سليمان خاطر (السلام ..الموساد.. الموت)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سليمان خاطر
السلام ..الموساد.. الموت

إهداء

إلى سليمان خاطر نفسه ...

إلى الشمعة التي حسرت الظلام عن سيناء .. ثم أجبرت على الاحتراق! !

بدون مقدمة

قبل أن يطلق "سليمان خاطر" رصاصات بندقيته الآلية على (الإسرائيليين) في سيناء المنزوعة السلاح لم يكن يستحق كتابا عنه ..

بعد أن وقع هذا الحادث أصبح الكتاب ممكنا .. لكن ... بمقدمة .

وبعد أن مات سليمان خاطر وقامت الدنيا ولم تقعد .. لم يعد الكتاب في حاجة إلى مقدمة.

عادل حمودة
مصر الجديدة
10 فبراير 1986

قفوا ... ممنوع المرور! !

  لا أحد يستطيع بسهولة أن يحدد بدقة موقع "رأس بركة" على خريطة جنوب سيناء!

بل .. ربما لم يسمع سوى عدد قليل جدا من المصريين بهذا الاسم من قبل .. فالمنطقة التي تقع فيها لا تغري بالإقامة الدائمة، حتى لبدو سيناء الرحل ... أكثر خلق الله قدرة على التكيف مع الصحراء، والجبال، والأماكن الصعبة .. والمنطقة ليست لها أي سمعة أو شهرة سياحية بالمرة .. وأغلب إعلانات وبرامج التسويق السياحي لجنوب سيناء لا تتحدث إلا عن "نويبع" و "ذهب" و "شرم الشيخ" .. وذلك رغم أنها تقع في منتصف المسافة تقريبا بين "نويبع" و "طابا" وهما مركزان هامان من مراكز الجذب السكاني والسياحي في جنوب سيناء ...

والمنطقة التي تقع فيها منطقة صخرية .. شديدة الوعورة ... صخورها من أصل ناري .. تمثل جذور جبال قديمة أتت عليها عوامل التعرية منذ بدء الزمن الأول، وصخورها من شدة القدم تراوح لونها بين اللون الأسود .. واللون البني الغامق وتراكمت صلابتها حتى أصبحت تنافس في حدتها نصل الخناجر والسكاكين .. وبسبب ندرة المياه، وحرقة الشمس، وصعوبة الحياة، وحصار الصخور والرمال، لا يعيش في هذه المنطقة سوى عدد ضعيف من البدو .. من قبائل تسمى "الجرارشة" و "الصوالحة" ... وقد تناقص هذا العدد بدخول المدنية ونشاط السياحة في المناطق القريبة منها .. والذين بقوا منهم عاشوا على تقديم بعض الخدمات لقوات الجيش المصري التي كانت تتمركز هناك قبل يونيو 1967 .. ثم أصبحوا يقدمون نفس الخدمات لقوات الأمن المركزي الآن، وذلك بعد انسحاب (إسرائيل) منها، وبعد توقيع معاهدة "كامب ديفيد" بينها وبين النظام المصري، واعتبار كل جنوب سيناء منطقة منزوعة السلاح، لا يتواجد فيها من الجانب المصري سوى جنود الشرطة المدنية فقط .. أما جنود الجيش فممنوع عليهم التواجد أو التمركز هناك .. وممنوع على أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة أيضا .. ولا توجد سوى الأسلحة الخفيفة المناسبة فقط للدفاع الشخصي في يد جنود الأمن المركزي .. والمسيطر الحقيقي على المنطقة كلها القوات متعددة الجنسية التي لها كل الحق في مراقبة أي اختراق لمعاهدة "الصلح" بين النظام المصري و "إسرائيل".

ومنطقة "رأس بركة" تتبع "نويبع" إداريا .. وأمنيا .. وتطل مباشرة من ناحية الشرق على خليق "العقبة" ... وعلى الخليج مباشرة تقع النقطة "46" – أمن مركزي التي تتبع سرية الأمن في "نويبع" والنقطة عبارة عن مجموعة من الأكشاك أيضا توجد المكاتب وأماكن الشئون الإدارية .. وحول هذه الأكشاك التي تعطي ظهرها إلى مياه الخليج أسلاك شائكة .. أما وجهها فيطل – ناحية الغرب – على الطريق المرصوف الذي يربط نويبع بطابا .. وعدد هذه الأكشاك ثلاثة ... أكبرها وهو المبنى الرئيسي مساحته 7 × 10 متر وهو عنبر للنوم.

والذي يقف على شاطئ الخليج عند هذه النقطة، يستطيع أن يرى الساحل السعودي على الناحية الأخرى. ويربط طريق (مدق) ضيق، لا يسمح بمرور السيارات وإنما الأفراد فقط، بين هذه النقطة ونقطة مراقبة أخرى تتبعها توجد على هضبة من الصخور، وفوق هذه الهضبة يوجد كشك من الخشب مغطى بالصاج والبطاطين (مساحته 5×8 متر) وله شرفة تطل على الخليج .. وخلفه من ناحية اليسار إلى الغرب منطقة منخفضة نسبيا ... وعلى شمال الكشك سارية علم، يلمح ما يرفرف عليها السائرون على الطريق الأسفلتي، وأفراد النقطة أسفل الهضبة على بعد نصف كيلو متر، والسائحون الذين ينصبون خيامهم تحتها مباشرة على شاطئ الخليج .. وهذه الخيام تكون ما يمكن وصفه بالمعسكر ... وهم غالبا ما يكونون في حدود 20 أسرة .. أو في حدود 100 شخص.

في هذه النقطة المرتفعة يوجد جهاز إشارة، وتحويلة تليفون تتصل بالنقطة الأصلية، وصندوق سلاح توجد به فقط بندقيتان طراز "آلي" صناعة مصرية (عيار 7.62× 9مم) وخزائن ذخيرة لا يزيد عدد طلقاتها على 600 رصاصة (300 رصاصة لكل بندقية)، وأمتعة شخصية داخل "دواليب" للجنود الذين يخدمون فيها، وهم خمسة جنود، اثنان منهم للاستطلاع هما: الرقيب سليمان خاطر (25 سنة) وهو الحكمدار .. والجندي عطية إبراهيم علي (23 سنة – من الشرقية) .. وهما الوحيدان المسلحان .. وفي النقطة جنديان يعملان على "جهاز خاص" داخل الكشك، هما: حسونة عبد المجيد حمودة (22 سنة – من دمياط) وحسن علي الخولي (24 سنة – من الشرقية) .. أما الخامس ففرد مراقبة، اسمه علي إبراهيم محمد (22 سنة – من الشرقية).

في هذا الموقع التقليدي – بلغة أهل السينما – وقع حادث سليمان خاطر ... كان ذلك قبل غروب شمس يوم السبت 5 أكتوبر 1985 ...

بالتحديد بين الساعة الرابعة والنصف والساعة الخامسة من بعد الظهر .. وهي فترة تنكسر فيها خيوط الشمس المضيئة، ويذبل بريقها، ويختلط لونها الأصفر بحمرة الغروب المبكر .. وهي فترة تقل فيها درجة الرؤية .. ويستعد فيها الظلام للهبوط المفاجئ والسريع (أسرع من أي منطقة أخرى خاصة في الشتاء) ناشرا أجنحته السوداء على المنطقة كلها دون أي إنذار مبكر .. ودون أي تكاسر..

في ذلك الوقت .. كان كل شيء هادئا في نقطة المراقبة المرتفعة ..

لقد جاء "تعيين" أفراد النقطة متأخرا بعض الوقت .. وكان "دجاجا" .. فسارعوا بطبخه .. وعندما راحوا يتناولونه اكتشف سليمان بقع دم في قطعة الدجاج التي كانت من نصيبه .. فرفض تناولها .. وقام – دون أن يأكل – ليتولى نوبة خدمته الأخيرة ...

إن هذه الخدمة هي خدمته الأخيرة .. ويومه هذا هو يومه الأخير في تجنيده .. ويومه الأخير في هذا الموقع الذي قضى فيه 120 يوما بالتمام والكمال .. وهذا ما جعله يقوم بتجهيز كل مهماته وعهدته تمهيدا لتسليمها بعد نوبة الحراسة في المقر الرئيسي بشرم الشيخ، ليغادر سيناء بعدها إلى قريته "أكياد""شرقية". المسئول عن تسلم مهماته، لسؤاله عن "صور" التعبئة الخاصة بإنهاء خدمته .. وهذا ما جعله يشعر بسعادة غامرة، ويحزم وسطه، ويرقص، وسط غناء بقية المجموعة "سينا رجعت كاملة لينا .. مصر اليوم في عيد".

ولا بد أن سليمان وهو واقف في نوبة حراسته الأخيرة كان حالما .. يفكر في أمه التي يحبها ويتحمل مسئوليتها .. ولا بد أنه كان يفكر في مساعدتها بزراعة الفدان الوحيد الذي تملكه الأسرة .. ولا بد أنه كان يفكر في استكمال دراسته الجامعية في حقوق الزقازيق .. لا بد أنه كان غارقا في التفاؤل والأمل، وفي رسم خطة جديدة لمستقبله ...

لقد ترك زملاءه يواصلون تناول طعامهم ومرحهم في انتظار أن "يحبسوا" بسجائر "الكيلوباترا" أو سجائر "السوبر" كما يسمونها، والتي أرسلوا زميلهم حسونة منذ فترة ليشتريها لهم ... تركهم على هذه الحالة وراح يقف خلف الكشك في المنطقة المنخفضة نسبيا ويراقب الطريق والخليج بعين مدربة وواعية .. وكان منهمكا في عمله إلى حد أنه لم يلاحظ – بعد فترة وجيزة – أن زميليه عطية إبراهيم وعلي إبراهيم قد انتقلا للجلوس على البحر، وراحا يدردشان في ظروف المعيشة الصعبة .. وفي تصرفات السياح (الإسرائيليين) الذين لا يستحون، ويتصرفون في سيناء كما لو كانت "عزبة أبوهم" على حد قول أحدهما.

في نفس الوقت تقريبا .. في أسفل الهضبة .. عند الخيام التي على الشاطئ .. كانت مجموعة من (الإسرائيليين) تستعد لصعود الهضبة ...

لقد جاءت هذه المجموعة من آخرين إلى رأس بركة قبل يومين .. في عصر يوم 3 أكتوبر .. كانوا خمس عائلات، وصلوا المنطقة معا في أربع سيارات ..

حوالي الساعة الرابعة والثلث قررت المجموعة الصعود ..

كانوا 12 شخصا .. منهم ثلاثة كبار هم القاضي "هامان شيلح" وزوجته "إيلانا" وصديقتهم "انيتا جريفل" وكان الآخرون وعددهم تسعة من الفتيان الذين ينتمون للعائلات الخمس

صعدوا الجبل من ناحيته المطلة على نقطة المراقبة، عبر المدقات الرملية التي تتخلل صخوره .. وبينما هؤلاء يصعدون الجبل، كان سليمان خاطر يستطلع المكان بمنظار مكبر، وكان سلاحه – كعادته دائما – معمرا وجاهزا للإطلاق، على عكس زميله عطية إبراهيم .. وبسبب كثرة المرتفعات والمنخفضات فإن سليمان لم ير الصاعدين من أسفل الجبل، ولم يرهم إلا بعد أن أزاح المنظار المكبر من على عينيه، وكانوا قد أصبحوا على بعد 50 مترا من الكشك .. وقد رآهم هو وزملاؤه بالعين المجردة .. فتحرك ليقابلهم ..

كانوا حسب رواية شهود العيان عبارة عن رجل ممتلئ يرتدي جلبابا من ذلك النوع الذي يرتديه السياح عادة ... وامرأة ترتدي مايوه قطعة واحدة .. وأخرى ترتدي مايوه "بكيني" من الطراز المفضوح الذي يكشف البطن وبعضا مما تحتها .. والذي ينافس في صغر حجمه ورقة "التوت" أو ورقة "البوستة" .. وعدد من الفتيان والفتيات .. كانوا جميعا يسيرون في كتلة واحدة .. أو "حزمة" واحدة حسب ما رواه سليمان .. ثم حدث ما حدث ..

وفيما بعد روى سليمان خاطر تفاصيل ما جرى للنيابة العسكرية:

س: ما قولك فيما هو منسوب إليك؟ !

ج: أنا كنت ماسك خدمة في يوم 5/ 10/ 1985 ... وتبدأ في الساعة الثانية ظهرا ... وكنت على نقطة مرتفعة من على الأرض 150 متر وقاعد في مكاني اللي على هيئة صحن وتحتي الخليج ... وأنا ماسك خدمة ومعي السلاح، شفت مجموعة من الأجانب (لم يقل مجموعة من الإسرائيليين) ستات وعيال وتقريبا راجل، وكانوا طالعين لابسين مايوهات منها بكيني ومنها عري ...

فقلت لهم:

- ستوب .. نو باسينج! ! Stop .. No Passing أي "قفوا .. ممنوع المرور".

قالها سليمان بالإنجليزية التي يجيد التحدث بها في مثل هذه الحالات، والتي اعتبرها أحد زملائه من مميزاته التي يستغلون معرفته بها في منع الأجانب من الموقع.

ولكن .. لا حياة فيمن تنادي .. لم يستجب أحد منهم للتحذير .. ولم يقفوا ...

ويضيف سليمان:

- ما وقفوش خالص ... وعدوا الكشك وكانوا حزمة واحدة والكلام ده كان الساعة الخامسة تقريبا والشمس غابت، لأن الشمس بتغيب في المنطقة دي – علشان الجبال مرتفعة – من خمسة إلا ربع .. وأنا كنت موجه السلاح في العالي وهم مش سائلين في وطالعين على يمين التبة .. وأنا راجل واقف في خدمتي وأؤدي واجبي وفيه أجهزة ومعدات ما يصحش أي حد يشوفها، والجبل من أصله ممنوع أي حد يطلع عليه سواء مصري أو أجنبي، وأنا إيدي كانت محملة على التتك، وأنا دايما معمر سلاحي طول ما أنا في النقطة والحكاية دي معروفة عني .. إن دايما فيه طلقة جاهزة في الماسورة ... علشان المنطقة دي دايما فيها وحوش (ذئاب وضباع) وكذلك بنسمع عن البدو إنهم ممكن يعملوا أي حاجة فأنا بابقى عامل حسابي ومحرص ..

فإيدي لما جت على التتك طلع عدد من الطلقات ما أعرفوش ولقيت ناس بتجري .. منهم واحد وقع .. جريوا أمام الطلقات وأنا ساعتها ما درتش بنفسي وما عرفتش باعمل إيه، ضربت النار تاني وإلا ضربت عليهم تاني .. وقفت عامل زي المجنون ومش داري بنفسي .. وبقيت مرة أضحك ومرة أعيط ...

ونترك لسليمان فترة وجيزة يلتقط فيها أنفاسه .. لنتأمل ما حدث ...

1 – إن من الواضح أنه فوجئ بهم أمامه على بعد 50 مترا فقط.

2 – أنه حذرهم بأكثر من أسلوب: أشار لهم بيده .. طلب منهم عدم الصعود .. قال لهم باللغة الإنجليزية "قفوا ممنوع المرور" .. وبإطلاق رصاصات تحذير.

3 – أنه وهو يطلق رصاصات التحذير أصاب أحدهم .. ففقد السيطرة على نفسه.

4 – أنه كان يشعر بأن عليه مسئولية كبيرة وهي حراسة أجهزة ومعدات "ما يصحش حد يشوفها" وأنه إزاء هذه المسئولية كان لا بد من إيقافهم بأي طريقة حتى ولو كانت هذه الطريقة إطلاق أعيرة تحذير في الهواء ... لكن رصاصة من رصاصات التحذير أصابت أحدهم، وأفقدته السيطرة على نفسه، وأفقدهم الرعب التحكم في أنفسهم، فراحوا يعدون في مرمى النيران التي أدركت سبعة منهم ...

ولعل من المفيد هنا، أن نعرف تفسير الحادث من وجهة نظر الأطباء النفسيين الذين فحصوا سليمان بعد ذلك ...

قال هؤلاء الأطباء:

- إن سليمان عندما رأى "بعض الأشخاص يتقدمون نحوه" أحس "بالخوف الشديد يتملكه خصوصا أن هذه أول مرة يتقدم منه أشخاص في غير أوقات النهار .. ولجأ سليمان إلى الكلمات الإنجليزية التي تعود أن يستخدمها لإبعاد هؤلاء الغرباء الذين يقتربون من موقعه، ولكن هذه الكلمات لم تؤد هذه المرة إلى أي نتيجة .. وشعر سليمان بالرعب يتملكه وبدأ يفكر في هؤلاء الأشخاص .. من هم .. وما يمكن أن يحدث منهم .. ومن يكون وراءهم .. وماذا يمكن أن يحدث للوطن إذا تقدموا أكثر من ذلك؟ ! ولجأ سليمان إلى التظاهر بأنه سيطلق النار على هؤلاء الأشخاص حتى يخافوا وينصرفوا، ولكنه كان هو الخائف والمرتعد وهو يمسك بسلاحه ويتخشب عليه حتى انطلقت طلقة يذكر أنه فوجئ بها، حيث وجد أن شخصا وقع على الأرض والدماء تنزف منه .. ويتذكر سليمان أنه إذ رأى منظر الدم لم يدر ماذا حدث بعد ذلك حتى وجد نفسه بعد فترة قصيرة راقدا في مكان آخر على الجبل".

وفي تلك اللحظات النفسية التي مر بها سليمان، فكر في الانتحار .. وقال للمحقق:

- أنا حطيت السلاح في صدري وعايز أضرب نفسي ... وزميلي علي إبراهيم شهد بذلك ... وأنا عمري ما تخيلت أني ممكن أفكر أن أضرب نفسي بالنار ... وأنا كنت حضرب نفسي بالنار ولكن "علي" قال لي: "مش حتضرب نفسك بالنار يا سليمان ... لو أنت ضربت نفسك أنا حضرب نفسي بعدك".

وفيما بعد سئل الجندي علي إبراهيم:

س: هل حاول الجندي سليمان الانتحار بعد أن أطلق النار على من أطلقها عليهم؟

ج: أيوه يا فندم، حط ماسورة البندقية على صدره وأنا قلت له "مانتش حتموت نفسك يا سليمان، لو حتموت نفسك يبقى حرام".

وبسبب كلمة "حرام" التي قالها الجندي علي إبراهيم تراجع سليمان عن محاولة الانتحار على الفور!

ولا تتجاوز النيابة العسكرية التفاصيل بالطبع ..

وتسأل سليمان:

س: هل أنت متأكد أن هؤلاء الأجانب قد تواجدوا في النقطة بعد مغيب الشمس؟

ج: نعم.

س: هل تتذكر عدد الطلقات التي خرجت منك أول مرة؟

ج: لا.

س: هل تستطيع أن تذكر الحالة التي كان عليها المجني عليهم وقت إطلاقك أول دفعة نيران وهل أصيب من جرائها أي أحد منهم؟

ج: ما افتكرش.

س: بماذا تعلل التصرف الذي أتيته؟

ج: طبعا لأنهم طلعوا في مكان ممنوع وأنا ما كنتش قاصد أضرب .. بس عملية تهديد علشان إحنا أربعة بس والمكان

ده ممنوع ومفيش معانا إلا سلاحين وهم عدد كبير ..

س: على كثرة عدد المتواجدين إلا أنهم جميعا كانوا أطفالا ونساء وكانوا عزل من السلاح، بشكل ظاهر، فبماذا تعلل إذن إطلاقك النار؟

ج: دي منطقة ممنوعة، وممنوع أي حد يتواجد فيها وده أمر، واللا يبقى خلاص نسيب الحدود فاضية وكل اللي تورينا جسمها نعديها.

وفيما بعد سئل سليمان:

- إن كانوا قد اجتازوا التل إلى نقطة الحراسة، أما كان يجب أن تضع في التقدير أن معظمهم من النساء والأطفال؟ وإن أحدا منهم لم يصدر عنه ما يمكن أن يكون عامل استفزاز لك؟

فرد سليمان:

- مسئوليتي حراسة الموقع، وأنا لم أقتل أطفالا ولم أر أطفالا، كانت الشمس قد غابت وكان الظلام قد حل، ورأيتهم يصعدون التل حزمة واحدة .. لقد كان أصغرهم يقاربني طولا ... هذا ما رأيته .. الخوف والظلام ورفضهم الأوامر والقلق الذي اعتراني وخوفي من أن يقع شيء في اللحظة الأخيرة من فترة تجنيدي، يعوق خروجي .. كل تلك العوامل أسهمت في الحادث.

وتسأله النيابة العسكرية :

س: أين كان سلاحك وقت صعود الأجانب للنقطة؟

ج: السلاح كان بيني وبينه متر.

س: هل سحبت أجزاء سلاحك على الأجانب وأحضرته وجهزته للإطلاق عندما لم يمتثلوا لاعتراضك لهم؟

ج: أنا سلاحي جاهز على طول والمفروض إن كل واحد سلاحه يكون جاهز!

وفيما بعد أقر زملاء سليمان أمام النيابة العسكرية ...

وقال الجندي عطية إبراهيم:

- سليمان سلاحه دايما جاهز .. من يوم ما رحت النقطة كان بيبقى منظفه ومجهزة ومركب فيه خزنة، وشادد طلقة وباقي الطلقات بجانبه .. كان دايما سلاحه متعمر .. وجاهز.

وقال نفس الكلام تقريبا الجندي علي إبراهيم ...

وسئل سليمان:

س: ألا تعلم أنه محظور إطلاق النار على أحد؟

ج: هو ممنوع أضرب النار كمان على عدوي؟

س: ومن هو العدو في نظرك؟

ج: كل واحد يتعدى حدود المسموح أو حدود الدولة سواء مصري أو أجنبي!

س: هل أظهر هؤلاء الأجانب أي عمل عدائي جعلك تطلق النار عليهم؟ وهل كانت تعلم جنسياتهم من أي عبارة قالوها؟

ج: لا أعلم جنسياتهم وما حدش منهم أظهر عمل عدائي بس أنا باعتبر أي واحد يخش على النقطة يبقى عمل عدائي، أما أنتم قلتم ممنوع ليه؟ .. قولوا لنا نسيبهم واحنا نسيبهم يدخلوا الشاليهات ويرقصوا فيها.

س: ألم تعلم – وأنت على درجة عالية من الثقافة والتعليم – أن ما أتيته كان من الممكن أن يتمخض عنه عواقب وخيمة؟

ج: أنا لو كل واحد أسيبه يخش النقطة، ولو كل عسكري على الحدود ساب برضه حتحصل عواقب وخيمة.

س: لماذا تصر على تعمير سلاحك؟

ج: لأن اللي يحب سلاحه يحب وطنه ودي حاجة معروفة، واللي يهمل سلاحه يبقى مهمل في وطنه!

س: منذ متى وأنت معك نفس السلاح؟

ج: من 24/ 2/ 1984 وأنا في نفس المكان ومعي نفس السلاح .. يعني سنة، وثمانية أشهر تقريبا والسلاح ده معايا.

س: هل تستطيع أن تتذكر بعض أرقام هذا السلاح؟

ج: أنا فاكر رقم السلاح بالضبط وهو رقم 1223408!

وفوجئ رئيس نيابة السويس العسكرية الذي يتولى التحقيق معه أن الرقم صحيح .. وفوجئ أيضا أن رقم السونكي المركب على السلاح (408) هو نفسه الرقم الذي ذكره له سليمان بعد ذلك.

س: بماذا تبرر تذكرك لرقم سلاحك؟

ج: لمدى حبي له .. زي كلمة "مصر" تمام! !

س: كيف تذكرت رقم السلاح بهذه الدقة وكذا رقم السونكي بينما تاه عن ذاكرتك العديد من الحوادث والأحداث منذ أن أطلقت النار؟

ج: دا سلاحي .. وبأنام به على طول سنة وثمانية شهور ولم أعاشر أخي سنة وثمانية أشهر زيه .. إنما الحادث ده حاجة لا تتكرر!

قبل أن يطلق سليمان خاطر الرصاصات الأولى ... كان قائد النقطة الضابط طارق سلطان داخل أحد الأكشاك أسفل الجبل، وكان معه أمين الشرطة جمال رياض .. وكانا يقومان بجرد عهدة النقطة ... وبعد أن سمعا تلك الرصاصات خرجا من مبنى النقطة.

كان الضابط طارق سلطان بالقرب من الباب فخرج أولا وبسرعة .. ثم لحق به الأمين جمال رياض.

وقال الضابط للمحقق العسكري: إنه شاهد "المتهم" وهو يجري ويهدد السياح .. ولكنه تراجع عن هذا الكلام، بعد أن اندهش رئيس النيابة العسكرية من كيفية تمييز "المتهم" على بعد نصف كيلو متر (المسافة بين النقطة ومركز المراقبة) خاصة والشمس قد غربت .. واستبدل عبارة "أنا شفت المتهم" بعبارة أخرى هي: "أنا شفت واحد ماسك في إيده سلاح".

وقال أمين الشرطة جمال رياض:

- بعد أن خرجت على صوت الطلقات، لمحت عدد من الأجانب عند نقطة الملاحظة اللي على التبة .. اتنين منهم وقفوا .. وعدد تاني جرى وما قدرتش أميز لبعد المسافة .. وشفت شخص عسكري لابس ميري في دائرة بعد الكشك من الناحية الشمالية بحوالي عشرة أمتار وهو مكان مصدر النيران .. وكان واقف ساعة ما كان بيضرب النار وبعدين بطل ضرب .. وبعدين راح راجع جرى على التبة اللي في الجنوب وهي تبة مرتفعة شوية فأمكننا مشاهدته عن بعد بالكامل لأنه كان على خط السماء وأطلق دفعة من النيران وبطل ضرب ... وعلى هذا النحو ... كان مشهد الحادث من أسفل الجبل .. وعلى بعد 500 متر وهو مشهد – بلغة السينما – يسمى "بانوراما" .. ويفضح كل التفاصيل!

رغم حالة الانهيار التي أصابت سليمان خاطر، والتي كان فيها – على حد قوله – كالمجنون، إلا أنه أنه لم ينس أن يصرخ محذرا: "اقفلوا الطريق أحسن سيارة تبلغ (إسرائيل) و (إسرائيل) تهجم علينا .. لحد ما رئاسة القطاع تاخد علم". وطلب من زميله الجندي عطية إبراهيم أن ينزل ليبلغ الضابط طارق سلطان هذا التحذير ... واستجاب عطية للأمر .. ونزل .. وقد وصف الضابط طارق سلطان حالة عطية وهو يقترب منه أسفل الجبل بأنه كان "يتسحب" وبمواجهته الأمين جمال رياض تراجع عن هذا الوصف ...

وقال طارق سلطان:

- إن عطية عندما اقترب منه قال له: سليمان ضرب الأجانب بالنار .. وبيزعق وبيقول: أي حد حيقرب منه حيضربه بالنار! !

وبمواجهته بالأمين جمال رياض ثبت أن ذلك غير صحيح، ثم تراجع عنه قائلا: "الحقيقة .. أنا مش فاكر".

وقد سئل سليمان:

س: ألم تخبر الجندي عطية إبراهيم بعد إطلاقك أول دفعة من النيران أنك ستضرب الأجانب بالنار وطلبت منه الإبلاغ عن ذلك؟

ج: أنا ما طلبتش منه غير أنه يقفل الطريق علشان ما حدش يبلغ (إسرائيل) والبلد تنضر وغير كده مفيش .. ودي منطقة منزوعة السلاح وممكن اليهود يعملوا حاجة بسرعة وياخدوا ده كله! !

وبمجرد أن تأكد قائد النقطة طارق سلطان أن سليمان هو الذي يطلق النار، اتصل على الفور بالرائد أحمد الشيخ، قائد ثاني سرية الأمن المركزي بنويبع والمقدم حسن خلف قائد السرية وأبلغت السرية قطاع الأمن المركزي بجنوب سيناء ومقرها شرم الشيخ - (على بعد 206 كيلو مترات ويرأسه العميد بهاء حرب توفيق).

وأصدر قائد النقطة أوامره للجنود الذين تحت يده بحصار النقطة الأرضية، ففعلوا ذلك، ورفعوا بنادقهم، وبدا عليهم الانفعال والتوتر.

وسارع من جهة أخرى بالاتصال بمستشفى نويبع لإرسال سيارة إسعاف وأخصائيين .. على الفور.

وقبل أن يصل رجال الإسعاف، كان أربعة من الفتيان والبنات قد نجحوا في النزول من الجبل، وكان هؤلاء من بين أفراد المجموعة التي كانت أعلى الجبل .. وكان من بينهم اثنان مصابان إصابات سطحية .. أخدهما محام إسرائيلي كان على الشاطئ اسمه جيراكورن (52 سنة) .. كانت ابنته من بين الأربعة الذين نجوا، واسمها "نعمة" .. أخذهما في سيارته لنقلهما إلى مستشفى نويبع .. وقد لاحظ وهو في الطريق أن معظم الطرق كانت مغلقة بالبراميل، والحواجز الحديدية .. وبعض الجنود المسلحين.

بعد أن أنهى الضابط طارق سلطان اتصالاته الأولية، قال له أمين الشرطة جمال رياض:

- لازم يا فندم نطلع فوق نشوف إيه اللي بيحصل!

فرد عليه:

- اطلع أنت!

وأخذ الأمين جمال رياض طريقه إلى أعلى .. إلى موقع مركز المراقبة .. سلك طريق مدق، وعر .. وفي منتصف الطريق سمع صوت طلقات رصاص .. على دفعات .. كل دفعة ما بين ثلاث إلى أربع رصاصات.

فزعق:

- قولوا لسليمان ... الأمين جمال هوه اللي طالع!

توقف الرصاص .. وواصل الرجل صعوده .. وعندما وصل إلى النقطة، قال له سليمان:

- ادخل! ادخل النقطة على طول!

فدخل!

دخل الأمين جمال رياض، وراح يطمئن على باقي أفراد النقطة، وعندما اطمأن قال لسليمان:

- أنا حروح أشوف الناس المصابة علشان لو حد سليم أنزله يسعفوه.

فرد عليه سليمان:

- روح.

وبمجرد أن اقترب الأمين من موقع ضرب الرصاص اكتشف على الفور وجود سبعة أشخاص فارقوا الحياة.

وفيما بعد ...

قال الرجل في شهادته أمام النيابة العسكرية:

"رحت شفت الناس لقيتهم خمسة فوق حول الموقع على التبة الشمالية، خلف الكشك، وتتبعت آثار الدماء فوجدت اثنين، واحد ساقط من جنب العلم والثاني من جنب المدق على الرمل .. ولقيتهم جميعا فارقوا الحياة".

وبعد هذه المعاينة السريعة قال لسليمان:

- أنا نازل للنقطة!

فقال له:

- انزل!

وفعلا .. نزل.

س: هل حاول سليمان خاطر إصابة أي شخص في النقطة؟

ج: لم يعتد سليمان على أحد في النقطة وتركني أطلع وأنزل تاني.

س: هل في محاولة صعودك أو هبوطك من النقطة، وقع عليك أي عنف أو تهديد من سليمان؟

ج: لا .. هو قال لي انزل بعد ما شفت المجني عليهم.

وكانت هذه الإجابة بمثابة تكذيب من قال: إن سليمان بيهدد كل من يقترب منه وبيقول إنه حيضربه بالنار! وفيما بعد سئل سليمان في هذا التهديد بالذات ...

س: هل هددت أيا من زملائك بإطلاق النار عليهم؟

ج: الله أعلم .. أنا مش ممكن أضرب زميلي أبدا أو أي واحد مصري إلا إذا جاءني بالليل وطلبت منه أن يثبت مكانه ورفض!

وتسأل النيابة العسكرية الأمين جمال رياض.

س: حينما دخلت للنقطة هل كان يوجد بها سلاح باقي أفرادها؟

ج: أنا ما لمحتش .. وكان همي كله على الاتصالات و "الجهاز".

س: ما هي الفترة التي استغرقتها داخل النقطة، واستغرقتها في مناظرة المجني عليهم؟

ج: أنا بقيت في النقطة حوالي دقيقة وعلى ما لفيت على المجني عليهم ورجعت تاني بتاع خمس أو ست دقائق.

س: متى تحركت من النقطة الرئيسية إلى النقطة التي وقع فيها الحادث؟

ج: بعد سماع الطلقات بحوالي 10 دقائق.

س: ما هي الفترة التي استغرقتها من الوصول من النقطة إلى نقطة الملاحظة؟

ج: حوالي عشر دقائق.

س: معنى ذلك أنه منذ إطلاق النار الأول وحتى وصولك للنقطة ومعاينتك للمجني عليهم، كان مضى من الوقت حوالي 25 دقيقة تقريبا؟

ج: نعم .. بالكثير نصف ساعة لحد ما شفت المجني عليهم وابتديت أنزل.

س: هل كانوا جميعا قد فارقوا الحياة عندما وصلت إليهم؟

ج: نعم.

س: ما هي الحالة التي كان عليها المتهم وقت صعودك للنقطة؟

ج: أنا كنت على بعد 30 متر منه .. وكان عصبي فقط، وقال لي: ما حدش يقرب منه .. وقال لي أيضا: خش النقطة على طول.

لم يكتف سليمان خاطر بأن يفهم قائد النقطة – من صوت الرصاص – ما حدث .. وأن يتولى – بعد ذلك – إبلاغ السرية والقطاع نفسه، وإنما طلب سليمان من زميله الجندي حسن علي الخولي أن يقوم بهذه المهمة أيضا .. ويرسل إشارة إلى السرية والقطاع من جانبه.

إن حسن الخولي كان لحظة الحادث في مكان خدمته على "الجهاز" داخل الكشك .. وعندما سمع الرصاصات الأولى خرج على الفور .. وعندما وجده سليمان أمامه طلب منه أن "يخش جوه الكشك" .. ودخل حسن الكشك، وبعد فترة دخل سليمان عليه، وقال له:

"بلغ إن أنا ضربت نار على الأجانب".

وقال حسن الخولي للنيابة العسكرية فيما بعد:

- "هوه دخل علي وكان ماسك السلاح في إيده الشمال وكان لونه متغير .. وقال لي: بلغ السرية والقطاع إن سليمان ضرب الأجانب بالنار .. وأول مستلم للبلاغ مني كان في السرية، وكان الجندي "السيد المندوه" .. ومن القطاع مش فاكر .. أو مش متأكد مين المستلم".

وقال: إنه بعد أن صعد الأمين جمال رياض طلب منه إبلاغ إشارة أخرى.

س: ما هو مضمون الإشارتين؟

ج: الأولى كانت بلاغ مش مكتوب وقلت للسيد المندوه: سليمان ضرب نار على الأجانب، والثانية اللي كتبها الأمين جمال، واللي فاكر منها إن فيه سبع أشخاص متوفين!

أكثر من إشارة وصلت الرائد أحمد الشيخ (نائب سرية الأمن بنويبع)، تفيد بوقوع الحادث .. وبدون تفاصيل تزيد على أن "أحد الجنود في النقطة 46 أطلق الرصاص على أجانب"... وتحرك الرائد أحمد الشيخ لقائد السرية المقدم حسن خلف، وتوجها معا إلى مكان النقطة .. وهناك تأكد من صحة الخبر من الضابط طارق سلطان .. كان ذلك بعد حوالي ساعة ونصف من لحظة إطلاق الرصاصات الأولى، تقريبا .. ثم غادر الرائد أحمد الشيخ موقع النقطة متوجها إلى مؤخرة السرية، وعاد من جديد للنقطة بعد مرور ساعة أخرى من الزمن وهو يحمل معه جهاز إشارة.

ولا نعرف لماذا اهتم الرائد أحمد الشيخ بإحضار جهاز الإشارة هذا من مؤخرة السرية إلى النقطة؟ ! وما هي العلاقة بين هذا الجهاز والجهاز الذي كان تحت حراسة سليمان، وقتل في سبيله سبعة من (الإسرائيليين) ؟ وما علاقة الإجابة على هذين السؤالين، وحالة القلق والفزع التي نقلت من سليمان خاطر إلى ضباط المنطقة، إلى حد أنهم أغلقوا الطرق، وأعلنوا – قدر استطاعتهم – حالة الطوارئ؟ !

وفي الفترة التي ذهب فيها الرائد أحمد الشيخ لإحضار جهاز الإشارة، قرر بعض ضباط الأمن المركزي والشرطة، الصعود إلى سليمان وإقناعه بتسليم نفسه .. واتفقوا على أن يقولوا له بأنهم: "أطباء" ... وبعد مشاورات سريعة اتفقوا على أن يتولى الأمين جمال رياض، والمقدم إيهاب فرج، والرائد جمال الصواف، بالإضافة إلى دكتور حقيقي ورجل إسعاف.

وقبل أن يصعد هؤلاء لسليمان، طلبوا من الأمين جمال رياض الاتصال به تليفونيا .. وقد تم الاتصال فعلا عبر "وصلة" التليفون التي تربط بين النقطة الرئيسية ونقطة المراقبة .. وقد رد سليمان على المكالمة ..

قال له الأمين جمال:

- يا سليمان إحنا جايين ننقل الجثث من فوق عشان فيه طيارة حتنقلهم من تحت.

فقال سليمان:

- اتفضلوا.

سأله:

- حتعمل حاجة يا سليمان؟

فقال:

- لا .. مش ممكن أعمل أي حاجة .. خلاص انتهى كل شيء!

وصعدت المجموعة إلى مكان الحادث، وكان سليمان من الذكاء بحيث عرف أن الضباط الذين ادعوا أنهم أطباء، ليسوا كذلك .. فقد قال في تحقيقات النيابة – فيما بعد – أنه قد صعد إليه مجموعة بينهم طبيب واحد فقط .. وهذا يعني أنه لم يكن يمانع في صعود أي شخص مهما كان .. وخاصة "أن كل شيء قد انتهى" كما قال لأمين الشرطة تليفونيا .. بل إن سليمان قد استغرب من أن يطلبوا الإذن منه في الصعود إليه .. وكل ما طلبه فقط ألا يكون معهم أي شخص أجنبي ...

وقد قال ذلك مقدم إيهاب فرج (33 سنة) نائب مأمور قسم شرطة نويبع وأعلى رتبة كانت في المجموعة التي صعدت لسليمان .. قال ذلك في تحقيقات النيابة العسكرية:

س: لماذا قررتم الصعود؟

ج: كان غرضنا نشوف إيه اللي بيحصل .. وأيضا نسعف المصابين ونقدر الموقف، وبعد أن تأكدنا إن المتهم لا يعتزم النزول بسهولة .. وطلعنا فوق .. وكان بيننا وبينه حوالي عشرة أمتار.

وسألناه:

- ليه عملت كده؟

فقال:

- ما أعرفش!

فسألناه:

- ممكن تصيب أي مصريين آخرين!

ولم يرد .. ونظر إلينا في استنكار.

فقلنا له:

- إدينا فرصة نشوف المصابين.

فقال:

- كلهم ماتوا .. شوفوا الجثث!

وشفنا الجثث .. فكانوا كلهم ميتين ورجعنا نكلمه تاني وطلبنا منه أن يسلم نفسه ... فوافق بشرط أن يكون الرائد أحمد الشيخ تحت.

فسألناه:

- وإذا ما كانش أحمد الشيخ موجود تحت؟

فقال:

- أخاف حد يؤذيني!

فأخذنا جثة ونزلنا وكان أحمد الشيخ موجود تحت .. وتحت رحت أنا أهدئ (الإسرائيليين).

س: هل حاول سليمان تأمين نفسه خشية أن يكون من بينكم من يحمل السلاح، وهل أبرز سلاحه في مواجهتكم أو تثبيتكم أو اقتادكم لمكان الجثث؟

ج: لا .. واحنا طالعين قال: ما يكون شمعاكم أي أجنبي!

س: هل كانت حالة الرؤية واضحة؟

ج: الدنيا كانت ظلام وكان معانا بطارية في إيد الأمين جمال.

س: ألم يكن من الممكن اقتناص أو إصابة سليمان بأي سلاح؟

ج: إحنا كنا طالعين للاستطلاع فقط علشان نعرف موقعه ونشوف حالة الجثث وكان فيه سلاح فعلا، وكان الرائد جمال الصواف معاه طبنجة وكان لو حاول المتهم أن يتعرض لنا كان ممكن الرائد جمال يخلص عليه .. ولما وصلنا لفوق لقيناهم كلهم ماتوا، فأصبح كل همنا أن نحضره أو يسلم نفسه.

س: معنى أنه كان يمكن اقتناصه لو أبدى مقاومة؟

ج: صح!

وقد شهد الأمين جمال رياض أن نائب المأمور قد طلب من سليمان "إنهم يشيلوا الجثث" .. وإن سليمان وافق .. وقال له: "يا بك اتفضل .. أنا آجي أشيل الجثث معاكم" .. لكن .. نائب المأمور رفض هذه المبادرة، وحمل جثة امرأة (إسرائيلية) ضخمة ونزل بها .. وحمل آخر جثة أخرى، ونزل بها أيضا.

وبعد نزول المجموعة والجثتين، صعد الأمين جمال من جديد ومعه 3 جنود لكي ينزلوا باقي الجثث!

رغم أن أمين الشرطة جمال رياض، صعد، ونزل ثلاث مرات، فإنه لم يلحظ صعود الجندي حسونة حمودة (الذي كان يشتري سجائر) ونزوله ومعه طفلة (إسرائيلية) سليمة .. دون إصابات.

لقد اقتربت هذه الطفلة من سليمان بعد الحادث بحوالي الساعة تقريبا، وطلبت منه أن تنزل إلى أهلها .. فطلب منها الجلوس بجانبه ...

وعندما صعد حسونة، قال له:

- خد البنت دي ونزلها لأهلها!

وقد روى حسونة هذه القصة في تحقيقات النيابة العسكرية.

س: ما سبب طلوعك بعد الحادث إلى الجبل؟

ج: بعد الأمين جمال ما طلع ونزل أنا اطمأنيت لأن ما حصلش له مشاكل .. وكان كويس .. فأنا قلت أطلع النقطة أشوف إيه الحكاية وأشوف حسن (الخولي) زميلي (جندي الإشارة) عامل إيه على الجهاز!

س: هل حال سليمان الاعتداء عليك عند طلوعك الجبل؟

ج: لا .. وأنا قلت له: أنا حسونة يا سليمان .. فقال لي: تعال خد الطفلة دي نزلها تحت!

س: ما هي المسافة التي كانت بينك وبينه؟

ج: حوالي مترين!

س: هل كان السلاح معه؟

ج: أيوة .. سلاحه كان في إيده!

س: ما هي الحالة التي كان عليها؟

ج: كان زعلان.

س: ما هي مظاهر الزعل التي شاهدتها عليه؟

ج: أنا لقيته قاعد ووشه مكشر وزعلان.

س: هل كانت هذه الطفلة قريبة من سليمان وظاهرة له بشكل يمكن معه إصابتها أو قتلها؟

ج: هوه كان شايفها عادي وكانت قريبة منه بمترين .. ثلاثة .. وكان سلاحه في إيده ولو كان عايز يضربها أو

يضربنا كان ضربنا.

س: هل اقتربت من الجثث أو المصابين وقت الحادث؟

ج: لا .. أنا أخدت البنت ونزلت.

عندما وصل الرائد أحمد الشيخ من السرية حاملا جهاز الإشارة الذي ذهب لإحضاره، قالوا له:

- الواد عايزك أنت فوق!

لم يكن في نقطة المراقبة في تلك اللحظة أحد مع سليمان غير الجندي حسن الخولي .. وقد كان إصرار سليمان على عدم تسليم نفسه إلا في حضور الرائد أحمد الشيخ مثار تساؤلات وشبهات من جانب النيابة العسكرية .. وخاصة أن هناك تصورا طرح بعد الحادث مباشرة، دار حول احتمال وجود تمرد ضد (إسرائيل) يبدأ من النقطة 46، وكان الشك في وجود تنظيم ما، داخل قوات الأمن المركزي، من بين أفراده أحمد الشيخ وسليمان خاطر .. وفيما بعد ثبت أن ذلك كله كان ضربا من الوهم والتخريف.

وسألت النيابة العسكرية الضابط طارق سلطان عن تفسيره لإصرار سليمان على تسليم نفسه في حضور الرائد أحمد الشيخ فقط .. فقال:

- "إن الرائد أحمد الشيخ مؤدب جدا مع كل الجنود وعلاقته بجميع العساكر كويسة، فما كانش غريب إن سليمان يطلبه بالذات".

وسألت النيابة العسكرية الرائد أحمد الشيخ نفسه:

س: ورد بالأوراق ما يفيد أن الجندي المذكور رفض تسليم نفسه إلا في حضورك شخصيا، فهل علمت بذلك؟ ومن الذي أبلغك؟

ج: المقدم إيهاب فرج نائب مأمور قسم "نويبع" قال لي إنهم لما اقتربوا منه رفض تسليم نفسه إلا في حضوري.

س: وما هي العلاقة التي تربطه بك ونوعها حتى يطلب منك مثل هذا الطلب؟

ج: أنا دايما أقعد مع المجندين لحل مشاكلهم ما أمكن وده من أهم خصائص عملي كقائد بالنيابة لأني أبدل بالراحات مع المقدم حسن خلف، فواجبي إني أعرف جنودي، وكان سبق للجندي المذكور أن خدم تحت قيادتي من حوالي أكثر من سنة وكنا بنساعده في مذاكرة الثانوية العامة في دهب.

وسألت النيابة العسكرية سليمان خاطر:

س: ما هي علاقتك بالرائد أحمد الشيخ؟

ج: أنا علاقتي طيبة به ولا تتعدى علاقة الرئيس بالمرؤوس.

س: لماذا إذن رفضت أن تسلم نفسك إلا في حضوره؟

ج: هم كانوا مقتنعين إن ما حدش حينزلني إلا أحمد بك الشيخ ومفيش حد طلب مني أن أنزل.

س: وما هو في رأيك سبب اعتقادهم أنه ليس في مقدور أحد أن يجعلك تسلم نفسك إلا أحمد الشيخ؟ وجاءت إجابة سليمان مثل القنبلة ..

ج: يمكن كانوا خايفين .. وهو ومدحت طه (ضابط آخر) بس هما الناس اللي في سيناء اللي شغالين .. وشخصيته قوية وما حدش طلب مني أن أنزل غيره هوه وما حدش شغال غيره هو (ومدحت طه) .. وكله عمال يشتغل مع الأجانب وحيضيعوا البلد .. وشغلوا عليهم المخابرات وشوفوهم بيرحوا فين.

ولم يشأ المحقق أن يسأله عن التفاصيل ...

لم يشأ أن يفتح على نفسه مثل هذه الأبواب ..

بالفعل .. "اتصل الرائد أحمد الشيخ بسليمان تليفونيا ... وفيما بعد نسب قائد السرية المقدم حسن خلف لنفسه أنه هو الذي اتصل بسليمان تليفونيا وطلب منه تسليم نفسه .. لكن .. هذا لم يكن صحيحا .. وقد أنكره الرائد أحمد الشيخ قائلا: "لا .. لم يتصل به .. وأنا اللي اتصلت بسليمان .. وما حدش اتصل به غيري وأنا اللي طلبت الاتصال به".

وعندما سئل سليمان عن واقعة اتصال المقدم حسن خلف به، قال:

- لأ .. ما حصلش!

س: بماذا تبرر هذا الادعاء؟

ج: تلاقيه بس خايف! !

إن الاتصال الوحيد الذي تم مع سليمان بخصوص تسليم نفسه .. كان مع الرائد أحمد الشيخ فقط.

وقد جرى هذا الاتصال على النحو التالي:

الشيخ: يا سليمان ..

سليمان: نعم ...

الشيخ: تعال وسلم سلاحك واديه لعلي إبراهيم ...

سليمان: أنا حضرب نفسي بالنار علشان أنتم حتضربوني.

فأقسم الرائد أحمد الشيخ له (حسب رواية سليمان) أن ما حدش حيكلمه .. وقال له:

- حاقابلك في الطريق.

وفعلا .. سلم سليمان سلاحه للجندي علي إبراهيم .. وفعلا قابله الرائد أحمد الشيخ كما قال له .

وراح يربت على ظهره وقال له:

- ما تخافش!

ومشى سليمان معه في هدوء، حتى فوجئ "بالدنيا مقلوبة تحت" على حد قوله ..

وقد سألت النيابة العسكرية الرائد أحمد الشيخ :

س: هل بدر من سليمان أي مقاومة؟

ج: لا .. لم تحدث مقاومة منه وسلم نفسه في منتهى الهدوء بعد أن سلم سلاحه لزميله في النقطة كما قلت من قبل!

هل تعمد سليمان خاطر ما فعله؟

كل الأدلة تنفي عنه التعمد .. طبيعته .. تصرفاته .. وإحساسه بأنه سيخرج من الخدمة العسكرية بعد انتهاء نوبة حراسته.. وأيضا أقواله في تحقيقات النيابة العسكرية ...

س: أنت مهتم بقتلك عمدا سبعة أشخاص (إسرائيليين) ؟

ج: لأ .. طبعا، مش متعمد لأنهم هم اللي دخلوا منطقة ممنوعة وحاولت أرجعهم بتهديد السلاح .. وأنا يعني أخذت السلاح ليه .. مش علشان أرد به أي عدو ... وهم جاءوا المنطقة دي فيبقوا أعداء ... وأنا أطلقت النار للتحذير .. فانصابوا .. ولو واحد ماشي وضرب فرخة أعصابه بتسيب وممكن يخبط في عامود .. أنا إنسان .. بني آدم .. ولي قلب .. ولي عاطفة .. بس لازم أرجعهم مهما يمكن لمصلحة مصر.

س: لماذا أطلقت هذا العدد الكبير من الطلقات؟

ج: أنا ما كنتش دريان باعمل إيه.

وقد أصر سليمان خاطر أمام المحكمة وأمام غيرها أنه لم يقتل بالعمد وسبق الإصرار .. وقال: لو أنني كنت أرتب للقتل العمد فلماذا أخرت الأمر إلى الساعة الأخيرة من يوم تجنيدي؟.. لماذا لم أطلق رصاصات بندقيتي عليهم وهم في خيامهم يستحمون تحت سفح التل .. لقد كانت خيامهم تمتد تحت ناظري إلى مسافة تزيد عن الكيلو متر" .. "إنني طوال الأيام السابقة على الحادث وأنا أعد الساعات انتظارا لنهاية فترة التجنيد ... وقبل نوبة حراستي الأخيرة كنت قد نظفت السلاح وتممت على الطلقات وكويت كل ملابسي ومسحت الحذاء ورتبت المخلاة" .. كنت أستعد لتغيير مسار حياتي .. لكن القدر اختار طريقه وفرضه على إرادتي!

هل كان سليمان خاطر يعرف جنسية "الأجانب" الذين صعدوا إليه؟

هل كان يعرف أنه يحملون الجنسية الإسرائيلية؟

إن من الملاحظ في كل أوراق القضية أن المحققين والضباط وغيرهم لم يستخدموا بوضوح وصراحة كلمة (إسرائيليين) وفضلوا أن يستخدموا كلمة "أجانب" بدلا منها .. ولا أحد غيرهم بالطبع يمكن أن يفسر ذلك ...

ومن المؤكد أن سليمان خاطر – حسب روايته – لم يكن يعرف جنسيتهم ..

س: هل كنت تعرف يا سليمان جنسياتهم من أي عبارات قالوها؟

ج: لا أعلم جنسيتهم!

وقد قال أحد زملاء سليمان في النقطة إن الأجانب عندما مروا عليهم، قالوا:

- شالوم.

أي سلام باللغة العبرية ... وهو ما يفهم منه أنهم ('إسرائيليون)'!

فسألت النيابة العسكرية سليمان:

س: بماذا تفسر ما قاله الجندي عطية إبراهيم من أن الأجانب قالوا "شالوم" أي ما يفيد أنهم يهود؟

ج: لا .. هم قالوا بالعربي "سلام" زي أي أجنبي ما يقول.

وفيما بعد تأكد أن معظم (الإسرائيليين) الذين كانوا على الشاطئ أسفل الجبل كانوا يعرفون اللغة العربية ... فقد ظهر من شهادة المحامي الإسرائيلي "جيرا كورن" – الذي نقل المصابين في سيارته لمستشفى نويبع – أنه تبادل بعض الكلمات العربية مع بعض الجنود في الطريق، وبعض الأشخاص في المستشفى.

وقال حسونة حمودة الذي اصطحب الطفلة من الجبل إنه نزلها لحد أبيها "وكان بيتكلم عربي" ... وأنه سأله بالعربي:

"دي بنتك؟" فرد عليه "أيوة" وأخدها!

لقد وقع حادث رأس بركة دون تخطيط مسبق ...

كان من ترتيب القدر ..

وكان بداية سلسلة من المفاجآت المذهلة التي لا يقدر على صياغتها أعتى كتاب الأفلام السينمائية .. البوليسية .. أو السياسية .. أو حتى الميلودرامية!

في زمن الهيروين!

  سليمان محمد عبد الحميد ..

وشهرته سليمان خاطر ..

شاب مصري بسيط ... مزروع – حتى شعر رأسه – في طين هذا الوطن ... مجبول بالشمس، والهواء والخضرة، وطمي النيل، وأنين السواقي، ورائحة الأرض ... مستقيم .. يخشى الله .. يصلي بانتظام .. يعرف كيف يحتفظ بهمومه في بطنه .. يتسم بالوداعة، والقناعة .. ويرتبط – بشدة – بالجذور.

هو مثل النيل ... لا يقبل الانعطافات المفاجئة . ولا الانحرافات المفاجئة .. ولا المغامرات المفاجئة.

عمره 25 سنة .. فلاح "شرقاوي" من قرية غير مشهورة تسمى "أكياد" ... مركز "فاقوس" .. ولا أحد يعرف سر تسمية القرية بهذا الاسم .. وليس في تاريخها القريب ما يلفت النظر سوى أنها استضافت جنود الجيش المصري بعد حرب يونيو 1967، وفتحت أحضانها وحقولها وبساتينها لتدريباتهم الشاقة استعدادا للعبور وتحرير سيناء .. لكن ... من المؤكد أن سليمان خاطر – بما فعله وبما جرى له – جعل اسم "أكياد" على ألسنة كثيرة ... وفرض على وكالات الأنباء، ومحطات الراديو والتليفزيون في العالم كله إذاعة وكتابة الاسم بكل اللغات .. بما في ذلك – طبعا – اللغة العبرية ..

ولد في شهر أكتوبر .. نفس شهر العبور ..نفس شهر اغتيال السادات .. نفس شهر حادث (الإسرائيليين) الذين صرعهم برصاص بندقيته .. ونفس الشهر الذي أغارت فيه (إسرائيل) على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، بعد ربع قرن من ميلاده.

نشأ في أسرة متواضعة الحال .. تتردد معيشتها بين خط الفقر .. وخط الستر ..

الأب مزارع .. يعمل مع إخواته (أعمام سليمان) ويعيشون هم وأسرهم معا .. إنهم جميعا يملكون عددا من الأفدنة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة .. كان نصيب أسرة سليمان منها فدانا واحدا .. فقط لا غير .. وكالعادة، سبب المعيشة المشتركة، والزراعة المشتركة بعض الخلافات والمشاحنات والحزازات البسيطة .. ورثها سليمان وإخواته مع فدان الأرض الوحيد بعد وفاة والده عام 1979.

وحسب التقرير الطبي "والنفسي" الخاص بسليمان خاطر، والذي أعده – بتكليف من نيابة السويس العسكرية – فريق من كبار الأطباء النفسيين العسكريين: "لم يشعر سليمان بالحزن عند وفاة أبيه" .. ويرجع التقرير السبب إلى أنه "لم يكن بينه وبين أبيه علاقة عاطفية قوية" .. "وعلى العكس من الأب نجد أن علاقة سليمان بأمه قوية جدا .. وهو يفكر – دائما – في أحوالها، ويشعر بالقلق عليها .. ورغم أنه أصغر أخواته فإنه يتحمل العبء الأكبر في رعايتها ورعاية أحوال معيشتها" .. وهو يفعل ذلك بإحساس صادق جدا.

إن سليمان هو – بالفعل – أصغر خمسة أشقاء، منهم ثلاثة من الذكور واثنان من الإناث .. وشقيقاه الأكبران يعملان خارج القرية .. عبد الحميد (42 سنة) يعمل في إحدى شركات المقاولات في القاهرة، ويقيم في العاصمة إقامة دائمة .. وعبد المنعم (35 سنة) يعمل بالكويت .. وقد ضاعف هذا الوضع من ارتباط سليمان بأمه .. وضاعف من إحساسه بالمسئولية تجاهها.

ويبدو أن ارتباط سليمان بأمه كان السبب في رفضه أن تدخل قاعة المحكمة العسكرية (بمقر الجيش الثالث الميداني بمدينة السويس) حتى لا تراه وهو يقف وراء القضبان ويحوطه الجنود والحراس.

قال سليمان:

- لا تجعلوها تدخل حتى لا تنهار!

وفيما بعد فسر سليمان هذا الرفض قائلا:

- لقد خشيت أن يؤثر هذا المشهد على نفسية الجنود المصريين فتضعف مقاومتهم ويصعب عليهم رفع السلاح في وجه العدو (الإسرائيلي).

والغريب أن الأم هي الأخرى – والتي فعلت المستحيل لتحصل على تصريح لرؤية ابنها – قد رفضت من جانبها رؤيته، وهو في هذا الوضع!

ومما لا شك فيه أن علاقة سليمان بأمه علاقة طبيعية جدا في الأسر الفقيرة .. حيث يعوض حنان الأم، نقص الطعام .. وحيث تعوض نعومة الأم قسوة الحياة.

ومما لا شك فيه أن طفولة سليمان لم تكن طفولة سعيدة .. كان حساسا بطبعه .. لا يميل إلى العنف .. وبسبب ضعف موارد أسرته المالية، لم يجد نفسه ولا رقة أحاسيسه في مجلة أطفال ملونة ولا في كراسة رسم، ولا في كتاب مناسب لعمره .. ولم يجد نفسه بالطبع في لعبة من لعب الأطفال التي تريح طفولته الناعمة من الداخل، القاسية من الخارج .. ولم يجد نفسه بالطبع في ألعاب أقرانه من أطفال القرية والتي لا تخلو عادة من العنف .. وكان يميل دائما إلى الوحدة .. والعزلة ... وسماع جهاز الراديو إذا توفر له ذلك ... وكثيرا ما كان يشعر بالراحة وسعة الصدر كلما خرج بمفرده إلى الغيطان والخضرة .. خاصة في وقت ازدهار المحاصيل ...

إن ضغط الظروف على تكوينه الحساس، جعل طفولته، كما يقول التقرير الطبي – السابق الإشارة إليه – تتميز "بالقلق والخوف والحرمان" وجعلته – حسب نفس التقرير - "يعاني منذ وقت مبكر من مخاوف مرضية بكثرة .. ففضلا عن الخوف العادي من العفاريت والجنيات .. فإنه كانت تنتابه مخاوف شديدة من الأماكن المهجورة، والكلاب، والأصوات العالية، والمشاجرات، والحوادث".

ولعل خوفه المبكر من الحوادث سببه أن منزل أسرته يقع بالقرب من الطريق الزراعي "المسفلت" الذي يكثر مرور السيارات عليه، وتكثر عليه الحوادث بالتالي ...

وفيما بعد، وسليمان عمره 16 سنة، زادت حالة الخوف من حوادث السيارات لديه، عقب حادث على نفس الطريق المجاور لبيته، قتل فيه ابن عمه ... "وبدأت تحدث له حالات إغماء نتيجة هذا الخوف" .. "وكان يحاول دائما إخفاء هذه المشاعر عن الناس حتى لا يكون مثارا لسخريتهم".

وفيما بعد سألته النيابة العسكرية:

س: هل سبق لأحد من أسرتك أن توفي وفاة غير طبيعية، نتيجة انتحار مثلا، أو أصيب أي حد من أفراد أسرتك أو أنت بأي مرض نفسي أو عصبي – وهل سبق علاجك نفسيا أو عصبيا؟

ج: ما حصلش والعياذ بالله .. مفيش غير ابن عمي مات في حادث عربية!

وحسب التقرير الطبي أيضا ...

"كان سليمان في طفولته المبكرة يخاف من الليل .. والأشباح .. ورؤية الدم .. إن الظلام كان يحول مخافه إلى أشكال أسطورية، خرافية، مرعبة، تجعله يقفز من فراشه في فزع .. وكان الظلام يجعله يتصور أن الأشباح تعيش في قاع الترعة، وأنها تخبط الماء بقوة في الليل وهي في طريقها إليه .. أما رؤية الدم فكانت تسبب له إغماء .. وقد أدركت أمه هذه الحقيقة فكانت تتوارى بعيدا عنه وهي تقوم بذبح الطيور حتى لا تؤلمه".

وإذا كان هذا الرأي جزءا من التحليل النفسي الذي توصل إليه الأطباء العسكريون النفسيون الذين استدعوا طفولته فإن أقران طفولته – بما يروون عنه – يعتبرون هذا الرأي جزءا من طبيعة المبالغة التي يتميز بها الأطباء النفسيون ...

إن أقرانه في القرية وفي المدرسة يؤكدون أنه كان طفلا طبيعيا .. وإن كان يتميز عنهم بعدم مجاراتهم في الألعاب الخشنة .. كما كان يتميز عنهم بالوداعة والهدوء ..

ويستنتج الأطباء النفسيون: أن سليمان كان منعزلا عن زملائه في المدرسة .. ويقول: إنهم كانوا يسمونه "السرحان" .. ويقول: إنه كان بطبعه لا يميل للرد على "مداعبات أقرانه أو عدوانهم عليه .. بل كان يميل إلى التحمل وكبت مشاعره عن الآخرين". وقد سئل سليمان عن الشيء الذي يتذكره كلما عاد إلى طفولته!

فقال:

- غارة اليهود على مدرسة "بحر البقر" !

إن مدرسة "بحر البقر" كانت قريبة من مدرسته الابتدائية .. وبعض التلاميذ بها كانوا من أصدقائه .. وكانت الغارة (الإسرائيلية) عليها من أولى غارات العدو القذرة في العمق المصري على الأهداف المدنية .. وكان ذلك عام 1969 ردا على حرب الاستنزاف الناجحة التي أزعجت الجيش "الإسرائيلي" على الجانب "الشرقي" من قناة السويس .. وفي ذلك الوقت كان عمر سليمان ما بين سبع وثماني سنوات .. ولا نعرف ما إذا كان قد شاهد نتيجة الغارة بأم رأسه أم لا؟ .. لكن من المؤكد أنه سمع عن أصدقائه الذين ذبحوا في الغارة .. أو الذين نسفوا بدانات العدو (الإسرائيلي) .. أو الذين اختفت جثثهم تحت الأنقاض .. ومن المؤكد أن هذه القصص البشعة التي سمعها قد فرضت عليه الفرار إلى الغيطان .. وهناك انفرد بنفسه وراح يبكي .. وليس هناك ما يمنع من حفر هذه القصص بكل ما تثيره من خيال وقسوة وفزع في ذاكرته .. وخاصة أن تكوينه النفسي رقيق، مثل ورقة السيجارة .. جاهز للانفعال والتحرك لأقل حادث ..

وفيما بعد حاول بعض أفراد أسرته وبعض أقرانه وبعض المحللين الربط بين ما حدث على يد "الإسرائيليين" في "بحر البقر" وما حدث على يد سليمان خاطر في "جنوب سيناء" .. أو بين قتل الأطفال المصريين والسياح "الإسرائيليين" ..

وقال هؤلاء:

- إنه لا مانع أن يكون عقل سليمان خاطر الباطن قد فرض عليه إحساسا بأن "الإسرائيليين" الذين اغتالوا رفاق الطفولة، جاءوا الآن ليذبحوه بعد أن أفلت من مذبحة "بحر البقر".

وحسب التقرير الطبي السابق:

"كان سليمان يحب عمه ويشعر بالأمان معه" ... "وبعد وفاة عمه عام 1978 بدأت تنتابه أعراض جديدة، عبارة عن حالات انفصال عن العالم الخارجي لفترة وجيزة، وكان سليمان يطلق على هذه الحالة "السكتة" كما طرأ عليه أيضا في هذه الظروف حالات من التجول اللا إرادي دون أن يكون له هدف محدد من هذا التجول أو حتى أن يكون على دراية بحدوث هذه التحركات" ...

وكانت هذه الأعراض تحدث له في ظروف الضغط النفسي، التي يتعرض لها بسبب تعامله مع الآخرين أو بسبب مواجهة ظروف المعيشة الصعبة .. "واستمرت حالات الانفصال والتجول اللا إرادي – هذه – تحدث له حتى عام 1981".

وفي تلك الفترة ترك سليمان المدرسة .. لم يستطع بسبب "ظروف المعيشة الصعبة"، والتي زادت صعوبتها بعد وفاة أبيه أن يكمل تعليمه .. ترك المدرسة، وخرج منها قبل الحصول على شهادة "الثانوية العامة" ... وراح يزرع الأرض ليطعم أمه وزوجة شقيقه عبد المنعم التي تركها في بيت الأسرة قبل السفر إلى الكويت.

لكن ... سرعان ما استدعى سليمان لتأدية الخدمة العسكرية .. فترك الأرض، ومسئولية رعاية أمه ومن معها ليصبح مجندا في شهر أكتوبر أيضا ... بالتحديد في 4 أكتوبر 1982 ... قبل 3 سنوات بالضبط من الحادث ... وانضم إلى قوات الأمن المركزي بجنوب سيناء في أول مايو 1983 ... في دهب .. ثم نويبع .. وخلال ذلك نجح في الحصول على "الثانوية العامة" وانتسب إلى كلية الحقوق – جامعة الزقازيق ...

إن تحليل هذه البيانات التي تمر أمامنا بسهولة يؤكد أن سليمان يتمتع بدرجة عالية من الذكاء جعلته يحصل على شهادة "الثانوية العامة" – رغم ظروف الخدمة الشاقة في جنوب سيناء – من أول مرة ... وجعلته ينجح في دراسة الحقوق الصعبة وهو منتسب، لا يحضر المحاضرات، وبقراءة الكتب المقررة فقط .. ويؤكد هذا التحليل أيضا أنه يتمتع بصبر وجلد وقوة تحمل عالية، لأنه كان يجمع ما بين تنفيذ المهام الموكلة إليه، والمذاكرة، وخدمة نفسه، والقيام بتنفيذ مهامه الشخصية ...

ومن المؤكد أن علاقته بزملائه وقادته كانت حسنة للغاية .. خاصة الذين خدم معهم مدة طويلة، مثل الرائد أحمد كمال الدين حسن الشيخ "31 سنة" قائد ثاني سرية الأمن المركزي بنويبع، الذي رفض سليمان تسليم نفسه – بعد الحادث – إلا في حضوره ...

وقد سألت النيابة العسكرية الرائد أحمد الشيخ عن السبب ... فقال:

- أنا دايما أقعد مع المجندين لحل مشاكلهم ما أمكن .. وكان قد سبق لسليمان أن خدم تحت قيادتي من حوالي أكثر من سنتين في سرية "دهب" .. وكان بيذاكر في الثانوية العامة .. وكنا نعاونه في دراسته!

س: معنى ذلك إنك تعرفه منذ فترة طويلة، فما معلوماتك عنه بوصفك قائده في دهب ونويبع؟

ج: اللي أعرفه إنه إنسان في حاله .. وليس له أي نشاط غير عادي ودايما في مذاكرته وخدمته .. ودايما مواظب على الصلاة .. إنه في تصوري إنسان عادي وليست له مشاكل مع زملائه، وليست له أي شكاوى .. شخص عادي جدا .. ومحبوب من زملائه .. وليست له أي تصرفات مريبة أو شاذة .. أو تلفت النظر .. وليس به أي تطرف أو أي تزمت، ولم ألحظ عليه أي شيء غير عادي لدرجة أني استغربت إيه اللي خلاه يعمل كده!

س: ألم تتحدث معه إطلاقا فيما فعل، وسببه، وخصوصا أنه رفض تسليم نفسه إلا إليك؟

ج: هو قال لي: إحنا بلد مسلمين، والأجانب بتيجي هنا يقعدوا عرايا ودي حاجات تتنافى مع الدين والإسلام!

ويشعر المحقق أنه يقترب من صيد ثمين .. فيسأل الشاهد:

س: هل مفاد ذلك أنه كانت له تطرفات أو نزعات دينية متطرفة، وهل تتصور أو تشك في انتمائه إلى أي من الجماعات الإسلامية؟

وتخرج شبكة المحقق فارغة ...

ج: ما أعتقدش لأن كل تصرفاته أمامي كانت طبيعية زي ما قلت وما فيهاش أي تطرف أو تزمت .. هو شخص ليست له أي مشاكل بالمرة!

وسألت النيابة العسكرية الملازم أول طارق سلطان (24 سنة) قائد النقطة 46 بنويبع:

س: ما هي ملاحظاتك على سلوك سليمان خاطر؟

ج: كويس ومؤدب وليست له مشاكل مع أحد وسلوكه عادي جدا.

س: ألم تلحظ عليه أي مظاهر يستفاد منها في سلوكه أنه متطرف دينيا أو متزمت أو له آراء أو انتماءات دينية أو سياسية؟

ومرة أخرى تخرج شبكة المحقق فارغة ...

ج: خالص .. غير إنه بيصلي زي ما كلنا بنصلي!

وفي محضر النيابة العسكرية قال أمين الشرطة جمال رياض المنتدب للأمن المركزي بجنوب سيناء، وأول من صعد الجبل إلى سليمان خاطر بعد الحادث:

- سليمان شخص عادي جدا ومؤدب وأخلاق وفاهم شغله!

س: هل لاحظت أي تطرف أو تزمت؟

ج: لا!

وقال زميله في نقطة المراقبة، الجندي حسن على السيد الخولي:

- سليمان طول عمره دوغري!

وقال زميله الجندي عطية إبراهيم علي:

- سليمان طبيعته رجل محترم، ومؤدب، ويعرف يتكلم إنجليزي.

س: منذ متى وأنت في هذه النقطة مع سليمان؟

ج: من حوالي سنة وأربعة شهور!

س: ما هي ملاحظاتك على سلوكه عموما؟

ج: من يوم ما رحت ما شفتوش يغلط لا في الشغل ولا في حد وكان لا يتدخل فينا وكان رجل يحب يبقى بعيد عن التهريج والهزار.

س: هل معنى ذلك أنه كان شخصا منطويا أو متزمتا، أو عصبيا، أو متعصبا؟

ج: لا .. كان عاديا معانا بس بيحترم نفسه.

س: هل كانت له أي اتجاهات دينية أو ميول أو آراء سياسية؟

ج: عمره ما كلمنا في حاجة من دي.

وقال زميله الجندي علي إبراهيم محمد:

- سليمان هو أطيب من عرفت!

س: هل وقعت منه أي توترات عصبية أو تعصب أو تطرف ديني أو تزمت أو كانت له آراء سياسية؟

ج: أبدا ... هوه ساعات يقعد معانا وساعات يقعد لوحده، وهو كان بني آدم ومؤدب وفي حاله وكان طيبا معنا وعمره ما تكلم في الدين ولا في السياسة.

س: هل تعرف معنى كلمة السياسة، وما هو مستواك التعليمي؟

ج: مش معايا شهادات .. والسياسة يعني العيشة وأحوال البلد!

إن كل الذين سألتهم النيابة العسكرية عن شخصية وسلوك وتصرفات سليمان، أجمعوا على أنه مؤدب .. محترم .. في حاله .. أخلاق .. طيب .. لا يقبل الهزار دائما .. غير متزمت .. غير متعصب .. ملتزم .. غير مرتبط بحزب، أو جماعة ما، أو تيار أو مذهب سياسي بعينه.

أي أنه إنسان مصري، عادي وبسيط، يفهم الأمور السياسية ببساطة .. وسهولة .. ويسر .. ودون لف أو دوران .. يا أبيض يا أسود .. يا صديق يا عدو .. يا طيب يا خبيث .. وهذا الطراز من البشر لا يعرف أصول التبرير، ولا المناورات .. ولا الحلول الوسط ...

أجهزة الأمن أكدت نفس المعاني تقريبا ... فتحريات أجهزة أمن الدولة أكدت أن سليمان خاطر لا يتمتع بأي نشاط سياسي أو ديني سابق.

وإدارة المخابرات الحربية والاستطلاع (فرع جنوب سيناء) قالت نفس الكلام تقريبا .. لقد طلبت النيابة العسكرية من هذه الإدارة (في خطاب رسمي رقم ن/ س/ 1/ 85 بتاريخ 9/ 10/ 1985) معلومات عن الرقيب أمن مركزي سليمان محمد عبد الحميد .. فردت عليها بخطاب رسمي (رقم ش/ 2/ 85/ 8024 بتاريخ 10/ 10/ 1985) قالت فيه: "يرجى التكرم بالإحاطة بأنه: لا معلومات مسجلة طرفنا عن المذكور" .. ووقع على الخطاب العقيد عصام الدين الفنجري قائد مكتب مخابرات جنوب القناة .. وقد ضم الخطاب إلى ملف القضية في نفس اليوم بعد أن اطلع عليه رئيس النيابة العسكرية بالسويس وأشر عليه بكلمة "نظر ويرفق".

ومن ناحية أخرى، قالت الأم:

- ابني مالوش في السياسة.

وأكدت في أول حوار ينشر لها (الأهالي – 16 أكتوبر 1985) أن ابنها "صامت" دائما . لا يحكي أبدا عن وحدته أو عمله ...

وقالت لمحرر الصحيفة "ثروت شلبي":

"ابني كان عاقل .. ومؤدب وحنين وفي حاله وما لوش دعوة بأي حد وما كانشي بيدخل نفسه في مشاكل أبدا، وكان ييجي على غيطه وكان دايما يروح يصلي فريضة الصلاة في الجامع وكان بيصوم أيام الإثنين والخميس كل أسبوع وكان بيصلي بالناس في الجامع .. بيؤمهم" .. وهو "لم يفكر في عرايس أو زواج .. وهو مش زي باقي زملائه وما يعرفش الحب لأنه كان بيصلي ويصوم ودايما متوضي وعارف ربنا .. وكنا منتظرين لما أخوه عبد المنعم يرجع من الكويت وهو بيشتغل هناك، ونفكر نخطب له بنت ناس طيبين".

لقد رأت الأم ابنها آخر مرة قبل الحادث بأسابيع قليلة .. ولم تعرف أن ابنها أطلق النار على (الإسرائيليين) إلا بعد أن زارها ضباط مباحث أمن الدولة ليسألوا "عن سليمان وتصرفاته .. وهل كان له عداوة مع حد .. أو بيشتغل بالسياسة" .. وعرفت منهم ما حدث.

وقالت الأم:

إنها فرحت – عندما عرفت الخبر – وزعلت في نفس الوقت .. "فرحت علشان اليهود دول ماتوا" .. "وزعلت علشان خفت على مصير ابني سليمان ليقتلوه" .. "وعلشان كده ومن ساعة ما عرفت .. وأنا قلبي مولع نار ومش بنام لغاية ما أشوف ابني .. ضناي، بعيني، وأطمئن إن مفيش حد ضربه".

ولم تعرف الأم ساعتها لماذا قتل ابنها (الإسرائيليين) "لأنه عمره ما قتل فرخة" .. "ومش ممكن يعمل حاجة زي دي إلا إذا كان حدث جرح كرامته وكبرياءه فهو محترم ومعتز بنفسه".

أما شقيقه عبد المنعم فاعتقد أن سبب تصرف سليمان: "إنه كان يرى أمورا غير طبيعية وشاذة من (الإسرائيليين) على الحدود التي استفزته كمصري مسلم غيور على دينه وكرامة بلده، فمن غير المعقول أن يأتي هؤلاء اليهود على الحدود وهم عرايا خالص .. ويمارسون العملية الجنسية أمامه أثناء أدائه الخدمة الوطنية وكذلك أمام زملائه بصفة يومية ومستمرة لإثارة أعصابهم ومحاولة إضعاف نخوتهم الوطنية وإشعال غرائزهم، ولما كان سليمان وزملاؤه لا يلبون نزواتهم الشاذة والغريبة عن ديننا وبلدنا، فلقد أثار ذلك حقدهم لعدم تحقيقهم مآربهم التي يستهدفونها من جراء هذا، فكانوا يصفونهم بالمتخلفين الأمر الذي كان يزيد غضبهم".

وقد أنكر عبد المنعم خاطر لرجال مباحث أمن الدولة أي شبهة انتماء سياسي لشقيقه .. "لأنه بالفعل لم يحدث، لأننا ناس فلاحين ليست لنا اهتمامات سياسية أو حزبية والمهم لنا لقمة العيش وعملنا في أرضنا وغربتنا في بلاد الناس حتى نستطيع أن نوفر لقمة العيش بالحلال والعرق".

إن من المؤكد أن تفسير عبد المنعم خاطر هذا يرجع لبعض ما كان يرويه شقيقه له عما يفعله (الإسرائيليون) في سيناء .. ويرجع أيضا لما قيل وما نشر وما تردد عن ذلك بين المصريين ...

ومن المؤكد أن خدمة سليمان في سيناء فتحت عينيه على أشياء كان لا يعلمها .. إنه أصبح يعيش في سيناء التي سمع عنها .. ويرى (الإسرائيليين) الذين عرف من صغره أنهم العدو الأول لبلاده ...

على أن هذه التجربة الجديدة، قد أضافت له، حسب ما جاء في التقرير الطبي السابق الإشارة إليه، "مخاوف جديدة".

"كان يخاف الصحراء كمكان خال ومفتوح" .. وكان يخاف من احتمالات الخطر من الوحوش الضارية "كالذئاب" التي تمتلئ الصحراء بها .. وكان يخاف "مما سمعه عن البدو وما حدث منهم ضد الجنود المصريين بعد حرب 1967".

عبر سليمان عن هذه المخاوف بصراحة أمام النيابة ..

قال:

- أنا دايما إيدي محملة على تتك البندقية، وأنا دايما أبقى معمر سلاحي طول ما أنا هناك .. يعني طول ما أنا في النقطة .. والحكاية دي معروفة عني، إن دايما فيه طلقة في الماسورة، وأنا دايما حاطط طلقة في الماسورة علشان المنطقة دي دايما فيها وحوش وذئاب وضباع وكذلك بنسمع عن البدو إنهم ممكن يعملوا أي حاجة فأنا بأبقى عامل حسابي ومحرص.

ويضيف التقرير:

- إن سليمان كان أيضا "يخاف من المسئولية ومن احتمال حدوث تقصير يترتب عليه تأخير إجازته أو تأخير تسريحه من الخدمة العسكرية .. وكان أيضا يشعر بالقلق الشديد على والدته ويفتقدها ويفكر في أحوالها".

"وقد ازداد خوفه من الدم في الفترة الأخيرة فكان يحمل معه "مكركروم" كما لو كان سيحميه من حدوث النزيف، وكان إذا جرح فإنه يضغط بالمكركروم" على الجرح دون أن ينظر إليه".

"وكان سليمان يخفي هذه المشاعر عن زملائه خوفا من تعرضه لسخريتهم وكان يلجأ إلى النوم بالنهار فقط .. ويظل يقظا طول الليل ما أمكنه ذلك، سواء كان دور خدمته أو ليس دور خدمته .. وكان زملاؤه يسمعون صرخاته وهو يعاني من الكوابيس عندما ينام وكان يعتقد أن زملاءه يعانون مثله من حالات الرعب بالليل ومن الكوابيس، وكان يخاف أيضا إذا بصق أحد من زملائه أمامه، ولكنه لا يتحدث معهم إطلاقا في هذه الموضوعات خوفا من سخريتهم.

"وكان الرعب يصور له أحيانا بعض الحمير المتحركة أو البراميل الثابتة (في مكانها) على أنها أشخاص تتقدم منه ولكنه لم يطلق النار في مثل هذه المواقف ... وكان يطلب من زملائه في المواقع الأخرى أن يتصلوا به تليفونيا أو ينادوا عليه من أماكنهم إذا أرادوا التحدث معه، وذلك قبل اقترابهم من موقعه حيث إنه لا يتحمل أن يفاجأ بأحد منهم فيحدث ما لا يمكن التنبؤ به أو التحكم فيه ...

"وقد زادت عليه مع بداية خدمته بسيناء أعراض أخرى أهمها فقد الشهية، وصداع خلفي، وضيق في الصدر، وخنقة، وهمدان، وفقد الوزن، ولكنه لم يفكر أبدا في اللجوء إلى الطبيب، وكان كل همه أن ينتهي من تجنيده بأي صورة حتى يمكنه السفر إلى شقيقه بالكويت، أو عمل ما يلزم لتحسين حال الأسرة اجتماعيا".

وصياغة هذه الفقرات من التقرير على هذا النحو المتخصص من أطباء نفسيين يحل سليمان الكثير .. ويوحي بما هو أكثر من حالته ... وهذا بالفعل صحيح ... فأغلب المخاوف التي يلصقها التقرير بسليمان مخاوف عادية يمكن أن يعاني منها أي إنسان طبيعي .. خاصة إذا وضع هذا الإنسان في ظروف صعبة كالتي وضع فيها سليمان، وغيره من الجنود في جنوب سيناء .. حيث الحيوانات المفترسة تملأ الصحراء .. وحيث الليل والجبال والفراغ يثيرون الخيال ويفرضون على العين أوهاما وأشباحا غير حقيقية ...

وفي نفس الوقت لم يشر التقرير إلى الجانب الإيجابي لخدمة سليمان في سيناء! !

إن من الواضح أن سليمان قد استفاد من خدمته في سيناء .. أتيح له أن يذاكر وينجح ويصبح طالبا في كلية الحقوق .. وأتيح له المزيد من الارتباط الاجتماعي، والإحساس بالجماعة .. وهو ما كان ينقصه أحيانا ... وأتيح له ممارسة القيادة بشكلها الإنساني السليم ... وقد ظهر ذلك بوضوح عندما قال للنيابة العسكرية في تحقيق ما بعد الحادث: إنه منع الأجانب من الصعود إلى نقطته، لأن في النقطة جنودا آخرين هو مسئول عنهم وعن أمنهم وسلامتهم ... وقال: لقد فعلت ذلك لأن "كل راع مسئول عن رعيته وأنا حتحاسب على ما يجري للناس اللي تبعي" ... وظهر ذلك بوضوح عندما حاسب بعض جنوده على سماحهم "للإسرائيليين" بالتقاط صور لهم في النقطة ... وقد استسلم زملاؤه لهذا الحساب واستجابوا لأوامره ...

وأتيح لسليمان في خدمته لسيناء أن يعي ما يفعله (الإسرائيليون) هناك .. وما يفعله الضباط والجنرالات المصريون معهم ... وقد سجل أكثر من دليل على هذا الوعي في محاضر النيابة العسكرية ...

ولا يمكن أن ننسى أنه اكتسب الكثير من المرح، والذكاء الاجتماعي من خدمته في سيناء .. والدليل على ذلك أنه كان قبل الحادث بقليل يشارك زملاءه في الغناء "سينا رجعت كاملة لينا .. مصر اليوم في عيد" بمناسبة انتهاء خدمته في ذلك اليوم!

إن من الظلم أن نستسلم لما جاء في هذا التقرير الطبي ... ومن الظلم أن لا ننظر على الجانب الآخر من النهر .. وأن لا نرى الوجه الآخر للصورة .. صورة سليمان خاطر بعد سنوات خدمته في سيناء! !

علينا الآن أن نتأمل ملامح سليمان خاطر ..

فربما .. نطقت هذه الملامح بما لا نعرفه عنه ...

إن من يرى وجه سليمان خاطر سيتصور على الفور أنه وجه أحد شعراء الريف الذين ينزلون العاصمة وهم يحملون أشعارهم، وهمومهم، وهموم بلادهم على أكتافهم ويسيرون بها .. وجه ممصوص .. دقيق الملامح .. سريع التعبير .. مركب على جسد نحيل .. يفكر صاحبه أكثر مما يأكل .. ويهتم صاحبه بالكون .. أكثر مما يهتم بالطعام .. ولا يختلف هذا الانطباع عن انطباع الذين فحصوا سليمان خاطر بأمر من جهات التحقيق، بعد الحادث .. فقد قال هؤلاء:

- إن "الرقيب سليمان نحيل الجسم، يبدو وقد فقد بعضا من وزنه .. نظيف الملبس في غير عناية .. وعلى وجهه مسحة من الحزن .. ويبدو عليه التوتر .. كلامه عموما قليل، ولا يتكلم إلا ردا على ما يوجه إليه من أسئلة .. كلامه مترابط ومفهوم وإجاباته مباشرة وفي اتجاه الموضوع المطلوب الحديث فيه .. وهو عموما متعاون ولم يلاحظ عليه علامات تدعو للشك في صدقه أو لجوئه لافتعال أعراض مرضية".

ومما لا شك فيه أن الحادث قد أثر على سليمان خاطر نفسيا .. على الأقل. وهذا طبيعي جدا مع شخص بهذا التكوين الدقيق .. والحساس ..

وهذا التأثير انعكس عليه لبعض الوقت .. حتى أن النيابة العسكرية سجلت أثناء التحقيق معه (ص – 47) أنها لاحظت أنه تنتابه "فترات صمت طويلة وعدم تركيز وأحيانا يغلب عليه البكاء" ... وعندما سأله المحقق – بعد ذلك – عما إذا كان يرغب في إرجاء التحقيق .. رفض وطلب استمراره! !

وبعد فترة أخرى سجل المحقق الملحوظة التالية:

"انتابت سليمان حالة بكاء شديدة، وبدأ يردد عبارات مفادها: كفاية .. وإيه يعني .. ماشي .. أنا فداء مصر .. هو أنا حظلم الناس معايا وأنا ضميري مرتاح، وهما خايفين يتجروا معايا، وواحد منهم يأخذ سنة وإلا حاجة .. أي حاجة .. إن شاء الله خير .. حتى لو أنضرب بالنابالم أو الرصاص أنا ما قولش غير الحق" ..

وأضاف المحقق في ملحوظته: "وانتظرناه حتى انتهاء نوبة البكاء .. وسألناه عما إذا كان يرغب في استمرار التحقيق أو إرجائه .. فطلب الاستمرار" ! !

ورغم أن المحقق العسكري وصف هذا الحوار المرتفع الصوت بين سليمان ونفسه بأنه "هذيان" فإنه في الحقيقة ليس كذلك .. إنه مع مراعاة حالة سليمان العصبية بعد الحادث، يكشف عن الكثير .. يكشف عن وعي وحس وطني: "أنا فداء مصر" ... ويكشف عن قدرته كشخص على تحمل المسئولية: "هو أنا حظلم الناس معايا" .. ويكشف عن قدرته كجندي في رفع الضرر عن غيره: "هما خايفين يتجروا معايا" .. ويكشف عن رغبة في الصدق مهما كان الثمن: "حتى لو أنضرب بالنابالم أو الرصاص أنا ما قولش غير الحق".

إننا لا نحمله أكثر مما يحتمل ..

ولكن ... من المؤكد أن الحادث قد كشف الكثير من خصاله الطيبة .. أو .. على الأقل أكدها .. ومن المؤكد أن ردود فعل الحادث قد سارعت في صهر شخصيته، وإنضاجها قبل الأوان ..

إن هناك أكثر من دليل على صدق وصحة هذه النتيجة :

1 – تحدث في تحقيقات النيابة عن خوفه من ترك الحدود مع إسرائيل "فاضية" على حد تعبيره.

2 – تحدث في نفس التحقيقات عن فهمه للعلاقة بين الجندي وسلاحه .. وقال عبارته المأثورة .. من يحب وطنه يحب سلاحه ... وذلك في زمن قيل فيه إن السلام مع العدو (الإسرائيلي) قد استقر والحواجز النفسية بيننا وبينه قد سقطت ..

3 – أشار في نفس التحقيقات إلى تعاون ضباطنا الكبار في جنوب سيناء بصورة أو بأخرى مع إسرائيل، وأكد أنه يفهم ما يدور حوله، وطلب من النيابة العسكرية أن تمشي المخابرات وراءهم وتعرف ما يفعلون .. ولم يستثن من هذه التهمة سوى ضابطين أكبرهما برتبة رائد في الأمن المركزي.

4 – ما قاله في الرسالة التي بعثها من وراء القضبان ونشرتها صحيفة "الشعب" المعارضة (ص 3 – في 24 ديسمبر 85) .. من أن زملاءه في السجن يسألونه: ماذا بك يا سليمان؟ فيرد عليهم: "أفكر في أمي" .. ويضيف: "يمكن بيتصوروا إني أقول غير الصدق، مع أني أقول الصدق، كل الصدق، لأني طول الوقت أفكر في أمي .. مصر ... نعم أفكر في أمي مصر، وده مبعث الراحة الوحيد بالنسبة لي .. أتصور أنها امرأة طيبة مثل أمي، تتعب وتعمل مثلها وأقول لها: يا أمي أنا واحد من أبنائك المخلصين، فجسمي من ترابك ودمي من نيلك" .. "وحين أبكي أتصورها تجلس جانبي مثل أمي في البيت كل أجازة تأخذ رأسي في صدرها الحنون، وتقولي لي: لا تبك يا سليمان لقد فعلت ما كنت أنتظر من أي ابن بار من ولادي" .. " يا أمي .. يا مصر .. جسمي من ترابك، ودمي من نيلك .. أنا دافعت عن أرضك زي كل جندي مخلص، يا أمي العظيمة".

5 – ما سبق أن أشرنا إليه، من أنه رفض أن يقابل أمه في المحكمة حتى لا يؤثر هذا المشهد على نفسية كل جندي يحمل سلاحه دفاعا عن حدود مصر ..

وقد كشفت التحقيقات أيضا إلى أي مدى يتمتع سليمان خاطر بالطيبة والأخلاق والإيمان بالقدر والمكتوب ..

لقد لاحظ المحقق أن أقوال زملاء سليمان تتناقض مع بعضها البعض، وتتناقض مع أقواله أيضا، فطلب من سليمان مواجهتهم لإحراجهم إذا استدعى الأمر .. لكنه رفض، وقال في الرسالة السابقة الإشارة إليها:

"عايز أقول شيء آخر، عن زملائي الذين شهدوا ضدي في النيابة وبعدين رجعوا صححوا أقوالهم بعد ذلك، وبكوا واعترفوا :

لقد قال لي رئيس النيابة في التحقيق: أقوالك تتناقض مع أقوال زملائك ولهذا لا بد من مواجهة بينك وبينهم وقلت له: إنني أرفض بشدة هذه المواجهة .. لا أريد أن أواجههم لأنني لا أريد أن أجرحهم أو أن أسبب لهم مشاكل ..

"عندما قابلوني بعد ذلك في السجن حضنوني وبكوا، وقالوا لي: "احنا نعرفك يا سليمان ويكفي إنك علمتنا كيف نحرس ونحافظ على حدودنا مهما كانت الظروف"

قلت لهم: أنا أعرف ظروفكم ولكن أقسم برب العزة أني أجبت على كل سؤال في النيابة بالحقيقة .. كل الحقيقة ...

وعندما كنت أودعهم بكيت ..

فقالوا لي:

"أتبك يا سليمان وأنت علمتنا الشجاعة".

فقلت لهم:

"أنا أبكي من الفراق فقد عشت معكم عامين ونص"

ولا نملك أي تعليق ..

فإننا أمام "مسيح" في عصر المادة، والمصالح، والهيروين، والدولار، والسوق السوداء ..

وفيما بعد ... سيتأكد لنا هذا الإحساس تماما!

خاتم سليمان خاطر

  بدأت قضية سليمان خاطر قضية "مدنية" وانتهت قضية "عسكرية" تم هذا التحول في ساعات قليلة جدا .. ومع ذلك فلتلك الساعات القليلة جدا قصة تستحق أن تروى .. وتستحق أن نغوص في تفاصيل تفاصيلها حتى النخاع ..

لقد قبض على سليمان بعد نزوله من الجبل، واقتيد تحت الحراسة المشددة إلى ديوان قسم شرطة "نويبع"، وهناك لم يتردد في أن يتكلم وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت له، دون أن يطلب محاميا يحضر التحقيق، ودون أن ينبهه أحد إلى أن كل كلمة سيقولها، ستحسب عليه .. وقد تلف حبل المشنقة حول عنقه.

تولى التحقيق مع سليمان مأمور القسم .. وبعد أن انتهى، سلمه إلى العقيد رضا الحمامي قائد ثاني قطاع الأمن المركزي بشرم الشيخ، والرائد أحمد الشيخ قائد ثاني سرية الأمن المركزي بنويبع .. وقد وقع الأخير على المحضر الذي فتحه المأمور، بالاستلام.

نقل سليمان من مبنى القسم إلى مبنى القطاع في سيارة شرطة، محاطة، بحراسة مشددة .. وقد استغرق المشوار حوالي ست ساعات ...

وخلال هذا المشوار الطويل، لم يتحدث أحد مع سليمان، حتى الرائد أحمد الشيخ، الذي قال ذلك في محضر النيابة العسكرية ... وبعد أن وصل سليمان إلى مبنى القطاع في شرم الشيخ، اختفت أخباره لمدة ساعات، تم خلالها الكثير .. وفي الساعة الثالثة والنصف من فجر 7 أكتوبر 1985 وصل سليمان إلى سجن "فنارة" العسكري بالسويس مع مندوب من قطاع الأمن المركزي، وسلمه المندوب بموجب "الكتاب رقم 11/ 200/ 85 بتاريخ 7/ 10/ 85" إلى قائد السجن، العقيد "محمد عبد الحميد علي" .. وكان قائد السجن على علم مسبق باحتجازه قبل أن يصل إليه، وذلك بعد أن أصدر له قائد الجيش الثالث الميداني – الذي يخضع لأوامره – قراره بحجز سليمان "حجزا شديدا" لمدة شهر من الساعة الثانية ظهر يوم 6 أكتوبر 1985.

وفيما بعد قال سليمان خاطر:

- لما تقرر أني أنقل من قسم "نويبع" إلى سجن "فنارة" بالسويس، كان مطلوبا أن ذلك يتم في وجود حارس، واختاروا هذا الحارس، وكان لازم الحارس يستلم بندقية وذخيرة، ويشيل البندقية ويمشي خلفي حتى يسلمني للسجن .. لكن هذا الجندي اللي عين لحراستي رفض رفضا قاطعا أن يتسلم البندقية وقال: لا أحمل بندقية خلف سليمان خاطر ولا أرفع سلاحي خلف سليمان خاطر" .. وحين أصروا على أن يتسلم البندقية قال: "أنا مستعد أوقع على استلام السلاح ولكن غير مستعد أني أحمله معي، وحاسيبه على مسئوليتي في مكانه" .. وبالفعل مشى حارسي إلى جواري من غير بندقية وقطع معي أكثر من 200 كيلو، وهو يرفض أن يحمل سلاحه خلفي وقال لي في الطريق: "أنا عارف إنك مخلص لمصر، وكل مصري، مش ممكن إنه يحمل سلاح وراء أخيه وهوه يعرف إنه مخلص لوطنه" .. إن اسم هذا الجندي هو عبد الشافي عبد الرءوف وهو من الإسماعيلية، وممكن يكون موقفه ده أكثر حاجة أسعدتني".

"لكن أكثر حاجة عذبتني هوه إني حين نقلت إلى سجن فنارة دخلت غرفة السجن مع عدد من الأشخاص، عرفت بعد ذلك إنهم جميعا هاربون من الجندية، ومقبوض عليهم لهذا السبب .. كان مؤلما جدا بالنسبة لي .. أنا أعطيت الجندية ثلاث سنوات ويوم واحد بالضبط .. وأنا واقف على تبة عالية أحمي ستين كيلو مترا من حدود مصر الشرقية، أوضع بعد كده في غرفة سجن واحدة مع "الهاربين من الجندية" .. ده يعني إيه؟

وحسب ما قاله قائد السجن:

"إنه تم توقيع الكشف الطبي على سليمان خاطر – فور دخوله السجن – ولم يجدوا أي إصابات ظاهرة، وقد جاءت نتيجة الكشف الطبي عليه مطابقة لتقرير طبيب الأمن المركزي الذي سبق ووقع الكشف عليه".

وفي نفس اليوم الذي دخل فيه سليمان خاطر سجن "فنارة" العسكري، عرض على النيابة العسكرية لاستجوابه .. وكانت النيابة العامة التي تولت التحقيق أولا قد فشلت في ذلك، بل قد فشلت في معرفة مكانه .. كيف؟ .. ولماذا؟

في تمام الساعة الحادية عشرة من مساء يوم الحادث، دق جرس التليفون في استراحة وكيل نيابة "رأس سدر" الجزئية .. رفع الرجل (واسمه بالمناسبة محمد نصر فتحي) سماعة التليفون ليجد على الطرف الآخر مأمور قسم نويبع ...

- خير يا سيادة المأمور!

- فيه جندي أمن مركزي بمنطقة طابا أطلق النار على بعض "المصطافين" الأجانب، فأصاب بعضهم.

- وأين هو؟

- فتحت له محضر وسأتصل بك في وقت آخر!

أغلق وكيل النيابة السماعة، ثم عاد فرفعها ليتصل بالمستشار "بشري مطر" – المحامي العام لنيابة جنوب سيناء .. وعندما نجح في ذلك، لخص له ما سمعه من مأمور قسم "نويبع" فقرر المستشار "بشري مطر" بسرعة، ضرورة الانتقال إلى مكان الحادث "لمباشرة إجراءات التحقيق وإجراءات المعاينة".

صباح اليوم التالي فوجئ وكيل النيابة – وفوجئ معه المصريون كلهم – بالصحف تنشر خبر الحادث، دون أن تذكر اسم سليمان خاطر، وإن كانت قد ذكرت أنه مصاب بمرض عقلي.

وكان هذا الوصف، وصفا (إسرائيليا) تماما، كان أول من استخدمه المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" .. وإن كان قد نسبه إلى أحد الجنود المصريين .. وفيما بعد اتضح كذب هذا النسب .. وفيما بعد أنكر الرائد أحمد الشيخ أنه سمع أن سليمان مصاب بخلل عقلي .. وفيما بعد كلف سليمان خاطر، المحامي عبد الحليم رمضان برفع قضية ضد كل من وصفه بالجنون .. وفيما بعد قال التقرير الطبي الذي أعد بعد فحص سليمان خاطر نفسيا وعصبيا إنه "ليس به مرض عقلي أو تخلف أو صرع".

في نفس الصباح .. توجه وكيل النيابة "محمد نصر فتحي" إلى قسم شرطة "نويبع" .. وسأل عن المأمور ونائبه، فعرف أنهما في مكان الحادث .. كان ذلك في الساعة الثامنة والربع صباحا، فقرر الانتقال إليهما هناك .. واستغرق ذلك بعض الوقت .. وهناك قدم له المأمور المحضر رقم 186 لسنة 1985 – الذي فتحه وأغلقه في الليلة الماضية.

وبعد فترة عاد الجميع إلى مبنى القسم .. وحرزوا البندقية المستخدمة في الحادث، بعد لفها بقطعة من القماش الأبيض، وربطها بالدوبار، وختمها بالشمع "الأسود" في أربعة أماكن .. وحرزوا "السونكي" في مظروف "أصفر"، وشنطة من القماش "الأخضر" ذات سوستة بيضاء، بحمالة كتف بداخلها أكياس بلاستيك بها عدد من الطلقات الفارغة والحية.

ثم .. استدعت النيابة العامة مأمور القسم العقيد محمد إسماعيل علي ونائبه للشهادة . واستدعت للشهادة أيضا المقدم حسن خلف قائد سرية الأمن المركزي بنويبع، وجنود النقطة التي وقع فيها الحادث: عطية إبراهيم .. وعلي إبراهيم .. وحسن الخولي .. وحسونة حمودة .. وقائد النقطة .. ملازم أول طارق سلطان.

وقد رصدت هذه الأقوال وغيرها في محضر النيابة العامة الذي لم يزد على 31 صفحة .. بخلاف 3 صفحات عن معاينة مكان الحادث ..

وفيما بعد وصلت محاضر تحقيقات النيابة العسكرية إلى أكثر من 200 صفحة.

وفي مساء ذلك اليوم .. توجه كيل النيابة إلى ديوان شرطة "شرم الشيخ" وقابل العقيد "هاني خضر" مأمور القسم ..

وسأله:

- أين المتهم سليمان محمد عبد الحميد؟

فرد:

- أنا لا أعلم عن مكان تواجده شيئا .. ولم ترسل إشارات أو بيانات عنه من رئاسة قطاع الأمن المركزي في شرم الشيخ!

ووجد وكيل النيابة أن من الصعب الانتقال إلى قطاع الأمن المركزي بشرم الشيخ في نفس الليلة، فقرر تأجيل ذلك إلى صباح اليوم التالي ..

ولا بد أنه فعل ذلك وسط دوامات من الدهشة والاستغراب ..

ولا بد أنه تساءل بينه وبين نفسه عن السر وراء إخفاء المتهم عن النيابة ...

في صباح اليوم التالي توجه وكيل النيابة إلى مبنى القطاع، وهناك التقى بالمحامي العام لجنوب سيناء، وراحا يسألان نفس السؤال: أين سليمان؟

ولم يجدا إجابة!

واتصل المحامي العام تليفونيا باللواء أمين الحسيني مدير أمن جنوب سيناء، فحوله إلى العميد جهاد حرب، فسأله المحامي العام:

- أين سليمان يا سيادة العميد .. نريد استجوابه

فرد سيادة العميد:

- هناك مندوب سيقابل سيادتك بصفة رسمية .. سيحضر بعد قليل!

وبعد قليل جاء الرجل فعلا ..

لم يكن هذا الرجل شخصا عاديا .. كان المقدم يحيى حسن قاسم رئيس نيابة السويس العسكرية، وعندما قابله المحامي العام، قدم له مفاجأة غيرت خطة عمله، وقلبتها تماما .

كانت المفاجأة صورة من قرار رئيس الجمهورية رقم 380 لسنة 1985 بتحويل "الجرائم المنسوب ارتكابها للرقيب مجند سليمان محمد عبد الحميد التابع لقوات الأمن المركزي والتي وقعت منه بجهة جنوب سيناء بتاريخ 5/ 10/ 1985 إلى القضاء العسكري وما يرتبط بها من جرائم".

وقد صدر هذا القرار يوم 6 أكتوبر وتأشر عليه من المدعي العام العسكري بتاريخ يوم صدوره، وقال في التأشيرة: "يندب رئيس نيابة السويس العسكرية لإجراء التحقيق" .. وبعد أن اطلع المحامي العام على صورة القرار الجمهوري قرر تسليمه التحقيقات وباقي الأوراق.

وبعد أن سلم المستشار بشري مطر ما في حوزته من أوراق، حصل على توقيع المقدم يحيى قاسم بالاستلام، وغادر المكان مع رجال النيابة العامة.

صورة القرار الجمهوري التي كان يحملها رئيس نيابة السويس العسكرية للمحامي العام، تسلمها ظهر اليوم السابق .. بالتحديد في الساعة الثالثة ظهرا .. وعلى الفور فتح محضر التحقيق .. واتصل بوكيل نيابة السويس العامة "محمد الفاتح" وسأله عن أوراق التحقيق فقال له: إن المستشار بشري مطر في نويبع للتحقيق والمعاينة، وتأكد يحيى قاسم من هذه المعلومة بعد اتصاله ببيت المستشار مطر .. وبعد ذلك اتصل بالمدعى العام العسكري وقال له:

- يا فندم الأوراق كلها في حوزة النيابة العامة!

فرد عليه المدعى العام العسكري:

- انتقل فورا لمكان الحادث! وافعل اللازم!

بعد ذلك اتصل رئيس نيابة السويس العسكرية بالعميد حمدي طاحون رئيس شعبة التنظيم والإدارة بالجيش الثالث وأبلغه أن قائد الجيش الثالث (لواء أ. ح. حسن الزيات) أمر بتدبير وسيلة الانتقال اللازمة له ولمساعديه إلى مكان الحادث .. وبالفعل تم تجهيز طائرة في مطار "القطامية" أقلعت بطاقم التحقيق في السابعة والنصف من صباح يوم الأحد 7 أكتوبر 1985 .. وكانت الطائرة من طراز "هيل – جازيل" – عمودية.

هبطت الطائرة دون متاعب في أحد مطارات جنوب سيناء، القريبة من مقر قيادة الأمن المركزي هناك .. وفي ذلك المقر قابل المقدم يحيى قاسم – رئيس نيابة السويس العسكرية المستشار بشري مطر محامي السويس العام، وأطلعه على صورة القرار الجمهوري، وقدم له صورة منه .. وقابل قائد القطاع العميد جهاد توفيق الذي أبلغه بسهولة: أن المتهم قد رحل إلى سجن فنارة العسكري برفقة الحرس اللازم، وأن هناك خمسة شهود يمكن استجوابهم، سبق للنيابة العامة أخذ أقوالهم، وأن أحراز القضية جاهزة للاستلام، وكذلك أوراقها.

وقبل أن تنكسر الشمس ويهبط الليل، ويصعب الطيران، قرر المقدم يحيى قاسم الانتقال بالطائرة إلى أقرب مكان للحادث يمكن أن تهبط فيه .. ولكنه اكتشف أن الطائرة في حاجة إلى وقود .. والمسئول عن الوقود في المطار (مطار رأس نصراني بشرم الشيخ على بعد 206 كيلو مترات من الحادث) غير موجود .. ولم يصل ذلك المسئول في الوقت المناسب للطيران .. قبل آخر ضوء فتعذر الطيران إلا في صباح اليوم التالي (8 أكتوبر) .. وفي حوالي الساعة الثالثة إلا ثلث وصل طاقم النيابة العسكرية إلى مكان الحادث للمعاينة (بعد أكثر من يومين على الحادث) فاكتشف "عدم جدوى المعاينة حيث قد تمت إزالة آثار الحادث بعدما قامت به النيابة العامة" .. وكانت النيابة العامة قد رسمت رسما "كروكيا" للمعاينة، فعرضها المقدم يحيى قاسم على نائب مأمور قسم نويبع – الذي رافق النيابة العامة في المعاينة – فأكد أن الرسم مطابق "لمشاهدته الفورية للحادث" ...

وبعد هذه المقدمة التي طالت، بدأت النيابة العسكرية في استجواب الشهود والمتهم! وبعد هذه المقدمة التي طالت، تحولت قضية سليمان خاطر من قضية مدنية تحمل رقم 186 إلى قضية عسكرية تحمل رقم 142!

لم يمر تحويل القضية من القضاء المدني إلى القضاء العسكرية بسهولة .. ففي يوم 2 ديسمبر 1985 قدم المحامي عبد الحليم رمضان، نيابة عن سليمان خاطر، عريضة دعوى لوقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 380 لسنة 1985 الخاص بتحويل القضية إلى القضاء العسكري .. وكانت الدعوى موجهة إلى المستشار محمد محمود عبد المجيد بصفته نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة القضاء الإداري، ورئيس الدائرة الأولى لمنازعات الأفراد والهيئات .. وكانت الدعوى موجهة ضد رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والرئيس الأعلى للإدارة العامة للقضاء العسكري وإدارة المدعي العام العسكري.

وقد جاءت في هذه العريضة:

"بمناسبة تعدي نفر من شذاذ الآفاق الذين لا وطن لهم ولا أرض ولا هوية، أو جنسية على أرض الكنانة الطاهرة في عري لا تقره شريعة في سماء أو في أرض، في محاولة استطلاع لموقع عسكري في حراسة المواطن سليمان خاطر ورفضهم الانسحاب إلى حيث أتوا بعد رفضهم الإفصاح عن شخصياتهم وغرضهم من انتهاك حرية المنطقة العسكرية الحرام بما في أيديهم من أدوات ومهمات يحتمل فيها القنابل وغيرها، وكان من بينها آلات تصوير اضطر المواطن سليمان خاطر إلى استعمال سلاحه الذي قضى على سبعة من الشذاذ المهاجمين وأصاب غيرهم بإصابات لم تقتلهم ...

"وقامت النيابة العامة بضبط الواقعة وبدأت تحقيقاتها التي توقفت فجأة بسبب إصدار رئيس الجمهورية قراره رقم 380 لسنة 1985 بإحالة القضية إلى القضاء العسكري وبدأت النيابة العسكرية إجراءاتها الباطلة التي انتهت بتقديم سليمان خاطر إلى محكمة عسكرية في محاكمة سرية، غير مأمونة العاقبة، بينما تتبادل حكومة العنصرية الصهيونية وحكومة المقدم ضده الرسائل يوميا في شأن محاكمته ونتائجها وآثارها .. وتذيع على الملأ حكومة الإرهاب الصهيوني أنها لن تبدأ مفاوضاتها بشأن طابا الحزينة قبل تقديم ضمانات إعدام المتهم المدني من المحاكمة العسكرية التي تباشر محاكمته ...

"ومن حيث إن قرار رئيس الجمهورية بإحالة القضية إلى القضاء العسكري استند إلى حالة الطوارئ وما تخول لرئيس الجمهورية من حقوق، ولم يمد مجلس الشعب حالة الطوارئ إلا بعد تصريح الحكومة بعدم استخدام قانون الطوارئ إلا في حوادث الإرهاب وضد الإرهابيين، وترتبط هذه الحالة بأسبابها التي أعلنت من أجلها وهي حالة البلاد الأمنية الناشئة عن قتل رئيس الجمهورية السابق محمد أنور السادات وتأمين البلاد من شر فتنة توقعها رئيس الجمهورية المؤقت الذي أعلن حالة الطوارئ قبل تولي سلطاته الدستورية بحلف اليمين أمام مجلس الشعب مما يترتب عليه بطلان قراره بإعلان هذه الحالة الاستثنائية في أنحاء البلاد، مما يترتب عليه بطلان إعلانه وانعدامه وبطلان كل إعلان بتمديد مدة الحالة المعلنة فيه فيما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا من إصدار رئيس الجمهورية لقرارات لها قوة القانون في غيبة السلطات التشريعية يرتبط حتما بضرورة تبرر ذلك وتقتضيه وتخضع في إثبات وجودها أو عدم وجودها لرقابة القضاء فإذا ثبت عدم وجود ضرورة للتشريع الصادر بالقرار الجمهوري فإنه يبطل ولا يصححه عرض على السلطة التشريعية أو موافقة عليه ...

"وحيث يحق طلب وقف تنفيذ قرار إحالة قضية قتل والشروع في قتل (الإسرائيليين) المتهم فيها سليمان خاطر لدى القضاء العسكري في محاكمته الجارية الآن لوقف الخطر الذي يتهدده نتيجة هذه المحاكمة في روحه وحريته ...

"لذلك .. نلتمس وقف تنفيذ القرار المطعون عليه بصفة مستعجلة، شاملا كافة آثاره بما فيها المحاكمة العسكرية المعقودة من أجل محاكمة سليمان خاطر عسكريا فيما نسب إليه من ادعاءات، ثم بإلغاء هذا القرار واعتباره كأن لم يكن، مع إلزام المدعي عليه في جميع الأحوال بكل المصروفات، وشمول الحكم في كل طلب بالنفاذ وبلا كفالة والأمر فيه بتنفيذه بموجب مسودته وبدون إعلان، ومع حفظ كل حق في التعويضات بجميع أنواعها".

عندما بدأت محاكمة سليمان خاطر العسكرية كان عبد الحليم رمضان خارج البلاد وهذا ما يفسر تأخره في رفع هذه الدعوى ..

وفيما بعد قال عبد الحليم رمضان:

- إنني عندما تقدمت بهذه الدعوى للقضاء الإداري، أردت إعادة محاكمة سليمان خاطر أمام قاضيه الطبيعي باعتباره فردا من هيئة الشرطة وهي طبقا للمادة 184 في الدستور هيئة مدنية، نظامية، لا هيئة عسكرية، حتى تخضع للنظام العسكري، ويعتبر جنودها مثل الأفراد المدنيين إذا ما ارتكبوا جناية قتل سواء بحق أو بغير حق .. وتختص محكمة الجنايات العادية بنظر قضاياهم ومحاكمتهم أمام هذه المحكمة، وهذا يعطيهم الحق في الطعن في الحكم أمام محكمة النقض، الأمر الذي لا يتوافر في المحاكم العسكرية، وبذلك لا يهدر حقه في الطعن أمام محكمة أعلى ... أما في المحكمة العسكرية فنجد أن الأحكام لا تقبل الطعن، لأن الذي يصدق عليها وزير الدفاع أو رئيس الجمهورية حسب الحالة .. وفي هذه الحالة يجوز تقديم التماس ينظر بطريقة مكتبية بلا مرافعة، بناء على مذكرات تقدم من المحكوم عليه ينظرها الضابط الملتمس لديه ويقرر بينه وبين نفسه قبول الالتماس أو رفضه .. إلغاء الحكم أو تخفيضه أو تأييده .. حسب ما يراه ...

والمحكمة العسكرية هنا غير مختصة ... ولا يتوافر فيها لسليمان خاطر نص المادة 68 من الدستور التي تفرض محاكمة كل مواطن أمام قاضيه الطبيعي ...

وإذا أصدر رئيس الجمهورية قرارا – كالذي أصدره في قضية سليمان خاطر – بمعاملته بقانون الطوارئ في تهمة قتل وإحالته إلى القضاء العسكري فيكون قد ألحق إساءة بمركز المتهم الذي كان يضع باعتباره عندما وقع الحادث أنه سيحاكم بقانون العقوبات العادي أمام محكمة جنائية مشكلة من مستشارين، وله حق الطعن في أحكامها ...

إن قرار رئيس الجمهورية – هنا – يعد تعديا على حق الجندي – الدستوري، وخاصة أن قانون الطوارئ نفسه باطل لصدوره في غيبة مجلس الأمة (الشعب بعد ذلك) من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، دون أن يعرض على المجلس خلال 15 يوما من صدوره، وتطبيقه يعتبر اغتصابا للسلطة التشريعية.

ولم ينس عبد الحليم رمضان أن يربط – وهو يتحدث – بين سليمان خاطر وخالد الإسلامبولي، وسليمان الحلبي، وأدهم الشرقاوي، وقال إنه يعتبر سليمان خاطر هو شخصية عام 1985 ... وقال إن التاريخ سيخلده مهما قالوا عنه، ومهما كانت قدرتهم على إلصاق الجنون بعقله وتصرفاته!

نظرت محكمة القضاء الإداري دعوى عبد الحليم رمضان وسليمان خاطر في اليوم التالي لتقديم عريضة الدعوى ...

وأمام المحكمة .. أقام عبد الحليم رمضان دفاعه على أساس أن قرار رئيس الجمهورية المطعون فيه، يعد إساءة لاستعمال السلطة، وأنه قرار إداري وليس قرارا قضائيا، وأنه قرار يستند إلى حالة الطوارئ، التي لا يستند إلى أي سند دستوري، كما سبق وأوضح ... وفي هذه الجلسة أجلت القضية إلى جلسة ثانية في 7 ديسمبر.

وفي جلسة 7 ديسمبر قدم محامي الحكومة حافظة مستندات، تحوي صورة، طبق الأصل، من قرار رئيس الجمهورية رقم 380 لسنة 1985 – المطعون فيه، وقدم مذكرة بدفاعه، دفع فيها بعدم اختصاص المحكمة ولائيا بنظر الدعوى تأسيسا على أن سليمان خاطر يخضع أساسا لقانون الأحكام العسكرية باعتباره "أحد جنود القوات المسلحة" .. الذين يؤدون "الخدمة العسكرية والوطنية في الشرطة" ... وبالتالي فهو يحاكم بالقوانين "الخاصة بضباط الصف والجنود في القوات المسلحة، ويكون القضاء المختص بمحاكمته عن الجريمة المنسوبة إليه هو القضاء العسكري".

وقال محامي الحكومة في مذكرة دفاعه:

"إن القرار المطعون فيه لم يصدر من رئيس الجمهورية بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية وإنما بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ... أو باعتباره السلطة المنوط بها قانونا – طبقا لحكم المادة 40 من قانون الأحكام العسكرية – إحالة الدعوى إلى المحكمة العسكرية المختصة بالنسبة للعسكريين، ومن ثم تنحسر عنه صفة القرار الإداري".

كما دفع محامي الحكومة بعدم قبول الدعوى بالنسبة لعبد الحليم رمضان، "لانتفاء مصلحته باعتبار أن القرار المطعون فيه لا يمس مصلحة شخصية مباشرة له"، وفي الجلسة نفسها أدوع عبد الحليم رمضان هو وسليمان خاطر مذكرتين بدفاعهما تضمنتا:

- أن قرار رئيس الجمهورية المطعون فيه صدر بالمخالفة لحكم المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية على أساس أن نص هذه المادة يعطي لرئيس الجمهورية سلطة إحالة جرائم معينة (أي جرائم بنوعها) إلى القضاء العسكري، ولا يخول له رخصة إحالة قضية بذاتها (لم ينص عليها في هذه المادة) إلى هذا القضاء، كما أن هذه المادة المشار إليها مخالفة لأحكام الدستور لأنها تحرم المواطن المدني من قاضيه الطبيعي وهو القضاء العادي وتخضعه لقضاء عسكري لا تتوافر فيه الضمانات التي يكفلها الدستور أمام القضاء العادي.

وفي جلسة الحكم اعتبرت المحكمة الدعوى مقبولة شكلا بالنسبة لسليمان خاطر، ومرفوضة شكلا بالنسبة لعبد الحليم رمضان لعدم وجود مصلحة شخصية مباشرة له في إقامتها، وقضت برفض الدفع الذي تقدم به محامي الحكومة "بعدم اختصاصها ولائيا بنظر الدعوى" وأكدت أنها ليست المحكمة المختصة في مثل هذه الأمور.

لكنها ... قضت أيضا برفض الطلب المستعجل بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية المطعون فيه، وأمرت بإحالة الدعوى إلى هيئة مفوضي الدولة لتقديم الرأي القانوني في طلب الإلغاء ...

باختصار ... فشلت هذه المحاولة القانونية لإيقاف محاكمة سليمان خاطر عسكريا، وإعادته إلى القضاء العادي وكان لا بد من انتظار فتوى مجلس الدولة .. وكان هذا الانتظار ممتلئا بالانفعال والتوتر .. وخاصة أن المحكمة الدستورية العسكرية التي تحاكم سليمان خاطر يمكن أن تصدر حكمها عليه قبل فتوى مجلس الدولة ...

وأمام هذا المأزق لم يكن هناك مفر من استفزاز مشاعر الناس للضغط (شعبيا) على رئيس الجمهورية لإصدار قرار – طبقا للسلطات المخولة له واستنادا للقانون والدستور – بتحويل سليمان خاطر من القضاء العسكري إلى القضاء العادي ..

وتحركت أحزاب المعارضة .. خاصة حزبي "العمل" و "التجمع" ...

واحتلت قضية "سليمان خاطر" العناوين الرئيسية .. والمساحات الكبرى من الصحف المعارضة .. وكانت هذه القضية – من قبل – لا تحظى بربع هذا الاهتمام .. إن قرار المحكمة الإدارية كان بمثابة نزع الفتيل لقنبلة شديدة الانفجار .. سياسيا .. وجماهيريا ..

فقد أفردت ندوة حزب "العمل" الأسبوعية والتي عقدت بعد أيام قليلة من حكم المحكمة الإدارية – مساحتها الكبرى للحديث عن سليمان خاطر، وقد كانت هذه الندوة – بالمصادفة – عن حقوق الإنسان بمناسبة مرور 37 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ..

وقال حلمي مراد:

إنه بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان لا بد أن نؤكد على حق سليمان خاطر في الوقوف أمام محكمة مدنية بدلا من مثوله أمام المحكمة العسكرية بوصفه رجل شرطة وليس جنديا بالجيش .. بالإضافة إلى أنه كان يؤدي عملا مكلفا به ... وذلك حتى نوفر له محاكمة عادلة، وخاصة أن القضاء العسكرية لا يتمتع بالاستقلالية بل يخضع لوزير الدفاع .. وإذا ادعت الحكومة أنها تحاكمه أمام القضاء العسكري عملا بقانون الطوارئ فنحن نذكرها بأنها التزمت أمام مجلس الشعب بعدم استخدام قانون الطوارئ إلا ضد الإرهابي، حامل السلاح ... وهذا لا ينطبق على سليمان خاطر ... وطبقا للميثاق العالمي لحقوق الإنسان يجب محاكمته أمام القضاء المدني وليس العسكري.

وأعلن المهندس إبراهيم شكري أنه سيتقدم بطلب إحاطة عاجل للحكومة حول محاكمة سليمان خاطر أمام القضاء العسكري، وليس القضاء العادي، وعدم توفير حقوقه وضماناته القانونية أثناء محاكمته وذلك لإصدار رئيس الجمهورية قراره بإحالته إلى القضاء العسكرية مستخدما ما خوله له قانون الطوارئ الذي أعلنت الحكومة وأعلن رئيس الجمهورية بأنهما لن يستخدماه إلا في حالة الإرهاب الخارجي المسلح.

وفيما بعد .. لم يستطع إبراهيم شكري ولا أي نائب معارض آخر في البرلمان، فرض قضية سليمان خاطر على مجلس الشعب .. وكان ذلك بسبب رفض أغلبية الحزب الوطني الحاكم، توريط الحكومة في هذه القضية الصعبة تحت قبة السلطة التشريعية!

ومن ناحية أخرى طالب "[[فتحي رضوان]]" رئيس منظمة حقوق الإنسان العربية، بإلغاء محاكمة سليمان خاطر .. وقال:

من المؤكد أنه لا وجه لإقامة الدعوى حيث تبين أن المتهم تعرض لضغوط نفسية مؤلمة على مدى عامين ونصف عام في هذا المكان المعزول والمليء بالحشرات والحيوانات الشرسة ... يضاف إلى ذلك الاستفزازات اليهودية التي تعرض لها، والتي أفقدته السيطرة على مشاعره وأعصابه ..

وفيما بعد .. استغرب بعض الكتاب في الصحف اليومية دعوة [[فتحي رضوان]] لإلغاء المحاكمة .. وقالوا: إنها دعوة غريبة خاصة إذا ما صدرت من رجل قانون مثل [[فتحي رضوان]]، يعرف جيدا أن إلغاء المحاكمات، يعني إلغاء القانون، وإلغاء الشرعية.

وكان [[فتحي رضوان]] قد أضاف:

إن ما فعله سليمان خاطر لا يقاس بما فعله السفاح (الإسرائيلي) "شارون" الذي لا يزال وزيرا مسئولا في (إسرائيل)، رغم ثبوت إدانته في قتل 3 آلاف بريء في صبرا وشاتيلا .. إن الدولة المصرية يجب أن تأخذ ذلك في حسبانها وهي تحاكم سليمان خاطر.

انضم إلى هذه الحملة الشعبية بعض القواد العسكريين القدماء ... كان أبرزهم الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية الأسبق .. وأمين هويدي مدير المخابرات الأسبق ..

إن السؤال الذي كان على هؤلاء القواد الإجابة عليه هو: هل كان تصرف سليمان خاطر منافيا لتقاليد الحراسة، وأصول نوبات الخدمة بالسلاح؟ أم لا؟

قال الفريق صادق:

يعود إلى ذاكرتي حادث وقع في عام 1943 فقد حدث أن أثار اقتراب قارب من كوبري قصر النيل انتباه جندي الحراسة فاتجه ببصره إليه فأدرك أن الراكب يبحر بقاربه في اتجاه المنطقة الممنوع الاقتراب منها وربما سيصر على المرور من تحت الكوبري المحظور المرور من تحته تماما بعد الغروب .. استمر ينظر إلى القارب وراكبه عليه ينتبه إلى علامات التحذير إلا أن ذلك لم يحدث، فلم يجد الجندي بدا من استخدام بندقيته وأطلق طلقة للتحذير، وبعد إطلاق الطلقة التحذيرية الثانية أدرك الجندي أن الراكب غير مبال بالتحذير الذي كان واضحا تماما وأنه في طريقه للمرور بقاربه من أسفل الكوبري، أي من المنطقة التي صدرت إليه التعليمات بألا يسمح لمخلوق بالمرور منها، وبدون تردد صوب الجندي بندقيته وضغط على الزناد فانطلقت طلقة أصابت الراكب وأردته قتيلا في قاربه.

وهاجت الدنيا .. زاد الصخب بعد أن عرف الجميع أن الراكب القتيل بريجادير "عميد" في الجيش البريطاني أي قائد كبير من قادة قوات الاحتلال .. وليس ذلك فقط بل هو أيضا عضو في العائلة المالكة البريطانية.

وارتفعت الأصوات تطالب بمحاكمة جندي الحراسة وإعدامه، وفعلا تم وضع الجندي تحت الحراسة وجرى التحقيق معه .. ولم تكن هناك أية شبهة في أنه أدى واجبه تماما وأنه لم يرتكب أية أخطاء، وأن الخطأ هو خطأ البريجادير الإنجليزي .. خاصة وهو يدرك تماما المناطق الممنوعة، ومعنى طلقات التحذير .. والأهم من ذلك أنه يدرك خطورة ما أقدم عليه، أي المرور تحت كوبري قصر النيل الممنوع المرور من تحته.

وعندما عرض الأمر على أعلى قيادة عسكرية قال: ولماذا يحاكم؟ هل كان واجبه أن يقتل المصريين فقط دون الإنجليز؟

وفعلا أخلي سبيل جندي الحراسة بعد انتهاء التحقيق معه وانتصرت القوى الوطنية التي طالبت بعدم محاكمة الجندي الذي لم يخطئ.

وأضاف:

كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية وأثناء انسحاب القوات البريطانية من شمال أفريقيا أمام قوات المحور، أي في الوقت الذي خشيت فيه السلطات إقدام الأعداء أو المتعاونين معهم على بث الألغام أو نسف الكباري لعرقلة خطط التحركات العسكرية.

وهذه الواقعة أردت أن أذكر الرأي العام بها .. أي مجرد التذكير بمناسبة إجراءات محاكمة جندي الحراسة سليمان خاطر.

وقال أمين هويدي:

أنا أذكر واقعة مشابهة لما فعله سليمان خاطر .. كانت هذه الواقعة في حرب 1948 .. في فلسطين .. فقد كان أحمد عبد العزيز قائد الفدائيين المصريين في ذلك الوقت راجعا إلى خطوطنا الدفاعية في ليلة من الليالي .. ولم يكن يعرف كلمة "سر الليل" التي بواسطتها يمكن أن يخترق خطوطنا في أمان، فلما اقترب من الحارس، طلب منه الحارس أن يقف، ويقول كلمة سر الليل، ولم يتوقف أحمد عبد العزيز ولم يقل كلمة سر الليل، وهنا أطلق عليه الحارس النيران فقتله .. ومات أحمد عبد العزيز برصاص الحارس المصري وليس برصاص اليهود .. ولم يحاكم الحارس لأنه كان يؤدي واجبه ..

وقال الفريق صادق:

"إني أضم صوتي إلى أصوات الجماهير وأطالب بوقف المحاكمة".

وأضاف:

وإذا كانت (إسرائيل) لا تعترف بالقوانين أو الأعراف العسكرية إلا إذا كان الأمر في صالحها فإنه من غير المعقول أن نقدم نحن على محاكمة جندي حراسة بسبب قيامه بأداء واجبه؟ أي عار سيلحق بنا على مدى التاريخ لو واصلنا محاكمة هذا الجندي وإذا لم نتخذ موقفا مماثلا للموقف الذي اتخذته مصر في الأربعينيات؟

والغريب أن عمر التلمسانيالمرشد العام للإخوان المسلمين – طالب بنفس ما طالب به الفريق فوزي .. وقال:

"ليتنا جميعا سليمان خاطر" ..

وأضاف:

لو أن سليمان خاطر لم يفعل ما فعله لوجب تقديمه إلى مجلس عسكري يحاكمه لأنه قعد عن الواجب المحتوم" .. "لقد قلنا وكررنا أنه على حكام هذه المنطقة المسلمة أن يتركوا حرية شعوبها في التصرف مع المعتدين على كرامة البلاد .. إن الشعوب قادرة على أن تلقم كل خصومها رصاصا يسكت أصواتهم ويوقف تصرفاتهم التي لا تتفق مع خلق أو قانون" .. "كنت أظن أن تصرف سليمان خاطر تدعيم للجانب المصري في مفاوضاته مع (إسرائيل) لأن الجانب المصري عليه أن يوضح هذه التصرفات على أنها مشاعر مكتومة نحو موقف (إسرائيل) من القضية الفلسطينية، واعتدائها على الجولان وجنوب لبنان والضفة الغربية وغزة ... إن هذه التصرفات دليل واضح على ما تغلي به القلوب المصرية من استهانة (إسرائيل) بكل ما تواضع عليه الناس من أخلاق وقوانين .. إن احترام الرأي العام المصري، يقضي بأن يكرم هذا الرجل بدلا من أن يجرم".

"إنني أقترح ألا يوكل أي محام للدفاع عن سليمان خاطر، وأن يترك مصيره لقضاته، فهم لا يقلون غيرة وحفاظا على كرامة بلادهم من غيرهم، وما فعله سليمان عدل، ودفاع شرعي، وقضاة مصر أهل عدل" .. "قد تنتدب المحكمة من يدافع عن سليمان خاطر، استيفاء لإجراءات المقاضاة الجنائية، فعليه أن يمتنع وأن يقبل العقوبة التي توقع عليه مهما كانت، فإنها أشرف له من الدفاع عن عمل كان يجب أن يعمل على وجه من الوجوه .. إن محاكمة هذا الرجل لها أثر سيئ على تفكير المواطنين ومشاعرهم وتصرفاتهم وقيامهم بنصرة وطنهم في كل موقف يستدعي مثل هذا التصرف".

"كل مشاعر مصر وقلوبها مع سليمان خاطر .. وغير راضية عن كل الإجراءات التي اتخذت معه".

قبل ساعات من حكم القضاء الإداري، تشكلت لجنة قومية للدفاع عن سليمان خاطر انضم إليها عدد كبير من قيادات الأحزاب والقوى السياسية والنقابية .. وأصدرت اللجنة بيانها الأول إلى رئيس الجمهورية .. قالت فيه:

السيد رئيس الجمهورية:

"إن الثقة غير المحدودة بنزاهة وكفاءة وعدالة القضاء المصري كانت دائما حصانة لضمائر الشعب المصري من القلق على مصير أبنائه حينما يواجهون القضاء أيا كانت التهم المنسوبة إليهم، ولكن لا يخفى عليكم موجة القلق التي اجتاحت ضمائر الشعب منذ أن سحبت أوراق القضية والتحقيق مع المواطن سليمان خاطر من أيدي رجال النيابة العامة وأسند التحقيق إلى النيابة العسكرية، لقد رأى فيه المواطنون تدخلا في مجرى التحقيق العادي الذي بدا قطعا لطريق سليمان خاطر للمثول أمام قاضيه الطبيعي امتثالا لأحكام الدستور وحجبا للدعوى عن المراقبة الشعبية المقررة في القوانين السائدة بعلانية المحاكمات، ووضع مصير سليمان خاطر بين أيدي هيئة غير مختصة قانونيا بالتحقيق معه أو محاكمته، ولقد كان من الممكن ألا يسبب كل هذا القلق الشعبي العام الذي وصل إلى حد التوتر والفزع لولا أن العدو الصهيوني قد مد استفزازه للشعب إلى ساحة القضاء المقدسة فما فتئت أجهزة إعلامه تنقل عن حكامه وحكومته وكتابه وصحفييه ما يعني بصراحة وقحة أن التحقيق جرى ويجري تحت رقابتهم، وأن حياة سليمان خاطر أو موته ليست متوقفة على العدالة القضائية، بل هي بند في جدول أعمال المفاوضات حول طابا ... إن الشعب العربي في مصر لا يصدق افتراءات الصهاينة ولكن هذا هو جوهر الموضوع .. لا يريد أن يخالط ثقته في قواته المسلحة متمثلة في قضائها العسكري أي شك، ولا يريد أن يسمح لأحد بالشك فيها كما لا يريد أن يخالط ثقته فيما تعلنونه من رفض قطعي لأي مؤثر خارجي على إرادتكم ما قد يثيره أي حكم تبلغ قسوته حدا يصدم عواطف الشعب المحيطة بابنه جندي الشرطة سليمان خاطر، كما لا يريد أن تكون تلك سابقة يمد فيها اختصاص القضاء العسكري إلى المواطنين المدنيين الذين ينتمي إليهم سليمان خاطر، لهذا فإن الشعب العربي في مصر والمؤمن بأن الله يدافع عن الذين آمنوا، يثق بأنه سبحانه لن يسمح بسفك دم سليمان خاطر على هيكل الصهيونية، ويثق ويقبل بأحكام القضاء المصري وبدون تحفظ ولا يطلب إليكم التدخل في شئون القضاء ولو بالعفو عن سليمان خاطر، بل يطلب إليك سحب الأمر الصادر بالإحالة إلى القضاء العسكري وترك مصير سليمان خاطر يتقرر أمام قضاته الطبيعيين".

وقد انفردت صحيفة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع بنشر نص البيان في صدر صفحتها الأولى، وفتحت الباب أمام حملة توقيعات شعبية من أجل تحويل سليمان خاطر إلى القضاء العادي .. وكان ذلك تحت عنوان: "من أجل العدل ومواجهة الصلف (الإسرائيلي) .. ضع توقيعك الآن .. وسوف ننقله لرئيس الجمهورية" ... ونشرت "الأهالي" صورة "بطاقة" طلبت من الناس كتابة بياناتها والتوقيع عليها، وتتضمن هذه البيانات الاسم والمهنة والتوقيع بالموافقة على البيان السابق للجنة القومية للدفاع عن سليمان خاطر، ومناشدة رئيس الجمهورية تلبية ما جاء به ...

وبعد ساعات من صدور "الأهالي" وجدت دعوتها استجابة شعبية ونقابية هائلة .. ووقع على بيان اللجنة، عدد هائل من المواطنين، منهم كتاب وأساتذة جامعة، ورجال قضاء، بخلاف عدد كبير من الصحافيين، والمحامين، والفنانين، ومن هؤلاء عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين، وخالد محيي الدين رئيس حزب التجمع، وإبراهيم شكري رئيس حزب العمل، وزكريا البري وزير الأوقاف السابق، والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الأسبق، ومحمد عبد العزيز وكيل وزارة الثقافة وقت المحاكمة، ود. [[يحيى الجمل]]، وهو وزير سابق، ومحمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الأسبق، والشيخ أحمد المحلاوي، ومحمد فائق وزير الإعلام الأسبق .. ود. لويس عوض، وجلال الدين الحمامصي، ونعمان عاشور، ومحمود السعدني، وفاروق عبد القادر، ومحمد المراغي، وعبد الفتاح الجمل، وجمال الشرقاوي .. و[[خالد جمال عبد الناصر]]، ولطيفة الزيات، وحسن نافعة، ومفيد شهاب، وسعد الدين إبراهيم ... ونور الشريف، ومحمود ياسين، وعبد العزيز مخيون، وعلي بدرخان، وفردوس عبد الحميد، وسعد أردش، ومحسنة توفيق، وعلي الشريف ...

إن القائمة الأولى للشخصيات العامة تزيد على 200 توقيع، ويلاحظ أن بعض هذه التوقيعات لرجال قضاء، منهم د. محمود شتا المستشار بمحكمة استئناف بني سويف، وإبراهيم حسنين حلمي، المستشار السابق، والدكتور المستشار صلاح عبد المتعال، ويلاحظ أن عددا كبيرا من كتاب وصحافي الجرائد المسماة بالقومية قد وقعوا على البيان، كما أن عددا كبيرا من قيادات النقابات فعل نفس الشيء ..

أما القائمة الأولى من توقيعات المواطنين فكان من الصعب حصرها، وقد جاء بعضها بالتلغراف، وجاء البعض الآخر في صورة رسائل مصحوبة بتعليقات ساخنة من أصحابها ..

فمثلا ... كتب مواطن من الدقهلية يقول: "أناشد السيد رئيس الجمهورية وأدعو له بالتوفيق أن يفرج عن الجندي سليمان خاطر ولا يحاكمه أبدا .. أبدا". وكتب طالب بمعهد المطرية الصناعي يقول: إن رفاقه وأهله نصحوه بعدم التوقيع أو بكتابة اسم مستعار، إلا أن "كرامتي لا تسمح بهذا وأنا مصري لا صهيوني". وكتب موظف بجامعة قناة السويس يقول: "لو كان الأمر بيدي لمنحت لسليمان خاطر أعلى وسام في الدولة لأن ما قام به عجز الكثيرون عن أن يقوموا بأقل منه" .. وكتب طبيب شاب يقول: "رغم اقتناعي بعدم جدوى المحاولة فإنني أضم صوتي لكم" .. ويكتب ابن شقيقة سليمان خاطر يقول: "إن خالي ليس لوحده ولكن الناس كلها معاه" ...

ولا تتوقف التوقيعات ولا الرسائل ولا البرقيات ولا التليفونات .. إنها تسجل – لأول مرة في مصر – ما يسمى بالضغط الشعبي .. أو "اللوبي" الجماهيري في مواجهة قرار الضغط العام، أو ممارسة الرأي العام لحقه في القرار .. أو لحقه في تعديل أي قرار ...

وقد قررت لجنة الدفاع عن سليمان خاطر تقديم كل ما يصل إليها من توقيعات وخطابات إلى رئاسة الجمهورية يوم الإثنين 23 ديسمبر 1985، قبل الميعاد المحدد لجلسة النطق بالحكم عليه بخمسة أيام .. وقررت عمل ملصق يحمل صورة سليمان خاطر، وعليه عبارة: "الدفاع عن سليمان خاطر دفاع عن شرف الوطن" .. وقررت إقامة مؤتمر سياسي شعبي في سرادق يقام بجانب مقر حزب "العمل" بالسيدة زينب .. وقد أقيم هذا المؤتمر فعلا، وشارك فيه ممثلون عن كافة القوى والأحزاب والتيارات السياسية في مصر، منهم إبراهيم شكري، وخالد محيي الدين، وعمر التلمساني والشيخ صلاح أبو إسماعيل، والفريق محمد فوزي، وأمين هويدي .. وغيرهم .. كان ذلك بعد مغرب يوم الخميس 19 ديسمبر ..

وقبل ذلك بيومين، صباح الثلاثاء 17 ديسمبر، كان "المانشت" الأحمر العريض لجريدة "الشعب" الناطقة بلسان حزب العمل يدعو كافة الناس لهذا المؤتمر .. وكان نص "المانشت": "تعالوا جميعا إلى مؤتمر التضامن مع سليمان خاطر" .. وطالبت الصحيفة في افتتاحية حماسية، الناس بإعلان موقفها "باليد واللسان" لأن "القلب وحده لم يعد يكفي" .. وطالبتهم بحضور المؤتمر، مهما كانت مشاغلهم، ومهما كانت مشاكلهم، ومشاكل الزحام والمواصلات .. لأن "الصهاينة السفاحون يطلبون رأس سليمان خاطر بالباطل" ومن واجب أي مواطن أن يعترض .. "لقد فرض الصهاينة (ومن خلفهم أمريكا) سحب القوات المسلحة المصرية من المناطق الحدودية، وفي هذا كما نعلم عدوان على سيادتنا وتهديد لأمننا" .. وكانت هذه النقطة هي الإشارة الأولى من نوعها في تناول قضية سليمان خاطر ... فهذه القضية ليست قضية جندي مصري أطلق النار على (إسرائيليين)، وإنما هي قضية أمن مصر، وسيادتها على سيناء .. وقضية الحقوق الممنوحة (للإسرائيليين) في سيناء، دون أن يكون لنا الحق في مواجهتهم، أو في أن نقول لهم: قفوا مكانكم! وطالبت الصحيفة الناس بحضور المؤتمر .. لإعلان "الدنيا كلها أننا نقف إلى جانب سليمان خاطر، رغم أنف الابتزاز الصهيوني" .. ولإعلان الصهاينة والدنيا كلها .. أننا في هذه القضية نتحرك .. وأن سليمان خاطر هو رمز لأمتنا وشبابنا"

امتلأ سرادق مؤتمر حزب العمل ... وامتلأت المنصة أيضا .. جاء ممثلو التيارات والأحزاب المختلفة .. من اليسار: خالد محيي الدين (رئيس حزب التجمع) ومحمد عبد السلام الزيات (أمين لجنة الدفاع عن الحريات) ونبيل الهلالي (عضو مجلس نقابة المحامين) .. ومن الإخوان المسلمين: عمر التلمساني، وصلاح أبو إسماعيل، وجابر رزق .. ومن الجماعات الإسلامية: د. عصام الدين العريان .. ومن الناصريين: ضياء الدين داود وحمدين صباحي ..

وجاء شعراء .. وفنانون .. وبشر بسطاء من ربوع أنحاء مصر ..

وفي هذا المؤتمر كان الإجماع على:

1 – محاكمة سليمان خاطر .. هي محاكمة للرأي العام المصري والعربي ..

2 – تهمة سليمان خاطر أنه أطلق رصاص الأمن المركزي على الصهاينة .. وليس على العمال والطلبة ..

3 – لو فعل كل عربي ما فعله سليمان خاطر لأزيلت (إسرائيل) من الوجود ..

4 – محاكمة سليمان خاطر لها تأثيرها السلبي على الجنود الذين يحرسون الحدود.

وفي هذا المؤتمر حاولت قوى سياسية مختلفة أن تنسب سليمان خاطر لنفسها .. وحاولت قوى سياسية أخرى أن تستثمر وجودها في وسط الحاضرين .. وكان على رأس هذه القوى: الجماعات الإسلامية التي حاول بعض أفرادها الإيحاء بأن سليمان خاطر كان ينتمي إليها .. وأنه لم يعاقب إلا لهذا السبب .. وكان دليلهم على ذلك وجود بعض الآيات القرآنية المكتوبة بخط اليد على دفتر أحوال النقطة 46 .. ووجود آيات أخرى معلقة على الجدران في الكشك الخشبي .. وذلك في لوحات "كرتون" كالتي تعلق في معظم البيوت والمحلات في مصر .. والتي توزعها بعض المجلات الأسبوعية، في المناسبات الدينية مجانا من باب تنشيط التوزيع! !

وراحت هذه الجماعات تهتف هتافاتها الدينية المحفوظة والمكررة والتي لا علاقة لها بالمؤتمر ولا بسليمان خاطر .. وكادت أن تشتبك مع تيارات أخرى، كانت ترى أن قضية سليمان خاطر لا تحتمل هذا الاستغلال "الرخيص" !

كان هذا المؤتمر .. بعد حملة التوقيعات .. إنذارا للحكومة ولصحافتها وكتابها بالحركة .. وعجل بهذه الحركة .. المظاهرات الطلابية التي اندلعت في محافظة الشرقية (محافظة سليمان خاطر) والتي اشترك فيها لأول مرة طلبة المدارس الثانوية .. وكانت هذه المظاهرات قد استمرت يومين متتاليين، وواجهها رجال الأمن المركزي بالعنف والقسوة .. وانتهت بإصابة بعض الطلاب .. وبحملة اعتقالات بين البعض الآخر منهم .. وقد وصل عدد المعتقلين إلى أكثر من 120 طالبا وطالبة .. بخلاف شباب من الجماعات الإسلامية.

إن كل هذه المؤشرات والضغوط، جعلت الصحف الحكومية، تصف – فيما يشبه الحملة المنظمة – المعارضة بأنها "تنفخ في قربة مقطوعة" .. وكانت هذه القربة المقطوعة في رأي تلك الصحف هي قضية سليمان خاطر .. الذي وصفته تارة بالجنون .. ووصفته تارة أخرى بأنه "بطل رغم أنفه" ! ووصفته في أفضل الأحوال بأنه إنسان عادي جدا!

وفي حملتها المضادة ركزت الصحف الحكومية على:

1 – أنها سابقة غير عادية أن يتدخل العمل الحزبي في الضغط على القضاء!

2 – أنها سابقة غير عادية أن يستثمر العمل الحزبي المشاعر الشعبية التي أحاطت بحادث سليمان خاطر!

3 – إن القضاء العسكري هو القضاء الطبيعي لسليمان خاطر.

4 – إن سليمان خاطر لا يستحق البطولة التي أضفتها عليه المعارضة لأنه "كان أمام مجموعة أطفال ونساء وشيخ عجوز" .. إنها تصر على أن تمنحنا "بطلا زائفا".

5 – إن المعارضة حاولت استثمار هذا الحادث للخروج من المأزق الذي تجد نفسها فيه!

ومما لا شك فيه أن أحدا لم يزن قضية سليمان خاطر بميزان دقيق .. فهو إنسان عادي .. وبسيط .. ليس "سوبر مان" .. إنسان مصري كادح .. طيب .. لا يفهم في أصول الدبلوماسية .. ولا يعرف قواعد البروتكول .. وهو بالفعل لم يكن يقصد أن يقتل .. أطلق النار من باب التحذير .. ومن باب التخويف على "الجهاز" الذي يحرسه .. وبطولته الحقيقية تكمن في أنه لفت نظرنا لأشياء كانت غائبة عنا .. أو أشياء كنا قد نسيناها .. منها أن "سيناء لم تعد للسيادة المصرية .. أو .. أن سيناء أصبحت داخل حدود مصر فقط ولم تصبح حتى الآن جزءا من سيادتها .. فليس لنا على نصفها القريب من العدو (الإسرائيلي) أسلحة ولا جيش .. ولا طائرات ولا مدرعات .. ليس لنا هناك سوى مجمعات استهلاكية .. وقرى سياحية .. وشاليهات استبدلنا فيها ملابس القتال بملابس البحر" .. ومنها أن (للإسرائيليين) حقوقا في سيناء ليست للمصريين .. وكأنها "عزبتهم" الخاصة وكأننا نحن "الخولي" المشرف لهم عليها! ومنها الخوف من أن تعود (إسرائيل) لاحتلال سيناء دون أن نعرف كيف نواجهها بأسلحة رجال الأمن المركزي الخفيفة التي لا يوجد غيرها على الحدود معها ..

إن بطولة سليمان خاطر التي لم يشر إليها أحد – في أنه بحركة "عفوية"، غير مقصودة، لفت نظرنا إلى حقائق كانت غائبة عنا.

أكثر من اقتراح خرج به مؤتمر "حزب العمل" الذي عقد من أجل سليمان خاطر .. اقترحوا مسيرة إلى "مجلس الدولة" الذي يفتي في موضوع تحويل سليمان خاطر إلى محكمة عادية .. اقترحوا مسيرة إلى "أكياد" .. قرية سليمان .. اقترحوا أداء صلاة "الجمعة" – في اليوم التالي على المؤتمر – في نفس القرية .. واقترحوا ما هو أصعب من ذلك.

لكن .. كل هذه الاقتراحات انتهت إلى اقتراح واحد ووحيد، نفذ بمفرده .. وهو اعتصام بعض القيادات السياسية المعارضة في مسجد الأزهر عقب صلاة الجمعة، في اليوم التالي للمؤتمر .. وكان على رأس هذه المجموعة إبراهيم شكري ..

وفيما بعد قالت صحيفة "الشعب" الناطقة بلسان الحزب الذي يرأسه إبراهيم شكري: إن رجال الأمن المركزي اقتحموا الأزهر بملابس مدنية واعتدوا على "إبراهيم شكري شخصيا وصحبه" فأصيب بالإغماء.

وفيما بعد .. قال محمد عبد القدوس كشاهد عيان:

ما حدث في الأزهر الشريف مأساة دينية ووطنية وأخلاقية .. بلطجية حزب الحكومة لم يراعوا أن للمسجد حرمة .. اعتدوا بالضرب عمدا على الموجودين فيه .. البلطجية كانوا ينقضون على الضحية بالضرب ثم يسحبونه إلى الخارج .. الغريب أن كل ذلك كان يتم تحت حراسة الشرطة والأمن المركزي .. بقدرة قادر تحول البلطجية والمباحث إلى حبايب، وأصحاب!

وكنت أنا واحدا من ضحايا هذا اليوم المشئوم .. بلطجية حزب السلطة حاولوا سحبي إلى الخارج .. "جرجروني" على الأرض .. وكان معي حذائي .. وبفضل الله نجحت في التخلص منهم ولكن بعد أن "لطشوا" حذائي .. وسرقوه!

وفيما بعد ربط البعض بين اقتحام الأمن المركزي للأزهر في ذلك اليوم، واقتحام "عساكر" نابليون له من قبل!

إن ما يلفت النظر في رد الفعل الشعبي إزاء حادث سليمان خاطر هو أنه رد فعل قوي .. ومتنوع .. ومؤثر .. فقد أخذ أشكالا مختلفة .. من المقالات إلى البيانات .. ومن المؤتمرات إلى المسيرات .. ومن التوقيعات إلى المصادمات .. كما أنه تصاعد درجة .. درجة .. حتى وصل إلى حد الاشتباك مع قوات الأمن .. كذلك لم يكن رد الفعل مؤقتا .. ولا عابرا .. كما كان من قبل .. وإنما كان يمتلئ بالإصرار والصمود والصبر لأول مرة منذ زمن طويل .. ولعل السبب القوي وراء ذلك هو "جملة" الأحداث التي تزامنت مع حادث سليمان خاطر، والتي أحس المصريون بالإهانة تخترق صدورهم من ورائها .. وقد تحولت "الإهانة" إلى "مرارة" بعد ردود أفعال الحكومة المصرية إزاء هذه الأحداث ..

فقبل أن تصيب رصاصات خاطر (الإسرائيليين) السبعة كان الرأي العام المصري والعربي يغلي من جراء قيام طائرات "الفانتوم" (الإسرائيلية) بالاعتداء على مقر [[منظمة التحرير الفلسطينية]] في تونس، وقتل مواطنين آمنين، لا ذنب لهم، ولا حول لهم ولا قوة، وتدمير ونسف منظمة بأكملها ...

وبعد يومين من الحادث .. ففي مساء الإثنين 7 أكتوبر قامت مجموعة فلسطينية بالسيطرة على السفينة الإيطالية "اكيلي لاورو" المتجهة من "جنوة" إلى ميناء "أشدود" (الإسرائيلي) ... وذلك كرد فعل للغارة (الإسرائيلية) القذرة على تونس .. وقد نجحت السلطات المصرية في إقناع المختطفين بتسليم أنفسهم إليها .. مقابل التعهد بالحفاظ عليهم، وبعد مفاوضات اشترك فيها هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، و "أبو العباس" أمين جبهة تحرير فلسطين ...

وأقلعت طائرة مصرية خاصة على متنها المختطفون وبعض رجال الأمن المصريين في طريقهم إلى تونس .. وقبل أن تهبط الطائرة أرض تونس فوجئت بأربع مقاتلات أمريكية في الجو، أجبرتها على الهبوط في قاعدة "سيجو نيلا" بصقلية .. واعتبر المصريون هذا العمل إهانة لهم .. واعتداء على كرامتهم .. وانفجرت مظاهرات الغضب في الجامعات والشوارع .. وقال الرئيس حسني مبارك : إن ما حدث تسبب في جرح عميق للشعب المصري .. وتوقع المصريون ردا على هذه الإهانة .. لكن هذا لم يحدث ..

إن هذه الأحداث وغيرها .. والتي تزامنت مع حادث وقضية سليمان خاطر كانت بمثابة "مقدمات" لما حدث بعد ذلك .. كانت نوعا من "التسخين" الذي جعل الرأي العام يلعب دورا كبيرا ومذهلا بمناسبة سليمان خاطر .. إن الغضب الذي بدأ – في ذلك الوقت – مع الغارة (الإسرائيلية)، وتصاعد مع خطف الطائرة المصرية والقرصنة الأمريكية، ووصل إلى سليمان خاطر جاهزا خلق ما يمكن أن يسمى "لوبي" الرأي العام في مصر .. أو "قوة" الرأي العام في مصر .. أو قوة ضغط الشارع على السلطة في مصر .. لقد طلبت اللجنة القومية للدفاع عن سليمان خاطر من الناس أن "تضغط" على السلطة – بالخطابات والبرقيات والقصائد والتليفونات – لتحويل محاكمته من القضاء العسكري إلى القضاء العادي واستجاب الناس .. وكانت تلك الاستجابة بمثابة "ميلاد" أول "لوبي" حقيقي وفعال في مصر ... "لقد تعودت السلطة في مصر على أن تتعامل مع الرأي العام على أنه "أقلية سوداء" يمكن الضحك عليها بسهولة .. بالبث المباشر .. و "النقد" المباشر .. وصور التليفزيون الملونة بألوان "بال" و "سيكام" .. وتعود الشارع أن يضع القطن في أذنيه عندما تتكلم أو تعود أن يدخل فراشه لينام، إذا ما طالت الفترة الإخبارية بعد نشرة الساعة التاسعة .. لكن .. ها هو الرأي العام يغير من عاداته ويمارس حقه في صنع القرار أو في تغيير القرار، وهو حق سبقه إليه تجار المخدرات والعملة وصناع "البامبرز" و "الموكيت" وأصحاب العمارات المنهارة والأخلاق المنهارة .. ها هو الرأي العام يغير من رأيه في نفسه، لعل وعسى تفهم السلطة أنها موجودة بفضله، وبحسه، وبرضائه عنها فقط".

لم يتوقف مطلب تحويل قضية سليمان خاطر إلى القضاء العادي عند حدود القوى الوطنية المصرية وإنما امتد خارج أرجاء الوطن الأصغر .. إلى الوطن الأكبر .. إلى الوطن العربي ...

في السودان، قررت مجموعة من المحامين، والسياسيين، من أحزاب مختلفة تشكيل لجنة "خاصة" للتضامن مع سليمان خاطر والقيام ببعض الوساطات مع رجال الحكم في مصر لتحويله إلى قضائه الطبيعي. ومن السعودية أرسلت مجموعة كبيرة من المثقفين وأساتذة الجامعات هناك رسالة إلى الرئيس حسني مبارك، تناشده فيها إيقاف المحاكمة العسكرية والتصرف مع (الإسرائيليين) طبقا لقاعدة "المعاملة بالمثل" ووفقا لما تتصرف به (إسرائيل) في الأراضي المحتلة حيث برأت الذين اعتدوا على المسجد الأقصى ... وفي الكويت استمرت حملة التضامن التي بدأتها الصحف هناك مع سليمان خاطر .. وكانت تلك الصحف قد بدأت هذه الحملة مبكرة .. بعد أيام قليلة من الحادث .. وقد أخذت هذه الحملة شكل تبرعات وبرقيات ورسائل من أفراد وهيئات.

وقد بلغت التبرعات – على حد قول هذه الصحف – آلاف الدولارات.

أما الرسائل فكانت كلها تدور حول معنى واحد هو: إذا كان ما فعله سليمان خاطر جنونا فمرحبا بضياع العقل .. وإذا كان الاستقرار العقلي، وحسن الإدراك يعنيان الخضوع والتنازلات فمرحبا بجنون سليمان خاطر!

وفي باقي أنحاء العالم العربي وصف سليمان خاطر بأنه "بطل سيناء" !

بعد إصرار المحكمة الإدارية على محاكمة سليمان خاطر عسكريا، فركت (إسرائيل) يدها في سعادة، وقالت إذاعتها الناطقة باللغة العربية:

"إن الحكومة المصرية تأخذ في حسبانها ألا تخسر علاقتها الطيبة بالحكومة (الإسرائيلية)".

وفي اليوم التالي على حكم محكمة القضاء الإداري، أعربت الخارجية (الإسرائيلية) – في رسالة إلى الخارجية المصرية – عن غبطتها بصدور هذا الحكم .. وأشارت الخارجية (الإسرائيلية) في رسالتها إلى أنها قد تلقت من لجنة قضائية (إسرائيلية)، وصلت القاهرة قبل أسبوع لمتابعة سير التحقيقات مع سليمان خاطر، تقريرا "مطمئنا" حول سلامة إجراءات التحقيق مع (قاتل الإسرائيليين) على حد تعبير الرسالة .. ويقول التقرير "المطمئن" إن "القضاء العسكري المصري لم يتساهل مع الجندي الذي قتل سبعة من المدنيين العزل في سيناء" .. على حد تعبير الرسالة أيضا.

لقد كان رد الفعل (الإسرائيلي) بعد حكم المحكمة الإدارية يحمل الكثير من الانبساط .. والامتنان للحكومة المصرية .. وذلك على عكس رد الفعل (الإسرائيلي) عقب الحادث مباشرة .. والذي كان "عصبيا" .. لا يخلو من "التهديدات" و "الوعيد" والرغبة في "الانتقام".

وطلب "موشيه أرينز" وزير الخارجية بالنيابة تفسيرا مصريا مفصلا للحادث "خلال 48 ساعة" .. ورفض "أريك شارون" التبريرات المصرية .. وقال: يجب أن " لا يترك أمن اليهود إلا لليهود مثلهم .. وأن لا أحد سوى اليهود يمكن أن يكون مسئولا عن سلامة اليهود" .. وقال عزرا وايزمان: إن ما حدث في سيناء "نتيجة كراهية متبادلة بين اليهود والعرب" ..

وفيما بعد سافر وزير البترول المصري عبد الهادي قنديل إلى إسرائيل وقدم عزاء الحكومة المصرية "الرسمي" لأسر الضحايا .. وفيما بعد قالت الخارجية (الإسرائيلية): إن سليمان خاطر قد أصبح عقبة جديدة أضيفت للعقبات التي تمنع سريان مياه العلاقات الطبيعية بين مصر وإسرائيل .. وكانت من ضمن العقبات الأخرى في رأيها: مشكلة "طابا" المزمنة .. وعودة السفير الإسرائيلي إلى القاهرة ... وعودة السفير المصري إلى تل أبيب .. وفيما بعد .. وأثناء الجولة الثانية من مباحثات "طابا" يوم 12 ديسمبر في "هرتزليا" بإسرائيل، وضع الوفد (الإسرائيلي) في مقدمة جدول الأعمال "تقديم تعويضات مصرية لأسر القتلى (الإسرائيليين) في حادث سليمان خاطر" .. وفيما بعد عمدت (إسرائيل) إلى إفشال مباحثات "طابا"، حتى ترى "نهاية ترضيها لسليمان خاطر" .. وفيما بعد اقترحت (إسرائيل) على الحكومة المصرية تشكيل لجنة عسكرية مشتركة تضم خبراء عسكريين أمريكيين للتفتيش على حجم وتسليح القوات المصرية و (الإسرائيلية) على الحدود المشتركة .. مكان الحادث .. وفيما بعد .. رفعت القوات متعددة الجنسية في سيناء تقريرا عن الحادث بعد 48 ساعة من وقوعه .. وفيما بعد أرسلت (إسرائيل) مراقبين قانونيين من وزارة خارجيتها لمتابعة "حسن سير التحقيقات" وجلسات المحكمة .. وكانت – على حد قول أحد المحامين – تأخذ نسخة من شرائط الفيديو التي كانت تسجل وقائع جلسات المحاكمة

وفيما بعد أيضا ... دار الهمس في أوساط كبار المسئولين المصريين حول ضغط أمريكي "ما" على الحكومة المصرية في قضية سليمان خاطر .. وأن هذا الضغط لو كان هناك ما يبرر استخدامه، سيكون بورقة "المعونة" !

وقد جاءت الرياح بما تشتهي السفن الأمريكية .. ولم يعد هناك حاجة للضغط بهذه الورقة!

إن حادث سليمان خاطر كان أشبه بحجر ألقي في بركة راكدة .. فراح ارتطامه بالماء يحدث دوائر صغيرة أخذت تتسع .. وتتسع .. وتتسع!

الذبح .. على الجانب الآخر!

  كان لا بد من المقارنة ... مقارنة ما فعله سليمان خاطر (بالإسرائيليين) السبعة في رأس بركة .. وما فعلته إسرائيل (بالعرب) في القدس، وبيت لحم، وغزة، وحيفا، ويافا، والجولان، وسيناء، ودير ياسين، وصبرا وشاتيلا، وبحر البقر.

إن هذه المقارنة الإجبارية فرضت نفسها على كل من تعرض لحادث سليمان خاطر .. أو تناوله.

فقيل:

"وماذا فعل سليمان خاطر أمام بحور الدم العربي التي فجرتها (إسرائيل) ؟" ...

"ماذا فعل أمام جبال الجثث والضحايا العرب .. الأبرياء التي رفعتها (إسرائيل) ؟".

وجر الحديث بعضه ...

وجاءت من جديد سيرة الإرهابي، والنازي الجديد "مناحم بيجن" الذي آمن بتفوق شعب الله المختار .. وبأن (إسرائيل) فوق الجميع .. وأدخل ثلاثة ملايين فلسطيني إلى أفران القهر .. والتشرد .. والغربة

وجر الحديث بعضه ...

وجاءت من جديد سيرة الصهيوني، والسفاح الكبير "إريك شارون" الذي آمن بقدرة الأحذية الثقيلة على صناعة التاريخ .. وبأن جماجم وعظام العرب أقوى جدار تحتمي خلفه (إسرائيل) .. وحاصر آلاف الأطفال والشيوخ والنساء في صبرا وشاتيلا، بالمدافع، وراح يستمتع بصراخهم ...

وجر الحديث بعضه ...

وجاءت سيرة الجندي الأمريكي الأصل .. اليهودي الديانة .. (الإسرائيلي) الجنسية: "آلان جودمان" !

و "آلان جودمان" لمن لم تسعفه ذاكرته هو الذي اقتحم المسجد الأقصى، وأطلق النار على المصلين وهم يسجدون مرددين: "سبحان ربي الأعلى".

بدأت جريمة جودمان في الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد 11 أبريل 1982 ... في ذلك الوقت وضع جودمان قبعة اليهود الدينية على رأسه، ورفع بندقيته الرسمية "م – 16" التي يستخدمها (جيش الدفاع الإسرائيلي) واقتحم المسجد الأقصى من بوابة "الغوانمة" ... أطلق رصاصاته الأولى على حراس المسجد فأصابهم .. ثم جرى إلى مسجد "الصخرة" دون أن يرفع يده من على زناد البندقية، فتصادف مرور حارس الحرم "الحاج محمد اليماني – 65 سنة" فقتله بالقرب من الباب الغربي لمسجد الصخرة .. ثم دخل مسجد الصخرة، وطلب من السياح الأجانب مغادرة المكان وواصل إطلاق النار على المسلمين داخل المسجد بصورة عشوائية، وأصابت بعض طلقاته جدران وقبة المسجد.

في نفس الوقت بالضبط انطلق سيل آخر من الرصاص من الناحية الغربية للمسجد، حيث يتمركز الجنود (الإسرائيليون) على أسطح المنازل في تلك الناحية ...

وفي نفس الوقت بالضبط انطلق سيل ثالث من الرصاص من ناحية مقبرة اليهود المشرفة على ساحات المسجد ... عملية عسكرية .. جماعية، منظمة، وليست عملية فردية كما صورت من قبل، كان الهدف منها إصابة أكبر عدد من المصلين داخل المسجد، وفي ساحاته بالإضافة إلى تشويه مسجد الصخرة، الذي صعد منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء، يوم الإسراء والمعراج ..

وانقلب المسجد إلى مجزر آلي ... وراح المؤذنون يطلبون من المواطنين – عبر مكبرات الصوت – التوجه إلى ساحات المسجد للدفاع عنه .. فاندفع الناس من داخل بلدة القدس العتيقة إلى الحرم القدسي بصدورهم .. فانفتحت بنادق الجنود (الإسرائيليين) عليهم فتساقط القتلى والجرحى بالعشرات ...

حتى الساعة الحادية عشرة كان جودمان لا يزال داخل مسجد الصخرة .. كان لا يزال يطلق الرصاص على كل من يصل إليه من بشر وجدران .. وأحس زملاؤه بالخوف عليه، فرموا القنابل المسيلة للدموع لمنع المصلين من القبض عليه .. فاشتعلت النيران في سجاد المسجد، فأخرجه المصلون، وراحوا يخمدون الحريق .. وانتهزت مجموعة من الجنود (الإسرائيليين) هذه الفرصة، فدخلت الصخرة، بالسلاح، وأخذت جودمان، ومنعت الناس من المساس به.

وفي منتصف النهار، وبعد أن اشتعلت نيران الغضب في عروق المسلمين، اقتحمت فرقة خاصة من الجيش (الإسرائيلي) تسمى "وحدة مكافحة الإرهاب" ساحات المسجد، بأحذيتها الثقيلة، وأطلقت النار بغزارة على كل من يقابلها .. فأصيب كثيرون بجراح، ونقلوا إلى مستشفى "المقاصد" ومستشفى "الهوسبيس".

لكن .. ذلك لم يوقف المظاهرات الغاضبة التي رفع فيها العلم الفلسطيني .. والتي اصطدم فيها المتظاهرون بقوات الاحتلال الصهيوني .. وأغلقت المحلات في القدس .. وبدأت الإضرابات والمظاهرات تملأ الوطن المحتل .. وأذاع راديو (إسرائيل) كل هذه الأخبار ..

وقال عن آلان جودمان:

إنه يهودي من أصل أمريكي، ولد في نيويورك، وحضر إلى إسرائيل عام 1976، حيث انتظم في مدرسة دينية، وهو يقيم في منطقة "رعفانا" شمالي تل أبيب ..

وذكر الراديو: أنه أخذ أجازة من وحدته، وسافر إلى القدس، ونزل في فندق "حي بيت هكيرم" ومعه بندقيته وبذته العسكرية .. وقد عثرت الشرطة في غرفته بالفندق على منشورات لرابطة "الدفاع" اليهودية، التي يرأسها الحاخام المتطرف "مائير كهانا"، تنادي بطرد السكان العرب، وإعادة بناء "هيكل سليمان" مكان المسجد الأقصى ...

وفي اليوم التالي قالت صحيفة "هآرتس" (الإسرائيلية): إن جودمان عمل وفق خطة مدروسة، لارتكاب جريمته في المسجد الأقصى ...

وأضافت الصحيفة: أنه دخل (إسرائيل) عام 1976 بتأشيرة سياحية، وأنه حصل على الجنسية (الإسرائيلية) منذ عام (أي في عام 1981).

عقب الحادث مباشرة قالت الحكومة (الإسرائيلية): إن الجندي الذي اقتحم المسجد الأقصى مصاب بالجنون.

لكن ... صحيفة "هآرتس" أكدت: "أنه لا يوجد إلى الآن أي مستند رسمي يشير إلى أن هذا الجندي يعاني من مشاكل نفسية".

وقال راديو (إسرائيل): إنه كان قد نجح في الاختبارات النفسية للجيش ولم يبد عليه أي اضطراب عقلي.

وفيما بعد ... ذكرت مصادر الجيش (الإسرائيلي): إن جودمان شرس، وعنيف، ومنطو على نفسه ولكنه ليس معتوها .. وفي نفس يو الحادث، أدلى الشيخ سعد الدين العلمي رئيس الهيئة الإسلامية العليا ببيان، حمل فيه الحكومة (الإسرائيلية) مسئولية الحادث .. وأكد أن هذا الحادث جزء من مخطط كبير دبر للمسجد الأقصى منذ الاحتلال سنة 1967 "وحتى يومنا هذا" .. وضرب أكثر من مثل على صدق اتهامه:

1 – في 15 أغسطس 1967 دخل الحاخام الأكبر (لإسرائيل) ساحة المسجد الأقصى بالملابس العسكرية يرافقه عدد كبير من ضباط الجيش (الإسرائيلي) وأقا صلاة استمرت نحو ساعتين، وأعلن آنذاك أنه سيعود لإقامة صلاة أخرى بعد أيام، وأعلن "أن لديه مشروعا لإقامة "كنيس" في ساحة المسجد الأقصى سيعمل على تنفيذه".

2 – استولى الجيش (الإسرائيلي) بضغط من الحاخام نفسه على مفتاح باب المغاربة – أحد الأبواب الرئيسية لساحة المسجد الأقصى بتاريخ 31 أغسطس 1967.

3 – في 21 أغسطس 1968 أحرق المنبر التاريخي العظيم للمسجد الأقصى، ويعود تاريخ هذا المنبر إلى أيام صلاح الدين الأيوبي قبل أكثر من 800 عام.

4 – في مايو 1980 أعلنت السلطات (الإسرائيلية) أنها عثرت على كميات كبيرة من المتفجرات والقنابل والأسلحة على سطح أحد المعابد اليهودية القريبة جدا من المسجد الأقصى ولم تخف السلطات (الإسرائيلية) أنها تعتقد أن الهدف من تلك المتفجرات في ذلك الموقع كان نسف المسجد الأقصى.

5 – أما قصة الحفريات اليهودية بجانب المسجد الأقصى فقد أصبحت قصة مشهورة يعرفها العالم كله، ولم تتوقف هذه الحفريات بالرغم من استنكاراتنا وتحذيراتنا من نتائج هذه الحفريات.

6 – تعددت المحاولات في الآونة الأخيرة بقيادة عدد من المسئولين (الإسرائيليين) لإقامة الصلاة في المسجد الأقصى وحدثت عدة احتكاكات بين هؤلاء المتطرفين وحراس المسجد الأقصى، انتهت بتعرض عدد من الحراس إلى السجن والطعن بالسكاكين.

ولم يشأ الشيخ سعد الدين العلمي أن يذكر في بيانه إقرار المحاكم (الإسرائيلية) بحق اليهود في الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، ولم يشأ أن يقدم صور التهديدات التي أرسلت من الجماعات اليهودية المتعصبة التي ينتمي إليها جودمان والتي تنذر بالسحل كل من يتعرض لليهود الذين يصلون في المسجد الأقصى .. لم يشأ الشيخ الجليل أن يذكر ذلك لأن صوته قد بح منه ومن تكراره ...

لكن .. ما دمنا قد فتحنا هذا الموضوع .. وحتى نعرف الحجم الحقيقي لجريمة "جودمان" فلا مفر من أن ننشر بعضا من هذه التهديدات ... والتي نترك أخطاءها الإملائية والنحوية كما هي .. ولا مفر من أن نقاطع الشيخ العلمي ..

كهانا:

الشيخ محمد الجمل .. نرجو عدم معارضتنا وإلا سترى الأقصى رمادا .. رمادا .. خلال أيام – لربما ليلة الإسراء والمعراج ...

كهانا:

إلى المسجد الإسلامي الأعلى – أورشليم القدس سننسف الأقصى وكنائس المهد والقيامة والجثمانية .. سنشرب دمائكم قريبا (يا عرب يا أنجاس)

"سيشرب الشعب اليهودي من دمائكم".

كهانا:

يا أيها الأنجاس .. قرروا .. إما الصلاة والتفتيش عن الهيكل .. وإما النسف للأقصى والموت لكم ..

مئير كهانا:

الشيخ [[سعد الدين العلمي]] الصفقة "مليون دينار أردني" ثمنا لبيع الأقصى بالهدوء والسر .. أفضل من العصيان والهيجان والعناد الذي سيجلب لك الاغتيال ..

الإسرائيلي مهما أذنب فهو إسرائيلي . التوراة – جوش إيمونيم

مئير كهانا:

كل قطرة من دم اليهودي ستكون شلالا من دمكم أكثر ... انتظروا ذلك في الأقصى والقيامة ..

مؤسسات أمن إسرائيل :

هانحن قد وضعنا وزرعنا المتفجرات اللازمة في الأماكن المعروفة، الأقصى، القيامة، الجثمانية، المهد، في جميع الساحات المجاورة لهم.

كهانا : الشعب الإسلامي – لممثل الأوقاف إليكم بهذا المبلغ "10" شيكل كهدية لكل القتلى الذين يسقطون والجرحى يوم 20/ 5/ 82 – يوم تحرير - .


أيها الأخوة : نكرر من استمرار معارضتكم لروابط القرى والإدارة المدنية والحكم الذاتي ونشر إعلانات النعي والاستنكار في الصحف والمظاهرات والإضرابات والمشاركة في مؤتمرات صحفية ووطنية وسياسية، وإلا سيكون جزاؤكم القتل والاختطاف والتصفيات الجسدية.

أخيرا لقد أعذر من أنذر ... فاحذروا

  • كهانا
  • مؤسسات روابط القرى
  • مؤسسات أمن إسرائيل

إن الشيخ [[سعد الدين العلمي]] لم يجد أي معنى لإعادة إبراز مثل هذه التهديدات مرة أخرى، بعد كل المحاولات والاتصالات التي قام بها لعدم تنفيذها.

لكنه قال في بيانه عقب حادث "جودمان":

واليوم .. نفذ المهددون تهديداتهم وتبين مدى فداحة الخطب الذي تعرض له الأقصى من مداهمة مسلحة، وأعتقد أنني في غنى عن القول بأن التصعيد الذي يجري في الاعتداءات على المسجد الأقصى إنما هو جزء من التصعيد الذي توجهه السلطات المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة ولا يمكن أن نفرق بينه وبين ما يجري بقصد فرض أمر واقع على الناس الواقعين تحت الاحتلال.

"كما لا يفوتني أن أذكر أن ما حدث اليوم قد جاء بعد يومين فقط من مرور ذكرى مذبحة دير ياسين التي جرت قبل أربعة وثلاثين عاما بقيادة رئيس الوزراء الحالي (وقت الاعتداء على الأقصى) مناحم بيجن".

وطالب الشيخ العلمي بتسليح حراس المسجد لحماية الأقصى وحمايتهم ..

وأضاف: لقد آن الأوان لسماع صوت الأقصى الجريح!

في اليوم التالي لجريمة "جودمان" اتضح أن القتلى ثلاثة والجرحى يزيدون على المئة .. واتضح تحطيم الباب الزجاجي الكبير الموجود على مدخل الصخرة المشرفة من الناحية الغربية، تحطيما كاملا، "ونتجت أضرار كبيرة في قبة الصخرة المشرفة وبعض الأعمدة الرخامية فيها ...

وقال بيان عن الهيئة الإسلامية بالقدس:

"إن وصف المجرم بالبيانات الرسمية بالجنون مرفوض ولا يجوز أن يصدر عن حكومة مسئولة إذ لا يقبل أن يكون أحد الجنود النظاميين في جيشها الذي من المفروض أن يتجاوز فحصا طبيا يسمح له على الأقل بحمل السلاح بين جنودها .. وإذا ادعى مدع بأن هذا المجرم مجنون فماذا يمكن أن يقال عن بقية الجنود الذين عاونوه في إطلاق النار من الناحية الغربية".

وفي ذلك اليوم واصلت قوات الجيش (الإسرائيلي) حصارها للمسجد الأقصى، ومنعت المسلمين من دخوله، واعتقل أعيان القدس، وأصدرت حركة "كاخ" المتطرفة التي يتزعمها "كهانا" بيانا، أعربت فيه عن قلقها لضعف شرطة "أورشليم" في "معالجتها الفاشلة لأعمال العنف التي يقوم بها العرب في شرق المدينة والذين استغلوا عمل يهودي مريض بحب جبل البيت لرجم اليهود المطمئنين بالحجارة" .. وألقت حركة "كاخ" اللوم على الحكومة (الإسرائيلية) لأنها "لم تنجح خلال خمسة عشر عاما في أن توضح للعالم أن قدسية المكان هي لشعب (إسرائيل) كله، لأن هناك بني الهيكل، وهناك سيعود ليبنى، وأن عملا غير مسئول وطنيا أدى إلى إعطاء حراسة المكان لأيدي المجلس الإسلامي الأعلى ولأيدي الشباب المحرض" .. وجددت الحركة نداءها بطرد "الغرباء من جبل البيت" و "إزالة المباني الحقيرة من هناك والتي أقيمت على مكان مقدس لتجميد سلطة الغرباء على أرض إسرائيل" .. و "وضع حراسة المكان بأيدي يهود مخلصين يمشون على هدي التوراة".

وفيما بعد:

في يوم الثلاثاء 27 أبريل من نفس العام نفذ مائير كهانا تهديده، وقام بقيادة مجموعة من 100 يهودي، في حوالي الساعة الرابعة والنصف باقتحام المسجد، والصلاة في المنطقة الخارجية لباب المغاربة، ثم توجهت إلى باب المجلس الأعلى (الإسلامي) في محاولة لاقتحام المسجد وهم يحملون لافتات تدعو لطرد العرب من القدس، كما حملوا صورة كبيرة مجسمة للحرم القدسي بدون مسجد قبة الصخرة التي وضع مكانها صورة للهيكل المزعوم. وبعد 48 ساعة قام كهانا بمحاولة ثانية .. ثم .. جرت محاولة ثالثة.

إلى هذا الحد وصلت جريمة "ألان جودمان".

قتل .. وجرح العشرات .. وخرب الأماكن المقدسة .. واقتحمها بالحذاء والرصاص .. فماذا جرى له؟ لقد اقتيد ألان جودمان بعد أن أنقذه جنود الجيش (الإسرائيلي) من غضب المصلين إلى قسم الشرطة، وهناك وضع في أحد المكاتب .. لم يوضع في الحجز ... ولم يحاصروه بالسلاح ولا بالحراس .. وقدموا له الأطعمة التي تناولها، رافضا السجائر التي عرضوها عليه ...

وقال جودمان بعد القبض عليه، العبارة اليهودية الشهيرة:

إن (الإسرائيلي) مهما فعل فهو (إسرائيلي) .. هكذا يقول الرب.

فأشار قائد المجموعة التي قبضت عليه إشارة استحسان، وقال:

لا تغضب .. لقد نفذت تعاليم الرب!

وانتقل جودمان من قسم الشرطة إلى أحد المعسكرات التابعة للجيش تمهيدا لمحاكمته .. وهناك عومل بتدليل ونعومة، وكأنه أحد أبطال (إسرائيل) ...

وقد انتهت المحاكمة باعتباره مجنونا لا يحاسب على تصرفاته .. وهو نفس الحكم الذي انتهت إليه المحكمة (الإسرائيلية) التي حاكمت من أحرق منبر "صلاح الدين" والمسجد الأقصى من قبل!

وكان من الطبيعي بعد براءة المتهم من جريمته من عقاب أحد على هذه الجريمة .. فكان العقاب من نصيب أعيان القدس الذين صدر الأمر بطردهم من مدينتهم العتيقة .. وسمحت سلطات الاحتلال الصهيوني لمزيد من الجماعات الدينية اليهودية بالصلاة في المسجد الأقصى .. ولم تعاقب كهانا ولا غيره بتهمة التهديد رغم ثبوت التهمة عليه .

ولا تتوقف الأمثلة ..

ونصاب بالحيرة ونحن نختار بعضها :

1 – في 4 يوليو 1984 أطلقت عناصر من الحدود في بيت لحم نيران أسلحتهم على خمسة من العرب، بينهم فتاة، لأنهم لم يمتثلوا لأوامرهم بالتوقف، فأصابوهم بجروح نافذة.

(لاحظ التشابه الواضح بين هذا الحادث وحادث سليمان خاطر، خاصة في ضرب النار بسبب عدم الامتثال للأوامر بالتوقف .. ولاحظ أن من بين العرب الخمسة فتاة).

2 – في أوائل عام 1984 أحبطت محاولة لنسف المسجد الأقصى في القدس .. واكتشف كمية من المواد الناسفة والقنابل اليدوية ... وأعرب رئيس شرطة القطاع الجنوبي المفوض "يهوشواع كسبي" عن اعتقاده أن الذين قاموا بالاعتداء على المسجد الأقصى هم من اليهود، وأكد أن القنابل اليدوية والمواد المتفجرة التي اكتشفت هي من صنع الجيش (الإسرائيلي) .. وذكر كسبي أن 50% من مجمل العمليات التخريبية في السنوات الأخيرة، وقعت في القدس، في مقابل نحو 63% سنة 1978، و 90% سنة 1979 .. وفي الفترة ما بين يناير 1982 قتل 29 عربيا بأعمال إرهابية وجرح 326 شخصا من العرب ... (لاحظ من الذي يعترف بهذه الحقائق).

3 – في 4 مارس 1984، أصيب سبعة من سكان مزرعة "الشرقية" شمال "رام الله" بجروح نتيجة تعرض "أتوبيس" كانوا يستقلونه لرشقات نارية عند مدخل القرية .. واتصل مجهول بالهاتف "الأحمر" لإذاعة الجيش (الإسرائيلي) وأدلى ببيان باسم منظمة ت. ن. ت جاء فيه: "نحن أعضاء مجموعة الإرهاب ضد الإرهاب نتحمل مسئولية تنفيذ الهجوم ضد العرب الذي وقع صباح اليوم، وهذا الهجوم هو واحد من سلسلة عمليات ستحدث قريبا .. (لاحظ الجرأة والافتخار بارتكاب الحادث).

4 – في 9 سبتمبر 1984 دعا الحاخام ليفنجر إلى إطلاق أسماء التكريم على الشبان اليهود المسئولين عن بتر أرجل بسام الشكعة وكريم خلف (من الشخصيات الفلسطينية البارزة في الضفة الغربية) لأنهم "فعلوا ما كان يجب أن تفعله الحكومة .. فقد دافعوا عن الدم اليهودي" .. وحرض ليفنجر على الشكعة وخلف اللذين "لم يقطع لسانهما" .. وحذر من "أن الدم اليهودي لن يكون مباحا" .. وقال "لقد جئنا أرض (إسرائيل)، لا أرض – إسماعيل، إننا لن نرتدع ولن نخاف، لا يمكن أن يملي العرب علينا كيف نعيش في بلدنا".

5 – في ديسمبر 1984 ذكر المتهم بالاعتداء على رؤساء البلديات العرب يتسحاق نوفيك في أثناء الإدلاء بشهادته أمام المحكمة التي تنظر في قضية "الحركة السرية اليهودية" أنه بعد أن اعتقل أرسل إلى جهاز التحقيق "حيث عانقني أفراد جهاز الأمن العام وقالوا لي لقد أديتم خدمة كبيرة للأمة .. ونحن كأفراد جهاز الأمن العام نقدر عملكم".

6 – في نوفمبر 1984 اعتقل جندي من لواء "جولاني" وثلاثة من رفاقه بينهم جندية كانوا معه في بيته خلال عملية الاعتقال، واعترف هذا الجندي الذي لم يكشف النقاب عن اسمه بإطلاق صاروخ على "أتوبيس" عربي في نفس الشهر وبإلقاء قنبلة يدوية في القدس.

7 – في 22 سبتمبر 1984، ألقيت قنبلة يدوية على مقهى في القدس القديمة، جرح نتيجة انفجارها أربعة من العرب، وبعد دقائق معدودة من الانفجار اتصل مجهول بقيادة الشرطة هاتفيا وقال بالعبرية الفصحى: "أنا ألقيت القنبلة، لقد بدأت الحرب على الفلسطينيين".

8 – في 22 نوفمبر 1984 برأت محكمة في القدس المدعو "يكوتئيل جوروفسكي" – عصو حركة كاخ – من تهمة إحراق سيارات يملكها عرب في منطقة الخليل وفي القدس، ومكتب صحيفة "الفجر" في القدس الشرقية، وذلك على الرغم من شهادة شريكه ضده.

9 – في مارس 1984 لغمت مبان دينية، مسيحية وإسلامية، من قبل منظمة "ت. ن. ت" اليهودية الإرهابية، ... وأعلنت المنظمة في مكالمة هاتفية مسئوليتها عن هذا التلغيم في الكنائس والمساجد التي تقع في القدس .. واعترفت أيضا بإطلاق النار على الراهب الذي قتل في نفس الوقت تقريبا في بلدة "عين كارم" .. وقد ذكرت الشرطة أن كل القنابل التي استخدمتها المجموعة سرقت من قاعدة الجيش (الإسرائيلي) في البقاع اللبناني.

ولا تتوقف الأمثلة ..

وتتضاعف الحيرة عند الاختيار .. على أننا – حتى لا نخرج عن الموضوع – لن نذكر المزيد ..

لكننا .. من باب العودة إلى الموضوع .. موضوع المقارنة بين ما فعله سليمان خاطر، وما فعلته وتفعله (إسرائيل)، يهمنا أن نضع أمامكم هذه الحقائق، ثم نترككم تتأملونها على مهل :

  • إن أغلب الذين يرتكبون الجرائم ضد العرب في فلسطين المحتلة من جنود الجيش .. وهؤلاء منظمون في منظمات معروفة بنشاطها الإرهابي ضد العرب .. ولذلك ليس غريبا أن نجد علاقة قوية بين حادث الاعتداء على المسجد الأقصى وحادث قتل الراهب المسيحي في "عين كارم" وليس غريبا أن نجد علاقة قوية بين تلغيم الكنائس والمساجد في القدس وتفجير مبنى صحيفة "الفجر" هناك .. وهكذا.
  • إن الأسلحة والقنابل والصواريخ المستخدمة في هذه الحوادث مصدرها الوحيد مخازن الجيش (الإسرائيلي) .. وهذا ما دفع الحاخام "ليفنجر" لأن يقول في "كفار دوميم" يوم 5 يوليو 1984: "أنه يجوز لليهودي عندما يقتل العرب أن يسرق من أجل شعب (إسرائيل) حتى ولو كان يسرق الجيش (الإسرائيلي) ..
  • إن بعض أعضاء الكنيست يشاركون في ارتكاب مثل هذه الجرائم .. والمثال الصارخ هنا "مائير كهانا" .. وهناك مثال آخر هو عضو الكنيست الحاخام "اليعيزر فيلدمان" الذي أظهرت التحقيقات الخاصة بجريمة الاعتداء على رؤساء البلديات العرب في الضفة الغربية (في 1984 – مثل بسام الشكعة) أنه كان "شريكا فاعلا" في التخطيط لهذه العملية .. كذلك عضو الكنيست "ابراهام ميلاميد" الذي تدخل لدى سلطة السجن لمصلحة المعتقلين من منظمة الإرهاب اليهودي، على حد قول صحيفة "دفار" يوم 22 نوفمبر 1984.
  • إن (الإسرائيليين) .. خاصة المتعصبين دينيا منهم ينظرون بعين الإعجاب إلى أولئك الذين يرتكبون الجرائم في حق العرب .. ويمارس عدد كبير من المسئولين في الجيش والشرطة ضغوطا هائلة للتعامل معهم على أنهم أبطال .. أما الحاخامات فيرفضون حتى اعتقالهم أو حتى التحقيق معهم .. ففي سبتمبر 1984، رفع نحو 60 حاخاما بينهم 7 من كبار حاخامات (إسرائيل) كتابا إلى رئيس الحكومة "شيمون بيريز" وإلى وزير الشرطة "حاييم بارليف" طالبوا فيه بإطلاق سراح معتقلي "الحركة السرية اليهودية" – ت. ن. ت – وقد أجيب طلبهم على الفور.
  • إن معظم محاكمات مرتكبي هذه الحوادث يحاكمون أمام محاكم مدنية عادية .. وليست محاكماتهم عسكرية، بما فيهم جنود الجيش الإسرائيلي .. كما أنهم فترة التحقيق معهم ومحاكمتهم يوضعون في سجون عادية تحت مسئولية الشرطة المدنية.
  • إن الأحكام التي تصدر ضدهم غالبا ما تكون "البراءة" .. كما في حالة "يكوتئيل جورفسكي" الذي حاصرته الأدلة في تهمة تفجير سيارات بعض العرب في الخليل والقدس، وتفجير صحيفة "الفجر" العربية في القدس أيضا .. وكما في حالة "جودمان" .. وفي أفضل الأحوال تتراوح الأحكام ما بين خمسة أعوام وعامين ونصف العام .. وفي كثير من الأحيان يكون الحكم مشفوعا بوقف التنفيذ!

وبعد هذه الأمثلة والملاحظات .. أليست المقارنة بين ما فعله سليمان خاطر وما تفعله إسرائيل، مقارنة ظالمة لسليمان خاطر؟ ! نحن نعتقد ذلك .. وأنتم – غالبا – أيضا!

غربال ثقوبه كبيرة!

  هذه ليست قضية .. وإنما .. "غربال يمتلئ بالثقوب الكبيرة" .. هكذا وصف أحد المحامين قضية سليمان خاطر .. ولم يكن هذا الوصف من قبيل الأوصاف الأدبية، والبلاغية فقط، وإنما كان من قبيل الأوصاف الجنائية والقانونية أيضا ..

فهناك ثغرات متعددة ومتنوعة، جعلت القضية غير محكمة .. وغير محبوكة .. على الأقل من ناحية الإجراءات!

وفيما يلي – فقط – بعض العينات :

أولى العينات : تضارب أقوال الشهود .

1 – سألت النيابة العسكرية أمين الشرطة "جمال رياض":

س: جاء بأقوال الملازم أول طارق سلطان أن المتهم سليمان وقف على التبة وهو يهدد بقتل كل من يقترب منه وأن الجندي عطية إبراهيم نزل من على التبة متسللا ومشيرا للضابط طارق أن يصمت خوفا من المتهم سليمان، فهل حدث ذلك أمامك؟

ج: أنا ما سمعتش سليمان بيهدد، إنما سمعت من عطية لما وصل أن سليمان بيقول اللي حيقرب مني حاضربه بالنار وعطية كان نازل مرتبك وسليمان هو اللي قال له إنزل بلغ الضابط طارق.

واستدعت النيابة الضابط طارق سلطان إلى غرفة التحقيق وواجهته بالشاهد – أمين الشرطة جمال رياض، في خصوص ما اعترض أقوالهما من تضارب .. "فتراجع الضابط عن أقواله وقرر أنه من المحتمل أن يكون سمعه خانه، رغم صدق تأكيد النيابة العسكرية عليه في هذه الجزئية".

2 – وسألت النيابة العسكرية الجندي عطية إبراهيم:

س: هل نزلت متسللا أم نزلت بأمر ورغبة المتهم سليمان؟

ج: أنا نازل مرعوب وباجري على تحت وسليمان هو اللي قال لي انزل بلغ طارق بك!

س: هل سمعت الجندي سليمان يطلق النار ويصيح بأنه سيقتل من يقترب منه؟

ج: لا .. ما سمعتش!

3 – في محضر النيابة العامة، قال المقدم حسن خلف عاشور قائد سرية الأمن المركزي بنويبع:

قمت بمعاونة السادة الضباط بالاتصال بالمتهم تليفونيا، وتمكنت من إقناعه بتسليم السلاح والذخيرة وبالفعل تم ذلك وتقابلنا معه، وقبضنا عليه وسلم للجهات المختصة، وفي محضر النيابة العسكرية أنكر قائد ثاني السرية الرائد أحمد الشيخ ذلك، وقال: "أنا اللي اتصلت بسليمان وما حدش اتصل به غيري وأنا اللي طلبت الاتصال به وأطلع له".

س: هل تحدث المقدم حسن خلف معه عن طريق الجهاز؟

ج: لا .. خالص.

س: هل أنت متأكد؟

ج: لا .. لم يتصل به.

ولأن الجندي حسن الخولي هو المسئول عن الاتصالات فقد سألته النيابة العسكرية :

س: هل حدث أن اتصل بك على الجهاز أو التليفون المقدم حسن خلف عاشور، واتصل بسليمان تليفونيا؟

ج: لا .. أحمد بك الشيخ هو اللي كلمني!

4 – في محضر النيابة العامة سئل الجندي عطية إبراهيم:

س: قرر المدعو سليمان محمد عبد الحميد (خاطر) بمحضر الضبط أنه شاهد بعض الأجانب يصعدون الجبل فأشار لهم بيده لإفهامهم بعدم الصعود فرفضوا فأطلق بالقرب منهم بعض الأعيرة النارية للتحذير فأصاب بعضهم .. (ما رأيك في هذا الادعاء؟)'!

ج: أنا ما شفتوش!

وأمام النيابة العسكرية غير عطية أقواله وقال:

سليمان لما شافهم طالعين الجبل ودخلوا النقطة قال لهم بالإنجليزي حاجات لا أفهمها وكان بيشاور لهم بيده ينزلوا فرفضوا وفوجئنا بضرب النار على طول ..

5 – في محضر النيابة العامة قال عطية إبراهيم:

بعد ما سمعنا أربع طلقات جريت أنا وعلي (إبراهيم) فقابلنا سليمان وأنا بأكلمه قال لي ما لكش دعوة وروح قول للضابط طارق إن سليمان "قتل" ناس أجانب! وفي محضر النيابة العسكرية تغيرت كلمة "قتل" إلى كلمة "سيقتل" في أقوال نفس الشاهد .. والكلمة الأولى تعني أن سليمان أصاب (الإسرائيليين) من رصاصات التحذير التي أطلقها .. أي أنه غير متعمد .. أما الكلمة الثانية فتعني أنهم كانوا على قيد الحياة بعد رصاصات التحذير، وأنه تعمد بعد ذلك قتلهم ...

وسألت النيابة العسكرية عطية إبراهيم:

س: بماذا تعلل التناقض بين أقوالك؟

لم يستطع الشاهد – باعتراف النيابة العسكرية – تبرير هذا التناقض!

وسألت النيابة العسكرية الجندي علي إبراهيم، بعد أن لاحظت تناقض أقواله هو الآخر:

س: لماذا غيرت أقوالك عن تلك السابقة أمام النيابة العامة وأمامنا؟

ج: أنا ما عنديش إجابة؟

وسألت النيابة العسكرية الملازم أول طارق سلطان:

س: بماذا تعلل التناقض في أقوال؟

ج: الحالة النفسية اللي الواحد فيها أو احتمال عدم التركيز وسيادتك لما تسألني بعد هدوء أعصابي كل مرة بفتكر أكثر وأنا ضابط، مليش خدمة غير سنتين والحادث ده حصل في النقطة اللي أنا قائدها فلازم ظروفي تبقى مش طبيعية! !

إن هذه الأمثلة من أقوال الشهود المتناقضة ليست هي الأمثلة الوحيدة في محاضر التحقيق .. ومن الملاحظ أن النيابة العسكرية أدركت هذا التناقض وسجلته .. ومن الملاحظ أن الشهود من الجنود العاديين لم يقدروا على تفسيره، مما يثير الشك في أن تراجعهم في الأقوال، أو تناقض هذه الأقوال، وراءه نوع من التلقين .. أو الإعداد المسبق قبل وصول النيابة العسكرية .. في حين أن الضابط (طارق سلطان) لأنه متعلم ومدرب، فقد نجح في تفسير تناقض أقواله، بالادعاء أن حالته النفسية كانت مضطربة .. وأن خبرته لا تزيد على السنتين، ورغم أن التفسير يمكن قبوله، إلا أن العذر هنا أكبر من الذنب ..

العينة الثانية من ثقوب "غربال" القضية : الأخطاء غير المبررة التي وقع فيها بعض رجال الشرطة في مكان الحادث .

1 – في ص 15 من محضر النيابة سئل مأمور شرطة "نويبع" العقيد "محمد علي إسماعيل":

س: لماذا لم تقم بسؤال الطفلين المصابين عند انتقالك لهما في المستشفى؟

ج: أنا كنت متصور تواجدهما بعض الوقت في المستشفى بنويبع لحين عودتي من إجراء المعاينة حيث إن المتهم كان في ذلك الوقت طليقا لم يتم القبض عليه، وعند عودتي للمستشفى تبين خروجهما.

لم يكن تبرير مأمور شرطة نويبع سليما، حيث إنه ليس المكلف بالقبض على سليمان خاطر .. وهذه المهمة كانت من اختصاص قائد سرية الأمن المركزي ومساعده، والتي يعد سليمان أحد أفرادها!

2 – صباح اليوم التالي للحادث، لم ينتظر قائد النقطة (طارق سليمان) ونائب المأمور (إيهاب فرج) حضور النيابة العامة، وصعدا إلى مكان الحادث، وراحا يجمعان الطلقات الفارغة والحية، رغم أنها من أدلة التحقيق ومن صميم عمل النيابة .. وقد سألت النيابة العسكرية قائد النقطة:

س: هل صعدت أثناء نزول الجثث من فوق التبة مع المجموعة التي صعدت؟

ج: طلعت التبة بعد ما نزلت الجثث.

س: هل ناظرت مكان الحادث ليلتها؟

ج: لا .. وأنا لم أبص للجثث وهي تحت!

س: ما سبب صعودك للمنطقة بعد إخلائها من الجثث؟

ج: علشان أستطلع أحوالها.

س: هل صعدت للنقطة صباح اليوم التالي؟

ج: نعم.

س: لماذا؟

ج: علشان أدور فيها على أي حاجة!

س: في صباح اليوم التالي للحادث ما الذي شاهدته تحديدا في النقطة في وضح النهار؟

ج: كان فيه كاميرا مكسورة من فوق وآثار دماء وفوارغ طلقات.

س: أين كانت فوارغ الطلقات وأين كانت الكاميرا وأين كانت بقع الدماء؟

ج: الكاميرا كانت جنب أول بقعة دم، على بعد مترين من الكشك، والطلقات الفارغة كانت أمام الكشك وجنب

الكشك على طول وكان فيه ناحية تبة العلم طلقات فارغة أيضا وعند التبة التي استقر عندها سليمان في الآخر .. لقيت فوارغ وطلقات حية.

س: ما الذي فعلته في فوارغ الطلقات؟

ج: جمعتها وكانت 39 طلقة تقريبا .. هي اللي جمعتها أنا.

س: وهل جمعت كل هذه الطلقات الفارغة وحدك؟

ج: كان معايا العساكر وجمعوا التسع وثلاثين طلقة الفارغة، وبعض الناس، منهم نائب المأمور والنيابة

جمعوا عدد آخر من الطلقات ما أعرفش منين.

س: لماذا قمت برفع هذه الذخيرة من أماكنها قبل وصول النيابة العامة رغم أنها من أدلة التحقيق وأنت ضابط شرطة وتعلم ذلك؟

ج: أنا لا شعوريا عملت كده وأنا لحد الآن ما زلت في حالة نفسية سيئة للغاية مما حدث!

وقد سألت النيابة العسكرية نائب المأمور نفس السؤال الأخير تقريبا.

س: ما الذي جعلك تنتقل للمعاينة دون إذن من النيابة؟

ج: المأمور قال لي تعالى وريني الجثث كانت فين!

س: لماذا إذن قمتم برفع فوارغ الذخيرة قبل وصول النيابة ودون إذن منها؟

ج: إحنا تركنا الذخيرة مكانها في وجود النيابة العامة!

3 – من بين الأدلة التي عثر عليها وأشار إليها الشهود وجود كاميرا "مكسورة" كانت مع (الإسرائيليين) .. وقد سقطت بعد إطلاق الرصاص عليهم، وانكسرت "من فوق" .. وقد اختفت "الكاميرا" بعد ذلك ولم تحرز مع باقي أحراز القضية ولم نعرف طبيعتها ولا نوعها، ولا طبيعة الفيلم المركب أمام عدستها، ولا الصور التي التقطت بها! .. إن تحقيقات النيابة العسكرية التي سجلت في حوارها مع قائد النقطة وجود هذه الكاميرا، ولكنها لم تتضمن أي سؤال بشأنها بعد ذلك، ولم تقدم أي إجابة عن التساؤلات التي أثيرت حولها!

4 – ومن بين الأدلة التي عثر عليها أيضا .. "ألبوم صور" ، حصل عليه ضابط من ضباط مباحث أمن الدولة صعد مع قائد النقطة ونائب المأمور .. ولم يقدم هذا الألبوم أو يحرز على ذمة هذه القضية ..

إن تحقيقات النيابة العسكرية تروي قصة هذا الألبوم ولكنها لا تشير إلى مصيره .. لقد صعد – طبقا لهذه التحقيقات – ضابط مباحث أمن الدولة إلى موقع الحادث .. ودخل الكشك حيث دواليب جنود النقطة التي يضعون فيها حاجاتهم الشخصية .. وقد كسر ذلك الضابط الدواليب .. و"فسخ" أقفالها، ولم ينتظر أن يفتح أصحابها بأنفسهم .. وأغلب الظن أن مباحث أمن الدولة كانت تفتش عن أوراق، أو منشورات، أو معلومات تثبت بصورة أو بأخرى ارتباط سليمان خاطر بأي تنظيم سياسي أو ديني ما .. لكن ذلك لم يحدث .. وكان كل ما وجدوه بعض الآيات القرآنية المكتوبة بخط اليد والمعلقة بمسامير على جدران الكشك .. ووجدوا آية قرآنية أخرى على دفتر "المراقبة" الخاص بالنقطة .. ووجدوا ألبوم الصور .. إن الصور التي في الألبوم، يظهر فيها بعض جنود النقطة بالمايوهات وسط عدد من الشبان والفتيات (الإسرائيليين) وهم شبه عرايا أيضا .. ومن أولئك الجنود: عطية إبراهيم، وقد سألت النيابة العسكرية زميله الجندي علي إبراهيم:

س: هل شاهدت في النقطة مع أحد زملائك أي ألبومات صور مع أجانب سواء كانوا نساء أو رجالا؟

ج: أنا شفت مع عطية صور له مع ستات ورجالة أجانب والصور كانت في الألبوم!

س: ما لون هذا الألبوم؟

ج: غالبا لونه أزرق.

س: هل أخذت هذه الصور للجندي عطية مع الأجانب بالنقطة أو بجوارها؟

ج: أيوة متصورين معاه في النقطة .. في الحتة اللي تحت العلم من ناحية البحر شوية!

ولم تسأل النيابة العسكرية: من الذي التقط هذه الصور؟ ولا كيف وصلت نسخة منها لعطية إبراهيم؟ ولا ما هي طبيعة العلاقة بين جنود النقطة وأولئك السياح (الإسرائيليين) ؟ ولكنها .. سألته:

س: معنى ذلك أن الأجانب معتادون الصعود إلى هذه النقطة؟ وكانت الإجابة مذهلة ..

ج: أيوة!

س: وهل يسمح الجندي سليمان للأجانب بالصعود إلى هذه النقطة دائما؟

ج: سليمان ما يحبش كده أبدا وما بيطلعش الأجانب النقطة.

س: هل حدث أن منع سليمان أجانب من صعود النقطة من قبل في وجودك؟

ج: نعم.

س: هل يمنعهم بالقوة أو يهددهم بالسلاح؟

ج: هو بيكلمهم بالإنجليزي فينزلوا على طول.

واستدعت النيابة العسكرية الجندي عطية إبراهيم، وسألته:

س: هل سبق أن صعد أجانب إلى هذه النقطة من قبل؟

ج: أيوة بيطلعوا!

س: هل سبق لك أن أخذت صورا مع هؤلاء الأجانب من رجال أو نساء وهم يلبسون ملابس البحر؟

ج: تما يا أفندم ... حصل!

س: أين تضع هذه الصور؟

ج: في ألبوم .. وفي دولاب سليمان.

س: ومن الذي وضع ألبومك الخاص في دولاب سليمان؟

ج: هو طلب مني إن الصور دي تيجي فأعطيتها له، وحطها في دولابه هو.

س: ولماذا طلبها سليمان وما الذي أجبرك على إعطائها له؟

ج: هو .. أمرني أجيبهم علشان هو الحكمدار.

س: منذ متى أخذ منك الألبوم؟

ج: قبل الحادثة ما تحصل بكام يوم.

5 – إن معاينة النيابة العامة تمت بعد صعود رجال الشرطة لمكان الحادث .. وهناك شك في أن رسم المعاينة الكروكي الذي قامت به النيابة العامة لا يعتمد على أماكن الجثث الحقيقية: أو أماكن طلقات الرصاص الحقيقية! !

6 – إن النيابة العسكرية التي باشرت التحقيق بعد ذلك لم يتح لها أن ترى أو تعاين مكان الحادث أو تكون فكرة سليمة عنه لأنها باشرت القضية متأخرة.

العينة الثالثة من ثقوب غربال القضية : تقارير الطب الشرعي عن القتلى والمصابين .

إن القانون يفرض أن يتم تشريح "الطب الشرعي" بواسطة أطباء مصريين يأتون إلى المحكمة ويحلفون اليمين أمامها .. وإذا لم يحدث ذلك لا يؤخذ بالتقارير التي تحمل الصفة التشريحية للقتلى .. أو التي تحمل أوصاف الجروح بالنسبة للمصابين ... لكن شيئا من هذا لم يحدث في هذه القضية.

لقد تسلم (الإسرائيليون) الجثث في نفس يوم الحادث .. وقبل أن تصل النيابة العامة إلى مكان الحادث .. وبالتحديد تم ذلك بعد ساعات قليلة من نزول الجثث من التبة .. وقد اكتفى أطباء مستشفى نويبع بفحص الجثث فحصا ظاهريا .. ثم تسلمها المستشار السياسي للسفارة (الإسرائيلية) "نمرود باري" الذي كان من بين مجموعة السياح (الإسرائيلية) الذين كانوا يخيمون على الشاطئ أسفل النقطة .. وقد تسلم الجثث بصفته الشخصية لا الرسمية .. ووقع على إيصال بذلك باللغة الإنجليزية مكتفيا بكتابة الحرف الأول من اسمه واسم عائلته على هذا النحو "ن. باري" ولم يذكر في الإيصال جنسيته، ولا رقم جواز سفره، وإنما سجل بطاقته الشخصية ورقمها 386434 .. وقال في الإيصال إنه تسلم الجثث السبع "لنقلها إلى إسرائيل" .. وقد وصل التسرع في تسليم الجثث إلى حد أن بعض الأسماء في إيصال الاستلام غير كاملة وبدون لقب، كما في جثة أوفري الذي لم يوضح الإيصال لقبه .. وحسب إشارة مركز العمليات في الجيش الثالث إلى قائد الجيش الميداني في الساعة العاشرة تقريبا ليلة الحادث إن الجثث نقلت بطائرتين هيلكوبتر من طراز "هيل" تتبعان القوات متعددة الجنسية، وكانتا قد هبطتا في القرية السياحية بنويبع.

إن أحدا لا يعرف سر هذا التسرع في نقل الجثث إلى (إسرائيل) .. ولا أحد يعرف لماذا سمح المصريون بذلك قبل الإجراءات اللازمة!

ونفس الشيء حدث مع المصابين .. إن المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" يعترف أمام النيابة العسكرية المصرية أنه أخذ المصابين في سيارته من المستشفى وأوصلهما بنفسه إلى عربة إسعاف كانت تنتظره على الحدود عند إيلات .. ولا نعرف بالطبع كيف وصل خبر الحادث إلى (إسرائيل) بهذه السرعة .. وبالتفاصيل الدقيقة التي جعلت سيارة الإسعاف تنتظر المصابين وتتسلمهما ... ومن باب التمويه – على ما يبدو – قال المحامي (الإسرائيلي) إن المصريين رفضوا السماح له بالاتصال بإيلات .. وإذا كان هذا قد حدث، فمن الذي أوصل الخبر إلى داخل (إسرائيل) ؟ !

وقد أصبح ملزما – بعد كل هذا التسرع – أن تأخذ المحكمة العسكرية بالتقارير الطبية (الإسرائيلية) .. ولا داعي – بالطبع – أن نشير إلى إمكانية أن تتلاعب (إسرائيل) في هذه التقارير على النحو الذي تراه، وعلى النحو الذي يجعلها تكيف التهمة بحيث تكون "عمدا مع سبق الإصرار والترصد".

ولا داعي أن نشير إلى عدم جدوى تقارير أطباء مستشفى نويبع "الظاهرية" .. وخاصة أن الكشف "الظاهري" – حسب ما جاء في محضر مأمور شرطة نويبع – لم يزد على دقائق معدودة .. ولم يزد ما قاله الأطباء بعده على سطور قليلة عن كل جثة .. حتى أنه من الثابت أن الجثث السبع لم يستغرق الكشف الظاهري عليها سوى ثلث ساعة، وتقاريرها لا تزيد على صفحتين من محضر الشرطة الأولي .. ولا يؤخذ بهذه التقارير لأنها تمت من غير أمر من النيابة، كما أنها لم تتم بواسطة الأطباء الشرعيين .. ولم تتم في معاملهم ..

وقد أرسل (الإسرائيليون) سبعة تقارير "صفة تشريحية" ... وتقريرين "طبيين" عن المصابين إلى الإدارة العامة للقضاء العسكري المصري ... وكانت التقارير التسعة مكتوبة من نسختين .. نسخة باللغة العبرية وأخرى باللغة الإنجليزية .. وأرسلها المدعي العام العسكري بكتاب رقم 11088 – في 23 أكتوبر 1985 إلى مدير إدارة الخدمات الطبية، الذي تولى الإشراف على ترجمتها إلى اللغة العربية ... واعتمدت الترجمة بتوقيعه ... ومن التوقيع نعرف أن مدير إدارة الخدمات الطبية المسئول عن ذلك هو اللواء طبيب فؤاد علي المغربي .. وقد أرسلت الترجمة من مكتب المدعي العام العسكري (لواء محمد نادي سيد موسى) إلى رئيس نيابة السويس العسكرية يوم 28 أكتوبر 1985، بخطاب قيده ب/ 85/ 1532 .. مع مخصوص. وحسب ملف القضية فإن ترجمة تلك التقارير إلى اللغة العربية كتبت على الماكينة الكاتبة على 26 صفحة ...

ومن يقرأ التقارير الطبية (الإسرائيلية) ولو قراءة سطحية .. يلاحظ بسهولة أكثر من مغزى تشير إليه، وتوحي به:

1 – ترى تلك التقارير أن أغلب المتوفين لم يموتوا في الحال .. أي أنه كان من الممكن – طبقا لهذا الغمز – إنقاذهم، أو إنقاذ بعضهم على الأقل، لو كانت السلطات المصرية – طبقا لهذا الغمز أيضا – أسرعت بإسعافهم .. أو لو كانت أسرعت بالتدخل لإقناع سليمان خاطر بتسليم نفسه في وقت مناسب .. وهذه الإشارة الخفية أو المتعمدة في التقارير الطبية، محاولة إضافية من إسرائيل لإحكام التهمة التي وجهتها لمصر فور الحادث، ونقصد بذلك تهمة إهمال الجرحى وتركهم ينزفون حتى الموت .. وقد أشار إلى هذه التهمة – أيضا – المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" في تحقيقات النيابة العسكرية.

2 – أن معظم الجروح النافذة – حسب هذه التقارير – من طلق الرصاص على الظهر أو على الكتفين، مما يوحي أن الطب الشرعي (الإسرائيلي) يريد إثبات أن سليمان خاطر أطلق الرصاص عليهم بتعمد، وهم يفرون أمامه .. أو أنه أطلق النار عليهم من الخلف لا من الأمام، والمعنى مفهوم ولا يحتاج إلى شرح.

فيما بعد .. قال جودة العزب أول محام انتدبته أسرة سليمان خاطر للدفاع عنه:

- إن أوراق الدعوى لا تدين سليمان خاطر .. فالنيابة لم تعاين جسم الجريمة وهي جثث القتلى .. وتقرير الطب الشرعي المصري غير موجود .. ولن يوجد .. وتقارير الطب الشرعي (الإسرائيلي) لا تلزم القضاء المصري في شيء.

- وعلى هذا النحو – كما يقول المحامي أيضا – يكون الركن المادي للاتهام غير قائم .. وسبب الوفاة غير ثابت.

ورغم ذلك اعتبرت النيابة العسكرية التقارير الطبية (الإسرائيلية) بندا من بنود قائمة الثبوت في القضية .. ودليلا من الأدلة المضادة لبطلها.

كذلك ... اعتبرت النيابة العسكرية شهادة المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" دليلا من أدلة الإثبات رغم أنه قد ثبت لها عدم دقة أقواله.

وقد أضافت النيابة العسكرية إلى هذين الدليلين غير الموثوق بهما دليلا آخر سبق إثبات عدم تماسكه، وهو الدليل الخاص بأقوال الشهود .. زملاء سليمان خاطر وقائد النقطة .. وقد اعترفت النيابة العسكرية بنفسها في محاضر التحقيق أن أقوالهم متضاربة وغير مستقرة .. وكثيرا ما عدلوا عنها دون أن يفسروا ذلك.

لقد اعترف سليمان خاطر بارتكابه الحادث .. لكنه أصر على رفض أنه ارتكبه متعمدا .. فكان على النيابة العسكرية أن تحصل – ولو من تحت الأرض – على أي دليل يثبت ركن "العمد" .. حتى ولو أدى ذلك إلى أن تتحول القضية من قضية إلى غربال يمتلئ بالثقوب .. القانونية والجنائية!

الأطفال على الطريقة الصهيونية! !

  وصف سليمان خاطر بأنه "قاتل الأطفال الأبرياء" ! !

رددت هذا الوصف، وركزت عليه كل الصحف والمجلات الحكومية المصرية التي تناولت قضية "رأس بركة"، وقد استخدمت هذه الصحف والمجلات هذا الوصف في الرد على المعارضة المصرية التي اعتبرت سليمان خاطر بطلا يستحق التكريم والتقدير، مثله مثل سليمان الحلبي، وأدهم الشرقاوي ..

لقد اعتبرت الصحافة الحكومية المصرية سليمان خاطر هو قاتل البراءة .. الأزهار .. وعصافير الجنة .. ومن يقل غير ذلك فهو مثله .. قاتل للسذاجة والطهر .. والنقاء .. قاتل الملائكة الصغار .. وكان هذا الوصف هو أكثر الأوصاف التي استفزت سليمان خاطر وأثارت غضبه وحزنه ورفضه ..

وقد اعترف بذلك مكرم محمد أحمد في الحوار الذي أجراه معه في سجنه، وقال: إنه أحيانا (أي سليمان) كان يأخذه الغضب وهو يدافع عن نفسه ويرد تهمة قتل الأطفال .. ويقول له سليمان: "لا .. لم أكن قاتل الأطفال .. صدقني أنا لم أر أطفالا .. كانت الشمس قد غابت عن المكان وكان الظلام قد حل" .. "لم أكن أرى أطفالا ولكنني كنت أرى كومة أفراد يصعدون التل حزمة واحدة .. وحدث ما حدث .. وإذا كان قد تكشف فيما بعد أن بينهم أطفالا فإن الإنسان لا يملك الآن سوى الأسف".

ويشير سليمان في نفس هذا الحوار إلى أحجام أولئك الأطفال ويقول: "لقد كان أصغرهم يقاربني طولا" .. ويضيف "هذا ما رأيته" ! !

ولا ينسى سليمان أن يؤكد أنه ترك الطفلة "نعمة" تنزل من فوق التل بعد أن اكتشف وجودها على قيد الحياة بعد أن أمر الجندي "حسونة" أن يوصلها إلى أهلها أسفل التبة .. "لو كنت قاتل الأطفال، فلماذا تركت هذه الطفلة سليمة".

ويسأله مكرم محمد أحمد: هل لأشقائك بنات صغيرات في عمر هذه الطفلة؟

ويرد سليمان: نعم .. لواحد من أشقائي، عبد الحميد، ابنة في عمرها اسمها "نيفين" !

ويسأله: ما الفارق بين "نيفين" والطفلة الإسرائيلية التي طلبت أنت إلى حسونة مساعدتها على الهبوط؟

فيرد: لا شيء، فكلنا أولاد آدم وحواء وكلنا إلى تراب، إنك لا تعلم مدى حبي للأطفال، إنني شديد التعلق بأولاد شقيقي: محمد وأحمد وسعيد، وبودي أن أراهم!

هل يمكن أن يحمل هذه المشاعر، ويقول هذا الكلام، شخص يوصف بأنه قاتل الأطفال؟

إن من المؤكد أن كلمة "أطفال" هنا تحتاج إلى مراجعة ..

إننا لسنا مع قتل الأطفال ولا حتى الكبار .. لكن .. هذا لا يعني تجاهل الحقيقة .. ومحاولة تصوير ما حدث، تصويرا يبدو رومانسيا .. ناعما .. يغازل القلوب التي تسجد حبا ورقة أمام الأطفال .. إن هذا التصوير الذي يرسم سليمان خاطر صورة أقرب لصور "السفاحين" تصوير ظالم .. وكاذب .. ولا علاقة به بالواقع أو الحقيقة ..

فمن المؤكد – حتى الآن – أن أحدا لا يعرف – بدقة- عدد "الإسرائيليين" الذين صعدوا التل .. ولا أحد يعرف – بدقة أيضا – عدد الناجين منهم، الذين نزلوا من التل .. فكل المعلومات هنا مصدرها فقط الجانب (الإسرائيلي) .. بل .. إن من المؤكد أن المعلومات المتوافرة عن القتلى لا تعد معلومات جازمة .. أو نهائية .. لأن مصدرها أيضا الجانب (الإسرائيلي) .. فعندما عاين مأمور شرطة نويبع الجثث اكتشف عدم وجود أي شيء يثبت شخصية أصحابها .. لا بطاقات شخصية .. ولا جوازات سفر .. وعندما تسلم "نمرود باري" الجثث، كان هو الذي سجل بنفسه أسماء وأعمار أصحابها .. دون أي مراجعة أو تأكد من أي مسئول مصري لصحة هذه المعلومات .. ومن يرى إيصال استلام الجثث الذي وقعه نمرود باري يكتشف أن بعض الأسماء لا تحمل أي ألقاب .. مجرد اسم أول فقط – ووحيد .. مثل الجثة التي حملت رقم "6" في إيصال الاستلام .. جثة الصبي "أوفري" الذي كتب أمامه: "ذكر – 12 سنة" .. وقد اتضح فيما بعد أن أوفري أنثى وليس ذكرا ... وأن اسمها بالكامل "أوفري تورال" .. كذلك كتب أمام جثة "هامان شيلاح" أن العمر 42 سنة واتضح من التقارير الطبية (الإسرائيلية) – فيما بعد – أن عمره 44 سنة .. كذلك كتب أمام جثة زوجته "إيلانا شيلاح" أن عمرها 40 سنة، واتضح من التقارير الطبية (الإسرائيلية) – فيما بعد – أن عمرها 43 سنة ...

أي أننا أمام معلومات متضاربة .. وغير دقيقة عن القتلى .. معلومات تحول الأنثى إلى ذكر .. ولا تستطيع أن تحدد أعمارهم .. ولو أضفنا إلى هذا التناقض، ملاحظة سليمان خاطر التي قال فيها "إن أصغرهم أطول منه" .. لاتضح لدينا بسهولة أن لقب "طفل" لا ينطبق على أغلب الذين صعدوا التل .. حتى لو سلمنا بالمعلومات (الإسرائيلية) فإن اللقب المناسب لغير الكبار هو لقب "صبيان" أو "فتيات" .. حيث إن الأعمار المذكورة – لو كانت صحيحة – تتراوح ما بين 10 – 12 سنة، وطبقا لنفس المصادر (الإسرائيلية) فإن أطوال الصبيان والبنات من القتلى ليست أطوالا عادية .. فالفتاة دينا باري "وهي بالمناسبة ابنة نمرود باري" عمرها 10 سنوات ولكن طولها 148 سم .. والفتاة "شيلا زيليل" عمرها 12 سنة ولكن طولها 154 سم .. والفتاة "أوفري تورال" عمرها 12 سنة ولكن طولها 161 سم .. إن مثل هذه الأطوال لا تناسب هذه الأعمار .. وليست بالقطع أعمال أطفال .. وإذا كانت هذه الأطوال لأعمار يتراوح عمر أصحابها بين 10 – 12 سنة فإنهم بالقطع يكونون قد اختيروا بعناية لمهمة بعينها ..

إن من المؤكد أن صعود التل، في وقت الغروب، مع كل المخاطر التي تحيط به، مع هؤلاء الشبان مسألة ليست سهلة .. وليست مأمونة العواقب .. ولا يمكن المخاطرة بسلامة أولئك الشبان ما لم تكن المهمة ضرورية .. ولا بد من المغامرة في سبيلها .. كما أن من المؤكد أن هؤلاء "الصغار" قد تلقوا تدريبا ما، جعلهم – رغ صعوبة ما تعرضوا له بعد إطلاق النار عليهم – يتمتعون برباطة جأش نادرة، وهدوء أعصاب لا يحدث للكبار في مثل هذه المواقف، وقدرة مذهلة على رواية ما حدث – بعد ذلك – بدقة ..

فقد "صرح" الصبي (الإسرائيلي) "يهود بوم" الذي نزل سالما من فوق التل لصحيفة "معاريف" (الإسرائيلية):

"لقد توقف الأتوبيس الذي كنا نستقله وقررت "مجموعتنا" أن تصعد التل الذي يطل على البحر لنتأمل المنظر الطبيعي في حوالي الساعة 4.30 بعد الظهر، وكان هناك مصريون استقبلونا استقبالا وديا، وفجأة عدل أحدهم اتجاهه وأطلق علينا النار دون أن ينطق كلمة".

واستطرد:

"واقترب ضابط مصري منا بعد ذلك وكانت ملابسه ملطخة بالدماء وقال إن الجندي أصابه الجنون، ولاحظت أن الضباط والجنود المصريين الذين كانوا في مكان الحادث بدوا مذعورين وفي ذهول مما حدث، وقد أبعدوا من بقي على قيد الحياة والذين كان من بينهم طبيب ومنعوهم تماما من الاقتراب من القتلى والمصابين إلى حين وصول المسئولين، غير أن هؤلاء لم يصلوا إلى مكان الحادث إلا بعد بضع ساعات".

إن من يتأمل هذا النص ودقة صاحبه على الملاحظة والرصد لا يمكن أن يصدق أنه صبي صغير، ولا يمكن أن يصدق أنه خرج من حادث صعب وقع له، وشاهد فيه دماء وجثث أقاربه وزملائه .. إنه رصد شخص هادئ ... غير مذعور .. غير مذهول .. يعطي الأشياء البسيطة حقها .. ويستطيع أن يحسب الوقت .. ويستطيع أن يلاحظ الذعر الذي كان عليه الضباط والجنود المصريون ..

وفي شهادته أمام النيابة العسكرية، قال المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" إن ابنته (نعمة) التي تبلغ من العمر 9 سنوات قد وصفت له الحادث بدقة ..

فقالت: "إنهم صعدوا جميعا إلى الجبل في صف واحد، الأول الأولاد وفي الآخر ثلاثة من الكبار". وقبل أن نواصل سماع رواية الفتاة، لا بد أن نلاحظ هنا "طبيعة التشكيل" الذي صعدوا به الجبل، ولا بد أن نلاحظ هنا، وبعد ذلك دقة الوصف بالنسبة لعمرها ..

فهي تقول: "كان فيه بمنى زي الكشك وله براندة وكان واقف على البراندة أربعة عساكر" .. "وكان فيه باب بجوار البراندة وكان آخر واحد عبر من أمام هذا الكشك هو هامان شيلح" .. ولم يفت الطفلة "المعجزة" أن تصف مسرح الحدث ... وصف محترف ... "وهي قالت إن كان فيه منظر جميل قوي من فوق المكان دهب يطل على البحر" .. "وحينئذ فتح الباب وخرج جندي ومعه بندقية وراح ضارب بالنار فسقط هامان" .. وأضاف المحامي (الإسرائيلي): أن ابنته قالت له: "إن هامان ساعة ما التفت للجندي بعد سماع صوت الطلقات، تلقى الرصاص وسقط" ... أي أنها رغم إطلاق الرصاص والذهول والرعب .. ورغم عمرها البسيط إلا أنها كانت قادرة على متابعة مشهد سقوط هامان على هذا النحو .. وأضاف المحامي (الإسرائيلي) على لسان ابنته:

"كان فيه حائط من الحجارة منخفض وهي نطت عليه" .. "وعندئذ قال يهود "12 سنة" لهم جميعا .. إن هناك منزلا منحدرا سننزل عليه من غير ما نقف ونزحف عليه على مؤخراتنا واحنا جالسين" .. مشهد انسحاب يستحق التوقف .. الزحف على المؤخرة .. وعدم الوقوف لتلافي الرصاص .. أسلوب لا يمكن اللجوء إليه إلا إذا كانوا يعرفونه وسبق لهم التدريب عليه ... وهو بالمناسبة أسلوب "عسكري" من أساليب الهروب والانسحاب تحت القصف .. ونلاحظ هنا أيضا مدى تمتع القائد الصغير "يهود" الذي أصدر أمر الانسحاب على هذا النحو، بسرعة البديهة والثقة، والقدرة على قيادة المجموعة للخروج من هذا المأزق، وشطارته في اختيار الساتر الطبيعي المكون من الصخور عند النزول.

وتضيف الفتاة: إنهم عندما تمكنوا من الزحف على مؤخرتهم وعندما وصلوا إلى أسفل، قال لهم "يهود": لا تجروا .. ولكن ازحفوا على أيديكم وأرجلكم .. وبعد أن زحفوا حوالي 200 متر كما قالت، أمرهم أن ينطلقوا في الجري ...

إن القائد الصغير، المدرب، يعرف ماذا يفعل .. ويعرف كيف يأمر فيطاع .. ويعرف كيف يشكل خططه طبقا للواقع .. ويعرف كيف يحدد بدقة المسارات والمسافات .. ويعرف متى يزحفون على مؤخرتهم ومتى ينطلقون في الجري .. يعرف كل ذلك وأكثر وعمره 12 سنة .. ومصاب بجرح في رقبته.

'أي أطفال هؤلاء الذين نتحدث عنهم؟ !'

أي طراز من الصغار هؤلاء؟

إنهم من طراز الأطفال الذين يربون على الطريقة (الإسرائيلية) ..

إن الطفل في المجتمع "الإسرائيلي" ليس كالطفل في المجتمع المصري .. ولا في أي مجتمع حضاري، مستقر آخر .. إن الطفل هناك جزء من الكيان العسكري للمجتمع الذي يعيش في حالة ترقب دائم، ولا يخشى صفارات الإنذار، ولا استدعاء الاحتياط .. إنه يرضع الإحساس بالخطر .. ويمص – مع أصابعه – التوتر والاستنفار .. ويتعلم من صغره من هو العدو وكيف يمكن التعامل معه .. ومن هو الصديق ومتى يمكن الحذر منه؟ !

ولعل أنسب معمل لتفريخ أطفال من هذه العينة المشاكسة .. هو "الكيبوتس" .. والكيبوتس عبارة عن مستعمرة مصممة تصميما خاصا أشبه ما يكون بالقلعة الحصينة القادرة على الدفاع عن نفسها وعن المستعمرات المجاورة لها .. وهذا التصميم يكون طبقا للطراز الروماني المعروف وهو عبارة عن عدة أضلاع مغلقة .. وداخل هذا الانغلاق تقوم كل مستعمرة بتوفير احتياجات أعضائها الأساسية ... توفيرا ذاتيا .. وعادة ما تقام على قمة تل أو هضبة حتى يسهل الدفاع عنها كموقع عسكري، وزراعي، واستيطاني .. ومعظم القادة العسكريين في جيش الصهاينة هم من إنتاج الكيبوتسات .. مثل موشي ديان .. وإيجال آلون، ... إلخ .. وكل عضو في الكيبوتس له عمل معين يؤديه ولكن الجميع يتدرب على حمل السلاح .. وقد ساهمت هذه المستعمرات بدور فعال في غرس الروح العسكرية في أعضائها منذ الصغر .. وكانت نواة "الهاجانا" و "البالماخ"، و "الناحال".

وتقول الإحصائيات الصهيونية: إن ثلث ضباط الجيش الصهيوني و 25% من ضحايا حرب 1967، و 60% من الطيارين الجدد قد نشأوا في مستعمرات الكيبوتس.

وقد أنشأ الصهاينة – عندما كانوا يحتلون سيناء – بين العريش ورفح عدة "كيبوتساه" وهي تصغير (كيبوتس)، ووجد في هذه الكيبوتساه – بعد عودة سيناء إلى الإدارة المصرية – حضانة للأطفال صممت إحدى غرفها على شكل دبابة لتدريب "الأطفال" على قيادة المدرعات والمجنزرات .. وفي هذه الحضانة وجد ميدان لضرب النار به شخوص ثابتة ومتحركة يتعلم عليها الأطفال الرماية ببنادق "الرش".

الطفل "المقاتل" في (إسرائيل) ليس خيالا ولا بدعة .. إنه نتاج طبيعي لصراع ملتهب بدأ منذ عام 1909 ... أي منذ إنشاء أول "كيبوتساه" على أرض فلسطين، ولم ينته حتى الآن .. ومن السذاجة التي تصل إلى حد البلاهة أن نتصور أطفال (إسرائيل) .. مثل أطفالنا نحن الذين نربيهم في أحضاننا .. وندللهم إلى حد السخف أحيانا ... إذن كيف يربي الطفل "الإسرائيلي" في "الكيبوتس" ؟

تقول "الموسوعة الصهيونية" تحت عنوان "كيبوتس":

"الكيبوتس ليست أداة الاستيطان الصهيوني العسكري وحسب وإنما هي أداته الاستيعابية أيضا، فقد ثبت للقيادات الصهيونية أن الكيبوتس هي الطريقة المثلى لاستيعاب المهاجرين وتوفير احتياجاتهم الأساسية .. ولكن لا يمكن فصل الدور العسكري عن الدور الاستيطاني والاستيعابي، إذ أن البناء الداخلي لمزارع الكيبوتس الذي يتم عن طريقه استيعاب المهاجرين وتحويلهم إلى "الإنسان الصهيوني الجديد" ... لا يعترف الكيبوتس بنظام الزواج .. ويعتبره نظاما فاسدا .. . يضعف ارتباط الأطفال بالمجتمع ... هو أيضا البناء الذي يعدهم ليكونوا مقاتلين أكفاء، بل يمكن القول أن الاستيعاب الكامل لا يتم إلا حينما يصبح المواطن مقاتلا عاملا، متكيفا مع المجتمع .. القلعة .. والذي يتحرك تحت شعار: أنا أحارب إذن أنا موجود في (إسرائيل).

وللوصول إلى هذا الإنسان "الصهيوني الجديد" .. لا يعترف الكيبوس بنظام الزواج ... ويعتبره نظاما فاسدا .. يضعف ارتباط الأطفال بالمجتمع .. لكنه يعترف بنظام الحياة الخاصة بين الرجل والمرأة ... حيث لا يتطلب الأمر منهما سوى التقدم بطلب للانضمام إلى الكيبوتس والحصول على غرفة يعيشان فيها .. ويقومان بتسليمها إذا ما خرجا من الكيبوتس وقررا الافتراق ..

وتهدف التنشئة الاجتماعية في الكيبوتس إلى أضعاف الروابط الأسرية ليسهل ربط أبناء الكيبوتس بالمؤسسة الضخمة .. وليسهل إقناعهم وربطهم بأي أفكار أو أيديولوجيات يزرعونها فيهم .. والطفل هناك يعتمد على المؤسسة لا على والديه اللذين تضعف العلاقة بينه وبينهما تماما .. فبعد ولادته بأيام يوضع بعيدا عنهما في "بيت الأطفال" ويبقى هناك لمدة سنة، ينقل بعدها إلى "بيت الصغار" .. وفي تلك المرحلة لا يسمح للأبوين باصطحاب طفلهما لمكانهما إلا لبضع ساعات .. وفي الرابعة ينقل الطفل إلى "دار الحضانة" .. وفي السابعة ينقل إلى "المدرسة الابتدائية" وهكذا حتى يصبح رجلا .. وفي جميع هذه المراحل يقيم الطفل إقامة كاملة ومستقلة .. وغالبا ما يفقد الطفل في الكيبوتس صلته تماما بوالديه عندما يصل إلى سن الثالثة عشرة ..

ومنذ الحضانة وحتى الرجولة يأخذ الطابع المنظم للحياة في الكيبوتس طابعا عسكريا ... حيث يعد الطفل منذ صغره ليكون مقاتلا على درجة عالية من الكفاءة والمهارة .. وعبر هذه المراحل يلقن الطفل العقيدة والقيم الصهيونية! !

هل تفسر لنا هذه المعلومات السريعة والعابرة تصرفات الصبيان والبنات الذين صعدوا تبة "سليمان خاطر" ونزلوا منها على النحو الذي ذكره الشاهد (الإسرائيلي) ؟ وهل خرجنا بهذه المعلومات عن الموضوع الرئيسي الذي نتحدث عنه؟

قد نكون خرجنا بعض الشيء عن الموضوع .. ولكننا فعلنا ذلك، حتى نعود إليه ونحن نحمل من المعلومات، والصور، ما يجعله إلى أذهاننا .. وعلى عكس ما تحاول الصحف الحكومية أن تفرضه علينا.

ليس من السهل – إذن – أن نتعامل مع الصبيان والفتيات الذين صعدوا إلى تبة سليمان خاطر بهذا المنطق الرومانسي، البريء الذي نتعامل به مع صغارنا .. فالطفل في المجتمع (الإسرائيلي) شيء آخر .. عجينة أعيد تشكيلها من أجل أهداف أخرى .. وأدوار أخرى .. ومهام أخرى ... وإذا كانت الأدلة السابقة لا تكفي .. فعليكم تأمل هذا الدليل الجديد ..

إن هذا الدليل الجديد من (إسرائيل) .. بالتحديد من صحيفة "هآرتس" ... التي سجلت تحت عنوان "كيف ينظرون إلى العرب" وجهة نظر التلاميذ (الإسرائيليين) في العرب .. لقد طلبت المدرسة (س) في إحدى المدارس الابتدائية بتل أبيب من 200 من تلاميذها، كتابة موضوع الهدف منه معرفة:

1 – ماذا يعرف التلميذ اليهودي عن العرب؟

2 – بماذا يحسون أمام كلمة "عربي" ؟

وتقول الصحيفة : إن المعلمة قرأت المواضيع خلال عطلة الصيف وخرجت منها بنتائج لم تكن تتصورها .. "نتائج وحقائق بعيدة عن الخيال".

ترى ما هي هذه الحقائق والنتائج الأغرب من الخيال؟

"ب" حرف يرمز لتلميذ "ذي شخصية شاعرية للغاية .. جيد في دراسته .. حساس على حد قول المعلمة" .. كتب في موضوعه يقول: "عندما أسمع كلمة عربي أحس بالقرف والرغبة في التقيؤ والغضب الشديد، ويعود إلى الذاكرة كل ما فعله هؤلاء الحيوانات للشعب اليهودي .. سرقوا الأرض المروية بدماء جنودنا الذين قدموا أرواحهم لأعيش في أمان في الأرض الموعودة ونتيجة لعدم إحساسهم قام العرب بقتل المواطنين والنساء والأطفال الأبرياء، لذلك كيهودي أشعر أن على أن أنتقم للضحايا وأن لا أتنازل للعرب حتى عن سنتيمتر واحد، آمل أن نصل في النهاية إلى اتفاق تام لإلقاء العرب في البحر".

ويضيف الصغير "ب":

في عطلة الصيف قضيت أسبوعا في ضيافة عمتي المعلمة .. وفي أحد الأيام خرجت من البيت فرأيت عددا من العرب يقومون بتنظيف الأسطبل .. فسألت عمتي: ماذا يفعل هؤلاء الزبالة هنا؟

فقالت: إنهم ينظفون الإسطبل!

فقلت في غضب: فلينجزوا العمل بسرعة ويذهبوا.

وبعد ساعتين جلس العرب ليرتاحوا قرب كومة من التبن بجانب الإسطبل .. راقبتهم وكدت أتقيأ ..

وقالت عمتي: أريد أن يقوم أحد بوضع التبن أمام البقر.

تطوعت للقيام بالعمل .. ولكنها قالت: لا.

وطلبت من عربي أن يقوم بذلك، وعندما سألها: "لماذا" ؟ قالت له: لأنك عربي وهو يهودي!

وقبل أن يتكلم، صرخت فيه: ولأن هذا وطني وأنت مجرد ضيف جاء ليعمل فقط.

إنني أعتقد أنه يجب أن نتصرف على هذا النحو، لا لأني متكبر، بل لأنه يجب أن لا نهش في وجوههم وأن لا نقدم لهم العمل، ربما أدى هذا إلى خروجهم من البلاد.

ملحوظة: على غلاف الدفتر كتب "ب": "كهانا سيعلم العرب الفرق، سيقدمهم جميعا كطعام للأسماك".

"هـ" حرف يرمز إلى اسم تلميذة "شاطرة" .. كتبت تقول: "أغضب عندما أسمع كلمة عربي، أغضب من العرب ومن الذين يحبونهم رغم كل المشاكل التي سببها العرب، رغم الإصابات التي قاموا بها ضدنا فإنهم يطالبون بالمساواة في الحقوق".

"العربي يفتقر إلى الآداب، فبدلا من أن يقول بعد المأدبة: شكرا كان الطعام لذيذا، يتجشأ بقرف، وهو يحتفل بولادة الابن، أما ولادة البنت فيعتبرها العرب إهانة، المرأة العربية تعامل كجارية في البيت، العرب سريعو الغضب وذوو رؤوس حامية".

وتحت عنوان "محادثة مع عربي" كتبت تلميذة أخرى: "حاولت أن أفك الحبال من يدي وفمي .. وسألت: لماذا اختطفتموني؟

فقال العربي: لأن علي أن أقتل يهوديا نتنا.

وسألت: ماذا فعلت لك؟ ولماذا تسمي اليهودي نتنا؟ أعرف أنك ستقتلني ولكن أوضح لي لماذا؟ لماذا تقتلني الآن بالضبط وقد بدأت عملية السلام وتقدم الاستقرار نحو الشرق الأوسط؟

فقال: لن يكون سلام بيننا وبينكم .. هذه الأرض ستبقى لنا ... سنلقي بكم جميعا إلى البحر وأنت أولا ... ستظل هذه الأرض لنا كما كانت قبل أن تحتلوها ..

فسألته: وما رأيك بالتوراة التي تؤكد حق الشعب (الإسرائيلي) في دولة عبرية، دولة (إسرائيل) نحن على استعداد للقيام بالسلام، لكنكم ترفضون، لماذا يموت الشباب؟

فقال: وما هي التوراة وإذا مات أحد فذلك لأنه كتب عليه الموت.

قلت: أعطني ماء من فضلك!

قال: ليس لدينا ماء، لقد نفذ .. الأسرى لا يتلقون الماء.

"وأخرج "زمزامية" ماء شرب منها وأغلقها ومسح فمه بكمه!

"وكتب التلميذ "ش" المعروف عنه أنه تلميذ ممتاز يقول: "أحس بالرغبة في قتلهم جميعا دون استثناء .. هناك عرب قلوبهم طيبة وأحبهم مثل الأطباء الذين لا يأخذون نقودا .. لكنني رغم ذلك كثيرا ما أحلم بقتلهم جميعا" ! !

ويرى التلميذ "ح": أن العرب "برابرة" ومستعدون للقيام بأي شيء في سبيل المال .. "لهم طبع القطط التي تخون صاحبها من أجل لا شيء، وبجانب هذه العبارات رسم "ح" إشارة حركة "كاخ" بزعامة "كهانا" بالألوان ..

وتقول المعلمة: "إنه من الواضح لا يريد العرب هنا" .. "وهو يروي عن لقاء خيالي مع العرب، فيقول: إن فتى من قلقيلة أرسل له رسائل يدعوه فيها لزيارته .. لبى الدعوة .. تناول وجبة لذيذة .. ذهب إلى المنتزه واشترى فواكه وخضرا رخيصة .. وفي طريق العودة أحس أنه يموت لأن الطعام الذي تناوله في بيت الفتى العربي كان مسموما".

وكتب التلميذ "ص" في موضوعه: "أعرف أن العرب في (إسرائيل) يتكاثرون، وسيتكاثرون إذا لم نمنعهم من ذلك، الجانب الحسن في العرب أنهم يقومون بإنجاز الأعمال القذرة ويتقاضون أجورا رخيصة نسبيا، أما الجانب السيئ فهو أنهم اغتصبوا الأرض ويقومون بالمظاهرات، ويرجمون بالحجارة، ويلقون القنابل المحرقة، ويضعون المتفجرات وغير ذلك، وأعتقد أن جميع أعمال التهريب يقوم بها العرب، لأن لدى أبي عاملا أخبرني أن هناك مجموعة عرب تتسلل إلى سوريا وتحضر المخدرات من هناك، العرب هم أسباب تزايد الجرائم، ومع ذلك يسمحون للعرب بالتجول بحرية".

وتعتقد التلميذة "ع": "أن هناك فرقا بين البدو وغير "البدو" !

وعن غير البدو تقول: "لا أحس بالشفقة نحوهم .. حتى أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين .. أعتقد أنهم يستحقون ذلك بسبب تصرفاتهم ضدنا .. لا يهم حتى لو قتلوهم .. بالعكس .. هذا يسعدني .. لأن العرب زبالة".

ثم .. تتصور لقاء وهميا مع عربي على هذه الصورة: "عندما كنت مسافرة في السيارة طلب مني عربي أن أنقله إلى مكان ما .. أدخلته إلى السيارة .. وتابعت سيري .. فجأة أحسست أنه يقترب مني .. حاول اغتصابي .. صرخت .. خرجوا من الشبابيك .. أمسك به الرجال واقتادوه إلى الشرطة .. ولما سألوه عن اسمه تبين أنه مطلوب لقيامه باغتصاب عدد من الفتيات وقتل عدد آخر منهن .. حكم عليه بالسجن عشرين سنة".

وتقول التلميذة "د": "عندما أسمع كلمة عربي أحس بالقشعريرة لأنه بدائي، يحاول دائما قصف القدس بالقنابل .. وهو عندما يرى امرأة يهودية ينظر إليها من رأسها إلى رجليها .. اليهودي لا يحاول مع المرأة العربية أبدا .. لماذا؟ .. لماذا يجب أن نعطيهم الحقوق في الوقت الذي نحارب نحن وهم؟ .. لا ... لا يجب أن نعطيهم هذه الحقوق .. إن لديهم دولا خاصة بهم يجب أن يعيشوا فيها .. يجب أن لا يعيشوا في بلادنا .. أنا أؤيد العنصرية لأنه لا يحق لمن يقتل أبناء شعبنا أن يعيش بيننا".

ومرة أخرى ... هؤلاء هم الأطفال في (إسرائيل).

ومرة أخرى ... نحن لم نخرج عن صلب الموضوع الذي نتحدث فيه!

"عزبة" منزوعة السلاح!

  وضع حادث سليمان خاطر قضية "سيناء – المنزوعة السلاح" تحت الأضواء الساطعة .. وكشفت هذه الأضواء حقيقة: "أن حدودنا بلا جنود".

وأعادت هذه الحقيقة المرة إلى المصريين سؤالا أكثر مرارة يدور ويلف حول ترتيبات الأمن المصرية التي يمكن أن نصد بها (إسرائيل) إذا ما فكرت أو قررت إعادة "احتلال" سيناء من جديد.

لقد سئل وزير الدفاع المشير أبو غزالة قبل سنوات قليلة من الحادث: هل نحن مستعدون لمواجهة (إسرائيل) إذا ما فكرت في إعادة احتلال سيناء؟

فقال: نعم جاهزون ومستعدون!

وكانت هذه الإجابة في ذلك الوقت كافية .. لأن السؤال عن التفاصيل كان يعد محاولة غير مقبولة لتوريط وزير الدفاع في إذاعة ترتيبات أمنية .. عسكرية لا يستفيد منها سوى العدو ... وكانت الإجابة على هذا النحو إجابة مطمئنة للمصريين .. من الرجل المسئول عن أمن وسلامة البلاد .. لكن ... بعد حادث سليمان خاطر وما كشفته التحقيقات التي جرت بشأنه، لم تعد تلك الإجابة كافية ولا مطمئنة!

فقد قال سليمان خاطر في تحقيقات النيابة العسكرية إنه طلب إبلاغ قادته بضرورة إغلاق "الطرق" حتى لا تأتي (إسرائيل) وتحتل المنطقة .. وكان واضحا أن أشد ما يخشاه هو أن يحدث ذلك .. لم يكن يفكر في مصيره، ولا في العقاب الذي ينتظره .. وإنما كان يفكر في "قطع" الطريق على (إسرائيل) ... حتى لا تأتي قواتها وتحتل الموقع وتعرف ما فيه ..

والمذهل أن القادة في المنطقة قد انتقل لهم هذا الخوف .. وراحوا بالفعل يغلقون الطريق .. لكنهم لم يجدوا أمامهم لإغلاق الطريق سوى البراميل والحواجز الحديدية والبنادق الآلية .. وكأن (إسرائيل) ستأتي بالمايوهات لا بالمدرعات .. وبالسيارات الملاكي لا بالسيارات العسكرية المصفحة .. كأنها ستأتي للنزهة لا للقتال .. لكن .. لم يكن أمامهم أن يفعلوا أكثر من ذلك .. ما باليد حيلة .. فمعاهدة الصلح بين السادات والعدو (الإسرائيلي) المسماة ب"معاهدة كامب ديفيد" لا تعطيهم الحق في أكثر من ذلك ..

إن المنطقة التي وقع فيها الحادث تسمى طبقا لخرائط ونصوص وملاحق المعاهدة، بالمنطقة "ج" .. وهي المنطقة الملاصقة للحدود الدولية لمصر، ولخليج العقبة .. وهي منطقة "عازلة" .. "منزوعة السلاح" .. ليس للجيش المصري ولا لسلاحه أي وجود فيها .. وتتمركز فيها فقط قوات الشرطة المصرية المدنية بأسلحة خفيفة .. أقرب للتسليح الشخصي (طبنجات وبنادق آلية) وهذه القوات ليس لها أي مهمة عسكرية بالمرة .. وكل دورها ينحصر في الدور العادي للشرطة في أي مدينة مصرية أخرى .. أي إن دورهم على الحدود في مدن مثل "دهب" و "نويبع" و "شرم الشيخ" لا يختلف عن الدور الذين نرى رجال الشرطة يقوون به في مدن مثل "القاهرة" و "الإسكندرية" و "كفر الشيخ" .. وداخل هذه المنطقة تتحرك القوات المتعددة الجنسية (النسبة الكبيرة من أفرادها أمريكان) حسب مزاجها، ومن حقها أن تتمركز في المكان الذي يعجبها .. وهذا حق مطلق وصريح أعطته لها الاتفاقية .. وذلك حتى تستطيع بحرية أن تراقب بكافة الأجهزة والوسائل أي اختراق الترتيبات الأمنية.

إن هذه القوات شبه الأمريكية لها حق الاستطلاع والتحقق الدوري مرتين في الشهر على الأقل من أن كل شيء تمام .. ولها حق إجراء تحقيق إضافي خلال 48 ساعة إذا طلبت مصر أو (إسرائيل) ذلك .. وغالبا ما تطلب (إسرائيل) ذلك .. وذلك حتى تحصل على معلومات طازجة .. أولا بأول عن هذه المنطقة القريبة منها بالذات .. والتي تصل مساحتها إلى ثلث مساحة سيناء تقريبا ..

وليس لمصر أي حق على هذه القوات .. سوى أن تتدخل في نقطتين أو موقعين فقط أحدهما يقع على بعد 20 كيلو مترا من البحر المتوسط في المنطقة المتاخمة للحدود الدولية .. والآخر في منطقة شرم الشيخ.

ومقابل نزع سلاح ثلث سيناء (المنطقة ج) أجبرت (إسرائيل) على نزع سلاح منطقة بعرض 3 كيلو مترات بطول الحدود الدولية .. وكلمة "نزع" هنا تختلف في معناها عن كلمة "نزع" بالنسبة لمصر .. إن المقصود بهذه الكلمة على الجانب (الإسرائيلي) هو عدم وجود دبابات أو مدافع أو صواريخ (فيما عدا صواريخ فردية أرض – جو) فقط .. وهي لا تمنع من وجود قوة (إسرائيلية) تتكون من 4 كتائب مشاة لها كل الحق في التحصينات الميدانية، ولها الحق في 180 مركبة أفراد مدرعة من كافة الأنواع .. ولها الحق في تواجد 4000 جندي (إسرائيلي) وهو رقم كبير بالنسبة (لإسرائيل) .. وهو حجم من القوات مناسب جدا (لإسرائيل) في هذا الشريط الضيق.

(ولإسرائيل) الحق في الطيران على هذه المنطقة .. وليس لمصر نفس الحق على المنطقة "ج" .. و (لإسرائيل) الحق في استخدام خليج العقبة استخداما بحريا عسكريا .. وليس لمصر نفس الحق في هذا الخليج، ولا في أي شاطئ آخر على حدودها الدولية ...

باختصار (لإسرائيل) كل الحقوق العسكرية في البر والبحر والجو .. وليس لمصر حق واحد منها.

فماذا كان من الممكن أن تفعل قوات الأمن المركزي ببنادقها الآلية إذا ما جاءت (إسرائيل) لتحتل مواقعها؟ .. ماذا كان من الممكن أن تفعل هذه القوات أكثر مما فعلت، وتسد الطرق بالبراميل وحواجز المرور الحديدية؟

إن اليقين الذي سيطر على قيادة الأمن المركزي في جنوب سيناء من إمكانية قيام (إسرائيل) بعمل انتقامي بعد حادث سليمان خاطر، كان له ما يبرره .. وهو أن (إسرائيل) تعودت على الانتقام العسكري للأفراد الذين يقتلون من عندها .. وكان هناك مثال لا يزال طازجا وهو الغارة التي شنتها (إسرائيل) على مقر [[منظمة التحرير الفلسطينية]] في تونس، قبل 4 أيام فقط من نيران سليمان خاطر التي فتحها على (الإسرائيليين) في موقعه .. وكان (إسرائيل) قد بررت هذه الغارة بأنها انتقام لثلاثة من رعاياها قتلوا في لارناكا (قبرص) .. واعتبرت الفلسطينيين مسئولين عن قتلهم.

لكن .. هذا اليقين لم يتحول إلا لاحتياطات أولية .. ساذجة .. لمواجهة العدوان (الإسرائيلي) المتوقع! !

ومن الممكن أن نتساءل الآن .. ألم يكن متاحا أو ممكنا – لو جاءت (إسرائيل) بنية الغدر والغزو – الاستعانة بالقوات المسلحة المصرية المتمركزة على حدود المنطقة "ج" .. في قلب المنطقة التي تسمى المنطقة "ب" ؟

والسؤال وجيه .. وإجابته أيضا ..

فبغض النظر عن بعد المنطقة "ب" عن المنطقة "ج" بمئات الكيلو مترات .. وبغض النظر عن الوقت الطويل الذي تحتاجه قوات المنطقة "ب" للاستعداد والتحرك والوصول إلى الحدود .. بغض النظر عن هذه الاعتبارات وغيرها من اعتبارات التدخل الدولي .. فإن المنطقة "ب" قواتها محدودة وأسلحتها أيضا ... إن المسموح لمصر في هذه المنطقة الشاسعة التي تقع في قلب سيناء لا يزيد على أربع كتائب مجهزة بأسلحة خفيفة، وبمركبات عجل (لا جنزير) تعاون الشرطة المدنية في المحافظة على النظام ولا يزيد عدد الأفراد العسكريين فيها على 4 آلاف فرد .. ويمكن لمصر فيها إقامة نقاط إنذار ساحلية أرضية "قصيرة المدى" و "ذات قوة منخفضة" لوحدات الحدود على الساحل .. وليس من حق الطائرات العسكرية المصرية أن تقوم بالاستطلاع فوقها .. إنها محرمة على الطيران المصري مثل المنطقة "ج" .. وفي هذه المنطقة لا تستخدم سوى طائرات النقل غير المسلحة فقط .. ولا يحق لمصر أن تحتفظ بأكثر من 8 طائرات منها .. وإن كان من الممكن استخدام الطائرات الهليكوبتر .. ولكن بشرط نزع سلاحها أيضا .. ويحق لمصر أن تستخدم في سواحل ومياه تلك المنطقة الزوارق الصغيرة .. ولكن بشرط أن لا تستخدم استخداما عسكريا .. وأن يقتصر استخدامها على دوريات الشرطة .. وأن يكون تسليحها خفيفا جدا.

أي إن أي عدوان (إسرائيلي) على الحدود المصرية لن تستطيع قوات الشرطة في المنطقة "ج" صده .. ولن تستطيع قوات الجيش في المنطقة "ب" ردعه ... بمعنى آخر .. أكثر من نصف مساحة سيناء يمكن أن تضيع في غمضة عين وقبل أن نفكر في الحركة، والرد، والمقاومة!

وإذا كان حادث سليمان خاطر قد أجبرنا على إعادة فتح ملف "كامب ديفيد" .. فإن من الطبيعي الآن أن نكمل الصورة في باقي سيناء .. في المنطقة الثالثة من سيناء (من ناحية إسرائيل) .. المنطقة الأولى من ناحيتنا .. المنطقة التي وصفتها المعاهدة بالمنطقة "أ" !

إن هذه المنطقة يحدها من الغرب "قناة السويس" وخليج "السويس"، ويحدها من الشرق خط وهمي يبدأ جنوبا من عند شرم الشيخ ويسير موازيا للخليج حتى بئر العبد في الشمال، فبحيرة "البردويل" فشاطئ البحر المتوسط .. ويمر هذا الخط الوهمي (من الجنوب إلى الشمال) بجبل موسى ووادي فيران فعين سدر فممرى متلا والجدي .. ويصل طول هذا الخط إلى طول سيناء من الجنوب إلى الشمال .. أما عرضه فيصل إلى 58 كيلو مترا.

وفي كل هذه المساحة الشاسعة لا يحق للقوات المسلحة المصرية أن تتواجد فيها بأكثر من "فرقة" من فرق جنود المشاة الميكانيكي .. وهذه الفرقة تتكون من :

أ – 3 ألوية مشاة ميكانيكي.

ب – لواء مدرع.

ج – 7 كتائب مدفعية ميدان تضم 126 قطعة.

د – 7 كتائب مدفعية مضادة للطائرات تضم صواريخ أرض – جو فردية وما يصل إلى 126 مدفعا مضادا للطائرات عيار 37 مم فأكثر.

هـ - عدد يصل إلى 230 دبابة.

و – عدد يصل إلى 480 عربة مدرعة من جميع الأنواع.

ز – عدد يصل – إجماليا – إلى 22 ألف فرد.

ولو أضفنا إلى هذا العدد الخاص بالأفراد في هذه المنطقة العدد الموجود في المنطقة "ب" فإن كل ما لنا من حقوق في سيناء لا يزيد على 26 ألف فرد عسكري .. وهو رقم بسيط للغاية إذا ما قورن بحجم الجيش المصري ككل .. ولا يزيد على نسبة مئوية أقل من أصابع اليد الواحدة .. وهذا يعني أن الجيش المصري لم تعد مهمته مواجهة (إسرائيل) .. ولم تعد سيناء موقع تمركزه الأساسي .. وتفتح هذه الحقيقة الباب أمام أسئلة – مثل الريح – عن دوره ومهمته ووظيفته وعدوه الآن؟ !

إن معاهدة كامب ديفيد لم تسمح بوجود أكثر من بندقيتين من طراز "آلي" في موقع حراسة "سليمان خاطر" .. كانت إحداهما معه .. بالإضافة إلى 300 طلقة.

أكثر من ذلك لم يكن مسموحا استخدامها ...

إن التعليمات الواضحة والصريحة – كما نفهمها من أقوال ضباط الشرطة الكبار في المنطقة – تمنع من إطلاق النار تماما .. ونفهم من هذه التعليمات أن أوامر إطلاق النار لا بد أن تكون صريحة .. ولا بد أن تأتي من القيادة في القاهرة .. ولم توضح التحقيقات ولا التعليمات ماذا يفعل جنود الحدود بهذه الأسلحة الخفيفة إذا ما تعرضوا إلى هجوم عليهم في مواقعهم؟ .. هل ينتظرون التعليمات من القاهرة؟ .. وماذا يفعلون إذا ما قطعت الاتصالات مع القاهرة وتعذر وصول التعليمات إليهم كما حدث في يونيو 1967؟

إن هذه الأسئلة وغيرها لا بد أنها أصبحت تدور في ذهن كل جندي مصري يقف الآن على الحدود، بعد حادث سليمان خاطر وبعد ما جرى له!

ومما لا شك فيه أن هذا الوضع الذي تجد مصر نفسها فيه بعد كامب ديفيد من الصعب الفكاك منه .. وخاصة أن هذا الوضع مضمون (لإسرائيل) من جانب الولايات المتحدة الأمريكية .. الشاهد الوحيد على المعاهدة .. إن الولايات المتحدة الأمريكية – رغم "الزنقة" المصرية في سيناء – تأخذ (إسرائيل) في أحضانها .. وتتعهد لها "باتخاذ كافة التدابير لحمايتها إذا ما خرقت مصر المعاهدة" بدبوس إبرة .. وتحت عبارة "كافة التدابير" يمكن أن يوضع الكثير .. مد (إسرائيل) بالمعدات الحربية دون الرجوع إلى الكونجرس .. التدخل العسكري الأمريكي المباشر إذا لزم الأمر .. فرض قيود الأسلحة علينا .. "وتنطوي هذه القيود على منع تحويل الأسلحة إلينا" من أي دولة أخرى تحصل عليها من الولايات المتحدة .. وأيضا استخدام كافة الوسائل والأساليب الدبلوماسية والاقتصادية والنفسية والإعلامية – الأمريكية لصالح (إسرائيل).

وقد بحثت كل هذه الضمانات والإجراءات فيما سمي بمذكرة التفاهم بين الولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل)، والتي بحثها الجانبان في أواخر مارس 1979.

وفي رسالة من الدكتور مصطفى خليل رئيس الوزراء ووزير الخارجية في ذلك الوقت إلى سيروس فانس وزير الخارجية في ذلك الوقت أيضا اعترضت مصر على هذه المذكرة ورفضتها .. لأنها:

1 – تتعارض والروح السائدة بين مصر وأمريكا ولا تساهم في تقوية العلاقات بينهما .. "وأود أن أسجل أنه لم يتم التشاور مع مصر بشأن مضمون المذكرة المقترحة".

2 – إن مضمون المذكرة المقترحة يقوم على اتهامات لا أساس لها موجهة ضد مصر والتمهيد لإجراءات ضدها في حالة خرق افتراضية يترك تحديدها بدرجة كبيرة (لإسرائيل).

3 – "قد استمر عملنا في الفترة الأخيرة من المفاوضات لفترة أكثر من شهر لم نخطر فيها مطلقا بنية الولايات المتحدة أن توافق على مثل هذه المذكرة، بل إننا أخطرنا بها للعلم وليس للتشاور، وقد سلمني إياها السفير الأمريكي إيلتس في الساعة الثانية من بعد ظهر 25 مارس، أي قبل 24 ساعة بالضبط من الموعد المحدد لتوقيع المعاهدة".

4 – "إن المفروض أن تكون الولايات المتحدة شريكا في الجهد الثلاثي للوصول إلى سلام لا أن تدعم ادعاءات طرف ضد طرف".

5 – إن المذكرة المقترحة "تفترض أن مصر هي الطرف الذي سيخل بالتزاماته".

6 – إن المذكرة المقترحة "يمكن اعتبارها تحالفا محتملا بين أمريكا و (إسرائيل) ضد مصر".

7 – إن هذه المذكرة "تعطي الولايات المتحدة حقوقا معينة لم يتم ذكرها أو التفاوض بشأنها معا".

8 – إنها تعطي "الولايات المتحدة قوة فرض إجراءات، أو بكل صراحة اتخاذ إجراءات رادعة، وهو أمر يثير الشكوك حول مستقبل العلاقات ويمكن أن يؤثر في الموقف في المنطقة كلها".

9 – المذكرة المقترحة تستخدم تعبيرات تصل في غموضها إلى درجة الخطورة مثل عبارة "التهديد بخرق الاتفاقية" الأمر الذي يترتب عليه اتخاذ إجراءات محددة "ونحن نعتبر ذلك أمرا له نتائج خطيرة".

10 – كما تشير المذكرة إلى "أن الإمدادات العسكرية والاقتصادية هي محل تقدير الولايات المتحدة وحدها وذلك ارتباطا بالتهديدات المزعومة والتي يراد إلصاقها بجانب واحد".

11 – إن المذكرة "تجعل بعض أوجه العلاقات المصرية – الأمريكية خاضعة لعناصر خارجة عن هذه العلاقة، ولتعهدات أعطيت لطرف ثالث".

12 – إنها تعني "تقبل الولايات المتحدة لاتخاذ (إسرائيل) لإجراءات، منها الإجراءات العسكرية، ضد مصر على أساس الزعم بأن هناك خرقا أو تهديدا بخرق المعاهدة".

13 – إنها تعطي "الولايات المتحدة الحق في فرض وجودها العسكري في المنطقة لأسباب متفق عليها بين (إسرائيل) وأمريكا وهذا أمر غير مقبول".

14 – إن المذكرة "تضفي الكثير من الشكوك حول النوايا الحقيقية للولايات المتحدة، خصوصا فيما يتعلق بعملية السلام، إذ يمكن اتهامها بالتعاون مع (إسرائيل) في خلق ظروف معينة تؤدي إلى وجود عسكري أمريكي في المنطقة، وهو أمر سيكون له بالتأكيد نتائج خطيرة وبصفة خاصة على الاستقرار في المنطقة كلها".

15 – وسيكون لها "في مصر تأثير مضاد للولايات المتحدة كما ستدفع بالتأكيد الدول العربية الأخرى إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددا في عملية السلام، وستعطيها أسبابا إضافية كي لا تشترك في هذه العملية".

16 – إنها سوف تمهد الطريق "لتحالفات جديدة تتشكل في المنطقة لمواجهة التحالف المتضمن في المذكرة المقترحة".

هذا ما سجلته مصر على مذكرة التفاهم (الإسرائيلية) – الأمريكية.

وهو تسجيل يفضح طبيعة "الضمان" الأمريكي (لإسرائيل) .. في سيناء .. وفي غيرها .. ويحدد بدقة مدى الورطة التي تحاصر الجنود المصريين على الحدود .. ومنهم بالطبع .. كان سليمان خاطر .. وخاصة أن كل الاعتراضات التي سجلها د. مصطفى خليل لم يؤخذ بها .. وبقيت مجرد حبر على ورق، ومشى هو نفسه في التيار المندفع ناحية إسرائيل.

ومما لا شك فيه أيضا أن (إسرائيل) لم تكتف بكل هذه الضمانات .. ولم تكتف بكل القيود التي كبلت بها المعاهدة مصر .. حكومة وجيشا .. وإنما راحت من جانبها تحاول فرض جديدة في سيناء .. تجعلها تشعر أن سيناء لم تذهب من يدها .. ولم تعد لمصر! !

إن (إسرائيل)، تعتبر "سيناء" منذ يونيو 1967 هي صمام أمنها .. وتعتبرها منذ الانسحاب النهائي منها في أبريل 1982، فرصة "ذهبية" ضاعت منها وهي في اليد اليمين، ولا بد أن تحصل عليها باليد الشمال .. وحتى الآن يوجد من يطالب "بعودة" سيناء إلى (إسرائيل) لأنها على حد قول العميد – احتياطي "متيتيا هوبيلد": "لا تمثل منطقة مصرية لا من الناحية الجغرافية ولا من الناحية التاريخية .. وليس لمصر أي شيء بها، تماما مثلما ليس لمصر أي شيء في خليج إيلات" وقد أضاف: "لقد استغلت مصر شبه جزيرة سيناء استغلالا سيئا كقاعدة للهجوم على (إسرائيل) ثلاث مرات خلال عشرين سنة، ولا يمكن أن نسمح لها بمرة رابعة".

وقال "الياهو بن اليسار" أول سفير (لإسرائيل) في مصر: "إنني لا أعتقد أنه بعد ما عادت كل سيناء إلى مصر أن (إسرائيل) فقدت كل أوراقها".

وسئل "مردخاي جور" قائد القوات الجوية السابق في (إسرائيل):

س: هل توقعت أن يتم الجلاء عن سيناء بهذه الصورة؟

ج: لم أتخيل أننا سنهدم كل ما بنيناه وأن نقتلع جميع الأشجار! !

س: هل فقدت (إسرائيل) كل أوراقها ضد مصر؟

ج: لدى (إسرائيل) عدة أوراق، لأن (إسرائيل) تتمتع بأنها دولة قوية تصارع من أجل كيانها .. إن الورقة الحقيقية موجودة .. إن مثل هذه الاعتبارات التكتيكية لا تتماشى مع استراتيجية بعيدة المدى في حياة الدولة والشعب.

وقال الكاتب الصهيوني "شيلما جازيت": "إن (إسرائيل) قد قدمت مقابلا ضخما لمصر في مقابل توقيع معاهدة السلام، إذ تنازلت عن 90% من الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو 1967، وتنازلت أيضا عن ثروات اقتصادية هامة (حقول بترول خليج السويس)، أضف إلى ذلك التنازل عن أمن (إسرائيل) الذي تعرض للخطر من جراء سحب قواتها المسلحة شرقا إلى ما بعد الحدود الدولية".

وأضاف: "ولكن .. نحن في مقابل هذه التنازلات سنسعى للحصول على امتيازات اقتصادية وسياحية لنا في سيناء .. لقد تعودنا على التعامل مع سيناء ولا ينبغي أن نقطع هذه العادة".

باختصار ... لم تتخلص (إسرائيل) من عقدة أن سيناء كانت جزءا منها .. وتتصور أن رجوعها لمصر تنازل منها دفعت في مقابله ثمنا باهظا .. من البترول المصري والثروات المصرية التي استنزفتها طول سنوات الاحتلال .. وتؤمن أنها لا بد أن تأخذ مقابلا لهذا التنازل! !

والمقابل الذي تتصوره (إسرائيل) .. أن تصبح علاقتها بمصر بقرارات رسمية .. مثل "السمن على العسل" .. خاصة في سيناء، حيث رسمت لها (إسرائيل) خططا متناهية الدقة .. فتحها على البحري وبدون قيود أمام السياح (الإسرائيليين) .. استثمار مشترك في مزارع تجريبية .. وفي التنقيب عن البترول .. وفي مشروعات سياحية .. القيام بأبحاث مشتركة عن الصحراء وتوطين البدو ... إلخ.

لكن .. من بين كل هذه الأحلام لم تستطع (إسرائيل) أن تحقق سوى حلم التطبيع السياحي .. وأن تنجح في الحصول على مميزات سياحية في سيناء ..

إن هذه المميزات كانت غير معروفة للرأي العام المصري قبل حادث سليمان خاطر ... وقد اضطرت تحقيقات الحادث لكشفها دون أن تقصد .. بالطبع ...

من هذه المميزات دخول السياح (الإسرائيليين) إلى سيناء بدون جواز سفر ... وبدون تأشيرة دخول .. وبدون تحويل عملة .. إن البطاقة الشخصية (الإسرائيلية) تكفي للدخول .. وتكفي للتجول بحرية في كافة أرجاء سيناء حتى نفق الشهيد "أحمد حمدي"، فإذا ما أراد أي سائح (إسرائيلي) عبور النفق وجب عليه إبراز جواز سفره وتحويل ما يفرضه القانون من عملات صعبة بالسعر الرسمي.

ومن هذه الميزات تغيير لوحات السيارات (الإسرائيلية) للسياح القادمين بسياراتهم إلى لوحات مصرية .. على أن تستبدل اللوحات المصرية الأصلية عند العودة إلى (إسرائيل) ... ويبدو أن هذا الإجراء لحمايتهم من اعتداء المصريين عليهم، والذين قد يكتشفون هويتهم من لوحات السيارة المكتوبة باللغة العبرية ..

ومن هذه المميزات السماح للسياح (الإسرائيليين) بنصب الخيام وإقامة المعسكرات وصعود الجبال واختراق كل الطرق بالدراجات العادية والبخارية ..

وهناك بالقطع درجة كبيرة من التساهل في التعامل معهم .. وقد ذكر المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" في شهادته أمام النيابة العسكرية بعد الحادث، أن المصريين عند إحدى نقاط الحدود سمحوا له بالدخول دون أن يغير لوحات سيارته .. على أساس أنه سيعود إلى سيناء مرة أخرى.

وهذه المعاملة التي يلقاها السائح (الإسرائيلي) في سيناء لا يجدها المواطن المصري الذي يفكر في الذهاب إلى هناك .. إن سيقف في كل نقاط التفتيش تقريبا .. وستفتش سيارته تفتيشا دقيقا .. وسيصادر منه كل ما يعتبر خطرا، مثل زجاجة "سبرتو" سيستخدمه في إشعال نيران فحم سيشوي عليه قطع اللحم .. وكأن هذه الزجاجة زجاجة "مولوتوف" حارقة .. وواضح أن مثل هذا الإجراء لحماية (الإسرائيليين) الذين يتواجدون باستمرار، وفي كل الفصول، هناك ... وممنوع على المصريين الاقتراب من بعض النقاط بحجة أنها نقاط عسكرية .. وممنوع عليهم الاقتراب من الشواطئ بعد الغروب .. وممنوع عليهم الصعود لبعض الجبال في بعض الأوقات ... ممنوع عليهم ما هو مسموح به ('للإسرائيليين)'!

إن هذه الممنوعات التي تلاحق كل مصري يفكر في زيارة سيناء، جعلت البعض يتساءل عن رد فعل السلطات المصرية لو كان الذين تعرضوا لرصاصات سليمان خاطر من المصريين؟ .. هل كان التحقيق سينال كل هذا الاهتمام؟ .. هل كان نائب مأمور شرطة "نويبع" سيحمل الجثث على ظهره وينزل بها من فوق التل؟ .. هل كان سيقال إن النقطة مباحة لكل من هب ودب .. أم كان سيقال إنها نقطة عسكرية تقضي التعليمات بإطلاق النار على كل من يقترب منها؟ !

ومما لا شك فيه أن (الإسرائيليين) يتجاوزون كل المميزات الممنوحة لهم في سيناء .. وأشهر هذه التجاوزات، قصة اليخوت والزوارق (الإسرائيلية)، التي تتسلل إلى المياه الإقليمية المصرية هناك بدون تصاريح ... وقد أدى ذلك إلى إطلاق النار من جنود شرطة مصريين على أحد هذه الزوارق .. ونشر الخبر في الصحف المصرية قبل فترة ليست قليلة من حادث سليمان خاطر .. ولأن أحدا من راكبي الزورق (الإسرائيلي) لم يصب، فقد مر الحادث دون ضجة .. ودون أن تقوم القيامة (الإسرائيلية) .. وبعد أن تفاهمت الحكومتان المصرية و (الإسرائيلية)

وفيما بعد .. في يوم الأربعاء 28 أغسطس 1985 (قبل حادث سليمان خاطر بحوالي أسبوع) نشرت إحدى صحف الخليج على لسان مأمور شرطة نويبع:

"إن (إسرائيل) مستمرة في استفزاز المصريين" في سيناء!

وفيما بعد أيضا ... قدم المحامي عماد السبكي هذا التصريح المنشور في تحقيق صحفي تحت عنوان "'('إسرائيل) تحاول تكثيف وجودها في خليج العقبة عن طريق تواجد يخوتها البحرية السياحية" إلى المحكمة التي تحاكم سليمان خاطر، ودلل به على أن "رجال الأمن المصريين قد طفح كيلهم".

وليس هناك بالقطع ما يمنع تحول المميزات والتجاوزات (الإسرائيلية) في سيناء إلى استفزازات مباشرة للمصريين هناك .. خاصة للجنود البسطاء منهم .. وهذه الاستفزازات – كما هو معروف – تأخذ طابعا نفسيا وعصيبا وجنسيا .. إن من قبيل التكرار أن نذكر ما يفعله (الإسرائيليون) على شواطئ سيناء ورمالها .. عرى .. جنس .. مخدرات .. وحرية في ارتكاب كل إثم .. علنا، وبدون أي قيد أو تحفظ .. لكن .. يكفي أن نسترجع مشهد (صعود الإسرائيليين) إلى نقطة سليمان خاطر، لنتذكر أن النساء كن يرتدين المايوهات البكيني والعارية .. صحيح أن سليمان خاطر قال في التحقيق أن هذا المشهد لم يستفزه .. ولكن .. صحيح أيضا أنه أظهر وعيا بالأساليب (الإسرائيلية) (العارية) التي تتجاوز الحرية الشخصية .. إنه يعرف العلاقة القوية بين الجنس والتجسس .. ويعرف أن هذه العلاقة يمارسها السياح (الإسرائيليون) مع الجنود والضباط والأجهزة ..

س: هل استفز مشاعرك أن المجني عليهم كانوا يرتدون ملابس البحر ومايوهات بكيني وعري؟

ج: لا!

س: ما الذي تقصده بعبارة: نسيب الحدود فاضية وكل اللي عايز يعدي .. يعدي .. وكل اللي تورينا جسمها نعديها؟

ج: أقصد إن ممكن شاب تاني يسيب نفسه أمام الحاجات دي زي ما حصل قبل كده على حدود طابا وكانوا بيعدوا ويخشوا الشاليهات، وأنا سمعت إن واحدة عملت مسطولة وسكرانة ودخلت نامت في شاليه كان فيه جهاز إشارة وطبعا دي حاجات ممنوعة .. ودي جاية مأمورية وأخذت التردد (تردد ذبذبات الجهاز) وكلهم بيطلعوا مأموريات واحنا مغمضين.

س: من أين أتيت بهذه المعلومات، وكيف عرفت التردد وأنت رقيب في الأمن المركزي؟

ج: الكلام بيتنطور في كل مكان والإشارة تبع الأمن المركزي!

ولم ينس سليمان خاطر – كما عرفنا – أن يشير إلى العلاقات القوية بين الضباط المصريين في سيناء و (الإسرائيليين) وقد أضاف: "وكله عمال يشتغل مع الأجانب وحيضيعوا البلد" ... "وشغلوا عليهم المخابرات وشوفوهم بيروحوا فين".

ولا ننسى هنا – أيضا – ألبوم الصور الذي وجد في النقطة، والذي يخص الجندي "عطية إبراهيم" والذي يتضمن بعض الصور لجنود مصريين مع شبان وفتيات (إسرائيليين) ... في قلب النقطة.

ثم .. لا ننسى الكاميرا التي وجدت مكسورة بعد الحادث.

ثم .. لا ننسى وجود المستشار السياسي للسفارة (الإسرائيلية) في القاهرة "نمرود باري" في مكان الحادث وقت وقبل وقوعه.

إن من الطبيعي أن يكون هذا الدبلوماسي (الإسرائيلي) من رجال "الموساد" فهذا أمر لا بد منه، لكن .. من غير الطبيعي أن يتواجد الرجل في مكان الحادث .. وخاصة أن من المعروف عنه أنه دائم التجوال في سيناء .. وإن الوقت الذي يقضيه هناك أكثر من الوقت الذي يقضيه في القاهرة .. الأمر الذي أضفى كثيرا من الشكوك على صعود (الإسرائيليين) إلى نقطة الحراسة المرتفعة ... وأثار الريبة في تصرفهم .. وضاعف من هذه الريبة أنهم صعدوا إلى النقطة – رغم الطريق الوعر، وخطورة التعرض للحيوانات الشرسة والحشرات السامة – وقت الغروب .. وهو وقت يهبط فيه الظلام بسرعة .. قبل أن تنتهي مهمة صعودهم وهبوطهم .. لأن هذه المهمة لا تستغرق أقل من نصف ساعة ... وليس هناك ما يمنع – من باب التمويه – استخدام الصغار في مهمتهم .. حتى ولو انطوى ذلك على الخطر! فهذا أمر شهير للمخابرات (الإسرائيلية).

فماذا كان يفعل "نمرود" هناك؟ .. وماذا يفعل عموما في سيناء؟ .. هل كان ينتظر هبوط من صعدوا ليأخذ منهم الفيلم الذي صوروه؟ .. ولماذا رفض إثبات وظيفته – فيما بعد – عند استلام جثث القتلى؟ ! .. هل كان يشعر بأن على رأسه بطحة؟ !

أسئلة من الصعب الإجابة عليها ... لكنها .. تضيء لنا بعض الكشافات المبهرة .. التي تلقي بحزم الضوء الشديد على بعض جوانب حادث سليمان خاطر، وعلى بعض ما يفعله سياح (إسرائيل) في سيناء!

والمذهل في هذه الرواية أن المحامي (الإسرائيلي) "جيرا كورن" قد ذكر أمام النيابة العسكرية المصرية: أن هناك من حذرهم من وجود "جندي" مجنون في هذا الموقع يمنع صعود أحد إلى النقطة ... والذهول هنا مصدره سهولة توافر المعلومات لدى (الإسرائيليين) .. وسهولة تداولها فيما بينهم .. والذهول هنا مصدره أيضا: لماذا إصرارهم على الصعود رغم توافر هذه المعلومات عن سليمان خاطر؟ .. هل كان لهم هدف يجعلهم يحتملون أي توقع وأي خطر؟ !

وذكر المحامي (الإسرائيلي) أيضا: أن كل المصريين في المستشفى وقسم الشرطة رفضوا أن يسمحوا له بالاتصال بإيلات لنقل المصابين .. لكنه يضيف: أنه وجد عند إيلات بعد وصوله إليها سيارة إسعاف وجنودا ينتظرونه .. فمن الذي أبلغهم بما جرى؟ .. من الذي أبلغهم بكل التفاصيل بما في ذلك وجود مصابين يحتاجان سيارة إسعاف؟ ... وكيف تم هذا الاتصال؟ .. هل قام به نمرود؟ .. أم قام به غيره؟ !

مرة أخرى ... أسئلة من الصعب الإجابة عليها .. لكنها .. مرة أخرى أيضا كشافات قوية تلقي الضوء على ما هو أبعد من التفسير القانوني والجنائي لحادث سليمان خاطر!

من باب إضاءة الكشافات القوية أيضا ... قد يكون من المفيد إلقاء بعض المعلومات الضرورية والخاطفة عن علاقة سيناء بالمخابرات (الإسرائيلية).

إن "الوثائق السرية للمخابرات الأمريكية" التي وجدت في إيران بعد ثورة الخميني وخلع الشاه عن (المخابرات الإسرائيلية) لا تمنع أن يقو السياح (الإسرائيليون) في سيناء بالتجسس لحساب مخابراتهم .. على العكس تشجع ذلك .. ويسمى هؤلاء بالعملاء الذين يتواجدون تحت "غطاء غير قانوني" .. وهؤلاء على عكس العملاء الذين يتواجدون تحت غطاء قانوني، وهؤلاء هم الذين يعملون في السفارات، وبعثات المشتروات (الإسرائيلية)، ومكاتب السياحة وشركة "العال" للطيران وشركات البناء والمجموعات الصناعية .. والعملاء تحت الغطاء غير القانوني عادة ما يكلفون "بالتسلل إلى الأهداف التي يتطلب الاقتراب منها وقتا طويلا ودهاء واسعا أو يقومون بأنواع من النشاط لا يمكن أن تلام عليها الحكومة (الإسرائيلية) رسميا بأي حال" .. ويتبع هذا النشاط "الموساد" أو جهاز المخابرات السرية.

وهناك أيضا الــ "شين بيت" أو جهاز مكافحة الجاسوسية والأمن الداخلي .. وهذا الجهاز يضم ثمانية أقسام على رأسها قسم "الشئون العربية" .. وله أقسام "إقليمية فرعية" على رأسها قسم "منطقة غزة وسيناء" ورئاسة هذا القسم في "عسقلان" .. وحسب الوثائق المذكورة "اخترقت" الشين بيت "عددا كبيرا من التنظيمات العربية وذلك باستخدام المخبرين .. وبالتعاون مع بعض السكان المحليين" .. وحسب نفس الوثائق: فإن العاملين بالشين بيت "متخصصون في دخول الأماكن المختلفة، وهم يستخدمون آلة تصوير خاصة يمكن حملها بسهولة" .. "وقد نجح فنيو "الشين بيت" في إخفاء أجهزة إرسال لاسلكي في حقائب صغيرة، وفي قاع "كنكة" القهوة، وفي قاع بعض أفران الطبخ التي يمكن استخدامها دون المساس بالجهاز الدقيق".

وهناك كذلك المخابرات العسكرية التي تضاعف نشاطها دائما على الحدود!

إن هذه المعلومات السريعة تقرب الصورة من أذهاننا .. صورة السائح (الإسرائيلي) الذي يحمل كاميرا صغيرة ... ويمكن أن يضع جهاز الإرسال في "كنكة" القهوة .. ويأتي إلى سيناء للغوص أو للسباحة أو للاستمتاع بحمام شمس .. وهذه الصورة على هذا النحو يمكن أن تنطبق على تصرفات جماعة السياح التي صعدت إلى موقع سليمان خاطر .. ويمكن أن تحل لغز وصول المعلومات إلى داخل (إسرائيل) قبل أن يصل المحامي "جيرا كورن" إلى نقطة الحدود .. ويمكن أن تفسر أشياء أخرى كثيرة جاءت مع الحادث!

باختصار .. نجحت (إسرائيل) – عن طريق المعاهدة مع النظام المصري – في نزع سلاح أكثر من نصف سيناء .. ونجحت – بالاتفاق الخاص مع الأمريكان – في وجود ضمانات لا حد لها .. ونجحت – باتفاقيات التطبيع – في أن تكسب مميزات خاصة لها في سيناء .. لكنها .. رغم ذلك كله أطلقت السياح القادمين من داخلها إلى سيناء للاستفزاز والتجسس ..

ومن حق البعض أن يتساءل في دهشة: وماذا تريد (إسرائيل) من التجسس "السياحي" ولها كل هذه الحقوق؟ ! لماذا تفعل ذلك وعندها أمريكا تقدم لها ما تريد؟ .. وعندها مصر على علاقة طيبة ورسمية معها؟ .. لماذا تفعل ذلك ومصر أيضا في هذا الموقف الذي لا تحسد عليه؟

والإجابة على هذا التساؤل تلف وتدور حول ثلاث نقاط رئيسية:

1 – إن (إسرائيل) من جانبها تريد أن تتأكد من عدم اختراق مصر لبنود المعاهدة ولا لترتيبات الأمن المنصوص عليها فيها .. وهي عندما تفعل ذلك لا يخامرها الشك في أن مصر يمكن أن تفعل ما لم تفرضه عليها المعاهدة .. خاصة بالنسبة لأجهزة الإنذار الحديثة التي ليس لمصر زرعها أو استخدامها في بعض المناطق مثل المنطقة "ج" .. وهذا ما يفسر دخول النساء (الإسرائيليات) الشاليهات التي بها أجهزة الإشارة ورصد ذبذباتها وترددها.

2 – إن (إسرائيل) تخشى من تسلل الفدائيين الفلسطينيين وغيرهم عبر حدودها مع مصر ... وقد حدث في النصف الثاني من عام 1985 أن أعلنت أجهزة الأمن المصرية والقوة المتعددة الجنسية حالة الطوارئ بسبب قيام مجموعة من المصريين بعبور الحدود عند إيلات والقيام بعملية فدائية جريئة داخل (إسرائيل) كذلك تخشى (إسرائيل) من تسرب الأسلحة عبر سيناء إلى الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، وقد أعلنت عن بعض الحالات التي تم ضبطها.

3 – إن (إسرائيل) تعتبر أي معلومات عن مصر ... في أي مجال من مجالات الحياة يمكن أن تفيدها في قياس مستوى العلاقات بينها وبين الحكومة المصرية ... وخاصة أن العلاقة بين الحكومتين شابها بعض الفتور والقلق والتوتر بعد مصرع السادات وبعد الغزو (الإسرائيلي) للبنان وبعد سحب السفيرين من القاهرة وتل أبيب .. وبسبب مشكلة "طابا".

لقد بدأ التوتر بين الرئيس حسني مبارك وحكومة (إسرائيل) في جنازة "السادات" .. فقد قدم مناحم بيجن لحسني مبارك دعوة لزيارة (إسرائيل) فوافق .. وبدأ كمال حسن علي وزير الخارجية في ذلك الوقت في بحث الترتيبات مع السفير (الإسرائيلي) ساسون .. واتفق على أن الموعد المناسب للزيارة 16 أو 17 مارس 1982 (قبل الانسحاب (الإسرائيلي) الأخير من سيناء بحوالي 40 يوما) وجهزت (إسرائيل) لمبارك برنامج زيارة للقدس، وقررت أن يلقي خطابا في الكنيست .. لكن .. سرعان ما قرر مبارك ألا يزور القدس .. فأعلن بيجن: أن علاقات مصر (بإسرائيل) تحوطها كثير من الصعوبات .. وعندما وصل إسحاق شامير (وزير الخارجية في ذلك الوقت) إلى القاهرة وقابل الرئيس مبارك .. قال له شامير: "إن الرئيس السابق أنور السادات تحدث عن ضرورة إزالة هذه الحواجز" .. فقال له مبارك: إن أساس السياسة المصرية الآن يعتمد على استئناف العلاقات بين مصر والعلم العربي، على أساس أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تؤثر تأثيرا إيجابيا على علاقات الدول العربية المعتدلة (بإسرائيل) .. وانزعجت (إسرائيل) من ميل مبارك نحو العرب .. وتضاعف انزعاجها من رد فعله تجاه الغزو (الإسرائيلي) للبنان وتجاه مشكلة طابا .. وتساءلت (إسرائيل) عن مصير السلام والتطبيع .. وقررت أن تتعامل مع مصر بمزيد من نشاط التجسس إسرائيل على مصر ... وأن تكلف كل من يدخل سيناء للسياحة بمهمة في هذا الاتجاه .. ففي مجتمع يقوم على المخابرات مثل (إسرائيل) يصبح السؤال عن هذا المبرر ضربا من السذاجة .. وربما ما هو أكثر من السذاجة.

لقد فتح سليمان خاطر – دون أن يقصد – عيوننا على أشياء كانت غائبة عنا .. فعلها سليمان خاطر وذهب .. وكان مثل السيد المسيح الذي قال كلمته ومضى.  

أشغال شاقة مؤبدة

  جرت وقائع محاكمة "سليمان خاطر" العسكرية في قاعة "المؤتمرات" و "الاحتفالات" بمقر قيادة الجيش الثالث الميداني بمدينة "السويس".

قاعة أرضية .. طويلة المساحة .. بسيطة البناء والديكور .. تستخدم عادة في المؤتمرات العسكرية حيث ترص فيها المقاعد التي يجلس عليها الضباط والقادة .. وتستخدم في استقبال كبار الزوار والضيوف .. حيث تفرش بالمناضد والمقاعد والصالونات ...

في هذه القاعة .. أو بالتحديد في جزء منها، عقدت المحكمة العسكرية العليا جلساتها .. أحضروا قفصا عن صندوق حديد مفرغ وغير مرتفع، وقف سليمان خاطر بالكاد .. وأحضروا منصة لتجلس عليها هيئة المحكمة المكونة من اللواء مصطفى دويدار رئيسا .. واللواء محمد خورشيد عضو اليمين .. والعميد محمود عبد العال عضو اليسار .. ودبروا مكانا لممثل الادعاء، المقدم يحيى قاسم، رئيس نيابة السويس العسكرية .. ودبروا مكانا يسمح للمحامين بالجلوس أو المرافعة ..

وكان واضحا منذ بداية المحاكمة أن النية قد انعقدت لأن تكون كل جلساتها سرية .. كما أن كل التجهيزات الفنية اللازمة لتسجيل المحاكمة فيديو .. بالصوت والصورة قد ركبت ..

وكان واضحا منذ البداية أيضا أن المحكمة لن تسمح بمد آجال المحاكمة .. ولن تعطي للدفاع الفرصة التي أخذها في آخر المحاكمات العسكرية التي شغلت الرأي العام .. محاكمة الذين اغتالوا السادات ..

ولوحظ أن المحكمة لم تسمح بتصوير سليمان خاطر فوتوغرافيا .. ولم ينجح أحد في نشر صورة واحدة له في هذا الوضع كما أنها لم تسمح بحضور الصحفيين ومصوري التليفزيون الجلسات .. ولا حتى الجلسة الأولى .. الجلسة الافتتاحية .. ولا حتى الجلسة الأخيرة .. جلسة النطق بالحكم ..

ولوحظ أن الأخبار التي تسربت من داخل الجلسات كانت قليلة جدا .. خاصة الجلسات الأولى .. وكان السبب وجود محام واحد اختير بمفرده للدفاع عن سليمان خاطر .. ومعنى تسرب الأخبار، أنه وراء ذلك .. والمعروف في مثل هذه المحاكمات السرية أن المحامين هم مصدر الأخبار الرئيسي .. وأن تعددهم يتيح لكل منهم تسريب الأخبار، على أساس صعوبة معرفة المصدر بدقة.

في البداية اختارت أسرة سليمان خاطر محاميا غير معروف للدفاع عنه .. لكنها .. سرعان ما اكتشفت أن القضية أكبر منه .. وأصعب منه .. وأشد من قدراته .. فلجأت إلى المحامي "عماد السبكي" .. وهو من المحامين الذين اشتهروا بالترافع في القضايا العسكرية .. وكان آخرها قضية اغتيال السادات .. وهذه الشهرة والخبرة في هذا النوع من القضايا بالذات مرجعه أنه خدم في القوات المسلحة كضابط في سلك القضاء العسكرية ووصل إلى رتبة العميد، وإلى درجة مساعد المدعي العام العسكري.

وقد قال "عماد السبكي" إنه لم يتطوع للدفاع عن سليمان خاطر، وإنما أهله هم الذين سعوا إليه لكي يترافع عنه .. فقبل ...

وقال وهو على عتبة المحكمة: إن هذه القضية تحتاج إلى نوعين من الخبرة .. خبرة قانونية (خاصة إجرائية) وخبرة فنية بالأوضاع العسكرية على أعلى مستوى لأن فيها نقاطا فنية يستحيل على غير من مارس القضايا العسكرية أن يضع يده عليها!

وتقول أسرة سليمان خاطر: إن عماد السبكي اشترط عليها أن لا تستعين بأي محام آخر، خاصة من زملائه الذين دافعوا عن [[خالد الإسلامبولي]] ورفاقه .. وأنه سألهم: هل تريدون ابنكم حيا؟ أم بطلا؟ .. فقالوا له: نريده بيننا على قيد الحياة! .. فقال لهم: إذن اتركوني أتصرف بمفردي.

وفعلا .. نفذت الأسرة تعليماته! !

وبمجرد أن تولى عماد السبكي القضية، صرح لصحيفة "الاتحاد" التي تصدر في دولة "الإمارات" أن من صالح سليمان خاطر أن تحجم القضية بالواقع الجنائي والقانوني لها دون إدخالها في متاهات التيارات السياسية المختلفة .. حتى لا تحدث ضغوط خارجية .. وقد كان على ما بدت مجريات الأمور متفائلا، لأن الضغوط الخارجية مورست بعد ساعات من وقوع الحادث.

وفيما بعد .. انضم إلى عماد السبكي عدد آخر من المحامين للدفاع عن سليمان خاطر!

وكان أغلب هؤلاء من بين هيئة الدفاع في قضية اغتيال السادات!

لقد أحست أسرة سليمان خاطر أن موقف ابنها في القضية يتدهور .. وأحست أن الزمن يسحبه إلى حكم الإعدام .. وأحست أن المحكمة لا تضيع وقتها في الوصول إلى هدفها المحدد وهو إصدار الحكم بأقصى عقوبة في أسرع وقت، وبدون "شوشرة" وبدون استجابة لأي طلب للدفاع بمد الجلسات.

أحست الأسرة بالخطر .. وأحس سليمان بنفس الخطر ..

إن سليمان في جلسات المحاكمة الأولى، كان يتمتع بهدوء وثقة من يشعر أنه أدى واجبه .. وكان يشعر بهدوء وثقة من يضمن البراءة في جيبه .. إنه – كما قال فيما بعد – كان يشعر بعدم الحاجة للدفاع عن نفسه، لأن أسرار ما فعله معروفة بدقة على كل مستويات قادته العسكريين، لكنه في الجلسة الثالثة من المحاكمة بدأ الإحساس بالخطر يتملكه .. وأحس أن النيابة العسكرية تطالب برأسه، وتصر على أنه قتل متعمدا "مع سبق الإصرار والترصد" .. وأن الشهود لا يشهدون لصالحه .. وأن المحكمة لا تجد ما يجعلها تحكم بغير الموت .. ونصحه بعض الحراس – الذين شهد أنهم كانوا يتعاملون معه برفق وشهامة – بتغيير المحامي .. أو الاستعانة بمحامين آخرين، لأن القضية ليست بهذه السهولة ولا البساطة التي يتصورها.

ولا نعرف ما إذا كان سليمان خاطر قد اقتنع بنفسه بضرورة الاستعانة بالمحامين الذين ترافعوا عن [[خالد الإسلامبولي]] ورفاقه، أم أن هناك من أقنعه بذلك.

لكننا نعرف أنه طلب من شقيقه الأكبر عبد الحميد خاطر أن يفعل ذلك ..

وقال له: "لو اتصلت بواحد منهم سيدلك على الآخرين".

وبالفعل .. اتصل عبد الحميد بعبد الحليم رمضان – المحامي، وعن طريقه وبواسطته جاء باقي المحامين ... كمال خالد .. وشوقي خالد .. وعبد العزيز الشرقاوي .. ومن جانب آخر تقدمت نقابة المحامين بطلب لندب محامين آخرين للدفاع عن سليمان خاطر .. وبعد الموافقة، رشح لهذه المهمة المحاميان محمد رزق، وسامح عاشور.

وبدخول هؤلاء الرجال في القضية ... فتحت صفحة جديدة.

في يوم السبت 3 نوفمبر 1985 استيقظ أولئك الرجال قبل صلاة الفجر، استعدادا للسفر إلى السويس (120 كيلو مترا من القاهرة) حيث تعقد جلسة جديدة من جلسات المحكمة ... وقد وصلوا رغم بعد المسافة قبل أن تبدأ الجلسة في الساعة الثامنة والنصف صباحا .. لكنهم فوجئوا بمن يمنعهم من الدخول بحجة عدم وجود تصريحات لهم .. وبحجة عدم وجود تعليمات تسمح بدخولهم .. فوقفوا على البوابة حوالي ساعة ونصف الساعة حتى أذنت هيئة المحكمة لاثنين منهم بالدخول، هما اللذان كلفتهما نقابة المحامين .. وبعد حوالي ساعتين أيضا سمح للآخرين بالدخول ..

ومن المؤكد أن هذا الإجراء استفز المحامين .. ومن المؤكد أنهم أحسوا – بعده – أن المحكمة تحاول تعطيل مهمتهم التي يصفونها دائما بأنها "مهمة مقدسة" .. وكان من الطبيعي أن يسجلوا ما حدث في محضر الجلسة ... وأمام هيئة المحكمة قالوا:

إن ما حدث على البوابة كان محاولة متعمدة لتضييع فرصة الدفاع عن الرقيب سليمان خاطر!

وحاولت المحكمة رد الاتهام بمحاولة التفرقة بين المحامي الموكل والمحامي المنتدب .. وقالت: إنها ليست ملزمة بمعاملة المحامي المنتدب كالمحامي الموكل وأنها أعطت كل الفرصة الممكنة للمحامي الموكل .. وهذا يكفي ليكون الدفاع قد أخذ حقه كاملا ..

فقال محمد رزق – المحامي: إن معنى هذا أن المحكمة تحاول أن تجعل هيئة الدفاع ديكورا فقط، وهذا شيء مرفوض.

وطلب شوقي خالد – المحامي من المحكمة فرصة للتداول بين هيئة الدفاع .. واستجابت المحكمة ... وبعد المداولة، قال عماد السبكي:

التزاما مني بوحدة الدفاع فأنا أعتبر نفسي مترافعا في جزء من الدعوى فقط .. ومن حق باقي زملائي استكمال المرافعة.

ورفضت المحكمة ... فهدد الدفاع – بما فيهم عماد السبكي – بالانسحاب فورا من المحكمة إذا لم يتمكن من مزاولة كافة حقوقه القانونية المشروعة في المرافعة.

ويتدخل سليمان خاطر ليطلب من المحكمة اعتبار كل المحامين موكلين بالدفاع عنه .. وبعدم التفرقة بين محام موكل، ومحام منتدب ..

وارتفعت درجة حرارة هذه الجلسة التي كانت يوم السبت 3 نوفمبر 1985، وتقرر المحكمة التأجيل للسبت التالي .. يوم 10 نوفمبر.

وفيما بعد قال لنا شوقي خالد – المحامي: إن المحكمة حاولت إثبات أن كل المحامين الحاضرين منتدبون ما عدا عماد السبكي وقد فشلت في هذه المحاولة .. وكان من الواضح أن المحكمة في عجلة من أمرها لتصدر الحكم في هذه الجلسة.

وأضاف: إن سليمان خاطر قد حضر هذه الجلسة وغيرها من جلسات المحاكمة وهو يرتدي الزي العسكري .. وأن حوارا سريعا دار بينهما .. قال فيه سليمان:

أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه .. إنه قضاء الله وقدره .. لكنني لا أخشى سوى أن يكون للحكم الذي سيصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف، وتقتل فيهم وطنيتهم.

أمام المحكمة .. قال كمال خالد – المحامي: إن هذه القضية هي من أهم القضايا التي شهدها القضاء عبر التاريخ .. وقد فاق اهتمام الرأي العام في مصر، والعالم العربي، والإسلامي، والدولي بهذه القضية كل تصور أو توقع .. الأمر الذي يجعل الحكم فيها لا يخص ولا يهم سليمان خاطر بمفرده .. إن المعاني الأصيلة والقيم النبيلة التي يتمسك بها الشعب المصري، ولا يتنازع عليها ولا يتنازل عنها، وأهمها الدفاع عن كرامته، وكل ذرة من تراب وطنه تعني أنه ليس شعبا همجيا، وإنما شعب أصيل، يعرف كيف يدافع عن نفسه وأرضه وحدوده ضد كل اعتداء مهما كان مصدره.

وأضاف: إن الحكم الذي ستصدره المحكمة سوف يكشف للعالم إن كان سليمان خاطر مخطئا .. معتديا بتصرفه، أم كان ينبغي محاكمته بتهمة الخيانة والتقصير في حق الوطن والواجب إذا ما تقاعس عن التصرف الذي قام به في مواجهة متسللين صهاينة اقتحموا عليه موقعه، ومن طريق خلفي، وعر، يرتفع عن سطح الأرض بنحو 150 مترا .. وهذه كلها متاعب لا يمكن أن يتحملها إلا أصحاب الغرض الخسيس .. وليس بمستغرب على (إسرائيل) في سبيل اكتشاف هذا الموقع والتجسس على ما فيه، أو القيام بعمل تخريبي فيه، أن تستعين بمن يرتدون المايوهات متسترين باصطحاب الأطفال.

إن حرص هؤلاء الصهاينة على الوصول إلى الموقع العسكري إنما كان حيلة للتمويه والخداع، إلا أن سليمان خاطر لم يبتلع الطعم وأدى واجبه في الوقت المناسب.

وقال عماد السبكي: إن تصرف سليمان خاطر يجعله طبقا للمواد (60، 61، 63 من قانون العقوبات) وطبقا للشريعة الإسلامية في موقف أداء الواجب، الذي قام به وهو مطمئن إلى أنه ينفذ الأوامر الواجب تنفيذها في مثل هذه الظروف. قال ذلك .. ثم راح يشرح الحادث على النحو الذي ذكره سليمان خاطر من قبل في تحقيقات النيابة العسكرية ...

وأضاف: إن معنى معاقبة سليمان خاطر، أن نأمر جنودنا أن يقفوا متفرجين أمام تجسس (إسرائيل) مثلما حدث في موقع آخر تمكن فيه سياح (إسرائيليون) بالتقاط ذبذبة أحد الأجهزة العسكرية الدقيقة.

بصورة عامة بنى المحامون دفاعهم على ثلاثة محاور :

1 – الطعن في سلامة الإجراءات .. إجراءات التحقيق الذي تم مع المتهم دون حضور محام .. وإجراءات الطب الشرعي التي تمت في (إسرائيل) لا في مصر .. وتضارب أقوال الشهود .. وعدم سلامة المعاينة بسبب رفع الشرطة للطلقات والجثث قبل وصول النيابة ... وعدم صلاحية القضاء العسكري لنظر الدعوى، وعدم صلاحية مواد التجريم والعقاب في القانون الذي تأخذ به المحكمة لمخالفة الدستور والشريعة الإسلامية .. وبطلان قرار رئيس الجمهورية بإحالة الدعوى إلى القضاء العسكري لاستناده إلى نصوص قوانين غير دستورية .. وفيما بعد ردت المحكمة على كل هذه الدفوع الإجرائية في حيثيات الحكم، ولم تأخذ بها!

2 – التركيز على أن سليمان خاطر كان يؤدي واجبه .. وعدم توافر القصد الجنائي في تصرفه .. واعتبار ما فعله – في أسوأ الظروف – من قبيل القتل الخطأ .. وقد حاول المحامون في هذا المحور إعطاء القضية بعدا سياسيا وأمنيا .. لكن .. من الواضح أن المحكمة كانت تحاصر هذا البعد .. وفعلت المستحيل لحصر الدعوى في حجمها القانوني، والجنائي فقط.

وفيما بعد، أصرت المحكمة في حيثيات الحكم، على أن القتل كان عمدا، ومع سبق الإصرار والترصد .. ورفضت أن تعتبر الرصاصات الأولى التي أطلقها سليمان خاطر رصاصات تحذير، وقالت إن نتيجة هذه الرصاصات كانت قتيلا، ومع ذلك واصل سليمان خاطر، إطلاق الرصاصات ، ولو كان يريد التحذير لما واصل إطلاق الرصاص، ولما واصل القتل .. وهذا يعني أن المحكمة لم تأخذ بما جاء في تقرير الطب النفسي لسليمان خاطر من أنه يخشى رؤية الدم، وأن الدماء تؤثر على حالته وتصرفاته.

3 – محاولة إثبات أن (الإسرائيليين) الذين صعدوا إلى موقع سليمان خاطر الممنوع الصعود إليه، كان من الممكن أن يكون لهم غرض آخر غير السياحة .. وهو التجسس .. وأشار المحامون هنا إلى دور المستشار السياسي للسفارة (الإسرائيلية) "نمرود" الذي كان موجودا في موقع الحادث، وقبل وقوعه .. وأشاروا إلى الكاميرا التي كان يحملها أولئك (الإسرائيليون) ... وأشاروا إلى وقائع تجسس مشابهة وقعت في نقاط عسكرية أخرى في سيناء.

لكن .. المحكمة لم تأخذ بهذا الدفع، واعتبرته خروجا عن القضية، ووصفت القتلى بأنهم كانوا من المدنيين العزل ومن النساء والأطفال.

وقد حاول المحامون – قدر استطاعتهم – مد فترة المحاكمة .. لكنهم فشلوا.

وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت 28 ديسمبر 1985 كانت جلسة النطق بالحكم .. وكان الحكم .. الأشغال الشاقة المؤبدة لمدة ربع قرن من الزمان.

وقد نطقت المحكمة بالحكم في حضور 30 من أقارب سليمان خاطر وعدد من المحامين الذين تولوا الدفاع عنه .. ولم تستمر الجلسة أكثر من 10 دقائق.

ويقول شهود العيان: إن سليمان خاطر قد استقبل حكم المؤبد بالاستياء البالغ ولكن بصمود ملحوظ، بينما أصيب زملاؤه بحالة من الذهول، وبعد ثوان من الصمت قال سليمان خاطر: "إن هذا الحكم هو حكم ضد مصر لأنه جندي مصري أدى واجبه" .. وقال إنه كان يتوقع أن يمنح وساما أو أن يحصل على ترقية لا أن يحبس لمدة 25 سنة.

والتفت سليمان إلى الجنود الذين يحرسونه وقال: "اذهبوا واحرسوا سيناء .. سليمان مش عايز حراسة".

وارتفع صوته بالهتاف: "يعيش شعب مصر .. يعيش شعب مصر".

ويقول شهود العيان أيضا: إن سليمان كرر – مرة أخرى – توجيه الاتهامات الصادرة منه من قبل لعدد من رؤسائه الضباط في سيناء بالتعامل "المريب" مع (إسرائيل).

الاستياء الشديد كان رد فعل هيئة الدفاع عن سليمان خاطر بعد إعلان هذا الحكم عليه .. وهو رد فعل متوقع بالطبع ...

قال عبد الحليم رمضان – المحامي: إن الحكم لم يصدر ضد سليمان ولكنه صدر بإدانة شعب مصر، وهو يلزم مصر بدين جديد يضاف إلى ديونها السابقة يتمثل في التعويضات التي ستدفع لأسر القتلى (الإسرائيليين).

وقال شوقي خالد – المحامي: إن الحكم قد قيد حق أي جندي مصري على الحدود في استعمال سلاحه لمقاومة أي اعتداء أو تسلل (إسرائيلي) للمواقع العسكرية (المصرية) فضلا عن أنه تضمن سابقة خطيرة وهي التسليم بالتقارير الطبية (غير المصرية) التي تم تحريرها في (إسرائيل) لجثث القتلى، رغم أن ذلك يتنافى مع قانون العقوبات المصري، ومبدأ السيادة الإقليمية.

أما كمال خالد المحامي : فقد اعتبر هذا الحكم بمثابة الكارثة لأنه دعوة للجنود المصريين بالسكوت على اقتحام (إسرائيل) للمواقع العسكرية المصرية حتى لا ينالوا جزاء سليمان خاطر.

وفي اليوم التالي لصدور حكم المحكمة العسكرية العليا، تقدمت هيئة الدفاع عن سليمان خاطر بطلب جديد للمحكمة الإدارية العليا للطعن في قرار رئيس الجمهورية بمحاكمة سليمان خاطر أمام القضاء العسكري وذلك بعد أن رفضت هذه المحكمة من قبل طلبا سابقا بوقف تنفيذ هذا القرار الجمهوري.

وفي نفس اليوم قال راديو لندن: إن الحكم كان صدمة لرجل الشارع في مصر.

وفي (إسرائيل) تضاربت ردود الفعل الأولى ... فقد أعرب "موسى ساسون" سفير (إسرائيل) في القاهرة عن ثقته التامة في القضاء المصري .. وقال: إن هذه الثقة تأكدت بعد صدور الحكم .. وأضاف في تصريح له أذاعه راديو (إسرائيل): إن حكومته تنتظر أن تقوم السلطات المصرية بتقديم تقرير كامل "بشأن الأحداث المأساوية التي وقعت في رأس بركة"، "كما أعرب عن ارتياحه لأن الصحف القومية المصرية بدأت مؤخرا في نشر الحقيقة بخصوص الحادث". وكان موسى ساسون يقصد الحملة الصحفية المضادة للمعارضة والتي قام بها رؤساء تحرير "الجمهورية" و "أخبار اليوم" و "المصور" وشارك فيها "موسى صبري" والتي وصفت فيها سليمان خاطر بأنه بطل "وهمي" صنعته المعارضة ... ووصفته بأنه "قاتل الأطفال والنساء".

في (إسرائيل) أيضا اعتبر أهل القتلى السبعة الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على سليمان خاطر حكما مخففا، ووصفوا الحكم بأنه حكم هزلي وهزيل!

وفي الكويت طالب مجلس الأمة الكويتي الحكومة المصرية بإطلاق سراح سليمان خاطر .. واعتبر إدانة سليمان "هدية" قيمة قدمتها الحكومة المصرية (لإسرائيل) في نهاية العام .. أو بمناسبة رأس السنة الجديدة!

وقد اعتبرت الحكومة المصرية هذا الطلب بمثابة تدخل في شئونها الداخلية، وحرضت صحفها على الهجوم على من طالب بذلك .. وصادرت الصحف الكويتية التي علقت على الحكم .. أو التي أشارت لطلب مجلس الأمة الكويتي!

على أن ذلك كله، لم يمنع عددا كبيرا من المصريين من اعتبار عدم إعدام سليمان خاطر – مهما كان حكم السجن عليه – هو حكم مريح .. على أمل أن يعامل في سجنه معاملة حسنة، وعلى أمل أن يخرج من سجنه مع أول أزمة بين مصر (وإسرائيل) إذا لم يتدخل رئيس الجمهورية بتخفيف هذا الحكم ... وفيما بعد .. ثبت أن أصحاب هذا الأمل كانوا يجرون وراء سراب!

بعد يومين من الحكم .. قالت صحيفة مايو الناطقة بلسان الحزب الوطني الحاكم: إن أسرة سليمان خاطر قد تقبلت الحكم بسكون لإيمانها "بنزاهة وعدالة القضاء المصري" .. وأضافت الصحيفة: إن الأسرة اعترفت بذلك لوفد من الحزب الوطني، التقى بها، بأم سليمان خاطر على وجه الخصوص بعد إعلان الحكم.

لكن .. أسرة سليمان خاطر سارعت بتكذيب هذا الكلام في بيان مكتوب بخط اليد، وقعه عبد الحميد، وعبد المنعم خاطر، وبصمت عليه أمهما ...

وقال البيان: "نحن الموقعين أدناه، أسرة سليمان خاطر، نكذب بوضوح قطعي هذا الكلام العاري من الحقيقة ونؤكد أن هذا الحكم القاسي قد صدمنا صدمة بالغة وغير متوقعة، وقد عبرنا عن استيائنا من الحكم في يوم صدوره بقاعة المحكمة العسكرية أمام هيئة المحكمة والجنود والضباط، وإننا نقول للصحف القومية، ولصحيفة مايو: اتقوا الله فيما نحن فيه وكفى تزويرا للحقائق، وهل من المعقول أن نتقبل حكما بالمؤبد على ابننا الذي لم يرتكب ذنبا بل كان يؤدي واجبه العسكري المكلف به من قبل قادته".

وكانت أسرة سليمان خاطر قد عبرت – بالفعل – بعد إعلان الحكم على ابنها، عن رفضها لهذا الحكم، وقد وصفته بأنه "حكم ظالم".

وقد بقيت الأسرة كلها إلى جوار ابنها، خارج القفص حتى طلبوا منها الخروج من قاعة المحكمة ... وقبل أن يخرج أفرادها سألوا: إلى أين سيذهب سليمان الآن؟

فقيل لهم: إلى السجن.

فسألوا: أي سجن؟

فقيل لهم: الله أعلم.

على البوابة الخارجية لقاعة المحكمة جلس أهل سليمان في سيارات "أجرة" كانوا قد استأجروها، في انتظار موكب ترحيل ابنهم إلى السجن الذي لا يعرفونه .. وظلوا على هذا الحال حتى هبط الظلام ... ثم فوجئوا بخروج سليمان في سيارة عسكرية وهو محاط برتب كبيرة من العسكريين، وأمام السيارة التي حملته، وخلفها، كانت سيارتان للحراسة ... تحملان الجنود المسلحين .. وقد سارت أسرة سليمان بسيارات الأجرة التي تحمل أفرادها وراء هذا "الموكب" في أكثر من طريق فرعي، غير مطروق، من السويس إلى القاهرة .. حتى وصلوا جميعا بعد منتصف الليل إلى السجن الحربي الرئيسي بمدينة "نصر".

وعندما اقتربوا من موقع السجن الحربي ... تساءل أحد أقارب سليمان: هل سيدخلونه السجن الآن أم سينتظرون حتى الصباح؟

وبدا السؤال للبعض غريبا .. لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك ... فالمعروف أن السجن الحربي يغلق أبوابه عند المغرب .. والمعروف أن غلق السجن وفتحه يتم يوميا بمحضر ... والمعروف أن السجن لا يستقبل أي مسجون جديد بعد هذا الموعد .. وخاصة أنه لإيداع مسجون جديد بعض الطقوس والإجراءات الضرورية التي تفرض إجراء الكشف الطبي عليه وتحديد حالته الصحية والجسدية قبل استلامه.

لم ينتظر حراس سليمان خاطر حتى الصباح ودخلوا بوابة السجن الحربي التي فتحت لهم، بعد صدور تعليمات بذلك وبعد إعلان حالة الطوارئ في السجن لاستلامه في هذا الوقت الآمن .. بالتحديد.

وفيما بعد .. قال أهل سليمان خاطر: إنهم انتظروا أمام بوابة السجن الخارجية حتى الصباح .. وفي الصباح طلبوا من قائد السجن زيارة ابنهم .. لكن قائد السجن أنكر أن ابنهم عنده .. وعندما حكوا له ما جرى ليلة أمس، اعترف بوجود سليمان خاطر في سجنه، وسمح لهم – وديا – بزيارته .. وقال لهم: لا تتعبوا أنفسكم .. إننا سوف نرسل لكم تصاريح الزيارة إلى محافظة الشرقية، وسيتولى أحد موظفي المحافظة توصيلها لكم في "أكياد" .. وفيما بعد تحقق ما وعد به قائد السجن فعلا!

لا تسمح المحاكمات العسكرية باستئناف أحكامها .. ولا الطعن فيها ... وكل ما تسمح به أن يقدم المحكوم عليه التماسا إلى رئيس الجمهورية (بصفته الضابط المصدق على الأحكام العسكرية) أو من ينوب عنه .. وذلك خلال أسبوعين من إعلان الحكم ... ولا يعد الحكم نهائيا إلا بعد التصديق عليه.

وقد قرر المحامون الذين يدافعون عن سليمان خاطر أن يقوموا معا بإعداد الالتماس اللازم لرئيس الجمهورية، وذلك بعد أن اتفقوا معا على أن يكون الطلب المحدد في الالتماس هو إعادة المحاكمة من جديد .. أو في أسوأ الأحوال تخفيف الحكم إلى أقصى حد ممكن .. إلى حد البراءة ...

وفي نفس الوقت قرر عدد كبير من السياسيين والشخصيات العامة في مصر، وفي خارجها، التدخل لدى رئيس الجمهورية لإلغاء الحكم .. أو لتخفيفه .. وكان مقررا أن تبدأ هذه المساعي، فور الانتهاء من إجازات رأس السنة الجديدة ..

وفيما بعد .. قال سليمان خاطر إنه يتوقع عفوا من الرئيس حسني مبارك .. أو في أسوأ الأحوال يتوقع تخفيف الحكم إلى 3 سنوات.

وكان هذا التفاؤل وراء تهدئة سليمان لأمه .. ومحاولته لإقناعها بأن المستقبل سيكون لصالحه ..

فقد قال سليمان لأمه: لماذا أنت حزينة يا أمي .. إنني أتوقع أن لا تزيد فترة سجني على 3 سنوات .. واعتبريني في الكويت مثل أخي عبد المنعم .. أو اعتبريني لا أزال في الخدمة العسكرية .. أو اعتبريني أدرس بعيدا عنك في جامعة القاهرة!

إن نسمات التفاؤل قد هبت .. بعد صدمة المؤبد – على كل أطراف القضية .. الدفاع .. الرأي العام .. رجال السياسة .. سليمان خاطر نفسه .. وأخيرا أسرته .. وراحت هذه النسمات تمنحهم جميعا جوا من الانتعاش .. وجعلتهم يحلمون أحلام اليقظة .. وجعلتهم يستغرقون في هذه الأحلام الوردية .. وقد ظلوا على هذا الحال حوالي أسبوع ..

وفي اليوم الثامن .. كانت الصدمة الكبرى ..

مات سليمان خاطر .. مات في مستشفى السجن الحربي ...

وقالت الحكومة إنه انتحر!

وقالت المعارضة إنه قتل!

وعاد الناس ينشغلون بقضية سليمان خاطر من جديد .. وراحوا يحاولون حل أصعب ألغازها وأعقدها ..

'هل انتحر؟ أم نحر؟ !'

'هل انتحر؟ أم قتل؟ !'

آخر ربع ساعة!

  بدأ هذا الفصل "المثير" من قصة "سليمان خاطر" بعد ظهر الثلاثاء 7 يناير 1986. ففي نشرة أخبار الساعة الثانية والنصف أذاع راديو القاهرة أن سليمان خاطر انتحر!

جاء هذا الخبر بعد حوالي 9 أيام من إيداعه السجن الحربي – الرئيسي بمدينة "نصر" ب[[القاهرة

وكان نص البيان الرسمي الصادر عن إدارة "السجن الحربي" كالتالي:

"في حوالي الساعة العاشرة من صباح الثلاثاء الموافق 7 يناير 1986 وأثناء المرور اليومي للحراس على الرقيب المسجون سليمان محمد عبد الرحمن خاطر المحكوم عليه في القضية رقم 143/ 85 جنايات عسكرية – السويس والمحبوس بمستشفى السجن الحربي للعلاج من مرض البلهارسيا وجد معلقا من رقبته بمشمع الفراش الخاص به بالقضبان الحديدية بشباك غرفته بالمستشفى فأبلغ الحارس طبيب المستشفى فورا الذي قام بفك رقبته والكشف عليه وإجراء عملية التنفس الصناعي له وتدليك عضلة القلب إلا أنه كان قد فارق الحياة وفور الإبلاغ بالحادث انتقل إلى مقر السجن المدعي العام العسكري ونائبه ورئيس النيابة المختص حيث باشرت النيابة العسكرية التحقيق على الفور، وقررت ندب كبير الأطباء الشرعيين بمصلحة الطب الشرعي التابعة لوزارة العدل وذلك لتشريح الجثة".

في صباح اليوم التالي نشرت الصحف "الثلاث" البيان تحت عنوان: "انتحار سليمان خاطر في مستشفى السجن الحربي" .. "تقرير الأطباء الشرعيين: الوفاة بسبب إسفكسيا الخنق" !

وكان غريبا أن تقرر هذه الصحف أن سليمان خاطر انتحر قبل أن ينقل إلى "المشرحة" .. وأن تنشر على لسان الأطباء الشرعيين أن الوفاة بسبب إسفكسيا الشنق قبل أن ينتهوا من تشريح الجثة!

وكان هذا الأمر – مع مفاجأة خبر وبيان الانتحار – كفيلا بأن يتهم الناس الحكومة بما هو أبعد من الانتحار .. وأن يقولوا: إن على رأسها "بطحة" تحسس عليها .. وإن سليمان خاطر قتل في السجن الحربي، ولم ينتحر!

وكشفت الشكوك الواسعة، والتي بدأت عقب إذاعة البيان الرسمي، وزادت فيما بعد، من مسافة "عدم التصديق" الشاسعة التي تفصل بين الناس والحكومة .. ذلك أن هذه الشكوك كانت سريعة جدا .. ومنتشرة جدا .. وجاءت كرد فعل تلقائي بعد البيان .. ودون انتظار لأي أخبار إضافية ... وزاد من هذه الشكوك ما فعلته الحكومة نفسها في هذا الحادث المؤسف!

ففي اليوم التالي للحادث أسرعت صحيفة الأهرام ونشرت تحقيقا صحفيا، حاولت فيه – من خلال علماء النفس – أن تثبت أن انتحار سليمان خاطر أمر مفروغ منه .. لأنه – على حد قولها – مريض بالاكتئاب المزمن .. ويعاني من الشعور بالذنب .. ومن الفصام العقلي .. إلخ هذه الأوصاف التي يبرع في استخدامها الأطباء النفسيون .. وكان هذا التحليل مخالفا للنتيجة التي توصل إليها فريق الأطباء النفسيين الذين فحصوا سليمان خاطر من قبل، وتوصلوا إلى أنه سليم ومسئول عن تصرفاته .. ولا يعاني من خلل أو صرع أو جنون ..

أي أن الطب النفسي الذي لم يبرئ سليمان خاطر من حادث قتل (الإسرائيليين) عاد ليورطه في حادث انتحاره!

وبعد يومين من الحادث نفى المشير عبد الحليم أبو غزالة "اغتيال" سليمان خاطر واكتفى بأن يقول: "إن هذا غير صحيح .. وعلى المتشكك أن يسأل القضاء" .. وعندما لجأت أسرة سليمان خاطر إلى القضاء وقفت لها الحكومة بالمرصاد.

وفي ذلك الوقت أيضا صادرت وزارة الإعلام كل الصحف العربية التي وضعت احتمال أن يكون سليمان خاطر قد قتل .. وراحت "تشوشر" على الإذاعات غير المصرية، الناطقة باللغة العربية.

ولم تعلق وزارة الخارجية على بيان "إسحاق شامير" بعد الحادث، والذي قال فيه : إن وفاة سليمان خاطر، أزالت عقبة من ثلاث عقبات كانت تقف في وجه العلاقات (الإسرائيلية) .. وأضاف: إن العقبتين الأخريين هما: عودة السفير ومشكلة "طابا".

وبعد يومين من الحادث – أيضا – نشر [[مكرم محمد أحمد]] رئيس تحرير مجلة المصور الحوار الأخير مع سليمان خاطر في سجنه .. وحاول من خلال الصياغة الإيحاء بأن سليمان خاطر كانت تنتابه بعض حالات القلق والاكتئاب المفاجئة الأمر الذي يسهل الاقتناع بأنه انتحر!

وكان [[مكرم محمد أحمد]] – حسب روايته – قد اتصل تليفونيا بوزير الدفاع، المشير أبو غزالة، ليسأله عن حقيقة ما نشر في صحف الكويت، من أن "سليمان خاطر قد تم نقله من السجن إلى أحد المستشفيات العسكرية، في حالة بين الموت والحياة، لأن السلطات المصرية سمحت لفريق من مصوري التليفزيون (الإسرائيلي) أن يلقاه في سجنه، لكن أحد مصوري الفريق، لم يستطع أن يكبح رغبته في الانتقام من سليمان، فإذا به ينهال على رأسه بكاميرا التليفزيون حتى شجبها وأصابه بنزيف حاد، نقل على أثره إلى المستشفى.

وقال رئيس تحرير المصور: إن المشير أبو غزالة أبدى دهشته من مثل هذا الكلام، ولم يمانع في ترتيب زيارة لمقابلة سليمان خاطر في سجنه ..

وقد تمت هذه الزيارة بالفعل يوم الأحد 5 يناير قبل 48 ساعة تقريبا من وفاة سليمان خاطر، وهو اليوم الذي زارت فيه أسرة "خاطر" ابنها .. الزيارة الأخيرة ...

ولم يقل [[مكرم محمد أحمد]] إن أسرة "خاطر" التي وصلت السجن الحربي وهو يجري حديثه مع ابنها قد ثارت في وجهه بعد أن تعرفت عليه، واتهمت الصحف الرسمية بأوصاف شتى أقلها "العمالة للحكومة" .. وعندما رأى سليمان ثورة أهله، حاول من جانبه خطف شريط التسجيل من يده، لكنه فشل في ذلك رغم أن جهاز التسجيل الذي كان يستخدمه قد انكسر!

ولم يقل إنه أوقف طبع مجلته فور سماعه خبر وفاة سليمان خاطر، بعد أن طبع منها 6 آلاف نسخة .. ولم يقل إنه قام بتغيير الغلاف الذي كان يحمل صورة سليمان خاطر مع أمه، واكتفى بوضع عنوان يحمل: "اللقاء الأخيرة مع سليمان خاطر في سجنه"، ووضع صورة "توفيق الحكيم" بمناسبة عرض مسرحية "إيزيس" على المسرح القومي بعد إعادة افتتاحه!

وقد ذكر بعض أفراد أسرة "خاطر": أن ما نشره رئيس تحرير المصور غير صحيح .. ولم يتضمن أهم ما جاء على لسان سليمان خاطر الذي هاجم شخصيات وصفها أقاربه بأنها "كبيرة" و "مسئولة" ..

وعقب إجراء الحديث صرح [[مكرم محمد أحمد]] لإحدى وكالات الأنباء العالمية: أن سليمان خاطر كان في حالة طيبة، وأنه طلب منه أن يبلغ الرئيس مبارك رسالة تتضمن تخفيف الحكم عليه إلى 3 سنوات فقط، كما طلب من أسرته كتب الدراسة، وبدلة جديدة ..

لكن .. بعد خبر الوفاة تراجع عن هذا التصريح وأوحى في حواره الذي نشره بعكس ذلك، وأكد أن وجهه كان أحيانا "يتغضن بالتجاعيد وأسنانه تصطك في ألم مكبوت، ويكشف عن حسرة الندم وسوء الطالع" !

إن الحقيقة تؤكد أن سليمان خاطر لم يكن لديه أي مبرر للانتحار .. فالحكم الصادر ضده (25 سنة أشغال شاقة) مع شدته – من وجهة نظره على الأقل – لم يكن حكما بالإعدام .. ولم يكن حكما نهائيا .. فرئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة لم يكن قد صدق عليه ... واحتمالات تخفيف الحكم كانت كبيرة .. على الأقل عند سليمان خاطر .. الذي هون الأمر على والدته في زيارة أسرته الأخيرة له، وقال لها: إنه لن يستمر في سجنه سوى عام أو عامين على الأكثر .. وقال لوالدته أيضا: اعتبريني مسافر مثل أخي عبد المنعم في الكويت .. أو اعتبريني بأدرس في جامعة القاهرة بعيدا عنك .. أو اعتبريني لسه مخلصتش الجيش! !

وفيما بعد .. قالت الأم: إنني عندما زرته في السجن آخر مرة، وضممته إلى صدري، عرفت، بحق أن روحه المعنوية كانت عالية جدا ونفسيته كانت مرتاحة وعنده أمل كبير في صلاح الأحوال والإفراج عنه بسرعة .. وقد قال لي: إن الله هو الذي فعل هذا يا أمي وأنا سعيد بما فعله الناس من أجلي وأتمنى أن أرد لهم الجميل وأهب لهم باقي عمري وأكون محاميا أدافع عن حقوقهم وحريتهم! !

وفيما بعد .. قال عبد الحليم رمضان – المحامي: لقد زاره أهله يوم الأحد 5 يناير، وظلوا معه حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر، واتصلوا بي وقالوا إن سليمان طلب عمل توكيل باسمي وباسم ابنتي المحامية "منى" لنحضر عنه جميع قضاياه في عموم المحاكم بما فيها المحكمة الدستورية العليا وأن نسجل في التوكيل حقنا في النيابة عنه في رد ومخاصمة القضاء وفي الحضور عنه في أي شكوى أو بلاغ باسمه، كما طلب عمل توكيل آخر لوالدته ولأخيه ليمثلاه في الجمعية الزراعية في "أكياد" ليصرفوا عنه التقاوي والبذور وجميع مستلزمات الزراعة الخاصة بقطعة الأرض التي يمتلكها وأسرته .. ولو كان سليمان خاطر يفكر في الانتحار لما قام بعمل هذا التوكيل، لأنه يعلم تماما بأن الوراثة تتحقق بالموت وأن الوارث ليس في حاجة لعمل توكيل من الميت.

وطلب سليمان من أهله أيضا أن يحضروا له بذلة جديدة من قماش أزرق جيد، يفصلها له ترزيه في أكياد، ليرتديها في السجن بدلا من ملابس السجن التي لا يعجبه قماشها لأنه رجل يحب المحافظة على أناقته حتى في داخل السجن، ومثل هذا الشخص لا يفكر بالطبع في الانتحار.

وطلب سليمان أيضا من أهله أن يحضروا له كتب كلية الحقوق، ومعرفة المشطوب منها، لمواصلة دراسته حتى يذاكر ويستعد للامتحان .. والشخص الذي يطلب هذا المطلب لا يفكر – على الإطلاق – في الانتحار ..

وفيما بعد .. قال صبري عبد الحميد خاطر .. ابن عم سليمان: عندما التقيت بسليمان خاطر في السجن، قال لي: معاملتهم لي حسنة جدا بدرجة تثير في نفسي الريبة وتقلقني .. وقد طلب مني أن أحضر له كريم حلاقة ومعجون أسنان وزجاجة كولونيا! !

إن كل الذين اقتربوا من سليمان في تلك اللحظات لا يقبلون بوجود مبرر واحد، ولو ضعيف يدفعه للانتحار .. يضاف إلى ذلك أنه معروف عنه أنه إنسان متدين .. يعرف أن الانتحار نوع من الكفر يلقي بصاحبه في جهنم وبئس المصير .. وقد سجل رئيس تحرير المصور وهو يصف زنزانته في السجن وجود "كومودينو" بجوار السرير، "يغطي سطحه صفحة جريدة يومية وفوق الكومودينو نسختان من القرآن" ..

وقد سجلت تحقيقات النيابة العسكرية استنكار سليمان للانتحار ...

ففي ص – 47 من تلك التحقيقات سئل سليمان:

س: هل سبق لأحد من أسرتك أن توفي وفاة غير طبيعية نتيجة انتحار مثلا، أو أصيب أي أحد من أفراد أسرتك أو أنت بأي مرض نفسي أو عصبي وهل سبق علاجك نفسيا أو عصبيا؟

فرد سليمان بسرعة ودون تردد:

ج: ما حصلش والعياذ بالله مفيش غير ابن عمي مات في حادثة عربية!

وفي نفس هذه التحقيقات عرفنا أن سليمان خاطر شخص مستقيم .. يصلي بانتظام .. ويخشى الله .. وأنه حسب شهادة الجندي "علي إبراهيم" في ص 57 من التحقيقات – قد أصيب بانهيار عصبي حاد بعد حادث إطلاق النار على (الإسرائيليين) وأنه فكر في أن يطلق النار على نفسه ... إلا أنه تراجع عن هذه الفكرة على الفور بمجرد أن قال زميله له: "لن تموت نفسك يا سليمان .. لو حتموت نفسك يبقى حرام".

إن كلمة واحدة هي كلمة "حرام" جعلت سليمان يتراجع عن الانتحار في أصعب ظروف نفسية مر بها، فهل يمكن أن ينتحر في تلك الظروف المريحة التي تحدث عنها كل الذين زاروه في زنزانته؟ ! .. كل الذين زاروه اعترفوا بأنه كان مستريحا .. حتى رئيس تحرير مجلة "المصور" اعترف بذلك ..

وقال على لسان سليمان خاطر: "الجميع يعاملونني معاملة طيبة، يتركونني في غرفتي أصحو في الوقت الذي أريد، أخرج بعض الإفطار إلى فناء السجن، أجلس تحت الشمس أو في ظل شجرة، أعود ظهرا إلى حجرتي لتناول الغداء، وأقرأ بعضا من آيات القرآن".

وفي فترة "التمشية" في فناء السجن كان بعض المساجين يقتربون منه ويطلبون صداقته ويعاملونه كبطل، ويقدمون له أوراقا صغيرة ليوقع لهم عليها .. كنوع من الإعجاب به .. ولا بد أن هذا قد أبعده عن شبح الوحدة، والاكتئاب الذي يمكن أن يدفعه للانتحار ..

"وفضلا عن هذا فإن حركة التعاطف الجماهيرية المصرية والعربية التي أحاطت بسليمان قبل المحاكمة وأثناءها وبعدها كانت من القوة بحيث تقلل من احتمالات إحساسه بالوحدة أو بالحصار وبالتالي اليأس الدافع للانتحار، وهي حركة لم تكن قد خدمت بعد بل إن حركة أخرى لمطالبة الرئيس مبارك بتخفيف الحكم عند التصديق عليه كانت قد بدأت بالفعل".

في تمام الساعة الواحدة بعد ظهر يوم 7 يناير .. يوم الحادث، استجابت أسرة سليمان خاطر لكل مطالبه، وحملت إليه الكتب، والبدلة الزرقاء، وملابس داخلية جديدة، ومعجون الحلاقة، ومعجون الأسنان، وزجاجة الكولونيا، وذهبت إلى السجن الحربي .. وكان معها في ذلك الوقت مأمور الشهر العقاري المختص، لعمل التوكيلات القانونية التي طلبها .. وكان معهم تصريح المدعي العام العسكري بزيارة ابنهم .. لكنهم فوجئوا بمدير السجن الحربي يعتذر لهم عن عدم تنفيذ الزيارة بسبب وجود لجنة تفتيش على السجن، تحت إشراف المشير أبو غزالة، .. وكتب لهم تصريح الزيارة بتأجيلها إلى موعد آخر لهذا السبب .. وصرفهم ... وفي نفس اليوم .. فوجئ أفراد الأسرة بشخص مجهول يخطرهم تليفونيا بانتحار ابنهم في زنزانته واكتشافه مشنوقا، ومعلقا في نافذة زنزانته .. وجن الذين سمعوا الخبر من أفراد أسرته ... ولم يصدقوا الخبر إلا بعد أن اتصلوا بوكالة أنباء الشرق الأوسط التي طيرت الخبر إلى أنحاء العالم.

وفيما بعد .. أكد عم سليمان "عبده خاطر" هذه الرواية وأضاف عليها: إن سليمان كانت له أمنية طالما حدثني عنها .. كان يريد أن يرفع قضية ضد رئيس الجمهورية، وضد كل الذين اتهموه بالجنون .. كان بوده أن يواجههم في ساحة القضاء لذلك هبنا إليه ومعنا موظفة في الشهر العقاري يوم الثلاثاء 7 يناير ليوقع أمامها على توكيل لرفع هذه الدعوى، وغيرها!

في نفس اليوم .. وبعد أن تأكدت الأسرة من خبر وفاة ابنها، ذهب شقيقه الأكبر عبد الحميد إلى السجن الحربي مرة أخرى في الساعة الثالثة إلا ربعا من بعد الظهر، وتوجه – كما قال لصحيفة الشعب المعارضة – إلى الإدارة للاستفسار عن مكان الجثة .. وهناك وجد المشير أبو غزالة ومجموعة من كبار الضباط وقد تراصوا "أمامي لتقديم العزاء، بعد أن أحضروا مقرئا لتلاوة القرآن الكريم".

وحسب كلام نفس الصحيفة (عدد 14 يناير 86) والذي لم يكذب فيما بعد .. أن ضابطا اسمه العميد "أحمد عبد الهادي" قال لعبد الحميد خاطر:

أخوك عملها فينا وشنق نفسه .. الله يسامحه.

كيف؟

خنق نفسه بمشمع!

لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدى إيمانه وتدينه .. إنه لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه لقد قتلوه في سجنه! القاتل يجب أن يقتل .. أنا كنت أمشي في الشارع مع ابني فصدمته سيارة .. ومات .. وأنا لا أقبل أن يبقى قاتله حيا وأخوك قتل سبعة ...

أخي قتل أعداءه وأنتم حكمتم عليه بالسجن، ثم عدتم فقتلتموه!

في نفس اليوم ... وحسب الرواية الرسمية أن المدعي العام العسكري قد انتقل إلى مستشفى السجن، وعاين الجثة، وطلب كبير الأطباء الشرعيين الذين حضر ومعه 4 أطباء عاينوا الزنزانة التي وقع بها الحادث، كما عاينوا الجثة وصحبوها إلى مشرحة "زينهم" لتشريحها بناء على قرار المدعي العام العسكري!

إن البيان الرسمي والرواية الرسمية لا يحملان أي تفاصيل .. كما أنهما يتمتعان بدرجة عالية من الغموض! فالبيان الرسمي كما لاحظت صحيفة الأهالي (صلاح عيسى – مصدر سبق الإشارة إليه) لم يذكر طبيعة المكان الذي كان سليمان قد نقل إليه وقيل إنه انتحر فيه، وهل هو زنزانة منفصلة تضمه وحده أم عنبر واسع يضمه مع غيره من المساجين؟ وهل كان مغلقا عليه أم لا؟

كما لم يشر إلى سبب قوي يدعو لنقله إلى المستشفى، ذلك أن مرض البلهارسيا الذي برر به البيان سبب النقل ليس من الأمراض التي يتطلب العلاج منها إقامة في المستشفيات إذ يمكن للمريض به أن يعالج منه وهو يمارس حياته العادية فضلا عن أن سليمان – شأنه شأن كل الجنود في الجيش والشرطة يخضع لفحوص طبية عند تجنيده، من بينها – تحديدا – الفحوص المتعلقة بالإصابة بالأمراض المتوطنة في مصر، وعلى رأسها البلهارسيا التي يعالج منها كل المصابين بها حتى التحاقهم بالجيش والشرطة لأسباب علاجية ووقائية وليس منطقيا أن يظل سليمان مصابا بها وقد مضى على تجنيده أكثر من عامين!

وفضلا عن ذلك، فإن إيداع سليمان خاطر أحد السجون الحربية، بدا أمرا داعيا للريبة، ذلك أن المعتاد، أن يقيم المدنيون الذين يحاكمون أمام محاكم عسكرية أثناء المحاكمة أحيانا وعلى سبيل القطع بعد صدور الحكم في السجون المدنية وليس في السجون الحربية.

ولاحظ المرتابون أن البيان الرسمي حدد وقت العثور على الجثة بالساعة العاشرة صباحا بينما أدلت مصادر أمنية أخرى بتصريحات للصحفيين الأجانب أذيعت في حينها بأن اكتشافها قد تم في الساعة الثامنة صباحا وفضلا عن التناقض في البيانات فإن الساعة التي أشار إليها البيان الرسمي، قد دعتهم للشك إذ بدا من غير المنطقي أن يتأخر اكتشاف الجثة إلى هذه الساعة من الضحى، بينما من المعروف أن السجون العسكرية كغيرها من السجون، تقوم بالتتميم على نزلائها في مواعيد ثابتة ومحددة في لوائحها وذلك بإحصائهم قبل غلق الزنازين عليهم في المساء وبعد فتحها عليهم في الصباح المبكر، والمعتاد أن يتم ذلك في الخامسة مساء والسادسة صباحا فضلا عن أن مواعيد تقديم وجبات الإفطار في القوات المسلحة يكون عادة في السابعة ...

فكيف ولماذا تأخر اكتشاف الجثة إلى تلك الساعة المتأخرة؟

ومتى يمكن أن يكون سليمان قد شنق نفسه إذا كانت الجثة قد اكتشفت في العاشرة صباحا؟

هل فعل ذلك ليلا – وهو ما ذكرته مجلة المصور – حين لم يكن أحد من حراسه حوله أم فعله في الصباح المبكر؟

وكيف حدث هذا في حين أن سليمان قال لأسرته قبل 48 ساعة من وفاته إن هناك أحد عشر حارسا يقيمون معه في حجرته؟

وإذا كان قد حدث ليلا .. فما هو مبرر قيام الأطباء بإجراء تدليك للقلب عقب اكتشاف الجثة في حين أنه يمكن لأي طبيب مبتدئ أن يكتشف بالنظرة الأولى أنه لا أمل في مثل هذه الحالات يدعو للتدليك.

ويضيف هؤلاء المرتابون: إن تصميم السجون – حربية أم مدنية – وسواء كانت الزنزانة عادية أو زنزانة مستشفى، يراعى دائما أن يكون ارتفاع الأسقف والنوافذ بحيث لا يتيح للسجين الانتحار باعتباره من ردود الأفعال المحتملة في الأحكام القاسية، فضلا عن أن الوسيلة التي ذكر البيان الرسمي أنها قد استخدمت في الشنق وهي طي مشمع الفراش بحيث يصبح أشبه بالحبل الصالح للشنق بدا أمرا غير قابل للتحقيق.

ومما لفت نظر هؤلاء أن البيان الرسمي الذي نسب عند صدوره إلى إدارة السجن الحربي لم يشر صراحة أن هناك انتحارا قد حدث ولكنه اكتفى بالقول بأنه قد عثر على سليمان مشنوقا ومعلقا على شباك زنزانته بالمستشفى بينما تولت هيئات رسمية أخرى – منها وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية – تزويد وسائل الإعلام بالتفسير الذي صور الحادث على أنه انتحار، كما أن الخطاب الرسمي الذي وقعه المدعي العام العسكري وأرسله مع الجثة عند نقلها إلى المشرحة، لم يشر إلى شيء أكثر من أن سليمان قد "توفي" !

"ولم تشر البيانات الرسمية التي أذيعت حتى الآن، إلى طبيعة التحقيق الذي قيل إنه قد أجري حول الحادث، ورغم حساسية القضية البالغة وعلى عكس تقاليد الإعلام المصري فإنه قد تجنب تماما الخوض في أية تفاصيل، واقتصر النشر على بيانات رسمية متطابقة، وهو ما فسره المرتابون بأنه تعتيم مقصود، يستهدف عدم تسرب أية تفاصيل على لسان الشهود بما يكشف ما يراد إخفاؤه وكانت التفاصيل المتعددة والمتناقضة التي أذيعت عقب عملية اقتحام الطائرة المصرية في مطار فاليتا قد خضعت لتحليل ومقارنة، دعت إلى عدم الاقتناع بالتصوير الرسمي للواقعة".

هذا .. جزء مما لاحظته صحيفة حزب التجمع المعارض في مصر .. وفي الحقيقة كانت هذه الملاحظات تجميعا منظما للملاحظات التي سجلها كل من اعتبروا سليمان خاطر قد قتل ولم ينتحر! وكان على رأس هؤلاء المحامي عبد الحليم رمضان، الذي قال لوكالات الأنباء العالمية: إن سليمان خاطر نحر ولم ينتحر!

وقال عبد الحليم رمضان:

1 – إن سليمان خاطر لم يعان من أي مرض بدني، بل كان معافى، ولو افترضنا أنه كان مريضا بالبلهارسيا فإن هذا لا يستدعي عزله بمستشفى السجن!

2 – إن الغرض من عزل سليمان خاطر بمستشفى السجن كان غرضا أمنيا، يهدف إلى الفصل بينه وبين المساجين الآخرين حتى لا يبوح لهم بما يعرفه من أسرار لا ينبغي إذاعتها، فتضار السلطات .. لأنه منذ اليوم الأول للتحقيق معه حرصت هذه السلطات على عزله تماما حتى عن الدفاع، الذي لم يبلغ بالحضور معه المحاكمة إلا ليلتها.

3 – إن من الصعب على سليمان الانتحار لأنه يقيم في زنزانته يشاركه فيها أحد عشر حارسا لا يفارقونه ليلا أو نهارا، كما أنهم لا يتركونه بمفرده حتى وهو يقضي حاجته، ويقوم على خدمته واحد من قوة الحراسة.

إن نافذة الزنزانة التي يقال أنه شنق نفسه بقضبانها تعلو عن الأرض بثلاثة أمتار، والنافذة مغطاة من الداخل بشبكة من السلك المعدني الذي لا يسمح بدخول أو خروج شيء عدا الهواء، ولا يمكن الوصول إلى القضبان الحديدية للشباك دون نزع السلك، وهذا بالطبع لا بد أن يثير انتباه الحراس.

وأضاف البعض لهذه الملاحظات، ملاحظة أخرى عن صعوبة الانتحار بالمشمع الذي جاء في البيان الرسمي، حيث إن طوله وسمكه وطبيعته، لا تسمح بالانتحار على النحو الذي قيل إنه حدث!

وفيما بعد ... حاولت مجلة المصور أن ترد على هذه الملاحظات في تحقيق، ادعت أنه على الطبيعة، داخل السجن الحربي .. فقالت: إن مكان الحادث كان العنبر الأرضي من مستشفى السجن الحربي، وأن هذا المكان قد أخلي من النزلاء، وخصصت حجرة من حجراته الثماني لسليمان خاطر .. وهذا العنبر عبارة عن أربع زنزانات على اليمين لا تزيد مساحة الزنزانة على ستة أمتار مربعة .. في مواجهة هذه الزنزانات الأربع، أربع زنزانات أخرى ودورة مياه .. وليس في هذه الحجرات أي نزلاء إلا الحجرة المواجهة لزنزانة سليمان خاطر، حيث يتواجد أفراد حراسته ... ثلاثة أفراد يرأسهم حكمدار حراسة برتبة رقيب ... وأفراد الحراسة هم كرم وعبد الله ومحمد وحكمدارهم هو حامد .. وما بين صفي الزنزانات يمينا ويسارا طرقة لا يزيد عرضها على متر ونصف ... ويمتد طولها ثمانية أمتار، تنتهي بباب حديد مغلق وفي مواجهة الباب الحديدي المغلق باب خشبي عند الطرف الآخر من نهاية الطرقة .. والباب الخشبي مغلق بمزلاج قوي وأقفال صلبة ... ولو كان هذا الوصف صحيحا فإن تحديد عدد الحراس بأربعة لا يتفق مع العدد الذي ذكرته أسرة سليمان خاطر وهو 11 حارسا!

وتضيف المجلة: إن زنزانة سليمان خاطر لا يميزها عن الزنزانات الأخرى سوى القفل الحديدي الضخم على بابها، وفي الباب فرجة عليها قضبان حديدية، هي الفرجة التي يطل منها حارسه عليه مرة كل نصف ساعة ليطمئن على سليمان في سريره .. وليس في الزنزانة سوى شباك واحد، يعلو مسافة مترين ونصف المتر عن أرضة الغرفة ... ولو كان هذا الوصف صحيحا فإنه لا بد من التساؤل عن صلاحية المسافة بين النافذة وأرضية الحجرة للانتحار، وخاصة أن طول سليمان حوالي 165 سنتيمترا، ويضاف إلى هذا الطول الجزء المعلق من المشمع بين القضبان ورقبته، الأمر الذي لا يعطي أي بعد بين قدمي سليمان والأرض يوفر له فرصة الانتحار .. وخاصة أن الزنزانة تخلو من الكراسي، ومن الصعب استخدام السرير لهذا الغرض ... وتشكك المجلة في وجود سلك على نافذة الزنزانة، وتقول: إن من "الواضح أن إدارة السجن كانت قد نزعت النوافذ الزجاجية للشباك وسدت الشباك من الخلف، أي من ناحية الفناء الذي يطل عليه، بالخشب تاركة بين الخشب فرجة مستطيلة لا يزيد طولها على نصف متر ولا يزيد ارتفاعها على 15 سنتيمترا كي يتسلل منها بعض الضوء إلى داخل الزنزانة" .. أي أن النافذة لم يكن بها سلك وإنما زجاج .. وهو تصور غير طبيعي لأن نوافذ السجون لا يمكن أن تغطي بزجاج، حتى لا يهشم، وتستخدم قطع منه في قطع شرايين اليد.

وقد لجأت المجلة – التي تعتمد أساسا على الصورة – إلى تخيل ما حدث ورسمته .. في حين أنه كان من الممكن أن تصور لنا الزنزانة والنافذة، وتترك لنا تخيل ما حدث .. أو على الأقل .. كان عليها أن تقدم لنا هذه الصورة مع الرسومات التي تخيلتها!

ودون أن تقصد اعترفت المجلة في رواية الساعات الأخيرة لسليمان خاطر أنه كان في حالة نفسية لا يمكن أن تؤدي به إلى الانتحار .. فقد دق سليمان – حسب رواية "المصور" – باب الزنزانة في الساعة التاسعة صباحا .. ففتح حكمدار حراسته القفل، وخرج سليمان وفي يده "بعض من ملابسه الداخلية وفوطة" .. "قطع الطرقة عرضا إلى الحمام الذي يقع إلى جانب غرفة الحراس .. اغتسل ووضع ملابسه في وعاء من البلاستيك ينقعها في مياه ممزوجة بمسحوق الصابون" .. حتى هذه الساعة .. التي نقع فيها ملابسه الداخلية تمهيدا لغلسها فيما بعد لا يمكن أن يكون قد فكر في الانتحار بالطبع .. لأنه بالطبع أيضا يعرف أن أحدا لا يحتاج لثياب المنتحر الداخلية، حتى ولو كانت نظيفة!

وتضيف "المجلة": وسأله الرقيب حامد وهو يغتسل .. هل نرسل في طلب الإفطار؟ .. قال: نعم .. بعد عشر دقائق كان سليمان يفطر مع حراسه في غرفتهم .. أكلوا فولا ومربى وزيتونا وشربوا الشاي ...

استمر الإفطار حتى العاشرة إلا ربعا .. فطلب سليمان أن يدخل زنزانته ليستريح قليلا .. فتح حراسته الباب ودخل وأغلقوه عليه ...

وواضح حتى الآن وقبل ربع ساعة فقط من اكتشاف انتحاره أنه كان طبيعيا .. يأكل الفول والزيتون والمربى، ويشرب – مع حراسه – الشاي .. لا كان ساهما .. ولا كان شاردا .. لا كان مكتئبا ولا كان عازفا عن الطعام .. أكثر من ذلك تحدد مجلة المصور هذه المدة في 10 دقائق فقط .. فقد قال حراسه لحكمدار المستشفى الرقيب "بدر" في تمام الساعة العاشرة إن سليمان تناول إفطاره قبل "عشر دقائق" ودخل ليستريح .. "وأطل الرقيب بدر على سليمان من كوة الباب ولكنه لم يجده على سريره .. أخرج مفتاح القفل قلقا من جيبه ليفتح باب الزنزانة (لاحظ هنا أن المفتاح حسب رواية المجلة مع حراسه وليس معه) وعندما فتح الباب وجد سليمان معلقا إلى شباك الزنزانة تكاد أقدامه تصل إلى أرض الحجرة لولا أنه كان مثني الساقين عند الركبتين" ...

ماذا جرى لسليمان خاطر داخل زنزانته في تلك الدقائق العشر الأخيرة؟

ما الذي أصابه فجأة وجعله يقرر فجأة أن ينتحر؟

وكيف فكر ونفذ هذا الانتحار الصعب في تلك الدقائق القليلة؟

إن مجلة المصور لم تقدم إجابة على هذه الأسئلة الصعبة والهامة في نفس الوقت .. ومما لا شك فيه أن عدم تطوعها للإجابة على هذه الأسئلة يجعل من رابع المستحيلات قبول روايتها ... ومن الطبيعي بعد ذلك أن نعتبرها رواية "مفبركة".

لقد حاولت المجلة الحكومية أن ترد على ما وجه للرواية الرسمية من نقد .. ففشلت ..

أرادت أن تكحلها .. فأعمتها ..  

الجثة أمام القضاء!

  في تمام الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الحادث، فتح جنود الحراسة بوابة السجن الحربي الرئيسية، وسمحوا لسيارة بيضاء اللون .. تشبه سيارات الإسعاف الخاصة بالخروج من السجن .. كانت هذه السيارة تتبع إدارة الطب الشرعي .. وكانت هذه السيارة تحمل جثمان سليمان خاطر .. وكان إلى جوار الجثة عدة أحراز منها "حلة أرز مطبوخ وبطة محمرة" .. كانت جزءا من الطعام الذي أحضرته لسليمان أسرته في الزيارة الأخيرة .. وكان عبارة عن "عشرة كيلو جرامات من البرتقال، وكيلو جرام من الشاي، وخمسة كيلو جرامات من الموز وكيس به بعض أكياس اللبن" .. "وبطتين وعدد من أزواج الحمام وأرز في الفرن" .. ومع هذا الحرز كان حرز آخر عبارة عن "ترموس بلاستيك أيضا خال" ...

كان أمام السيارة التي تحمل جثمان سليمان وخلفها عدد من سيارات الشرطة التي تحمل رتبا مختلفة كان بينها لواء .. وكانت هذه الرتب ترفع أجهزة الاتصال في يدها وتبلغ عن كل ما تراه وما يحدث لها بدقة متناهية ..

وعندما أغلق الحراس بوابة السجن أجهش بعضهم بالبكاء وأحس البعض الآخر بالحزن والاكتئاب .. ولم يجد أحدا منهم في نفسه أي رغبة في تناول الطعام .. مثلهم مثل عدد كبير من المساجين داخل زنزانات السجن الذين رفضوا تناول الطعام حزنا على وفاة سليمان خاطر ..

لقد دخلت سيارة الطب الشرعي قبل حوالي الساعة .. ودخل معها عدد آخر من السيارات الملاكي التي كانت تحمل كبير الأطباء الشرعيين، الدكتور إبراهيم سليم، ونائبه الدكتور محمد العراقي، ومساعده الدكتور علي أحمد خير .. جاء هؤلاء من مكاتبهم إلى السجن الحربي، بعد أن وردت إليهم إشارة في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، من نيابة شرق القاهرة العسكرية تفيد بوفاة سليمان خاطر .. وطلبت منه النيابة العسكرية في نهاية الإشارة الانتقال إلى محل الواقعة لمعاينة وتشريح الجثة لبيان ما بها من إصابات، وسببها وتاريخ حدوثها، وسبب الوفاة.

وبعد ساعة من تلقي الإشارة حدثت المعاينة .. وبعد نصف ساعة آخر، خرجت السيارة تحمل جثمان سليمان خاطر إلى مشرحة "زينهم" التي تقع في حي من القاهرة الفقيرة ..

وكان واضحا من موكب سيارات الشرطة التي تسبق وتلحق بالسيارة أن هناك إجراءات أمن مشددة قد اتخذت .. وتأكد ذلك أيضا عندما وصل الموكب إلى منطقة "زينهم" .. فقد سدت مداخل الشوارع الرئيسية بقوات الأمن المركزي .. وانتشر عدد كبير من هذه القوات فوق تل "زينهم" .. ووقفت 8 سيارات شرطة صغيرة .. وانتشر عدد كبير من المجندين السريين .. وحوصرت المنطقة بأكملها، ومنع سكانها الذين يصل عددهم إلى حوالي 15 ألف نسمة من الاقتراب من مبنى المشرحة أو حتى الفرجة عليها من نوافذ المباني المجاورة أو التي تطل عليها ... أوقف السائق (واسمه سيد) السيارة ونزل منها شقيق سليمان الأكبر عبد الحميد، ونقلت الجثة إلى إحدى غرف المشرحة وهي غرفة مساحتها 3 م × 3 م، بها جهاز تكييف و "ترابيزة" من الرخام (2 م × 1.5 م) وقد وضعت الجثة على "الترابيزة" وبدأ تشريحها في الساعة الرابعة والنصف عصرا .. واستمرت عملية التشريح 3 ساعات .. فأخذت عينات من الأحشاء، كما أخذت قلامات الأظافر .. ثم سمح لحانوتي المشرحة "أحمد محمد يوسف" بغسل الجثة ...

في ذلك الوقت، سمح لأشقاء سليمان وأقاربه وبعض الشخصيات السياسية برؤية الجثة ... كان من هؤلاء عبد المنعم وعبد الحميد خاطر والمهندس إبراهيم شكري (رئيس حزب العمل) وأحمد مجاهد (محام وعضو مجلس الشعب عن حزب العمل) ود. عبد المنعم عبد الهادي، وحسين عمار، ود. مجدي زعبل، وهم من أقارب سليمان ..

وقال إبراهيم شكري:

إن هناك شكا في طريقة موت سليمان خاطر، إنني بعدما رأيت الجثمان بالصورة التي كان عليها، أقرر أن الانتحار بطريقة الشنق ليست الصورة الوحيدة المحتملة لوفاته!

وقال أحمد مجاهد:

إن المنظر العام للجثة لا يقطع بأن سليمان انتحر .. ومن الممكن بسهولة وضع احتمالات أخرى إلى جانب ذلك! !

وقال د. مجدي زعبل – عضو مجلس إدارة المنظمة العربية لحقوق الإنسان:

إنه قتل ولم ينتحر والدليل على ذلك وجود آثار خنق بآلة تشبه السلك الرفيع على الرقبة تركت احمرارا حولها .. ووجود خدوش "سجمات" في الجهة اليمنى للرقبة يبدو أنها نتجت من آثار مقاومة سليمان خاطر .. ووجود كدمات بالجهة العليا من الساق اليمنى تشبه آثار "جرجرة" أو ضرب .. ووجود تجمعات دموية في عينيه وهو ما يتعارض مع الشنق .. فالتجمع الدموي في حالة الشنق يكون في الأجزاء السفلى من الجسم .. التي تبدو زرقاء .. وفي حالة وجودها في العين فمعناه أن الخنق تم وهو ملقى على ظهره .. وهناك أيضا تقلصات في ساقيه ويديه .. ومعنى ذلك أنه كان يقاوم قاتليه .. إذا كان قد شنق نفسه في شباك غرفته كما قيل لكان من الواجب أن يكون جسمه مرتخيا تماما، ومتمددا، كما يحدث في عمليات الشنق عادة .. لكن ذلك لم يحدث.

وقال حسين عمار:

حين دخلنا كانت الجثة مغطاة بالصابون، وكان حانوتي المشرحة يقوم بغسلها فأخذت منه "خرطوم" المياه وأزلت الصابون من عليها .. لاحظنا جميعا أن جسم سليمان ليس مستقيما وأن قدميه وذراعيه في حالة تقوس وكان الجسم متيبسا تماما، حتى أننا لم نستطع فرده، كما كانت أصابع الأقدام متشنجة ومتصلبة وكانت أعضاؤه التناسلية مغطاة بقطعة كبيرة من القطن، وفي الرقبة آثار "خربشة" وفوق عظمة الحوض من الجهة اليمنى، وعلى البطن ثلاثة جروح طولها ما بين 3 و 5 سم، والعينان مفتوحتان، وفي بياضها آثار تجمعات دموية وحاولنا إغلاقها فلم نستطع.

والغريب أن الفم كان مغلقا والفكان ملتصقين بشدة ولذلك لم نستطع فتحهما لرؤية اللسان الذي كان بالداخل، وفي أعلى الفخذ اليمنى كان هناك جرح صغير، أما الأغرب من ذلك كله، فهو أن الرقبة كان بها "حز" دائري ويشبه الطوق، لا يتعدى سمكه 3 ملليمتر، وفي مستوى واحد من الأمام والخلف ويوجد أسفل الحنجرة، فضلا عن أننا لم نجد كسرا بعظمة الرقبة أو في أي عظمة بالعمود الفقري .. وفي الجهة اليمنى من البطن، في منطقة الزائدة الدودية توجد ثلاثة جروح ليس بها آثار دم أو احمرار، وأتوقع أنها ناتجة من مشارط الطبيب الشرعي لأخذ عينات من الأمعاء وقد حدثت بعد الوفاة على عكس الجرح الأول، ويوجد جرح آخر قطعي أعلى الفخذ اليمنى من الخارج طوله 3 سم وهو أعمق قليلا من جرح الرقبة ومحمر قليلا.

وقال د. عبد المنعم عبد الهادي:

إن جرحى الرقبة والفخذ حدثا أثناء الوفاة أو قبلها بقليل، ويرجح أن يكونا قد حدثا أثناء الوفاة، وخاصة أن وضع الجسم واليدين والساقين كان متقوسا، مما يعني أنه كان نائما أو في حالة مقاومة، وهذا ينفي واقعة التعلق وبالتالي الشنق سواء كان سليمان هو الذي شنق نفسه أو شنقه غيره، كما أن "سمك الحز" في الرقبة ينفي قطعا القول بأنه شنق نفسه بمشمع السرير، سواء كان هو الذي شنق نفسه أو شنقه غيره أيضا!

وفي اليوم التالي ... أرسل فريق الطب الشرعي عينات الأحشاء التي أخذت من الجثة، وكذا بقايا الطعام والترموس إلى المعامل الكيماوية لمصلحة الطب الشرعي لفحصها والبحث عن وجود مواد مخدرة أو مهدئات أو منومات أو مواد سامة أو مبيدات حشرية فيها .. وبعد 4 أيام قال الدكتور سليم: إن نتيجة التحاليل جاءت خالية من هذه الآثار.

وفي يوم 13 يناير، قال الدكتور إبراهيم سليم: إن الوفاة حدثت نتيجة اسفكسيا الشنق .. وإنه لا توجد أي شبهة جنائية في الحادث ... لكنه بدلا من أن يحسم الموضوع، ضاعف من علامات الاستفهام، ومن الشكوك حوله ...

فقد كذب أن الشنق تم بمشمع وإنما بقطعة قماش من الذي يستعمل في ملابس الصاعقة ... كان يستخدمه سليمان في الصلاة! !

إن البيان الرسمي ذكر أن الانتحار تم بمشمع الفراش، ثم قالت مجلة المصور: لا .. الانتحار تم بملاءة السرير ... وها هو كبير الأطباء الشرعيين يؤكد أن الانتحار تم بقطعة قماش من الذي تستعمله الصاعقة! !

وتضاربت الأقوال في طول هذا القماش أو المشمع .. فمجلة "المصور" توحي بصغر حجمه، لأنه يوضع ما بين ملة السرير والفراش .. "حتى لا تصل الرطوبة إليه" ... والمعروف أن طول السرير لا يزيد على المترين، وعرضه لا يزيد على المتر كثيرا .. كما أن استخدامه في الصلاة يؤكد هذا الإيحاء .. والطب الشرعي يقول: إن مساحة هذه القطعة من القماش متران في مترين و 90 سنتيمترا ..

ورغم إجماع شهود العيان على المظاهر السابقة (التي رصدناها) للجثة، فإن الطب الشرعي أصر على الانتحار، وأصر على عدم وجود مقاومة وأن الجثة خالية من وجود أي أثر لإصابات أو جروح (فيما عدا حز حول العنق) أو ما يشير إلى حدوث عنف جنائي ...

وكان هذا التناقض بين أقوال شهود العيان وأقوال فريق الطب الشرعي سببا وجيها لانهيال الأسئلة من الصحفيين على الأطباء الشرعيين ..

كانت الأسئلة مثيرة .. وكانت الإجابة غريبة .. وكان الحوار كله دعوة للتأمل ..

س: الحز في الرقبة بسمك القلم الجاف .. هل للمشمع أن يحدث مثل هذا الحز؟

ج: نعم، حدث انخساف نتيجة ضغط القماش الملتوي بسمك 4 ينتهي بـ 3 سم عند الفكين، أما الحز الرفيع فهو ناتج من طيات المشمع البارز.

س: ولماذا لم يتدل اللسان كما يحدث عادة في مثل هذه الحالات؟

ج: في حالات التعليق من الخلف تحدث الاسفكسيا بدون خروج اللسان!

س: ليس في البيان الذي أعلنتموه أية إشارة إلى كون المحرزات التي سلمتها النيابة إليكم قد تضمنت أدوية .. لماذا؟ .. ومم كان يعالج سليمان؟ وهل كشف تحليل الأمعاء عما أعطى له من أدوية؟

ج: في التحليل كنا قد ركزنا فقط على الكشف عن وجود آثار لأية سموم أو منومات أو مواد مخدرة.

س: كم يستغرق الموت بهذه الطريقة وهل كان بوسعه أن ينقذ نفسه أو يستنجد؟

ج: تكفي ثوان فقط لحدوث الإغماء والموت، ويتعذر أن يتراجع من قرر الانتحار ومضى في التنفيذ بهذا الشكل.

س: وهل كانت هناك ضرورة والحال كذلك لإجراء تدليك للقلب من قبل طبيب السجن الحربي كما جاء في البيان الرسمي؟ !

ج: لأنه لما دخل وجد الجثة ساخنة فظن أنه لا زال على قيد الحياة.

س: هل يختلف الشنق عن الخنق وفيم؟

ج: في الخنق يكون الحز في الرقبة مستعرضا وكاملا، وتكون هناك آثار مقاومة بالضرورة.

س: بعض من رأوه من أهله وجدوا الجثة متصلبة واليدين مقبوضتين بعكس ما هو شائع في حالات الشنق؟

ج: التصلب، أو التيبس الرمي، يبدأ بعد ساعتين في عضلات الوجه أولا ثم يعم الجسم تدريجيا بعد ذلك وعندما انتقلنا إلى الجثة كان التيبس في الفك فقط مما يدل على أنه لم يمض أكثر من ساعتين على الوفاة.

س: هل هناك أنواع من السموم أو المخدرات يمكن ألا تظهر من خلال تشريح عينات الأمعاء؟

ج: لقد مسحنا في تشريحنا كل المخدرات والمهدئات والسموم المعروفة.

س: هل وجدتم كسورا في فقرات الرقبة؟

ج: كسر الفقرات لا يوجد إلا في الشنق القضائي (في تنفيذ أحكام الإعدام).

س: ولماذا لم يسمح لوفد من نقابة الأطباء بالمشاركة في التشريح؟

ج: ليس ذلك اختصاصهم، وحتى أساتذة أقسام التشريح في كليات الطب لا يلمون بالجوانب العملية لهذا العمل.

س: أعلن أن منظمة العفو الدولية ستوفد طبيبين لإعادة التشريح هل تقبلون؟ وإلى أي مدى زمني تبقى الجثة صالحة لإجراء عمليات الفحص والتشريح عليها؟

ج: قبول أطباء المنظمة أمر يخص سلطة النيابة العسكرية، أما عن مدى صلاحية الجثة للتشريح فيتوقف على نوع المقبرة التي دفنت فيها.

س: هل هناك اختلاف في مناهج التشريح دوليا بمعنى أن الطب الشرعي المغربي أثبت في تشريح جثة سميرة مليان بعض ما يخالف تقريركم؟

ج: ليس هناك اختلافات في المناهج، وما أثبته الطب المغربي قريب لما أثبتناه، بل وكنا طالبنا بأن نذهب إليهم هناك لتحمل المسئولية فرفضوا.

س: في هذا المكان الفقير، مصلحة الطب الشرعي، ألا يحول نقص الإمكانيات أحيانا دون دقة التشريح؟

ج: نحن هنا نعمل، لو جاز التعبير، كصنايعية خان الخليلي، بالعين واليد والخبرة، ولنا مكانتنا.

س: عرفنا أطوال المشمع وسليمان وارتفاع الشباك، لكن كم كانت المسافة بين سليمان وبين الأرض في تصوركم؟

ج: حدوث الوفاة بالشنق لا يستدعي حتى أن تكون الجثة معلقة تعليقا كاملا، فقد يعلق نفسه في "الخية" ويثني ركبتيه، أو يعلق نفسه في شباك ويرمي نفسه في اتجاه معاكس.

س: حالة التيار الكهربائي في الغرفة؟

ج: كانت الفيشات منزوعة وليس في الحجرة تيار كهربائي، ثم إن الصعق بالتيار يحدث تجلطا في الدم بعكس الشنق.

ومما لا شك فيه أن الرأي العام المصري لا يشعر بالاطمئنان تجاه هذه التقارير، خاصة في القضايا الهامة .. والقضايا ذات الطابع السياسي ...

إن الأسئلة التي وجهت لهذا الفريق، على هذا النحو لا تخلو من الشك في إمكانية التلاعب في التقارير التي يقدمها الشرعي، خاصة بعد الضجة التي ثارت حوله بعد فضيحة سميرة مليان (انظر الهامش رقم 6) التي أشار الصحفيون إليها في أسئلتهم ..

ومما لا شك فيه أن شكوك الرأي العام المصري حول انتحار سليمان خاطر لم تحسمها الإجابات المبهمة، وغير الواضحة، والسريعة التي قدمها الطب الشرعي.

إن هذه الشكوك بدت أكبر من قدرة الأطباء الشرعيين .. ومن بيانهم المحدود .. وإجاباتهم المتعجلة! وزاد من هذه الشكوك ما حدث للجثة بعد ذلك أمام القضاء!

بدأ النزاع القانوني حول جثة سليمان خاطر في اليوم التالي للحادث ...

قال التقرير المبدئي لكبير الأطباء الشرعيين : إن سليمان خاطر انتحر باسفكسيا الشنق، فسارع 19 محاميا من مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية .. بعضهم كان من هيئة الدفاع عن سليمان خاطر أمام المحكمة العسكرية العليا .. سارعوا برفع دعوى إثبات حالة مستعجلة لإعادة تشريح الجثة .. وكان من بين أولئك المحامين: عبد الحليم رمضان، وأحمد مجاهد، و[[محمد عبد السلام الزيات]]، ومحمد فهيم، ونبيل الهلالي، وأحمد ناصر، وكمال خالد، وشوقي خالد، ومحمد حسن المهدي، وعبد الحليم مندور، وعبد الله الزغبي، ونبيل متولي، وعبد العزيز الشرقاوي، ومحمد أبو الفضل الجيزاوي، وسعيد الشعبيني وعطية سليمان ... وكان مع أولئك المحامين أفراد من عائلة سليمان خاطر، على رأسهم عبد الحميد، وعبد المنعم خاطر.

كانت الدعوى موجهة ضد كل من:

1 – رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس السلطة التنفيذية.

2 – وزير الدفاع، القائد العام للقوات المسلحة، والرئيس الأعلى للقضاء العسكري وإدارة المدعي العام العسكري والنيابة العسكرية والسجون العسكرية.

3 – وزير الداخلية، الرئيس الأعلى لهيئة الشرطة وقوات الأمن المركزي.

4 – النائب العام.

ولخصت عريضة الدعوى ما جرى لسليمان خاطر منذ دخوله السجن الحربي حتى البيان الرسمي الذي أعلن انتحاره ...

وأضافت العريضة:

إن أسرة الفقيد طلبت تسليمها جثته بعد توقيع الكشف الظاهري عليها، وبعد إثبات ملاحظاتهم على ما تكشف لهم وجوده في الجثة من إصابات وجراح أو علامات تفيد في الكشف عن حقيقة الحادث لعلمهم المؤكد باستحالة مقارفة الشهيد لجريمة انتحار يرفضها دينه الذي يتمسك به، ولا يبرر مقارفته لها أي مبرر، لسعادته المتناهية فيما أداه من واجب لوطنه، وعدم مبالاته بعقوبة المؤبد، وإعداده لخوض معركة امتحانه في كلية الحقوق ... لكن .. لم يرد أي مسئول على طلب الأسرة، فسعت بكل أفرادها وراء جثة قتيلها التي صادفتها في مشرحة زينهم وصممت على مناظرتها واستلامها بعد إثبات ملاحظتهم فيها ... وتبينت الأسرة أن قتيلها لا تنبئ ظواهر حالة مقارفة انتحار، وكذبت جثته ادعاء وفاته مشنوقا بعدم تدلي لسانه من فمه ووجود الفم مطبقا ولسانه في وضعه الطبيعي خلف الأسنان، ووجد أن كدما رفيعا يحيط رقبته من آثار لفها بسلك معدني، يكذب ادعاء انتحاره بشنقه بملاءة سرير من المشمع على نحو ما زعم بيان الحادث، ووجدت الأسرة أن أظفاره زرقاء تكشف عن قتله بمادة من السميات قبل لف رقبته بدائرة السلك المعدني مما أكد لديهم قتله وعدم انتحاره ...

"وحيث استعمل المعلن إليهم (رئيس الجمهورية ووزير الدفاع ووزير الداخلية والنائب العام) كبير الأطباء الشرعيين في وزارة العدل لإعداد تقرير طبي عاجل عن أسباب الوفاة، فأصدر لهم تقريرا يدين قتيل العائلة بالانتحار، وبادروا بإعلان نتيجة هذا التقرير الذي لا يتفق مع الواقع والحقيقة مما برر لنا وللأسرة تبليغ النائب العام بطلب التحقيق في تزوير محضر معاينة الجثة وإغفال ماديات حالها وإسقاطها، لترتيب النتيجة المزورة عليها، وتوقفت الأسرة عن دفن الجثة بعد استلامها انتظارا لتعيين لجنة طبية محايدة لا تخضع لهوى السلطة ولا تغريها مطامع دنيا لديها، فأمر النائب العام المساعد بالتحقيق وعرض نتيجة التحقيق عليه للتصرف فيها، ثم انصرف سيادته من مكتبه وأمر بعرض الأوراق عليه في صباح اليوم التالي الموافق 9/ 1/ 1986 مما اضطر أسرة القتيل إلى إيداعه في لحده في حراسة من أهله، وليفزعوا إلى القضاء، حصن العدالة، وأمان الحقوق ليقرر لهم – في قضاء مستعجل – ندب أساتذة التشريح في جامعات القاهرة، وعين شمس والأزهر لمعاينة الجثة، وإثبات حالتها الظاهرية وأخذ العينات اللازمة منها للتحاليل والكشوف الطبية، والفنية التي تكشف عن حقيقة الحادث إن كان من القتل أو الانتحار، وليحدد وقت وساعة وتاريخ حصوله والأدوات المستعملة فيه، ومعاينة مكان حصوله وبيان إن كان من الممكن حصوله في الصورة التي ادعتها بيانات الحكومة عنه من عدمه، وعلى وجه العموم اتخاذ جميع الإجراءات التي تفصل فيما يتنازع أهل القتيل والحكومة بشأن حقيقة الحادث الذي لا يجوز أن يترك أمر تقرير الرأي فيه للحكومة ولمن فيها من الذين تحيط بهم أساور المسئوليات الجنائية والمدنية عن الحادث، وجميع آثاره، ويلزمهم القانون تعويض أسرة القتيل عن جميع أضراره، سواء وقع الحادث قتلا أم انتحارا، لأنهم مدينون في الحالين بجميع نوعيات المسئولية لتفريطهم في توفير جميع وسائل أمن وحماية سجينهم في سجنهم وتسهيل قتله أو انتحاره".

وفي يوم الخميس 9 يناير 1986 حكمت محكمة الأمور المستعجلة برئاسة القاضي "أسامة الشناوي" بسرعة ندب الأساتذة رؤساء أقسام التشريح بكليات طب كل من جامعة القاهرة (د. فخري إسكندر) وعين شمس (د. يحيى أحمد يوسف) والأزهر (د. محمد أحمد نور الدين) لمعاينة الجثة مقابل 300 جنيه أتعاب لهم، على أن يقدموا تقريرهم قبل 30 يناير 1986.

وقالت المحكمة في أسباب هذا الحكم: إن هذا الإجراء مقصود منه منع ضرر محقق قد يتعذر تلافيه مستقبلا وذلك بإثبات حق يحتمل ضياعه إذا ترك وشأنه .. إن الحالة المراد إثباتها (جثة) من الحالات القابلة للتغيير السريع والتلف وضياع المعالم بمرور الوقت، كما يصح أن تكون موضوع تداع أمام محكمة أخرى، وإن المقصود منه هو تهيئة دليل عاجل لنزاع آجل ومن ثم يتعين القضاء بإثبات الحالة على الوجه المبين بالمنطوق!

على الفور سارعت المحكمة (ممثلة في إدارة القضايا الخاصة بها) بتقديم استشكال في الحكم تمهيدا للاستئناف .. وتقرر نظر الاستشكال يوم الأول من فبراير 1986، إلا أن محامي أسرة "خاطر" طالبوا بتقديم الجلسة، حتى لا تتلف الجثة وتضيع معالمها ... ووفق على ذلك .. وتقدم موعد الجلسة إلى 13 يناير ... وفي هذه الجلسة بلغ عدد محامي الحكومة 25 محاميا، كان على رأسهم نائب رئيس إدارة قضايا الحكومة .. وحضر الجلسة مع الجانب الآخر 300 محام أثبتوا حضورهم عن أصحاب الدعوى .. ودار بين الطرفين أغرب جدل قانوني شهدته محاكم مصر ...

الحكومة: نبادر إلى إيضاح أن الحكم الصادر بإعادة تشريح الجثة يعد باطلا بطلانا يصل إلى حد الانعدام، لأن الحكومة لم تعلن أصلا بصحيفة افتتاح الدعوى ومن ثم فإن الخصومة لم تعقد ويكون الحكم على هذا النحو قد صدر في غير رخصة!

أسرة خاطر: الإعلان تم للسيد رئيس نيابة قصر النيل شخصيا!

الحكومة: إنه لم يتسلم الأوراق للإعلان وإنما أفاد بضرورة عرض الأمر على السيد رئيس الدائرة المختصة!

أسرة خاطر: إن الإعلان قد وصل إليه، وهذا يكفي.

الحكومة: إن الحكم صدر بندب السادة رؤساء أقسام التشريح بكليات طب كل من القاهرة وعين شمس والأزهر لأداء مهمة التشريح .. ونحن نقرر أن القيام بهذه المأمورية لا يدخل في اختصاص أقسام التشريح وإنما هو داخل في اختصاص أساتذة الطب الشرعي بالكليات.

أسرة خاطر: إن ندب رؤساء أقسام التشريح لا يعني عدم إمكانية الاستعانة بأي خبرات أخرى، وإنما يعني أنهم مسئولون عن التقرير النهائي المطلوب منهم.

'الحكومة: لقد نظرت الدعوى السابقة على هذا الحكم في ميعاد قصير (أقل من ساعة)'!

أسرة خاطر: هذه هي طبيعة هذا النوع من القضايا المستعجلة!

الحكومة: يفهم من طلبات الخصم أنهم يطلبون الكشف على جثة المتوفى تخوفا من حدوث أي تغييرات، في حين أن هذا القول مردود بأن النيابة العسكرية كانت قد انتدبت كبير الأطباء الشرعيين بوزارة العدل الذي قام فعلا بإثبات حالة جثة المتوفى سليمان خاطر وقد دفنت الجثة بقرار قضائي من النيابة العسكرية، الأمر الذي يصبح متعذرا معه التنفيذ بعد أن تم دفن الجثة.

أسرة خاطر: إن الطب الشرعي الذي قام بتشريح الجثة ليس جهة محايدة!

الحكومة: ولا يفوتنا أن نشير في النهاية إلى أن الخصوم لا حق لهم في رفع الدعوى فلا هم أقارب المتوفى سليمان خاطر ولا وكلاء عنهم!

أسرة خاطر: إن الدعوى تضم 19 محاميا بجانب أشقاء سليمان خاطر!

الحكومة: إن هذه القضية منظورة أمام القضاء العسكري وهذا يكفي!

أسرة خاطر: إن القانون العسكري لا يعرف الادعاء المدني ولا يسمح بذلك، وبالتالي فلا بد من القضاء المدني.

نظر استشكال الحكومة القاضي محمد عيد إسماعيل .. جاء القاضي الجديد بعد أن اتهم القاضي أسامة الشناوي بأنه حكم بناء على معلوماته الشخصية التي استمدها من الصحف وأنه أصدر حكمه قبل إعلان من وجهت إليهم الدعوى، وقد رد محامو أسرة خاطر بما يفيد أن الإعلان قد تم فعلا، وطعنوا في الأوراق التي قدمتها الحكومة بالتزوير..

وعندما بدأ القاضي محمد عيد إسماعيل نظر الاستشكال، فوجئ بمحامي الحكومة يدفعون بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى، فتولى هو بنفسه الرد على هذا الادعاء وأبطله..

وفي هذه الجلسة فوجئ محامو سليمان بأن الحكومة قد احتفظت بملف القضية (في التفتيش القضائي) لإعاقة القاضي (الجديد) وهو ينظر الدعوى ... وبالتالي يضطر للتأجيل، فقاموا بإيداع صور الحكم الرسمية لديهم، وجميع المستندات المتعلقة بالقضية وتم تكوين ملف جديد تماما ... وبدأ القاضي في نظر الدعوى ... واستمرت المرافعات .. واشتدت .. حتى فوجئ القاضي بإصابة عبد الحليم رمضان بأزمة صحية فاضطر إلى رفع الجلسة للاستراحة .. وقبل أن ترفع الجلسة نهائيا كان كمال خالد المحامي آخر المترافعين من محامي سليمان فعقد مقارنة بين النتائج التي توصل إليها الطب الشرعي في مصر في حادث سميرة مليان الذي قال بأنها ماتت منتحرة لوجود كسور بالجثة مؤكدا ذلك وبين النتائج التي توصل إليها الطب الشرعي في المغرب والتي نشرت بمجلة الوطن العربي.

وقبل أن ترفع الجلسة نهائيا، عاد محامو الحكومة يتساءلون عن مصلحة المحامين – الخصوم في إعادة تشريح الجثة .. فكان الرد عليهم: وما مصلحة الحكومة في عدم إعادة تشريح الجثة .. إن الحكومة تصر على أن سليمان خاطر انتحر .. وتصر على أن تقرير الطب الشرعي سليم .. فلماذا تخشى إعادة التشريح .. ولماذا تفعل المستحيل لتظل الحقيقة تحت التراب ... إن إصرار الحكومة على هذا الموقف يثير الريبة ويؤكد الشكوك التي تملأ صدور المصريين وغيرهم ... لو كان ما أعلنته الحكومة صحيحا فعليها أن توافق على إعادة التشريح .. وإلا .. يكون هناك كلام آخر!

وكان كلام المحامين هو نفس كلام رجل الشارع ...

لكن ... رغم ذلك كسبت الحكومة الاستشكال، ورفضت المحكمة تنفيذ حكم إعادة تشريح الجثمان! وزاد الهمس .. وزادت الشكوك!

قبل أن تصل الحكومة إلى هذه النتيجة .. اتهمت بأنها مارست ضغطا على الأطباء الذين كلفتهم المحكمة بإعادة تشريح الجثة .. فبعد صدور الحكم مباشرة حضر موظف من إدارة "التفتيش القضائي" لاستلام ملف القضية، وكان الهدف عدم تمكين أسرة سليمان خاطر من الحصول على صورة الحكم وذلك لتؤخر إبلاغ الأطباء الثلاثة به .. لكن المحامين الذين رفعوا الدعوى قاموا بإنهاء كافة الإجراءات، ونسخوا صورة الحكم بأيديهم، وختموها لتصبح صورة رسمية، وذلك دون انتظار قيام قلم "الكتاب" بهذه المهمة .. وحتى لا يضيع الوقت .. وحتى يسدوا كل الطرق أمام الألاعيب المضادة .. وبمجرد أن انتهى المحامون من هذه الإجراءات حضر من استولى على ملف القضية ... وتولى ثلاثة من المحامين الذين رفعوا الدعوى مهمة إبلاغ الأطباء الثلاثة بالحكم تمهيدا لتنفيذه .. فقام شوقي خالد بالتوجه إلى كلية طب الأزهر ... فلم يتمكن من الوصول إليها، وذلك لانتهاء مواعيد العمل الرسمية بالكلية فتوجه بحثا عنه في كل مكان بعدما لم يجده في بيته حتى عثر عليه يتناول طعام الغداء على مأدبة أعدها له صديق بالمطرية، وهناك سلمه صورة من الحكم، ووجد ترحيبا كبيرا من رئيس القسم للقيام بهذه المهمة ووعد الدكتور رئيس القسم بالاستعانة بمن يراه من زملائه من التخصصات الأخرى صالحا لمعاونته وانصرف شوقي خالد بعد وعد منه بوضع خطة عمل للبدء في المهمة.

وقام عبد العزيز الشرقاوي المحامي بتسليم رئيس قسم التشريح بكلية طب عين شمس صورة الحكم في نفس يوم الخميس ووعد رئيس قسم التشريح بالمشاركة في المهمة بعد استئذان عميد الكلية في يوم السبت، وفي يوم السبت تصدى العميد للأستاذ الشرقاوي وأعلن برفضه اشتراك أي أستاذ في هذه المهمة لأن لديه تعليمات حكومية بذلك.

وفي جامعة القاهرة قامت منى عبد الحليم رمضان بتسليم عضو اللجنة رئيس قسم التشريح صورة الحكم ولكن تدخل الدكتور هاشم فؤاد وأكد على عدم مشاركة الأستاذ في هذه المهمة وكانت جامعة القاهرة أول من اعتذرت عن المشاركة في اللجنة.

... ثم تلاحقت باقي الاعتذارات .. على أن صحيفة "الشعب" عندما سألت الدكتور يحيى يوسف رئيس قسم التشريح بطب عين شمس عن سر اعتذاره هو وزملائه ..

قال: أنا لم أعتذر ولم أعلم شيئا عن هذا الاعتذار إلا من أحد زملائي الذي فاجأني بتفسير عن الاعتذار .. وكانت مفاجأة لي .. وقمت على الفور بطلب زميلي في الأزهر والقاهرة .. فعرفت أنهما فوجئا مثلي تماما بالاعتذار .. ونحن لم نعلم بخبر اعتذارنا إلا من الجرائد ..

وأضاف: أنا ليس لدي أي مانع إطلاقا لو أعيد تكليفي من قبل المحكمة بهذه المهمة بشرط أن يأتي هذا التكليف عن طريق رسمي بواسطة المحضر .. وذلك حتى لا يكون هناك مجال للشك .. وأنا أقول هذا رغم ظروف المرضية! ! انتهى ما قاله الرجل ... ليصبح السؤال .. من الذي اعتذر بالنيابة عنه وعن زملائه؟

ثم .. لماذا تفعل الحكومة كل ذلك إذا كانت متأكدة أن سليمان خاطر انتحر ولم يقتل؟

"أكياد" تحت الحصار!

  قبل منتصف الليل بساعة واحدة، تسلمت أسرة "خاطر" جثمان ابنها سليمان، من مشرحة "زينهم" تمهيدا لنقله إلى قريته، ليدفن هناك إلى جوار أبيه وعمه ..

إن بالقرب من المشرحة في ذلك الوقت كان عدد من السيارات الملاكي والأجرة والميكروباس لا يقل عن 18 سيارة .. جاءت هذه السيارات من قرية سليمان لتعود بجثمانه إلى هناك ...

لكن .. القلق الذي سيطر على رجال الأمن الذين حاصروا منطقة زينهم، جعلهم لا يسمحون لهذه السيارات بالاقتراب من بوابة المشرحة .. وجعلهم يماطلون في إعطاء أهالي سليمان تصريحا بالتحرك والسفر .. حتى الساعة الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي ... وبعد ساعتين ونصف من استلام الجثمان .. وبعد أن ارتفعت الأصوات بالتذمر والغضب ..

نقل جثمان سليمان في سيارة إسعاف تتبع إحدى شركات المقاولات الكبرى التي يعمل فيها شقيقه عبد الحميد، التي تحركت وسط عربات الأمن، وعربات أهالي أكياد، وكان الطريق إلى أكياد مزروعا برجال الأمن المركزي .. ولم يكن الطريق الذي سلكه موكب الجثمان طريقا معتادا .. كان مختلفا عن الطرق التي يسلكها الناس بسهولة إلى قرية أكياد ...

قبل الخامسة صباحا بقليل اقترب الموكب من مدخل أكياد الرئيسي، حيث كوبري يسمى بكوبري "الصحارة" .. عند هذا الكوبري بدت قوات الأمن المركزي بالآلاف وهي تحاصر القرية، وتمنع الدخول إليها ... ويبدو أن أهالي القرية الذين يحملون جثمان سليمان قد استفزهم هذا المشهد، فاندفعوا بسياراتهم دون توقف إلى قلب القرية، رغم البنادق المرفوعة في يد الجنود، ورغم النداءات المتكررة من الضباط ومفتشي المباحث.

ويبدو أن وزارة الداخلية كانت تتوقع انفجار غضب الناس في القرية، فقامت بترحيل نقطة الشرطة بأسلحتها ورجالها ومساجينها في الحادية عشرة صباحا، قبل إذاعة النبأ بساعات .. وقد صدق توقعها .. فبعد إعلان النبأ مباشرة، خرج أهالي القرية في الشوارع في حالة هياج شديد .. وأحرقوا مقر نقطة الشرطة وحطموا أثاثها وجدرانها .. وقطعوا الطرق المؤدية إلى القرية وخطوط السكك الحديدية وأعمدة البرق والتليفون .. وأشعلوا الحرائق في مقار الجمعيات التعاونية الزراعية، وراحوا يهتفون: "همه يقولوا عليه مجنون واحنا نقول ما قدرش يخون".

ولم تنم القرية "12 ألف نسمة" ليلتها.

وفي الساعة الخامسة صباحا .. دخل موكب الجثمان القرية .. كانت أم سليمان وخالاته وعماته وباقي نساء القرية يجلسن على جانب من الطريق الأسلفتي .. وعلى الجانب الآخر كان يجلس الرجال .. وقد هبوا جميعا عندما أبلغهم الشبان الذين كلفوا بمراقبة الطرق بأن موكب الجثمان قادم ...

دخل الجثمان بيت الأسرة، ولف بعلم مصر، ثم خرج في جنازة لم يتخلف عنها أحد في القرية .. وفي مسجد "أبو قوبة" بالقرية صلوا عليه، ثم سارت الجنازة في معظم شوارع القرية ... ولم تكن جنازة في الواقع وإنما كانت مظاهرة سياسية، أحرقت فيه الأعلام الإسرائيلية، وانطلقت فيها الهتافات الفورية .. "سجل، سجل يا زمان .. إن البطل هو سليمان" .. "عهد الله، عهد الله علينا ... تار سليمان جوه عينينا". .. وهتافات أخرى ضد الحكومة وإسرائيل وأمريكا .. وغيرهم ...

كان يتقدم الجنازة أشقاء سليمان وأقاربه .. وعند المقبرة تقدمت أمه بقوة وصلابة، لتودع ابنها إلى مثواه الأخير .. ورفضت الأسرة إقامة سرادق العزاء ... ورفضت أن يشارك في الجنازة أي مسئول حكومي واحد .. وهدد أهالي القرية بقتل كل من يتجرأ ويدخلها بالفئوس والعصي ..

وفي المساء عقد مؤتمر سياسي، تحدث فيه أبناء القرية، وأصدقاء سليمان، وعدد من السياسيين الذين تمكنوا من دخول القرية رغم الحصار .. وكان أهم ما قيل في هذا المؤتمر: "إن جريمة قتل سليمان لن تمر ولا بد من الثأر له".

في ذلك اليوم ... ولمدة طويلة ... لم يكن للقرية حديث إلا سليمان خاطر .. لقد رفضت القرية أن يكون ابنها قد انتحر .. وراحت تعبر عن هذا الرفض بقصص وملاحظات واستنتاجات لا حد لها ...

قالت الأم: ابني اتقتل علشان ترضى عنهم أمريكا وإسرائيل".

وأضافت: "آخر مرة شفته كان في حالة طيبة وبيضحك معنا وأخذ يلاعب أولاد أخيه الصغار" .. و "آخر مرة شفته أكد لي أنهم لازم يخففوا الحكم عليه، لأنه ما رضيش يذيع أسرار هو كان عارفها ووعدوه إنه لو ما اتكلمش يخففوا الحكم عليه".

وقال زاهر عبد الله ابن عمة سليمان ورفيق صباه: "مستحيل أن يكون سليمان انتحر .. إنه مؤمن بالله .. ويؤدي الصلوات .. والمؤمن لا ينتحر أبدا".

وقال ابن خاله: "حمدي عبد الله: "لقد تفانت الحكومة في حماية البكوش ثم قدمت رأس سليمان هدية فشنقوه".

أما شقيقة سليمان "سعدية خاطر" فقد جاءت من قرية "أبو بكير" – تتبع محافظة الشرقية ، أيضا – حافية القدمين وهي تحتضن طفلها .. لقد رفضت أن تصرخ أو تنتحب .. وانتابتها حالة من الصمت الغريب ورفضت أن تتحدث إلى أي إنسان:

بعد حادث وفاة سليمان خاطر .. لم تتحرك قريته بمفردها .. وإنما كان معها، مصر كلها .. تقريبا، كان الحادث .. أكثر الموضوعات سخونة التي كان الناس في كل مكان يتحدثون فيها وكان رد فعل الحادث أكثر مما كان متوقعا .. خاصة بين الشباب .. وطلاب الجامعات .. وطلاب المدارس الثانوية الذين تركوا مقاعد الدرس، وخرجوا إلى الشارع، لأول مرة منذ سنوات طويلة .. طويلة ...

أمام مدرج السنة الرابعة بكلية حقوق عين شمس، تجمع أكثر من 5 آلاف طالب وطالبة وتوجهوا – في مسيرة سلمية – إلى مقر إدارة الجامعة، مرددين: "يا عملاء الأمريكان .. سليمان خاطر غسل العار" .. "سيبوا الشعب ياخد التار .. الصهيوني ده غدار" .. وعندما أذن لصلاة الظهر . أقاموا صلاة الغائب على روح سليمان خاطر .. ثم عادوا إلى الهتافات من جديد .. وطالبوا رئيس الجمهورية بمحاكمة جميع المسئولين عن مصرعه .. وطالبوه بإلغاء اتفاقيات كامب ديفيد وإلغاء قوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية وتطهير مصر من اللصوص والطفيليين ومصادرة أموالهم، وقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ..

وأضافوا إلى هذه المطالب: إلغاء الحرس الجامعي واللائحة الطلابية "لائحة عام 79" التي تضايقهم ... كان ذلك في اليوم التالي لوفاة سليمان خاطر ..

وفي اليوم الذي بعده .. ارتفع عدد المتظاهرين إلى 7 آلاف .. وارتدوا زي الحداد .. وحملوا صور سليمان خاطر .. ورفعوا اللافتات السوداء التي كتبوا عليها أسخن الشعارات السياسية .. وفي هذا اليوم قبض على 40 طالبا من جامعة عين شمس فقط.

وبعد يومين آخرين ارتفع الرقم إلى 10 آلاف .. وحاول الطلبة والطالبات الخروج إلى الشارع .. لكن المحاولة فشلت بسبب حصار قوات الأمن المركزي للمنطقة ...

في جامعة القاهرة .. تجمع 5 آلاف طالب في اليوم التالي للوفاة – وعقدوا مؤتمرا كبيرا في قاعة الاحتفالات بالجامعة .. نددوا فيه بالبيان الرسمي الذي أعلن أن سليمان خاطر انتحر .. وعندما حاولوا الخروج إلى الشارع فوجئوا بحوائط من البشر والدروع أقامها رجال الأمن المركزي ..فعادوا إلى الحرم مرة أخرى .. وراحوا يهتفون: "التار التار يا سليمان من بيريز إلى ريجان" .. "المعقول المعقول إن سليمان مات مقتول" .. "اللي بيرفعوا الأسعار قتلوك يا سليمان" .. "سليمان خاطر قالها في سينا .. قال مطالبنا وقال أمانينا".

وفي ذلك اليوم أيضا وقعت مفاجأة لم تكن في الحسبان ... "أصدر طلاب مدرسة ثانوية خاصة "مدرسة قصر النيل الخاصة" بيانا .. جاء فيه: "إن نار الغضب التي تغلي في قلوب المصريين والتي تجسدت في المظاهرات التي قامت دفاعا عن كرامة الوطن، سواء تلك التي قامت منذ حادث الطائرة المدنية وحادث الغارة الإسرائيلية على مقر المنظمة في تونس وكذلك دفاعا عن الجندي المصري سليمان خاطر، سببها أن السياسة الحاكمة تهدف إلى إرضاء أمريكا وإسرائيل إكمالا لسياسة السادات ومسيرته الرجعية "الاستسلامية".

ولم يكن هذا البيان مفاجأة طلاب الثانوي الوحيدة ... فقد فصل 13 طالبا منهم، من مدرسة "اتميده" الثانوية "مركز ميت غمر" بعد أن قاموا بمسيرة سلمية احتجاجا على موت سليمان خاطر .. وانضم عدد كبير منهم (في منطقتي الحدائق والعباسية بالقاهرة) إلى طلاب جامعة عين شمس في مظاهراته .. وفي منطقة "شبرا" أحاطت قوات الأمن بالمعاهد الصناعية والتجارية وأنهت الدراسة قبل أن تبدأ.

في جامعة الأزهر كانت المظاهرات أكبر .. أكثر من 10 آلاف طالب طافوا بالحرم الجامعي، منددين بوفاة سليمان خاطر، متهمين المخابرات الصهيونية والأمريكية بقتله .. وكانوا يرددون: "سليمان خاطر يا شرقاوي .. دمك فينا حيفضل راوي" .. "شيخ الأزهر فينك فينك وأنت شايف الظلم بعينك" ..

حاصرت الجامعة، قوات الأمن، وحاصرت ميدان الحسين، وهنا انضم للطلاب عدد من الأهالي، وحاولوا جميعا الخروج إلى الشارع لتأدية صلاة الغائب .. لكن قوات الأمن استطاعت تفريقهم .. وأجبرتهم على دخول كلياتهم، ثم زحفت وراءهم واقتحمت الحرم الجامعي ودخلت معامل ومدرجات كليات الزراعة والعلوم وقامت "بإجلاء" الطلاب بالقوة وأنهت الدراسة دون إحم أو دستور.

في جامعة الإسكندرية وقعت مظاهرة مشابهة .. نفس الأعداد .. نفس الأساليب .. ونفس طرق مقاومتها .. لكن كانت الشعارات مختلفة: "اللي ما خانك أنت يا مصر حيشنق نفسه في يوم النصر" .. "صوت رصاصك يا سليمان سمع مصر في كل مكان" .. "مصر الصابرة على المخاطر قادرة تطلع مليون خاطر" .. "سليمان خاطر مات مقتول مات علشان ما قدرش يخون" .. "سليمان خاطر قالها قوية الرصاص حل القضية" ...

وفي جامعات أخرى من مصر كان نفس رد الفعل ..

وفي أماكن أخرى من مصر كانت هناك ردود فعل أخرى ...

من نقابة المحامين خرج بيان من مجلس النقابة إلى "الشعب المصري" نعى سليمان خاطر الذي وصفه البيان بأنه "أخلص" أبناء مصر "الذي ذهبت روحه فداء لكرامة مصر ودفاعا عن دورها النضالي في الوقت الذي حاول المرجفون تشويه تلك الصورة العظيمة، والتي سيظل التاريخ يرددها فخرا واعتزازا كرمز للصمود والتصدي للمعاهدات الاستسلامية" .. ورفض البيان كافة "الإجراءات والمحاكمات الاستثنائية" التي جرت لسليمان خاطر، وقال: إن النقابة تضع الدولة في مواجهة مسئوليتها أمام ذلك الحادث المروع وتهيب بكل المعنيين كشف النقاب عن غموضه ووضع الحقائق كاملة أمام الشعب.

ودعت اللجنة القومية للدفاع عن سليمان خاطر إلى اعتبار يوم الجمعة 17 يناير هو يوم الحداد القومي على سليمان خاطر .. واقترحت أداء صلاة الغائب على روحه في ذلك اليوم، في كافة المساجد العربية من المحيط إلى الخليج وأن تدق أجراس الكنائس وترتدي النساء العربيات ملابس الحداد.

وقال البيان الذي صدر من اللجنة يوم 13 يناير 1986: "ليكن حدادنا على سليمان خاطر صلاة لله وللوطن وللأرض التي ما زالت منتهكة ومغتصبة وفرصة للتأمل العميق في المعاني الجليلة والنبيلة التي فجرها الشهيد حيا وميتا".

وقال البيان: إن اللجنة تشارك جماهير أمتها رغبتها الجارفة في أن تتيقن من حقيقة الظروف التي انتهت إلى استشهاده بما يقطع الشك باليقين.

لذلك .. "تطالب اللجنة بتشكيل لجنة محايدة من ممثلين للأحزاب والهيئات والمنظمات الجماهيرية، يتاح لها في مناخ حر أن تتقصى بنفسها ومجتمعة الظروف والملابسات التي أدت إلى هذه الفاجعة الأليمة حتى يتأكد الرأي العام بأن الذين كانوا يضغطون من أجل رأس سليمان خاطر لم يدركوا بالذات أو بالوساطة.

"وفي الحد الأدنى وطبقا للقانون المصري الذي يعتبر صيانة وحماية حياة كل من تقيد حريته مسئولية .. جريمة القتل العمد ... فإن اللجنة تطالب بوقف كل المسئولين عن هذا الإهمال مهما كانت مكانتهم أو علت مراكزهم .. حتى نهاية التحقيق".

وطالب المهندس إبراهيم شكري بنفس الطلب .. تشكيل لجنة تحقيق "قومية" على أعلى درجة من الحياد والموضوعية .. وقال: "إن المقصود بذلك اطلاع الرأي العام على ما حدث .. بشرط أن يقوم بالتحقيق أشخاص نثق في حيادهم، لا أشخاص يمكن أن يكونوا ضالعين في الحادث".

واقترح فؤاد سراج الدين أن تكون اللجنة "قضائية" .. وقال: إن تشكيل هذه اللجنة "سوف يعيد الطمأنينة إلى نفوس الشعب ويزيل كل شك حول الحادث الذي أثار موجة من الشائعات الخطيرة والتي انتشرت بشكل غير عادي وتحولت إلى شبهات وشكوك بين المصريين جميعا .. إن هذا الأمر أدى إلى إحداث بلبلة شديدة الخطورة في الرأي العام المصري وهي حالة تهدد النظام والأمن بأفدح الأضرار".

وفيما بعد .. لم تأخذ الحكومة بأي اقتراح من هذه الاقتراحات!

وتضاعف حجم ردود الفعل ... في 9 يناير 1986 أصدر مجلس نقابة الأطباء قرارا بالاشتراك في أي تحقيق يمكن أن يتم في هذا الحادث. وفي نفس اليوم أصدرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان (التي يرأسها فتحي رضوان) بيانا حملت فيه الحكومة المصرية مسئولية مقتل الشهيد سليمان خاطر لأنه منذ القبض عليه وحتى وفاته كان وديعة في يد السلطة التنفيذية وهي كانت تعلم جيدا أن سليمان خاطر كان هدفا لجهات تريد التخلص منه ومنها (إسرائيل) التي كانت تريد إعدامه.

وبناء على طلب عبد الحليم رمضان المحامي رشحت منظمة العفو الدولية اثنين من أطبائها المتخصصين في التشريح للمشاركة في إعادة تشريح جثة سليمان خاطر .. وقررت المنظمة أن تتحمل كل المصاريف .. لكن القرار لم ينفذ بسبب رفض القضاء إعادة تشريح الجثة.

ومن سجن "طرة" تسرب خطاب إلى رؤساء الصحف المعارضة، وقع باسم "المجاهدون الأسرى" .. تحدث فيه المعتقلون من الجماعات الإسلامية عن الإهانات التي يتعرضون لها في السجن، ثم حملوا الحكومة المصرية مسئولية "قتل سليمان خاطر" .. ثم عادوا يتحدثون عن متاعبهم في السجن من جديد:

وفي يوم وفاة سليمان خاطر .. أقامت السفارة (الإسرائيلية) لأعضائها وأصدقائها حفلا كبيرا تبادلوا فيه الأنخاب .. وبعد أن أذاع راديو (إسرائيل) الخبر، قدم أغنية أم كلثوم "الليلة عيد" .. وهي الأغنية التي كان لا يتوقف عن إذاعتها بعد هزيمة يونيو، ووفاة عبد الناصر، وثغرة أرييل شارون!

من القاتل؟ !

من المستفيد من قتل سليمان خاطر؟

إن الذين يفتشون في جرائم القتل – التي يختفي فيها القاتل – يفتشون عادة عن المستفيد من الجريمة .. فمن من مصلحته اختفاء سليمان خاطر من على وجه الأرض؟

السؤال وجيه .. لكن .. الإجابة صعبة ... ولا تزيد على كونها نوعا من التكهنات والتخمينات .. على أن ذلك لا يمنع من الاقتراب .. والمحاولة ...

هناك من يتهم الإدارة المصرية بقتل سليمان خاطر ... وهؤلاء يقيمون اتهامهم على أدلة لا يستهان بها ... ولا يمكن التقليل من شأنها .. وخاصة أن الإدارة المصرية لم تتطوع بالرد عليها .. أو حتى بالدفاع عن نفسها ..

1 – إن سليمان خاطر قد اتهم كل الضباط والقواد في جنوب سيناء بالتعامل مع العدو (الإسرائيلي)، ولم يستثن منهم – كما عرفنا من قبل – سوى ضابطين ليسا من أصحاب الرتب الكبيرة ... وطلب سليمان من المحقق العسكري – كما عرفنا من قبل أيضا – أن تمشي المخابرات المصرية وراءهم وتعرف أين يذهبون، ومع من يتعاونون، ويتعاملون؟

2 – إن سليمان خاطر كان بحكم موقعه وعمله يعرف الكثير من الأسرار الهامة التي يعرض (البوح بها) العلاقات مع الحكومة (الإسرائيلية) إلى مزيد من القلق والتوتر.

3 – إن الإفراج عن سليمان خاطر كان مطلب مختطفي الطائرة المصرية التي اقتحمها الكوماندوز المصريون في مالطا، والتي كانت كارثة بحق .. وهذا يعني أن وجوده على قيد الحياة سيكون فرصة للقيام بمثل هذه الأعمال التي تحرج الإدارة المصرية وتضعها في مواقف صعبة جدا ...

أي أن هناك ضباطا كبارا كشف سليمان خاطر سترهم، من مصلحتهم التخلص منه .. وهناك آخرون يرون أن يعرف أكثر مما يجب ومن الطبيعي التخلص منه ... وهناك أخيرا الخوف من أن يكون وجوده في السجن لمدة 25 سنة فرصة للقيام بأعمال فدائية مضادة، تحرج الإدارة المصرية وتورطها فيما لا تحتمله، ولا تقدر عليه ..

ويدعم أنصار هذا الاتهام، موقفهم بقصة هروب سليمان خاطر من سجن فنارة العسكري الذي كان محبوسا فيه على ذمة المحاكمة ...

ففي مساء ديسمبر 1985 (قبل النطق بالحكم بأربعة أيام) فوجئ سليمان خاطر بمجموعة من الرجال تقتحم زنزانته وأخبروه أنهم جاءوا لإنقاذه من الإعدام الذي ينتظره وفتحوا له كل الأبواب ليجد الحراس جميعا نياما بما فيهم قائد سرية الشرطة العسكرية ...

وقالوا له: كل شيء جاهز لهروبك من السجن .. وما عليك إلا أن تختار البلد الذي تحب أن تذهب إليه!

وأعطوه مسدسين محشورين بالطلقات .. وأصاب الذهول سليمان .. ثم .. صرخ فيهم: لا لن أهرب .. لم أفعل ما يجعلني أهرب!

فاضطروا للانصراف!

وفي اليوم التالي علمت قيادة الجيش الثالث "الميداني" بالواقعة، فوقعت الجزاءات على قوة الحراسة ونقل قائدها وأحضروا بدلا منها عدة سرايا من قوات الشرطة العسكرية ودبابتين ...

وفيما بعد .. قال سليمان خاطر لشقيقه عبد المنعم: لقد كنت أدرك أن ما فعلته هو واجبي وليس أكثر، كما أن هروبي سيعرض الجنود والضباط المسئولين عن حراستي لعقوبات شديدة وأضرار لا أحب أن أسببها لهم.

ويرى الذين يتهمون الإدارة بقتل سليمان خاطر أن هذه المحاولة لهروبه من سجن عسكري "ليست لوجه الله" .. وليست "حسنة النية" .. إذ من الصعب أن يدخل أحد السجن ويخرج منه بهذه السهولة .. ويرون أن هذه المحاولة كانت متعمدة، فإذا ما استجاب قتلوه .. وقالوا: إن قتله كان طبيعيا لأنه كان يحاول الهرب!

وضاعف من هذا الشك أن الحكومة لم تعلق على هذه الرواية!

لكن .. أنصار الإدارة يردون على اتهامها بقتل سليمان قائلين:

1 – لو كانت الإدارة هي التي قتلته لكان من الأفضل لها أن تحكم عليه بالموت وتعدمه! !

2 – لو كانت الإدارة تريد قتله لما تسرعت واختارت وقتا كانت فيه مشاعر الرأي العام مشدودة بهذه القضية!

ويرد على هذا الكلام، بأن الإدارة المصرية كانت تشعر بضغوط الحكومة (الإسرائيلية) بسبب هذا الموضوع، وإن هذه الضغوط كانت مدعمة من "الأمريكان" بصور عسكرية واقتصادية مختلفة، كانت أكبر من أي حسابات للرأي العام .. كما أن القول بأنها كانت قادرة على إعدامه بالقانون وبحكم المحكمة هو قول مهين لها، ويتهمها بالتدخل في شئون القضاء ويجعلها تفرض عليه ما تريد .. أي عذر أقبح من ذنب!

وهناك من يتهم الموساد (الإسرائيلية) بقتل سليمان خاطر .. وهؤلاء برأوا الإدارة المصرية من التهمة بالطبع، وألبسوها (للإسرائيليين) ...

وهؤلاء يقولون: إن (إسرائيل) قامت بهذه العملية عن طريق عملاء لها ولجهاز مخابراتها "الموساد" داخل الإدارة المصرية .. وليس من الصعب بالطبع تصور وجود عملاء للموساد في الحكومة المصرية .. وآخر دليل على ذلك تسرب خط سير الطائرة المصرية التي أقلت خاطفي الباخرة "اكيلي لاورو" إلى الأمريكان و (الإسرائيليين)، الذين رسموا – في ساعات – عملية خطفها وإجبارها على الهبوط والقبض على الخاطفين الفلسطينيين وتسليمهم للسلطات الإيطالية .. بما في ذلك المناقشات التي دارت حول هذا القرار على أعلى مستوى في مصر.

ويدعمون اتهامهم بأكثر من دليل:

1 – إن (إسرائيل) لم يعجبها الحكم الذي صدر على سليمان، وكانت تعتبر الحكم المناسب .. القتل! !

2 – إن (إسرائيل) تعودت الانتقام في مثل هذه الحالات ... فمثلا .. في مقابل قتل 3 من السياح (الإسرائيليين) في قبرص، شنت الغارة على مقر [[منظمة التحرير الفلسطينية]] في تونس .. ومثلا .. في مقابل عملية فدائية بسيطة في الأرض المحتلة كانت تبيد القرى والمعسكرات التي يعيش فيها العرب في لبنان والضفة الغربية والقدس الشرقية.

3 – إن (إسرائيل) اعتبرت موت سليمان خاطر عقبة وأزيلت في مسار العلاقات مع الحكومة المصرية ... وقال "عزرا شيرال" المعلق السياسي براديو (إسرائيل): "أنه شيء طبيعي أن المجرم القاتل سليمان خاطر يأخذ جزاءه، ومن الطبيعي أن تسطع شمس العلاقات الطيبة بين البلدين بعد هذه الغيوم التي سببها" .. وقال "شمعون شامير" المستشرق بجامعة "تل أبيب" .. "لقد أدى انتحار القاتل إلى موجة من المظاهرات ضد النظام المصري ... أما بالنسبة لتأثير هذه الأحداث على علاقات الدولتين فمن جانب يمكن أن نتوقع انتهاء هذه المرحلة السيئة التي مرت بها هذه العلاقات، فلولا أن انتحر هذا الشخص لاستمرت القضية في إشعال الحياة الداخلية في مصر لعدة سنوات طويلة .. طول مدة بقائه في السجن، ولاستمر التوتر في العلاقات بسبب موقف المعارضة المصرية من هذه القضية التي ربطتها بالسلام والتطبيع معنا، لأنها حولت سليمان خاطر إلى بطل قومي" .. ثم قبل هذا كله، ما صرح به "شامير" بأن موت سليمان خاطر أزال عقبة من ثلاث كانت بين الحكومتين المصرية و (الإسرائيلية) .. وحدد العقبتين الأخريين – كما عرفنا – بأنهما عودة السفير المصري إلى (إسرائيل) وحل مشكلة طابا .. أي أن موت سليمان خاطر كان مطلبا (إسرائيليا) قويا وملحا .. ولم تمر أيام قليلة على موت سليمان خاطر، حتى قبلت الحكومة (الإسرائيلية) مبدأ التحكيم لحل مشكلة طابا بعد 45 شهرا من المفاوضات والرفض، وكان ذلك في إطار ما سمي "بالصفقة الشاملة بين الحكومتين!

إن من المؤكد أن (إسرائيل) لها مصلحة في التخلص من سليمان خاطر .. ومن المؤكد أن المرء لا يستغرب أن تفعل (إسرائيل) ذلك .. بلا تردد .. وبهذه السرعة .. وذلك من باب إثبات الذات .. واستعراض القوة .. والتأكيد على أن ذراعها الطويلة ممتدة إلى كل مكان .. ولم تقطع بعد!

لكن ... هذا الاتهام الذي يشير إلى الموساد، أخطر – مليون مرة بلا شك – من الاتهام الذي يشير إلى الإدارة المصرية .. لأن معنى ذلك أن هناك عملاء للموساد داخل الإدارة المصرية سهلوا عملية القتل داخل ثكنة تتبع وزارة الدفاع، هي السجن الحربي، وعنى هذا أيضا أن هناك درجة كبيرة من التسيب والإهمال أدت إلى ارتكاب هذه الجريمة ... إن هذا الاتهام يحمل الإدارة المصرية كميات من الإهانة أكبر من الاتهام بأنها هي القاتل! !

وقد استفز هذا الاتهام الرئيس "حسني مبارك" بالفعل ...

فقال: لقد حزنت على مسلك المعارضة التي غاب عقلها، إلى حد أن تروج بين الناس أن "الموساد" هي التي قتلت سليمان خاطر وإذا لم تكن الموساد فلا بد أن يكون هناك في مصر من أراد أن يتخلص منه.

"إن كان اقتناع المعارضة أن الموساد قد استطاعت التسلل إلى السجن الحربي لتقتل سليمان خاطر في زنزانته، إن كانت قناعتهم أن مصر تعجز عن أن تحمي سجينا في زنزانته، إن كان تفكيرنا قد وصل إلى هذا المنحدر فقل على الجميع السلام".

"لقد كنت أثق ولا أزال في أن حرب 1973 قد نفضت عن نفوسنا، عقدة الذنب والشعور بالنقص إزاء (الإسرائيليين) وجيشهم الذي لا يقهر ولكن يبدو أن البعض يريد أن يأخذنا مرة أخرى إلى ما قبل 1973، إلى مرارة النكسة ونفسية الهزيمة".

على أن الرئيس مبارك لم ينكر احتمال "الاعتداء على سليمان خاطر في سجنه من قبل الموساد أو غير الموساد" كان واردا في "خطة تأمين سليمان خاطر في سجنه".

وكانت هذه الخطة – على حد قول مجلة المصور – تضع في اعتبارها تأمين سليمان خاطر ضد أي محاولة تجري لاقتحام السجن الحربي بهدف اختطافه ... "كان هناك سرية حراسة كاملة ترابط ليل نهار في فناء المستشفى تحسبا لاحتمال إنزال هليكوبتر في المكان لاختطاف سليمان أو إحداث الضرر به".

أي أن هذه الخطة وضعت على أساس أن (إسرائيل) يمكن أن تقوم بعملية عسكرية لقتل سليمان أو لخطفه .. لكن .. ما نشر عن خطة التأمين والحراسة، لم توضح ما إذا كان في حسبانها أن تتسلل (إسرائيل) بوسيلة أخرى إلى داخل الزنزانة أم لا؟ !

وخاصة أن أسلوب التسلل يبدو طبيعيا أكثر من أسلوب القيام بعملية عسكرية .. أو التحليق بطائرة هليكوبتر! !

وعندما سئل الرئيس مبارك عن اتهام الدولة بقتل سليمان خاطر، قال:

"وهل من المعقول أن يقوم أحد بقتله وأنا لا أعرف؟ ولو أن شخصا صدر إليه أمر بقتل سليمان خاطر فمن المؤكد أنه كان سيقول وكان سيبلغ، فليس من السهل أن تأمر أحدا بقتل أحد فيقتل" !

ولم يعلق أحد على هذا الرد! !

لم ينف الذين أكدوا أن سليمان خاطر قتل احتمال أن يكون انتحر ... أو بدقة أكثر لم ينفوا أن يكون قد استنحر .. أو دفع إلى الانتحار ! !

بمعنى أوضح .. هيأوا له كل ما يمكن أن يؤدي به إلى الانتحار .. وهذا بالتأكيد من الأمور التي – جعلتها ثورة علم النفس الحديث، وثورة العلم المتطور في أجهزة المخابرات - مسألة بسيطة للغاية .. وذلك بأقراص معينة .. أو بحقن معينة، تعطى له بدلا من حقن العلاج من البلهارسيا .. أو بواسطة خبراء نفسيين، مدربين على التأثير والتحكم في النوازع والقرارات البشرية وتوجيه هذه النوازع والقرارات في اتجاه الموت .. انتحارا ...

ويتساءل "صلاح عيسى" في صحيفة الأهالي بعد الحادث:

"ومع أن احتمال قيام سليمان خاطر بالانتحار في رأي دوائر محدودة من المراقبين والرأي العام – هو احتمال وارد بسبب طبيعة شخصيته الفائقة الحساسية ومشاعره الوطنية الأقرب إلى الشطحات الصوفية – إلا أن ذلك في رأي آخرين لا يمكن أن يكون قد حدث إلا بتهيئة الجو النفسي له بما يدفعه للانتحار وهي من العمليات التي تتقنها أجهزة المخابرات ...

فهل أوهم سليمان بأنه قد أضر بوطنه وأن اختفاءه تضحية وطنية ينبغي أن يقوم بها بنفسه؟ ..

هل استغل خبراء نفسيون مدربون نوازع الفداء والعطاء التي كانت تملأ روح هذا الشاب العجيب لينفذ بنفسه إرادة شامير وغير شامير؟ ..

وهل كان الإهمال الجسيم، وهو الحد الأدنى المتفق عليه بين الجميع، متعمدا أو غير متعمد؟ ..

وتبقى الإجابة في بطن الغيب! !

وتعترف الإدارة المصرية أن سليمان خاطر قد قتل .. لكنها .. تقول أيضا إن الذين قتلوه هم الذين صنعوا منه بطلا رغم أنفه .. وكانت تقصد بذلك – بالطبع – المعارضة .. التي أعطته – حسب ما رددته الصحف الحكومية – حجما أكبر من حجمه، فلم "يتحمل نسيجه النفسي كل هذه الضجة التي صنعوها من حوله" فاندفع إلى الانتحار .. "إن هذا الفتى الصغير بعمره الغض وتجربته المحدودة" لم يتحمل "كل هذه الأعباء الجسام" .. فأجهز على نفسه ...

وبلور هذا الاتهام الرئيس حسني مبارك، حين قال: إن سليمان خاطر كان ضحية الذين أرادوا أن يستثمروا قضيته!

باختصار .. ردت الإدارة إلى المعارضة نفس التهمة .. تهمة قتل سليمان خاطر..

لكن .. أدلة الإدارة كانت أضعف من أدلة المعارضة ..

أدلة الإدارة نوع من الخواطر وأدلة المعارضة نوع من الحقائق ..

ويبقى السؤال: أليس تحويل سليمان خاطر إلى بطل يعطيه الدافع للاستمرار ولا يدفعه إلى الانتحار؟

ويبقى السؤال: إذا كانت الإدارة متأكدة من أن سليمان خاطر قد انتحر، فلماذا تصر على أن لا تعيد تشريح جثته؟ !

وتبقى أسئلة وأسئلة لن يتوصل أحد إلى إجابة عليها .. ربما .. حتى ولو بعد عمر طويل! !

بقيت علامات الاستفهام الكبيرة حول وفاة سليمان خاطر مثار جدل كبير في الشارع ... على المقاهي ... في مدرجات الجامعات .. وفي الصحف الحزبية ..

لكن ... هذا الجدل سرعان ما راح يخفت تدريجيا .. ليحل بدلا منه الخوف على التجربة الحزبية والسياسية والديمقراطية، الوليدة في مصر ...

ففي الحوار الذي أجرته مجلة المصور مع الرئيس "مبارك" بمناسبة ردود فعل المعارضة حول وفاة سليمان خاطر، هاجم الرئيس "مبارك" المعارضة بعنف .. وبدا كما لو كان قد فقد حلمه وأعصابه ..

وقال: أعتقد أن مصر لم تعد تتحمل المزيد وأن الحكم لم يعد يطيق .. وإن كنت قد تحملت الكثير فهناك غيري لا يتحمل .. إن الحكم ليس فقط شخص رئيس الجمهورية، الحكم مؤسسات ودولة ومناخ واتفاق على المصالح القومية.

وقال: إن لكل شيء نهاية وحدودا حتى الحياة نفسها لها حدود ونهاية!

وقال: إن الديمقراطية في خطر، لأنهم يضربونها .. بل يقتلونها بممارستهم التي تستهدف الفوضى والتهييج والإثارة، وأظن أن الديمقراطية إذا لم تعد على الشعب بشيء سوى الفوضى فإن من حق الشعب أن يكفر بها.

وعندما سئل الرئيس عن البديل، قال: البديل في علم الغيب لكنه مخيف وخطير!

وعندما قال المحرر للرئيس إنه لم يره غاضبا على هذا النحو من قبل، رد عليه: أنا لست النبي فلي طاقة البشر ولي حدوده!

وقامت الدنيا على هذا الحوار .. ولم تقعد!

وخرجت المعارضة عن كل التحفظات التي كانت تحاسب عليها ...

قال الكاتب الإسلامي المعروف خالد محمد خالد: ذلك ما كنا نحاذره ونخشاه .. وما كنا نهرب من هواجسه إلى تفاؤلنا .. ومن محاذيره إلى ثقتنا ورجائنا ..

ولكن فجأة وقعت الواقعة وجاء النذير!

إننا لم نجد مشجبا نعلق عليه الأخطاء سوى الديمقراطية.

وتساءل: ما ذنب الديمقراطية فيما حدث؟

ويأتيك الجواب: المعارضة!

وتسأل مرة أخرى: وهل خطأ المعارضة يشجب الديمقراطية؟ ويعطي الفرصة لتهديدها؟ ثم ما مدى فهمكم للمعارضة؟

ألا يدلكم اسمها على وظيفتها؟ ثم ما ظنكم بها وبالديمقراطية كلها؟ أتريدون معارضة "معقمة" وديمقراطية ملفوفة في "بالات" من القطن الطبي؟

إن الديمقراطية هي "قدرة الشعب على التغيير – تغيير حكامه وتغيير قوانينه وبالتالي اختيار حكامه وقوانينه عن طريق الاقتراح الحر وليس عن طريق الانقلابات والمؤامرات".

والذين يريدون ديمقراطية بلا معارضة إنما يريدون – تماما – ديمقراطية بلا ديمقراطية .. وإذا اتفقنا على هذا فلا بد من الاتفاق الأكيد على أن الديمقراطية كالحرية – حق – لا منحة.

لقد جابهنا الرئيس مبارك بنذير شديد بين يدي ما أسماه "المخيف الخطير" .. ثم يقول: وإذا كنت قد تحملت الكثير فإن غيري لا يحتمل! .. يا ويل مصر من هذا الغير.

أو نسأل الله القدرة على أن نقول صادقين: يا ويل هذا الغير من مصر؟

ويقول الرئيس: إن الديمقراطية في خطر لأنهم يضربونها بممارستهم ويظن أن الديمقراطية إذا لم تعد على الشعب بشيء سوى الفوضى، فإن من حق الشعب أن يكفر بها ... والحق يقال إن هذه الفقرة تحريض على الديمقراطية وإيحاء للشعب بأنها أخفقت وساءت مصيرا ... بل هي إيعاز للشعب كي يهيئ نفسيه لجنازتها .. وأقسم برب الأرض والسماء أن هذا القول لن يكون في صالح أحد أبدا .. حتى الرئيس مبارك نفسه.

إنه يؤكد أنها – أي الديمقراطية – أصبحت فوضى على يد المعارضة بأحزابها وصحافتها .. ثم يرتب على ذلك حكما مبينا بأن من حق الشعب أن يكفر بها.

وحذرت أحزاب المعارضة وكتابها من أن هناك "سبتمبر" أسود آخر .. قادم .. وكانت تشير بذلك إلى ما فعله الرئيس السابق أنور السادات من اعتقالات في سبتمبر 1981، قبل اغتياله بشهر تقريبا.

وقالت صحيفة الأهالي في مقال افتتاحي وقعه رئيس التحرير : هل الخلاف في الرأي والتعبير المحدود المتاح للمعارضة عن هذا الرأي يعد خطرا على ديمقراطيتنا؟

إن كل ما تمارسه المعارضة (للأسف) لا يتجاوز حق الكلام المقيد بالصحيفة الأسبوعية لكل حزب وبالمؤتمرات التي تقام داخل المقارات بينما محرم عليها كافة الإمكانات والوسائل السياسية المعروفة في أي نظام ديمقراطي مثل حق التنظيم في وحدات الإنتاج والعمل والجامعات وحق مخاطبة الرأي العام من خلال أجهزة الإعلام المملوكة للدولة والمسماة بالقومية وحق الاجتماع في الأماكن العامة وحق تنظيم المظاهرات السلمية وإنشاء الجمعيات والشركات التي تمول نشاطها .. بل إن أحزاب المعارضة ممنوعة قسرا من التواجد في المجالس التمثيلية في المحليات ومجلس الشعب بقوة قانون جائر يسمى قانون الانتخاب بالقائمة المطلقة وقانون الانتخاب بالقائمة النسيبة الحزبية المشروطة وبقوة أجهزة الدولة التي احترفت تزييف الانتخابات العامة لصالح الحزب الحاكم ... فكيف تهدد المعارضة الديمقراطية في مقتل؟

إن الحفاظ على الديمقراطية واستقرارها وتقدمها مسئولية الأغلبية لا الأقلية، والحكومة تقول لنا إن الحزب الوطني الديمقراطي هو حزب الأغلبية الذي يحظى بتأييد 80% من الشعب المصري!

إذن فلماذا هذا الخوف والقلق من أحزاب المعارضة والتي لا تتمتع طبقا لما تقوله الحكومة والحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية إلا بتأييد أقلية ضئيلة لا تتجاوز الـ 20%

وقالت افتتاحية جريدة الشعب في نفس الأسبوع:

إذا كان الخلاف بيننا وبين الرئيس جذريا وخطيرا على النحو الذي بدا في صياغة الأسئلة والعناوين، فإن الحرب بين الحكومة والقوى الوطنية الأخرى تكون حينئذ مبررة .. ومرحبا بها في هذه الحالة، إذ لسنا ممن يشترون سلامتهم الشخصية بالتنازل عن مبادئهم ... وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ... ولكن إذا لم يكن الخلاف على هذا القدر من العمق، يصبح من الحماقة أن تنشأ حرب تصيب الأطراف كلها بالخسارة لمجرد أننا تقاعسنا عن فهم بعضنا البعض.

الرئيس تساءل: كم من الوقت تستطيع مصر أن تتحمل عبث أحزاب المعارضة؟

ونحن بدورنا نقلق لما يحدث في بلدنا ونتساءل: كم من الوقت تستطيع مصر أن تتحمل السياسات الحالية للحكومة؟ ويدهشنا أن الرئيس لم يشر إلى سؤالنا هذا إلى جانب إثارته للسؤال الأول عن عبث المعارضة، إن الرئيس مبارك يقول إن الممارسات الحالية قد تفضي إلى بديل هو في علم الغيب (على حد تعبيره) ولكنه بديل "مخيف وخطير" ونحن نتفق تماما على أهمية هذا التحذير، ولكننا لا نعتبره موجها لنا وحدنا.

وهكذا .. فجر سليمان خاطر العديد من القضايا وهو على قيد الحياة .. وفجر العديد من القضايا بعد أن رحل عن الأرض وصعدت روحه إلى السماء ..

أي قدر كان يتربص بهذا الشاب الصغير؟

أي صدفة ألقته في طريق الديناصورات؟

لقد كان بالفعل – مثل الحجر الصغير الذي يثير الدوامات في الماء الراكد .. وبعد أن سكن في قاع النهر .. لا تزال الدوامات تتسع .. وتتسع .. وتتسع ...

قبل الرحيل

ما أخشاه ليس الموت، ما أخشاه أن يكون موتي سبب في أن يعيد كل جندي حساباته عندما يجد نفسه في موقف يحتمه عليه واجبه فيتردد أو يتخاذل.