حسن البنا .. أمل الشرق في صراعه مع المستعمر
النيويورك بوست الأمريكية
كتبت جريدة " النيويورك بوست " في 13 فبراير سنة 1946 لمراسلها في القاهرة زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح أبرز الرجال في التاريخ الحاضر أو قد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه .
هذا الرجل هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين . وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية . ويقول الأستاذ البنا أن حركة الإخوان فوق الأحزاب وسبيلها هو العودة إلي القرآن وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء العالم .
وهذا نص الحديث :
هل أنتم مسلحون ؟
نعم .. بسلاح الإيمان .
ما سر استعمال السيفين في الشارة ؟
هما رمز الجهاد .
والمصحف ؟
دستوره .
متى بدأت دعوتك ؟
لا أستطيع أن أحدد متى وكيف نشأت دعوتي هذه . فناك أفكار تنشأ مع الإنسان يوم ينشأ ، علي أنها برزت عقب تخرجي من دار العلوم في شعبتي الإسماعيلية وشبراخيت .
هل عندك مال ؟
نحن أفقر جمعية وأغني جمعية ، مالنا الرسمي اشتراكات الإخوان . ومالنا الحقيقي : خزائن الإخوان .
وفي سنة 1951 يبعث روبير جاكسون " الصحفي الأمريكي بقصة لقائه مع الإمام الشهيد التي نشرتها النيويورك بوست – يبعث بها إلي "النيويورك كرونيكل " ثم يقول معقبا : هذا ما كتبته منذ خمس سنوات وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه فقد ذهب الرجل مبكرا .. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر . وأنا أفهم جيدا أن الشرق يطمح إلي مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه وطالما رجا الكتاب والمفكرون اقتراب اليوم الذي يتحقق فيه هذا الأمل . غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى انتهت حياة الرجل علي وضع غير مألوف وبطريقة شاذة .
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب . خلاب المظهر . دقيق العبارة . بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية . لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني ، وظل الرجل صامتا . حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له : هل قرأت عن محمد ؟ قلت : نعم . قال : هل عرفت ما دعا إليه وصنعه ؟ قلت : نعم . قال هذا هو ما نريده . وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير .
وسافرت من مصر بعد أن حصلت علي تقارير وافية عن الرجل وتاريخه ، وأهدافه وحياته ، وقارنت بينه وبين محمد عبده وجمال الأفغاني ، والمهدي والسنوسي ، ومحمد بن عبد الوهاب . فوصل بي البحث إلي أنه قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا وتفادي ما وقعوا فيه من أخطاء . ومن أمثلة ذلك أن الأفغاني كان يري الإصلاح عن طريق التربية ، واستطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين ، ووصل إلي ما لم يصلا إليه ، لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلي مذهب موحد وهدف موحد . ثم أخذت أتتبع خطواته بعد أن عدت إلي أمريكا وأنا مشغول به ، حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا مما انتهي إلي اعتقال أنصاره .. وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه9 ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته . وبالرغم من أنني كنت اسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن وإنه لم يزد علي جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله ، غير أن حركة فلسطين ومعركة التحرير في القناة قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة .. قل أن تجد مثلها إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية .
ولو طال عمر هذا الرجل لكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير خاصة لو اتفق حسن البنا وآية الله الكاشاني الزعيم الإيراني علي أن يزيلا الخلاف بين الشيعة والسنة ، وقد التقي الرجلان في الحجاز 1948 ويبدو أنهما تفاهما ووصلا إلي نقطة رئيسية لولا أن عوجل حسن البنا بالاغتيال . كل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر علي المجاهدين ، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه .. وقد أعانه علي ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي . لقد تزوج مبكرا وعاش فقيرا وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التقوا حوله . لقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة رغم أنه كان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية .
كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيدا . وأنني علي أتم يقين من أن أي حركة وطنية تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن إرجاعها إلي المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق .