ من بعض الحاقدين والكارهين، ولقد طلبت إليه ألا تجرى تلك التحقيقات في مكتبي بشركة فرغلى، ذلك المكتب الذي شهدني صاحبا للشركة، ورئيسا لها ،ليس من المعقول أن يشهدني متهما يحقق معه أمام صغار موظفيه لا سند لها ولا دليل عليها، ولقد قدر الرجل مشاعري مثلما فعل الدكتور عبد المنعم القيسونى، وأخذ بوجهة نظري ووافق على أن يجرى التحقيق في البنك الأهلي.

واستمر هذا التحقيق حوالي سنتين، وانتهى بتقرير عدم جدية الاتهام وعد ثبات صحة أى شبهة تهريب.

ولقد علمت أن التهمة جاءت نتيجة بلاغ تقدم به أحد المنافسين في مجال القطن، وهو لبناني الأصل تقدم به على السيد عبد اللطيف عزت الذي اخذ الموضوع مأخذ الجد.

في ذلك الوقت تقدمت بكشف حساب بممتلكاتي إلى الرئيس عبد الناصر وقلت له فيه ليس من المعقول أن تكون لدى هذه الممتلكات في بلدي حيث قومت بملايين الجنيهات، وأتهم بالتهريب بينما غيري ممن هربوا أموالهم قومت ممتلكاتهم بصفر، ولو كنت أبغى تهريب أموالى لكفاني أن أطلب ممن أتعامل معهم في الخارج أن يضعوا نصف في المائة من مستحقاتي لديهم في أحد البنوك الخارجية، وكان هذا كافيا بتكوين ثروة في الخارج، لكنني لم أفعل حبا في بلدي وثقة في عدالة ثورتها.

المهم أن هذا التحقيق انتهى بعد عامين من العذاب، والاتهام المعلق على الرأس .

وعندما أصبح رئيسا للمؤسسة كنت ألاحظه في الاجتماعات ديمقراطيا، وصبورا لأقصى حد وكان يعطى الفرصة لكل الحاضرين كي يعبروا عن رأيهم بحرية كاملة.

وعندما أصبح وزيرا للتموين والتجارة بذل جهدا فوق طاقته كي يقوم بهذا العبء الهائل وفى رأيي أن التموين يجب أن يبقى في وزارة منفصلة عن التجارة لأن ضم الوزارتين في واحدة يحمل الوزير عبئا ينوء بحمله البشر ذلك العبء الذي تحمله زكريا توفيق بإخلاص وكفاءة.

عبد العزيز محيى الدين

حاولت مرات عديدة بعد كارثة الحراسة أن التقى بالسيد زكريا محيى الدين لأشرح له مشكلة الحراسة التي كانت تعنى النفي تقريبا لي، ولمن وقعت فوق رؤوسهم هذه المصيبة لكنني لم أوفق في أن أحقق هذا اللقاء.

وزكريا محيى الدين من أعضاء الثورة الذين لم التقى بهم إلا نادرا وأظن أن لقائي به لم يتجاوز المرتين، مرة مع غيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة عندما أقمت حفلا بصفتي رئيسا للبورصة ولاتحاد المصدرين والمرة الثانية التقيت به مصادفة أثناء رحلة من رحلات صيد الأرانب التي كان من هواتها على ما يبدو، وكان برفقته السيد على صبري.

المهم في الأمر أن شخصا ما عندما علم برغبتي في لقاء السيد زكى محيى الدين، وعدم توفيقي في تحقيق هذه الرغبة أشار على بمقابلة شقيقه الأستاذ عبد العزيز محيى الدين الذي شغل منصب وكيل وزارة الزراعة لسنوات عديدة، وذهبت بالفعل للقائه دون سابق معرفة، وبعد أول لقاء شعرت أنه رجل ذو مروءة، واسع الصدر متعلم تعليما رفيعا ويبدو ذلك من إلمامه بأحوال الزراعة في مصر، وبكيفية النهوض بها.

كان واحدا من مجموعة قليلة لم تتهرب من اللقاء بى بسبب وضعي تحت الحراسة، لم أذهب إليه يوما والتقى بى على الفور حتى لو كان في اجتماع،وكنت أتنبأ أن يصل هذا الرجل بسبب كفاءته وإخلاصه إلى منصب وزير الزراعة.

وفى أحد لقاءاتي به، وبعد أن عرضت عليه مشكلتي ، ومشكلة أمثالي ممن حرموا العمل وفرضت عليهم الحراسة فأجابني بقوله:

إن بعض رؤساء شركا القطن الجدد يرفضون عودتك إلى عالم القطن مرة ثانية ثم أضاف لكنني لست أدرى لماذا ؟

وقلت له: أنا أعرف لماذا يتخذون منى هذا الموقف ، فمعظم رؤساء الشركات الموجودون هم من أهل الثقة الذين عينوا بقرار جمهوري دون أدنى سابق خبرة في عالم القطن، بل إن بعضهم لا تتعدى معرفته بالقطن – قطن المراتب ومن الطبيعي أن يشعر هؤلاء بالضيق من أن يزاحمهم أحد ممن أفنوا حياتهم في القطن.. وختمت فولى بأن قلت له، أنه أمر طبيعي أن ينفر من يجهل ممن يعلم..

وأتذكر بهذه المناسبة أن الشخص الذي عين لرئاسة شركة فرغلى بعد تأميمها وكان يدعى محمد بركة سافر إلى الخارج لمقابلة الغزالين في أوربا، من الأشياء التي تثير العجب أنه حين التقى بهم لم يجد ما يقوله غير اننى جئت لأتعلم منكم، لم يقل ذلك متواضعا ، لكتن حين شعر انه يجهل الأمور التي جاء يتحدث بصددها.. ووصلتني أيامها رسالة من أحد هؤلاء الغزالين نقل على فيها ما دار بينه وبين رئيس الشركة الجديدة، وقال لي إنه بعد لقائه بالرئيس الحديد للشركة يتنبأ بتدهور أحوال الشركة.

ولقد صدقت نبوءته فلم تكن قد مضت غير سنوات محدودة حتى كان مركز الشركة يتدهور، ولم ينقذها من هذا التدهور غير تعيين الأستاذ عثمان حلمي رئيسا لها، وهو شخص يتمتع بالكفاءة في مجال القطن، وهو الذي أعاد للشركة ساب مجدها وازدهارها.

بعد أن عين زكريا محيى الدين رئيسا للوزراء اتصل بى شقيقه المهندس عبد العزيز محيى الدين وأبلغني أنه عرض مشكلتي على شقيقه وهو بصدد اتخاذ قرار بتعييني مستشارا لمؤسسة القطن بامتيازات رئيس مجلس إدارة شركة وعندما استفسرت منه عمن ستكون له مسئولية تحديد هذه الامتيازات قال لي: إنه رئيس المؤسسة.

خشيت أن يكون المسئول عن تقييمي هو أحد أفراد أهل الثقة الذين لا يميلون إلى أهل الخبرة، فرجوته أن ينقل تخوفي هذا إلى السيد زكريا محيى الدين.

وظل أمر تعييني معلقا حتى خرج زكريا محيى الدين من رئاسة الوزارة، ومن سخرية القدر أنني قبلت فيما بعد ما تمنعت عن قبوله حين عرضه على المهندس عبد العزيز محيى الدين، قبلت الوظيفة بمرتب مائة جنيه.

وظل الأمر على هذه الحال حتى وفاة عبد الحكيم عامر حيث عدل الوضع بقرار جمهوري، ولقد علمت فيما بعد من الأستاذ هيكل أن زكريا محيى الدين كان من المتحمسين لتعييني في مؤسسة القطن بغرض الاستفادة من خبرتي، والفضل يعود في تقديري إلى قناعة وجهود شقيقه الفاضل المهندس عبد العزيز محيى الدين.

أنور السادات ومرحلة السبعينات

يمكن القول بمنتهى الموضوعية إن الرئيس محمد أنور السادات رحمه الله هو الذي جعل الثورة أكثر إنسانية وأكثر رحمة ولقد بدا ذلك واضحا منذ الأيام الأولى لحمه ومهما اختلفت الآراء تباينت حول قيمة منجزاته، وحول ما حدث في آخر أيام حكمه فلسن أظن أننا ستختلف كثيرا حول بعض العلامات الهامة في الفترة التي زادت قليلا عن العشر سنوات التي حكم فيها مصر.

إن من أهم هذه العلامات إلغاؤه للحراسات وإغلاقه للمعتقلات والعودة إي الأخذ بمبدأ سيادة القانون ويدخل في هذا المجال أيضا إيقافه التصنت على المكالمات التليفونية وإحراقه لكل الأشرطة التي سجلت وكانت تستخدم لإرهاب المواطنين ن يضاف على ذلك الخطوة الشجاعة التي أقدم عليها في بداية عهده حين قام بتنحية من أسميناهم بمراكز القوى، وهذه الخطوة الأخيرة حررته وحررتنا من وصاية من تصوروا أنهم أمناء على الثورة وأوصياء عليها، ولقد كانت هذه الخطوات على بساطتها سببا في إعادة الكثير ممن نقلوا من وظائفهم، أو أجبروا على ترك البلاد وبدأت روح الرحمة التي كانت جوهر هذه الإجراءات تعيد للشعب المصري بعض حيويته التي فقدها نتيجة للخوف، والإرهاب الذي اتبع مع عدد من المصريين قبل فترة حكمه.

وبالرغم من كل هذه الخطوات التصحيحية الرحيمة لم ينج الرئيس السادات رحمة الله من السخرية ومن المعارضة فهناك من شككوا في قدرته على قيادة مصر بعد زعامة الرئيس عبد الناصر، وهناك من شككوا في قدرته على خوض المعركة التي كان الرئيس عبد الناصر قد بدا الإعداد لها لتحير الأراضي المصرية المحتلة، ولقد تحمل الرجل كل هذا الألم صابرا فئ معظم الأحيان متململا في بعض الأحيان ولم يكن أحد يتصور أن هذا الرجل الذي كان يتعرض وقتها لتشكيك في قدراته، وللتهوين من شأنه لم يتصور أحد أنه كان يقوم بعمل سيعده التاريخ من أهم المنجزات المصرية، كان يخطط في صبر وأناة وتكتم لحرب سنة 1973 تلك الحرب العظيمة التي أعادت للعرب كرامتهم ومسحت عنهم عار الهزائم العديدة التي تعرضوا لها في الحرب مع إسرائيل، وغيرت صورتهم السيئة في عيون العالم الخارجي ، وحولتهم من مجرد كيانات ممزقة لا قيمة لها في نظر العالم إلى قوة يعتد بها.

إن الرئيس السادات لو لم يفعل في حياته السياسية وهذا غير صحيح غير حرب أكتوبر لكفته فخرا وإنجازا.

لقد كانت هذه الحرب على قصر الوقت الذي استغرقته نموذجا ممتازا للتخطيط والتمهيد والتنفيذ ، لقد استغنى الرئيس السادات بقرار ذكى عن الخبراء الروس، وهو بذلك حرر إرادته من مخاوفهم، واعتقادهم بأنه ليس من السهل إلحاق الهزيمة بالجيش الاسرائيلى.

ثم إنه وفى تكتم شديد خطط لها مع قيادات الجيش من الضباط الأكفاء وأحسن استخدام الممكن، والمتاح مما لدينا من قوات وإمكانيات واتخذ القرار في الوقت المناسب، وقبل أن تنشب الحرب بأيام كانت مشكلة الشرق الأوسط قد أصبحت مهملة ومنسية ، وتأتى في ذيل اهتمامات العالم الخارجي، حيث تعود العالم عيها، وإن ذكرها فذلك على سبيل تحصيل الحاصل لذلك أتت الحرب في الوقت المناسب.

عبرت القات المصرية يدفعها كل ما عانته من آلام خلال الفترة السابقة على الحرب وبعد أن سكتت المدافع كانت القوات المصرية المظفرة قد حطمت خط بارليف بعد أن عبرت أكبر مانع مائي في التاريخ وبهذا أطاحت بالسد الترابي وعن طريق جنود المشاة المدربين تدريبا جيدا تم إلحاق خسائر بسلاح المدرعات الاسرائيلى ثم إسقاط أكبر عدد من الطائرات الإسرائيلية بواسطة الدفاعات الجوية.

بعد أن سكتت المدافع فتح العالم كله عيونه على اتساعها ليكتشف تلك المعجزة العسكرية التي قام به الجيش المصرين وتساقطت الكثير من المسلمات في عالم السياسة، وفى عالم الحرب فلا نظرية الأمن الاسرائيلى صمدت ولا أسطورة الجيش الاسرائيلى الذي لا يقهر بقيت ولا حتى حكاية الكم العربي والكيف الاسرائيلى، ولا نظرية عجز العرب عن استيعاب التكنولوجيا المعقدة لا رسوخ حالي اللاسلم واللاحرب.

بعد أن سكتت المدافع ارتفعت قيمة الوطن العربي، والمواطن العربي والبترول العربي وأصبح العالم الذي لا يحترم غير الأقوياء ينظر إلى العالم العربة نظرة ملؤها الاحترام والتقدير.

ولم يعد ما بعد أكتوبر 1973 هو عالم ما كان قبل أكتوبر 1973 كان كل شيء يتغير أو في طريقه للتغيير وبسرعة مذهلة.

ومن لم يسافر إلى الخارج بعد أكتوبر 1973 لا يمكنه أن يشعر بتغير نظرة العالم إلينا، لقد كانت نظرة الناس في أوربا ما بين 1967 و1973 إلى العرب على أنهم مجموعة من الانفعاليين الذين يعيشون في عالم الخرافات، والخزعبلات ويحيطون بكمهم الهائل إسرائيل الصغيرة واحة القدم والتحضر .

أما بعد أكتوبر 1973 فكان من المألوف أن يستوقفك أى أوربي متحضر ليملأ عيونه منك بعد أن غسلتها حرب أكتوبر من غشاوات سابقة وضعت عليها، كانت نظراتهم وتحليلات صحفهم قد بدأت تعيد ترتيب مسلماتهم وفرضياتها ، وما كان هذا إلا ليجعل كل مصري ، أو عربي يرفع هامته فخرا واعتزازا بمصريته وعروبته.

بعد حرب أكتوبر تدفقت الأموال على العامل العربي نتيجة لارتفاع سعر البترول، وأصبحت الدول الغريبة مركزا للتأثير في صياغة السياسات العالمية، بل لقد بدأ يلوح في الأفق بشائر ميلاد قوة عالمية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.

كانت حرب أكتوبر إذن هي أعظم إنجاز قاده أنور السادات، بل بعد حرب أكتوبر توالت الكثير من إنجازاته، رفعت الرقابة عن الصحف حيث مارست لأول مرة منذ زمن طويل بعض حريتها في النقد، والتقييم والتحليل ولم يقل أحد إن الحرية التي تمتعت بها الصحافة هي الحرية المبتغاة أو أنها كانت تعبر عن كل ما يتمناه المصريون لكنها بغير شك كانت خطوة كبيرة على الطريق.

ثم بدأ إنجازا آخر من إنجازاته ، وهو الانفتاح الاقتصادي ذلك الذي قصد به تشجيع رءوس الأموال وطمأنتها كي تأتى على سوق العمل المصري. من خارج البلاد أو من داخلها بهدف إتاحة فرص أكثر للعمل ، وملء لفراغات كثيرة عجز عن الاضطلاع بها القطاع العام، بل إن أحد أهداف هذا الانفتاح كان محاولة تحريك القطاع العام ليقوم بتجديد نفسه عن طريق منافسته، صحيح أنه قد ثبت أن بعض من نزلوا إلى سوق الاستثمار انحرفوا به واستغلوه لكن هذا ليس عيبا في الانفتاح ذاته، بقدر ما هوعيب فى هؤلاء المنحرفين بعض من ساندوهم أو قاموا برعايتهم، فقد كان المفروض أن يواكب هذا الانفتاح الاقتصادي انفتاح سياسي ثقافي، كان من المفروض أن تتاح للصحافة حرية أوسع وأن تشدد الرقابة الإدارية كي تقوم بكشف أى انحراف يتم في أى مشروع.

كان المفروض ألا تترك أسعار السلع الأساسية تنطلق بلا ضابط، كان المفروض أن توضع الضوابط لحماية الإنتاج المحلى، وأن يوجه الانفتاح في إطار خطة عامة توجهه إلى ما يقوى الاقتصاد المصري ليصبح معتمدا على دعامتين أساسيتين: القطاع العام بعد تجديد شبابه والقطاع الخاص بعد تخليصه من شبهة الاستغلال والسعي وراء الربح السريع.

من الخطوات التي تحسب للرئيس السادات أيضا أنع عمل بكل جهده كي يعاد تشغيل قناة السويس التي حرمنا من دخلها فترات طويلة، وبعد افتتاحها أصبحت تمثل نبعا هاما للعملة الصعبة التي تدخل إلى الخزانة المصرية ، بل الأكثر من ذلك أنع أعادت إلى مصر أهمية كانت قد بدأت تفقدها بإغلاقها.

حسنة أخرى لأنور السادات وهو أنه رفع القيود التي كانت توضع في وجه أى مصري يرغب في السفر للخارج سواء للسياحة أو العمل أو العلاج ، وإني أتصور أن هذه السياسة دفعت بكثير من المصريين لتجربة حظهم عن طريق السفر للعمل بالخارج، ولقد حققوا نجاحات مذهلة في الدول العربية وأدوا خدمات جليلة لهذه البلاد بمشاركتهم في بناء صروح الإنتاج، والعلم والثقافة بها، كما أن هؤلاء أصبحوا يمثلون مصدرا هاما من مصادر الدخل للوطن الأم مصر ، فضلا عن رفع مستواهم الاقتصادي ومستوى أسرهم.

ويأتي بعد ذلك إنجاز هام آخر من إنجازات أنور السادات، وهو البدء في تطوير الحياة السياسية المصرية مسايرا بذلك روح التطور التي كانت تفرض نفسها هذا التطوير الذي تمثل في الانتقال التدريجي من النظام الشمولي نظام التنظيم السياسي الواحد إلى نظام التعدد الذي بدا بالمنابر، وتطور بسرعة ليصبح نظاما لتعدد الأحزاب السياسية، ولقد شهدنا في بداية هذه التجربة أن الحياة السياسية بدأت تعرف التعدد في الآراء ن والاجتهادات والبرامج ومن الخطأ أن نقارن وقد كنا نفعل ذلك تجربة ديمقراطية وليدة كالتجربة المصرية بتجارب ديمقراطية عريقة كالموجودة في انجلترا وفرنسا وأمريكا.

فتجربة جديدة كتجربة التعدد في حياتنا السياسية كان يلزمها الوقت، لتتبلور بالممارسة وكان يلزمها تطويرا في الدستور، والقوانين وتطوير لوسائل الإعلام، والتعبير كي تعبر جميعها عن هذا التعدد الذي ننشده ونسعى إليه.

ولا يستطيع إلا جاحد أن ينكر أن تجربتنا السياسية شهدت التعدد في الرأي وشهدت النقد في صحف المعارضة يوجه إلى الوزراء، والحكومة بل إلى رئيس الجمهورية نفسه، وهو ما كان من المستحيل أن يحدث قبل ذلك بل إن هذا التعدد امتد ليشمل الصحف القومية التي تملكها الحكومة.

ثم تأتى خطوة هامة وشجاعة من خطوات الرئيس السادات تلك هي مبادرته السياسية بالموافقة على التفاوض مع إسرائيل والجلوس معها وجها لوجه، وفى عقر دارها في إسرائيل تلك الخطوة التي اختلفت حول سلامتها الآراء لكنني أشهد أنى رأيت فيها عملا شجاعا وتفكيرا صائبان وسوف تثبت الأيام في المستقبل أنها كانت خطوة هامة في الاتجاه الصحيح .

لو أن الرئيس السادات فكر في مفاوضة إسرائيل على السلام قبل الأداء الرائع للجيش المصري في حرب أكتوبر لكان هذا هو الاستسلام بعينه، لكن قيمة هذا التفاوض أنه أتى بعد أن خاض الجيش المصري حربا ناجحة، أثبت فيها للعالم، ولإسرائيل أنه قادر على استيعاب التكنولوجيا المعقدة وقادر على إلحاق هزيمة مؤثرة بالجيش الاسرائيلى، لذلك فقد كان ذهابه إلى إسرائيل من موقع القوة لا من موقع الضعف، ذهب ليستثمر حرب أكتوبر الاستثمار الصحيح ذهب وهو يضع نصب عينيه الأهداف التي يتمناها كل عربي، والتي أعلنها في الكنيست الاسرائيلى حيث قال إنه لم يأت يتفاوض من أجل سيناء بل من أجل إحلال السلام الشامل والعادل في كل المنطقة العربية، وهذا يعنى جلاء إسرائيل عن كل الأراضي العربية التي احتلتها بعد حرب سنة 1967.

ولم يكن هذا جديدا بالنسبة لمصر أو للعرب، لكن ربما الجديد الوحيد هو الاعتراف بدولة إسرائيل كواقع موجود، ولست أظن أن عدم اعترافنا بإسرائيل كان يغير من الواقع شيئا، فإسرائيل موجودة ومعترف بها من معظم دول العالم ، وعلى رأسهم الدول الكبرى، بل إن قوة كبرى هي الولايات المتحدة بكل إمكانياتها الهائلة تحمى وجود إسرائيل، وتجد في حماية وجودها تحقيقا لمصالحها الإستراتيجية والأمنية.

ولقد كانت الزيارة المفاجئة والمدهشة التي قام بها الرئيس السادات نقلة تحول هائلة أذهلت العالم وأدهشته وانتزعت الإعجاب والاحترام من شعوب الدول المتحضرة.

وإني لأفهم الآن جيدا لماذا حظيت المبادرة لكل هذا الإعجاب، لقد رأت هذه الشعوب في تصرف الرئيس السادات عملا نادرا يتسم بمعنى افتقدوه في زمن أصبح مدججا بالسلاح، ومهددا بالانفجار وبالحروب التي لا ينتج عنها إلا القتل، والتشريد والتخريب والتشويه، لقد أعجبت به في أوربا أجيال متعددة في مقدمتها الأجيال التي عانت ويلات الحرب العالمية الثانية وما تنج عنها من دمار والأجيال التي عاصرت حرب فيتنام ، إنها أجيال تنشد السلم وتجد فيه كلمة جميلة نادرا ما تتحقق في الواقع.

سبب آخر لإعجاب شعوب أوربا بمبادرة السادات، وهو أن منطقة الشرق الأوسط وما يحدث فيها أصبح يؤثر على الشعوب الأوربية، تلك الشعوب التي عانت من توقف البترول إليها في حرب 1973 مما نجد عنها من ازدياد أسعار الوقود، وتوقف أجهزة التدفئة وارتفاع أسعار المنتجات، والسلام في نظرهم يعنى الاستقرار وهو أمل صعب.

لذلك كانت شعوب أوربا وأمريكا أكثر الشعوب إعجابا بالرئيس السادات، وأكثرها حزنا يوم وفاتهن وإني لأشهد حيث كنت في باريس يوم اغتياله أن هذه الشعوب حزنت عليه مثلما لم تحزن على أى رئيس أجتبى آخر.

ثم أليس من الفضائل العربية المحببة إلى النفس أن يذهب الخصم إلى خصمه الآخر حاملا غصن الزيتون؟ أليست العربة بالنتائج كما يقولون؟ هل فرط الرجل في شبر من الأرض؟ هل عقد من الاتفاقات ما يخص الأراضي العربية ويضر بمستقبلها، وهل لو استثنينا أرضنا بدون إراقة قطرة واحدة تغضب؟ وكما أن للحرب ثمنا باهظا فللسلام ثمنه أيضا.

لقد دفعنا الثمن، قطع العرب علاقتهم بمصر وقطعوا معونتهم وأوقفوا مشروعاتهم وانفرط عقد التضامن العربي، الذي نادرا ما ينعقد ولقد دفع أنور السادات ثمنا باهظا حين اتهم بأنه باع القضية وخان العرب وهوجم هجوما لا هوادة فيه.

وفى اعتقادي أن كل الاتهامات كانت ظالمة، فلا الرجل باع القضية ولا هو خان العرب لكنه فعل ما اعتقد أنه الصواب في صالح شعبه.

ثم إن مصر هي التي خاضت الحرب، وهى التي دفعت الثمن من دماء أبنائها، وعلى حساب اقتصادها وتنمية شعبها في وقت لم تفعل معظم الدول العربية غير تكديس أموالها التي تدفقت نتيجة لحرب أكتوبر، الأموال التي نتجت عن ارتفاع سعر البترول، والذي كان الدم المصري هو السبب في ارتفاع ثمنه، بل إن الكثير من هذه الأموال كانت تذهب إلى بنوك الدول التي تساند إسرائيل، وتقدم لها الخبز والمدفع. ولم تحصل مصر من هذه الأموال إلا على القليل جدا الذي لا يعادل نسبة ضئيلة من تكاليف الحروب التي تكبدتها دفاعا عن العروبة.

لقد ذهب أنور السادات وهو يضع نصب عينيه الحصول على كل الأرض العربية فهل نلومه إن هو حصل على جزء من هذه الأرض، وهى سيناء التي تمثل كل الأرض المصرية المحتلة، دون أن يفرط في شبر من أرض مصر، ودون أن يتفق على شيء يخص الأراضي العربية الأخرى، أو يمس الكرامة العربية، ودون أن تراق قطرة دم واحدة في سبيل الحصول على كل أرض سيناء، وفى مقابل ماذا ؟ الاعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل معها ، وه أمر ليس بالأبدي أو النهائي.

لقد تحمل الرجل الكثير من الألم ليس من العرب وحدهم بل من إسرائيل التي دأبت على نسف كل جسر للتفاهم حاول أن يشيده هو، لقد اعتدت إسرائيل على جنوب لبنان، وعلى المفاعل النووي العراقي وعلى الضفة الغربية وغزة وقامت بإعلان القدس عاصمة لها، وكلها استفزازات تحملها الرجل صابرا حتى يحقق ما سعى إليه . والمحزن أن يغتال الرجل قبل أن يرى بعيني رأسه ذلك الأمل الذي انتظره طويلا، وعانى كثيرا في سبيل تحقيقه.

هذه في رأيي أهم إنجازات الرئيس السادات وهى ضخمة بالتأكيد عندما ننظر إليها نظرة إنصاف ، وقد يتساءل البعض هل كانت فترة حكم الرئيس السادات كلها إنجازات لم تشبها سلبيات؟ وردا على هذا التساؤل أقول:

ليست هناك في العالم فترة حكم تخلو من السلبيات وليس هناك حاكم بلا أخطاء طالما أن هذا الحاكم يعمل ويغير ، وفى تصوري أن السلبيات في عهد الرئيس السادات لن تظهر إلا أن في السنوات الأخيرة من حكمه والغريب أن هذه السلبيات نتجت من عدم تطويره للانجازات التي كان هو صاحب الفضل في صنعها، فلقد صنع الانفتاح كسياسة لكنه لم يتطوره ولم يرشده، ولقد كان الفضل في بناء الديمقراطية المتعددة الاتجاهات، لكنه لم يطورها ولم يرفع المعوقات من طريقها ولقد كان صاحب الفضل فئ رفع الرقابة على الصحف كي تحصل على قدر من حريتها، لكنه لم يتحرك في طريق تحريرها حتى النهاية .. أى إنه لم يسر في طريق التطوير حتى النهاية .

هذا بالإضافة إلى أنه أصبح في أيام حكمه الأخيرة عصبيا كما أكثر من الأحاديث والمؤتمرات.

لكن لا يستطيع أى منصف إلا أن يعترف أن إيجابيته لو قورنت بالسلبيات لفاقتها بمراحل لقد كانت معظم سنوات حكمه خاصة السبع سنوات الأولى، هي سنوات العطاء الذي لم ينقطع، ولسوف يشهد التاريخ أنه هو الذي استطاع أن يصنع صورة مصر الناصعة في شتى أنحاء العالم الغربي ولقد بدا ذلك واضحا في العدد الضخم من زعماء العالم الغربي الذين هرعوا إلى القاهرة لتشييع جنازته.

لقد التقيت بالرئيس السادات مرات عديدة قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية التقيت به في حفل أقيم بمينا البصل، وعندما كان رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية، وعندما كان رئيسا للمؤتمر الإسلامى.

وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية التقيت به مرات عديدة، ولم أنقطع عن الكتابة إليه في شتى المناسبات وكثيرا ما رد على رسائلي وأرسلت إليه خطابا حين اشتعلت الحرب في لبنان أرجو فيه ألا يتدخل في سعير هذه الحرب فأرسل إلى يقول: أنت دائما سباق فيما يحقق مصلحة الوطن.

ولقد شرفني باختياره لي عضوا مؤسسا في الحزب الوطني، وكان حريصا عند حضوره إلى الإسكندرية لإلقاء أي خطاب أن يوجه إلى الدعوة لحضور الخطاب.

إني أتذكر عشرات البرقيات التي أرسلتها له مهنئا عند تحقيقه إنجازا من إنجازاته العديدة. رحمه الله فقد كانت فترة حكمه في معظمها هي فترة الرحمة.

الخاتمة

بعد كل هذه الرحلة الطويلة التي تجولت فيها في الواقع المصري المعاصر، متوقفا عند الأحداث الهامة والأشخاص الذين صنعوا التاريخ، لا أظن أنني تحدثت عن كل ما أعرف، أو عن كل من أعرف فلقد فاتنى أن أتحدث عن شخصيات كثيرة كريمة عرفتها،واستمتعت بمعرفتها، أنني لم أتحدث عن الأستاذ يوسف السباعي ، وعلى الجمال، ومصطفى أمين، وعلى أمين، وعبد الله عبد الباري، وكمال الملاخ، وحسين صبحي، وكلهم سعدت بلقائهم والحديث إليهم، وغيرهم من رجالات مصر الأفاضل.. إنني اختم هذه الذكريات ومصر بمرحلة جديدة من مراحل كفاحها نحو التقدم والازدهار،فترة استعادت فيها أرضها المحتلة، ونحن جميعا نتطلع إلى هذه المرحلة الجدية من حياتنا يغمرنا الأمل في أن نرى بلادنا تتجه نحو استقرار ديمقراطي وازدهار اقتصادي وثقافي وسلام اجتماعي يسود ربوعها.

وإني على ثقة من أن هذه الآمال التي ننشدها ليست متعددة المنال خاصة وأن على رأس البلاد الآن أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، لقد بدأ الرئيس حسنى مبارك فترة حكنه بمجموعة من الإجراءات التي تجعلنا نطمئن إلى الطريق الذي نسير فيه.

لقد قام الرئيس حسنى مبارك بالمصالحة الوطنية، واستقبل زعماء المعارضة وأتاح حرية أكبر للتعبير كما أنه يعكف على تحليل الواقع تحليلا علميا، وبدأ عهده بالثقة في أهل الخبرة حين دعاهم إلى المؤتمر الاقتصادي كي يبحثوا عن حلول واقعية لمشكلات الاقتصاد المصري، كما أنه قد بدأ بالفعل في ترشيد الانفتاح وتخليصه مما علق به من شوائب كما دعا إلى مؤتمر مصر الغد الذي ستكون مهمته وضع تصور لما يجب أن تكون حياتنا الديمقراطية، والاجتماعية والقانونية.

إن سلوكه الرصين وخطواته المتزنة الواثقة وموقفه الذي يتسم باحترام تاريخنا كله، ووفاءه لكل من سبقوه من زعماء، وسياسته الخارجية الواعية غير المنحازة وعزوفه عن المهاترات ، ونفور من الإسراف وواقعيته وصدقه واستقامته ، وبعده عن الشللية والمظهرية يجعلنا ننظر إلى المستقبل بعيون يلمع فيه الأمل.. الأمل في أن تكون مرحلة الثمانينات تتويجا إيجابيا لكفاح أبناء هذا الشعب في الصول ببلدهم إلى مصاف الدول المتقدمة بإذن الله .

الإسكندرية في أبريل 1982.