صراع العسكر على السلطة وخزي الجندية
مقدمة
تمثل الجندية القاعدة الأساس لبناء الدولة، فالجندية لها الفضل والشرف الكبير لأنهم وهبوا أنفسهم للدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض والبلاد.
والجندية ركيزة من ركائز الإسلام، ودعامة من دعاماته التي قام عليها، لأن النظريات العسكرية قامت على الإعداد والتخطيط، بعد حسن التربية والإيمان، ولذا وجب على الجندي الذي وهب نفسه للدفاع عن العرض والبلاد أن يتحلى بشيم الأخلاق الإنسانية، والصفات الأساسية التي تجعله يترفع عن الدنايا.
ففي كل وطن سواء أن كان مسلم أو غيره الجميع يعتز بصفته العسكرية والتي لا ينازعها معاني الخيانة أو الجبن.
لكن الناظر لتاريخ العسكر في مصر – وفي البلاد العربية والإسلامية – يجد معاني مغايرة لمعنى الجندية الحقيقة – خاصة الذين استولوا على السلطة السياسية ومقدرات البلاد- بل بلغ بهم الأمر إلى التخلي عن شرف الدفاع عن الوطن، ومقارعة الأعداء المتربصين وتفرغوا لمحاربة بعضهم البعض، والعمل على إزاحة بعضهم البعض ليتمكن كل واحد منهم من السيطرة على أكبر قدر من مقدرات البلاد، والتمكين لنفسه من السلطة التي لا ينازعه فيها أحد.
شركاء الثورة أعداء السلطة
منذ أن سمح الإنجليز لأبناء المصريين من الطبقات المتوسطة والفقيرة بدخول الجيش، وقد التحق به عدد منهم، لكنهم كانوا يحملون كره الإنجليز والملك في قلوبهم، ولذا ما أن أصبحوا ضباط إلا وقد انجذبوا لكل وطني أمثال عزيز المصري وغيره.
بل أنهم انضموا للنظام الخاص بجماعة الإخوان بهدف العمل على إخراج المحتل. لكن مع زيادة فساد الملك زادت لدى جميع الأطراف الرغبة في الإطاحة بالملك وحاشيته، ومن ثم تعاونت كل الأطراف الوطنية على التلاحم في نسيج واحد ليلة 23 يوليو 1952م للإطاحة بالملك.
لكن ما أن تم ذلك وأعلن العسكر أن سيديرون شئون البلاد لحين إعادة الحياة النيابية، وعمل دستور جديد للبلاد، وتطهير المؤسسات، ثم عودة الجنود إلى ثكناتهم مرة أخرى، لكن ما أن مرت بعض الأيام إلا وقد بدت في الأفق رغبة العسكر بالتمسك بالسلطة.
وبدأت الحروب فيما بينهم للتنازع على السلطة،فكان أول مشهد هو إسقاط عضوية عبد المنعم عبد الرؤوف من اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار لتمسكه بعقيدته الدينية.
ثم كان يوسف صديق الذي دعا إلى عودة الحياة النيابية، وخاض مناقشات عنيفة من أجل ذلك، لكنه وجد غير ذلك، يقول في مذكراته: [ أعلنت الثورة أنها ستجري الانتخابات في فبراير 1953، غير أن مجلس الثورة بدأ بعد ذلك يتجاهل هذه الأهداف، حتى ثار فريق من الضباط الأحرار علي مجلس قيادة الثورة يتزعمه اليوزباشي محسن عبد الخالق وقام المجلس باعتقال هؤلاء الثائرين ومحاكمتهم، فاتصلت بالبكباشي جمال عبد الناصر وأخبرته أنني لا يمكن أن أبقي عضواً في مجلس الثورة وطلبت منه أن يعتبرني مستقيلاً، فاستدعاني للقاهرة، ونصحني بالسفر للعلاج في سويسرا في مارس 1953].
وحينما وقعت أحداث 1954م دعى صديق لعودة البرلمان القديم، مما دفع عبد الناصر وزملائه لاعتقال أسرة صديق بل واعتقاله وأودع في السجن الحربي في أبريل 1954، ثم أُفرج عنه في مايو 1955 وحددت إقامته بقريته بقية عمره إلى أن توفي في 31 مارس 1975م، كما ورد في كتاب أحمد حمروش.
ثم كان الدور على خالد محي الدين الذي دعى لعودة الجند لثكناتهم في مارس من عام 1954م نشب خلاف بينه وبين جمال عبد الناصر ومعظم أعضاء مجلس قيادة الثورة، استقال على إثره من المجلس، وآثر - ربما تحت ضغوط من جمال عبد الناصر - الابتعاد إلى سويسرا.
كان عبد الناصر يقرب أشباهه العسكر منه ليحموه من رفقاء الثورة، وبالفعل جاء مصير جمال سالم – والذي انحاز لعبد الناصر ضد محمد نجيب في أزمة مارس 1954م- والذي حكم على قادة الإخوان بالإعدام، كما طالب بإعدام جميع ضباط المدفعية الذين اعترضوا على بعض قرارات المجلس في يناير 1953م – كما ذكر بغدادي في مذكراته الجزء الأول- ومع ذلك وبسبب آراءه التي كانت لا تتوافق مع العسكر أزاحه عبد الناصر حتى أصيب بالسرطان ومات في مايو 1968م.
وما كادت الأيام تنطوي حتى كان أخوه صلاح سالم أيضا من ضمن المطرودين من مجلس قيادة الثورة، حتى توفى أيضا بالسرطان في 18 فبراير 1962م.
عبد اللطيف بغدادي – والذي كان يعد من الضباط الأقوياء في مجلس الثورة- لم يرق لعبد الناصر وجوده في السلطة معه، فأبعده عن السلطة بأكثر من طريقه حتى اضطره للاستقالة عام 1964م واعتزل الحياة السياسية، حيث ضم الجزء الثاني من مذكراته طبيعة الحرب التي وقعت بينه وبين عبد الناصر، بل ساق ما وقع على كمال الدين حسين – والذي كان يشغل وزير التربية والتعليم- قبل أن يرسل لعبد الناصر رسالة في 12/10/ 1965 – حينما علم بما يجري في السجن الحربي- قال له فيها [اتق الله]،مما جعل عبد الناصر يقوم باعتقاله.
يقول بغدادي في مذكراته، الجزء الثاني صـ200 [وفي 14 أكتوبر 1965م صدر قرار بتحديد إقامة كمال الدين حسين وزوجته في إحدى الاستراحات بالهرم، واستمر كمال محددة إقامته حتى توفيت زوجته وهي معه يوم 9 يناير 1966م ولم يجد طبيبًا يقوم بإسعافها ولم يحضر إلا بعد عدة ساعات طويلة وبعد أن كان أمر الله قد نفذ].
لم تكد الأيام تمر حتى كان الخلاف الشديد بين الصديقين اللذين عملا سويا على الإطاحة بكل رفقاء الثورة معا، إنهما عبد الناصر وعبد الحكيم عامر – كما السيسي وصديقي صبحي اليوم - لقد سعى كل واحد منهم لنشر نفوذه على المؤسسات – خاصة العسكرية – إلا أن عامر نجح في إحكام السيطرة عليها- حتى أنه أدار حرب 1967م وحده – كما ورد في مذكرات بغدادي الجزء الثاني.
وبعدما أنهت الحرب باحتلال أجزاء من مصر، وضياع الجيش على ارض سيناء، عاد الصديقين يتنازعان السلطة بمعاونة آخرين أمثال شمس بدران وسامي شرف وغيرهم، حتى كان الضربة القوية التي وجهها عبد الناصر لعامر حينما اعتقل كل رجاله من استراحة الهرم، ثم دس السم له في الطعام،وأعلن للجميع انتحار المشير، والتي نفاه كل من حضر وفاة المشير لكنه الصراع على السلطة.
تعذيب العسكر بعضهم البعض
استبدل العسكر بدلهم العسكرية بالبدل الفاخرة، كما استبدلوا سياراتهم الجيب بالسيارات الفارهة، ومن اجل ذلك سعى عبد الناصر ورفاقه إلى التنكيل بكل من يطالبهم بالإصلاح، أو تقوييم سلوكهم، حتى أن زملائهم العسكريين كانوا يقولون: طردنا ملكا وجئنا بثلاثة عشر ملكا أخر – وهم عدد قادة مجلس قيادة الثورة حينها.
يقول محمد نجيب في كتابه كنت رئيسا لمصر/ صفحة، 185، 204 وما بعدها: انتشرت الشللية وسط ضباط القيادة وكل واحد حرص أن يقرب المخلصين له، وظهرت مراكز القوى بعد شهور قليلة من قيام الثورة داخل المجلس وخارجه..وحتى يتخلص ضباط القيادة من أصوات المعارضين التي تواجههم لفقوا لهم التهم المناسبة للقضاء عليهم، وتطور أسلوب التلفيق من تحضير شهود الزور – كما حدث في قضية المدفعية-، والذين قدموا مقترحات للإصلاح لعبد الناصر، غير أنه تم القبض عليهم وكان عددهم 35 ضابطا، حيث اعترض يوسف صديق وحسني الدمنهوري على اعتقالهم فأجبر يوسف صديق على مغادرة البلاد لسويسرا، واعتقل حسني الدمنهوري والذي تعرض للتعذيب الوحشي والقسوة في المعاملة والتعدي عليه داخل السجن، حتى أنهم اتهموه بأنه كان يعد مؤامرة للانقضاض على مجلس القيادة والإفراج عن الضباط المعتقلين، وعقد له محاكمة برئاسة عبد الناصر وحكموا عليه بالإعدام ورفضت التصديق على حكم الإعدام خاصة بعدما أخبرني اليوزباشي محمد أحمد رياض بتعرض الدمنهوري للتعذيب الوحشي والاهانة من قبل صلاح سالم.
السادات ومبارك
لم يقتصر الأمر على فترة عبد الناصر والتي كانت بحق ساحة صراع بين العسكر بعضهم البعض، بل امتدت لفترة السادات والتي ابدأها بما عرف بثورة التصحيح في 15 مايو 1971م والتي أطاح فيها بمراكز القوى التي كانت تسعى لبسط نفوذها على السلطة في مصر، وأغلق أحلام العسكر الذين سعوا لتقويض سلطته أمثال الفريق محمد فوزي وأمين هويدي رئيس المخابرات وشعرواي جمعة وغيرهم.
بل بلغ الأمر بالسادات بأن أطاح – بل عمد إلى تشويه تاريخ- قادة عسكريين شاركوه حرب أكتوبر 1973م أمثال الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة، بس محاولة السادات فرض أوامره العسكرية على الجيش بتطوير الهجوم ناحية قناة السويس للتخفيف عن قوات سوريا في الجولان مع اعتراض الشاذلي وقائدي الجيش الثاني والثالث الميداني على التطوير لكن أحمد إسماعيل أخبرهم أن القرار سياسي ولابد أن ينفذ، ومع ذلك فشل تطوير الهجوم وخسرت مصر العديد من الدبابات والجند، مما أحدث ثغرة الدفراسوار، ولم يقبل السادات بفكر الشاذلي وظل متمسك برأيه – رغم خسائر الجيش- مما دفعه لعزل الشاذلي وتعين الجمسي – المتجانس في الرأي معه- رئيسا للأركان.
وفي 12 ديسمبر 1973 أستدعى المشير أحمد إسماعيل الفريق الشاذلي ليبلغه بأن الرئيس أنور السادات قرر إنهاء خدمته كرئيس لهيئة أركان القوات المسلحة وتعينه سفيرا.
وفي عام 1978 أصدر الرئيس أنور السادات مذكراته البحث عن الذات واتهم فيها الفريق الشاذلي بالتخاذل وحمله مسؤولية التسبب بالثغرة ووصفه بأنه عاد منهاراً من الجبهة يوم 19 أكتوبر وأوصى بسحب جميع القوات في الشرق، هذا ما دفع بالفريق الشاذلي للرد على الرئيس أنور السادات بنشر مذكراته (حرب أكتوبر) والتي فضح فيها السادات وقراراته أثناء الحرب.
لم يتغير الوضع في عهد مبارك والذي عمل جاهدا على إيجاد قادة على رأس الجيش يكونوا ضعفاء، خاصة بعد المشير أبو غزاله - والذي أصبح وزير للدفاع أواخر عهد السادات – لكن لكفاءته وقدرته على استيعاب الضباط والجند وزيادة شعبيته، مما دفع مبارك للإطاحة به عام 1989م، وتعين الفريق أول يوسف صبري أبو طالب كمرحلة انتقالية حتى تم تعيين المشير طنطاوي.
السيسي ورفاق انقلابه
حفلت الفترة الأولى للسيسي بأكثر مما حفل به تاريخ عبد الناصر من الإطاحة برفقاء الانقلاب، فكانت البداية بالفريق أسامة أحمد الجندي قائد القوات البحرية والذي شاركه يوم الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ثم كان أحمد وصفي والذي كان قائد للجيش الثاني الميداني قبل أن يطيح به ويعينه رئيس هيئة تدريب القوات المسلحة في مارس 2014م ثم يجعله مساعد وزير الدفاع بلا صلاحية.
ولم يكن أسامة عسكر أفضل حاليا من سابقيه والذي كان قائد للجيش الثالث الميداني ثم قائد منطقة شرق القناة ومكافحة الإرهاب، قبل أن يعفيه السيسي من المناصب التنفيذية ويجعله مساعد وزير الدفاع. وكانت المفاجأة هو الفريق محمود حجازي رئيس أركان القوات المسلحة والذي – كما وردت التقارير- خاف السيسي من تزايد نفوذه داخل الجيش ولدى الغرب فعمد للإطاحة به في 28 أكتوبر 2017م.
وكما عمل عبد الناصر مع عامر، قام السيسي بنفس السيناريو مع رفيقه في الانقلاب على مرسي – رغم حصانة الدستور له كوزير للدفاع- لكن قام السيسي بالإطاحة به 14/6 /2018م
بل وصل الحال لمحاولة لاغتياله في 19 ديسمبر 2017م ولا يعرف من وراء هذه المحاولة.
ثم لحق به عبدالمنعم ألتراس قائد الدفاع الجوي، ويونس المصري قائد القوات الجوية وغيرهم كثيرا، بل أن كثير من الرتب العسكرية داخل السجون سواء ما زالت في الخدمة او خارجها أمثال الفريق سامي عنان – رئيس الأركان السابق- وأحمد شفيق – خرج بعد اعتزاله الحياة السياسية- وأحمد قنصوة ومعصوم مرزوق وغيرهم الكثير.
وإن دل ذلك فيدل أن دائما دولة العسكر إلى زوال لعدم قدرتها على التجانس والتأقلم مع طبيعة الشعوب على الرغم من قوة قبضتها الأمنية.