حديث الدعوة
إعداد: عبد الحليم الكناني
مقدمة
ليس في الدنيا كتاب أحاط بمسائل الحياة وربط بين شئونها، وجعل بعض هذه الشئون أسبابًا لبعض، وحل مشاكلها في بساطة ويسر كالقرآن الكريم.
﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت)،
فإذا قرأته، وتدبرت آياته وجدته كلاًّ لا يقبل التجزئة، ووجب أن ترجع ما فيه من أحكام إلى أصولها، حتى يتبين لك الحق فيها، فلا تقتصر على حكم دون أن تلقي بالاً إلى ما يتعلق به من الآيات الأخرى، كما فعل ويفعل بعض المسلمين في كثير من المسائل.
ولنضرب لذلك مثلاً الآية الكريمة:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾ (المائدة).
لا شك أننا إذا قرأنا هذه الآية وحدها منقطعة عن باقي القرآن، وفهمنا السرقة بمعناها المنصوص عليه قانونًا من أنها:
"اختلاس مال مملوك للغير" شعرنا بشيء من التردد في أن يكون الأمر كذلك وأن يعاقب السارق بقطع يده، أو شعرنا بأن العقوبة رهيبة لا تتفق رهبتها مع تفاهة السرقة في حد ذاتها، أو تفاهة المسروق أحيانًا، وهذا ما يعترض به كثير من المسلمين، والأجانب على العموم، ويبدون امتعاضًا من هذا الجزاء الصارم وهم معذورون في ذلك؛
لأنهم لا يعرفون من أمر الإسلام ما يدعوهم إلى الاطمئنان إلى أنه حق من عند الله
﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء: من الآية 105).
إن القوانين الوضعية لا تستقصي حالة السارق وقت السرقة، ولا تستقصي أثر الحكم فيه، وفي أهله وولده، بل تعاقبه مطلقًا، جاهلاً كان أم عالمًا فقيرًا أم غنيًا، بل ربما كان علمه وغناه من أسباب تخفيف العقوبة عليه لا من أسباب تغليظ العقاب، والأمر ليس كذلك في دين الله.
إن الله عز وجل أراد أن تنشأ العفة من داخل النفس .
أولاً: فينصرف الإنسان من المعاصي وهو في خلوته لا يطلع عليه أحد من الناس، ويشعر بأن ربه معه أينما كان مطلع على أعماله، لا تخفى عليه منه خافية.
﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (المجادلة: من الآية 7).
وقد ذكر الله تعالى عقاب السرقة مرة واحدة، ولكنه كرر النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وصوَّره في صورة مؤثرة ترد من تحدثه نفسه بأن يمد يده إلى مال غيره دون حاجة إلى التخويف بالعقاب الدنيوي
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾ (النساء)، ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)﴾ (البقرة).
وفي الحديث عن الرسول عليه السلام:
"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم".
وتأمل قول الله تعالى:
﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)﴾ (النساء).
تأمل:
﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أعني أنه يجب أن تبلغ الدعوة إلى السارق، ويتهذب بالتهذيب القرآني، ويعرف ما له وما عليه، مما يتعين معه القول بأن التعليم في الإسلام إجباري ووجب على الفرد، وحق له في الوقت نفسه.
فإحياء روح الإنسان وضميره وتزكية نفسه، وتطهير قلبه واجب أول في الإسلام، عليه أكثر المعول في أن يسلك الإنسان سلوكًا حسنًا في الجماعة التي يعيش فيها..
وإذا كنا ندرك أثر التعليم العادي في نفوس الناس، فما بالنا بتعليم القرآن الذي هو أساس لكل الفضائل ولكن لا يكفي أن تهذب الشخص، وتطهر قلبه وتزكي نفسه، وتحيي ضميره لكي يكون إنسانًا فاضلاً فإن حاجاته الضرورية التي بها وقاية نفسه تغلبه على الفضائل أحيانًا؛ لذلك قضى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين بأن يوجد في الدين من النظم ما تندفع به حاجة الإنسان إلى السرقة، وبمعنى آخر لا بد من أن نتأكد قبل أن نعاقب إنسانًا أن عذره في ارتكاب جنايته قد سقط، وأنه لم يرتكبها إلا بغيًا وعدوانًا،
وحاجات الإنسان الضرورية هي
بيت يسكنه يواريه عن أعين الناس، ويجعله في أمن من العادين والباغين.
طعام يحفظ به نفسه.
ملبس للصيف والشتاء.
وأقول:
إن الآيات والأحاديث التي أخذ منها الفقهاء النص على هذه الأشياء الثلاثة تستوجب القول بأنه يجب أن يكون مضمونًا لكل إنسان العلاج المجاني من الأمراض، متى لم يكن قادرًا عليه، هذه الضرورات لا يحصل عليها امرؤ بالاستجداء، بل لا بد من العمل، ودينه يحضه على ذلك: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة: من الآية 105).
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يد عامل وَرِمَت من العمل فأخذها وقبلها وقال:
"هذه يد يحبها الله ورسوله"، وجاءه رجل يسأله فلم يعطه ما سأله؟ بل أعطاه أداة العمل، ووجهه إليه، وقال "ارجع إليّ لتنبئني بحالك".
فيجب حينئذ على ولي الأمر أن يساعد الناس على إيجاد أعمال لهم، ويهيئ لهم أسباب العمل ويتعهدهم حتى تصلح حالهم.
فإذا كان دخل إنسان لا يكفيه ولم يجد عملاً، أو كان غير قادر على العمل فهو في كفالة الدولة تمده بأسباب الحياة الضرورية التي بيناها.
أما المال الذي يلزم لذلك فيؤخذ من الزكاة التي جعلها الله في أموال الأغنياء حقًّا للفقراء فإن لم تكف الزكاة لسد حاجات الفقراء أصبح فرضًا على كل من عنده فضل من مال أن يعود به على الفقراء حتى يستوفوا حاجتهم.
فإذا منح الفقير حقه فله أن يقاتل عليه؛ لأن الله يأمر بمقاتلة الباغين ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الحجرات: من الآية 9)، ولا شك أن مانع الحق باغٍ.
فلما كفل الله عز وجل للفقير حقه وأباح له القتال عليه؛ كانت العقوبة الهينة مفسدة للمجتمع، ولا تتفق مع المسئوليات التي فرضها الله على الناس، فكان جزاء من سرق- بعد أن استوفى حقه- أن تُقطع يده، وليس بعد ذلك توازن في الحقوق والواجبات ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً﴾ (النساء: من الآية 122).
لا شك أن الإنسان حين يعلم ذلك، وينتهي إلى أن النص على عقوبة السرقة مكمل بنظام اجتماعي محكم تستريح نفسه إلى عدالة العقاب وتطمئن إلى حكمة العزيز الحكيم.
هذه العقوبة الغرض منها زجر البغاة من أن تمتد أيديهم إلى مال الناس بالباطل، وهذا يكفي لانقطاع السرقة من المجتمع الذي تسود فيها العدالة الاجتماعية على هذا النحو.
وهكذا يجب أن نقرأ القرآن، ونتدبر آياته، ونربط بعضها ببعض ونربطها بما ورد عن المعصوم عليه السلام المبين عن ربه، لكي نعلم أن كل ما جاء به القرآن الكريم إنما هو حق لا شائبة فيه.
عدل الله
نحن في حاجة في هذا الزمان، وفي كل زمان، إلى أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى ونتذكر ما أوصلنا به من خير، فنستزيد منه، وما نهانا عنه من شر فنجتنبه ولقد غشيت هذه الأمة غواشي الظلم، وانسدل عليها من محنه وارزائه ما يجعلنا نستروح نسمات العدل الإلهي في كتاب الله، وكيف يكون، لعل الله يريح نفوسنا، فنلزم طريقه ونعدل عن طريق الفتنة، ولا نتمادى في إتباع الهوى، فقد أضلنا عن سبيل الله.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 153)، فعدل الله كامل شامل، لا يختص به فريق دون فريق، هو عدل يشمل الناس جميعًا غنيهم وفقيرهم، قريبهم وبعيدهم ، عدوهم وصديقهم ، مسلمهم وغير مسلمهم ، وقد جعل المتعالي المرجع في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله حتى لا تكون فتنة وحتى لا يتبع الناس أهواءهم في سن قوانين يزعمون أن من اتبعها ومن حكم بها فقد عدل، ومن لم يحكم بها فقد جاوز العدل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)﴾ (النساء: الآية 59).
فطاعة الله واجبة وطاعة رسوله واجبة، وطاعة أولي الأمر واجبة ما التزموا كتاب الله وسنة رسوله، فإن اختلفنا وجب أن نرد أمورنا إلى الله ورسوله، ولا شك إننا نجد فيهما الحكم المراد ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: من الآية 38)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 44).
فهذا هو القانون الذي يرجع إليه العادل في عدله، ومهما التمس العدل في غيره فهو ظالم أو فاسق أو كافر ولن يقبل الله من أحد أن يرجع إلى غيره وغير رسوله عند التنازع، ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية 7).
وقد يحكم الإنسان بحكم الله، ولكن الهوى يدخل على قلبه فيؤثر قريبًا أو يحابي صديقًا، ويظلم بعيدًا أو عدوًّا أو ذميًّا، فلا يكون متبعًا لأمر الله إلا في ظاهر الأمر دون حقيقته، ويكون عمله من التدليس الذي إن خفي على الناس فلا يخفى على الله الذي يعلم السر والنجوى، لذلك كان تحذير الله من مثل ذلك شديد، تنقل فيه- عز وجل- من الأمر بالعدل بصفة عامة إلى التحذير من أسباب الميل التي قد تسوفها الأهواء للنفس الضعيفة التي لا تخالطها بشاشة الإيمان الصادق.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58)، فهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل فيه جميع الخلق، ففي الحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ كلكم مسئول عن رعيته"، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 9).
وفي النهي عن محاباة الأقارب يقول الله عز من قائل: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ (الأنعام: من الآية 152)، ويقول في النهي عن ظلم الأعداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة).
ومن أروع الآيات التي نزلت في تحقيق العدالة ما نزل في قصة بن أبيرق يكشف للرسول عليه السلام عن حقيقة الأمر فيها وما دبره الخائنون لصرفه عن الحق حتى كادوا يوقعونه في ظلم بريء لم يستحق إثمًا، ويسمهم بما هم أهله.
سرق ابن أبيرق درعًا لجار له، فأمر رسول الله صلى الله عليه السلام بقطع يده.. ففر وجاء أهله إلى الرسول وزعموا له أنه لم يسرق الدرع إنما الذي سرقها هو فلان اليهودي، وما زالوا به حتى مال إلى قولهم، فأنزل الله هذه الآيات التي تعتبر دستورًا لأعظم نوع من العدل الصرف العدل الذي يشمل الإنسانية كلها، العدل الخالص البريء من الهوى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾ (النساء)، إلى آخر سورة النساء.
سقنا هذا القرآن لنتدبره ونعرف كيف يكون العدل الذي فرضه الله علينا ونقيس ما نحن عليه بهذا المقياس الرباني، لنعلم أين نحن من ذلك في تفكيرنا وما يجول بخواطرنا، وفي أقوالنا وأفعالنا في أنفسنا وأقاربنا ومن نحب ومن نكره، ونعرف مقدار ما أصبنا من حرصنا على الحق والعدل، وما أصبنا من شر يبعدنا عنه والتفريط فيه، فنعود إلى الله ونستغفره ونرجو رحمته.
وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلمًا حقًّا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءًا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه فيكون عادلاً مع الناس جميعًا، ويحذر نوازع الهوى أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه، فلا يذكر إخوانه بسوء ولا يغتابهم، ولا يلمزهم، فإن أكثر الشرور إنما تنشأ عن مثل ذلك.
ثم ننظر كذلك فيما يعتبره غيرنا عدلاً وهو غير ذلك، فإن هؤلاء لا يعدلون- إذا عدلوا- إلا بين بني جنسهم، أما بينهم وبين غيرهم فالعدل أبعد ما يكون منهم، وأمثلة ذلك كثيرة يمكن أن يقرأها الإنسان في كل تصرفاتهم وأحكامهم، حتى يبدو دينًا لنا على حقيقته، ونعلم أن الله أراد ببني الإنسان الخير في إتباعه والاهتداء بهديه والعمل به وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: من الآية 9).