تعالوا نؤمن ساعة
بقلم / الأستاذ عمر التلمساني
هيا إلى خلوة القرآن
ركضًا إلى ساحة الرضوان .. تبتلاً في حضرة الرحمن، تعالوا نآوي مع الصوم، إلى كهف من الطهر، ينتشر لنا ربنا فيه من رحمته ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. كتب الصيام علينا في رمضان، كما كتب على الذين من قبلنا، لا لأن بالله حاجة أن نرى القوت أمامنا ونحن في حاجة إليه، فتعف إيمانًا وطاعة، ونرنو إلى الماء نطفئ به حرقة الظمأ، فلا نقربه رضًا واحتسابًا.
أيامًا معدودات في عالم الحساب، ولكن لا عداد لها في عالم الأجر والثواب نكمل عدته، ونكبر الله على ما هدانا إليه، ونسكن فيه إلى دنيا الرشاد، نسأل الله فيه .. فهو فيه أقرب من قريب، وندعو لياليه .. فهو فيها باسط الكف ومستجيب، نرقب مطلع الفجر الأبيض، شرقًا من الليل الأسود، لنمسك ما يشغل بال الناس من متع الحياة، إنها حدود الله .. لن نتعداها نزولاً عند أمر رب العالمين.
مرحبًا .. بشهر الله
في بيداء الحياة يشتد الحنين إلى المنهل العذب، والورد الصاقي النمير تهفو إليه الروح المشتاقة إلى معاودته عاما بعد عام .. على طول فترة العمر، وتشد الحياة بأوضاعها القاسية، خاصة في فترة الأزمات، تشد الناس إليها، وتحجب الرؤية الواضحة، أطباق الغبار وتراكمات الضباب، ويتلهف الساري طوال العام في دروب السنين، إلى واحة الطهر والصفاء، حيث يلقي عصا التيار عند مشارف شهر الخلوة والصوم والقرآن.
إن متطلبات ماديات الجسد في رمضان، هي نفسها في غير رمضان وغمار الخلق يفجرهم وتجبرهم في رمضان، همو همو في غير رمضان، فما بال قلب الصائم المخلص صومه من كل الشوائب والكدورات، يرف بين جنبيه فرحًا بالوقوف على باب من جعل الصوم له، وهو الذي يجزي به، ما باله يجد حاله في رمضان، غير حاله في شهور العام؟
ألأنه تخفف من الماديات .. إفطار فغداء فعشاء، وما بينها من مرفهات؟؟ لا أظن .. فمن لم يدع قول الزور، فليس بالله حاجة أن يدع طعامه وشرابه الأمر أسمى من ذلك وأعلى.
حقًا أن الصوم فريضة، والفريضة تكليف، والتكليف عبء لا يهون في الاحتمال، وحسب الصائم رسوخ قدم في دنيا التقى، أن يقاوم نفسه، إذا ما ألح عليه عامل الجوع والظمأ .. امتثالاً للأمر، وهل بعد الامتثال لأمر الله من مقام للمسلم الطاهر الأمين؟ وإذا لم يكن الصبر على مالا تألفه النفس .. فما الفرق بين الطائع والعاصي؟! الأول وقف عند الأمر فنفذه والثاني شق عليه الأمر، فاتبع نفسه هواها، فراح مع الشاردين.
يحملني على هذا الكلام، في هذه النقطة بالذات، أن بعض الصائمين من الفضلاء، عندما يتحدث عن فضل الله عليه في الصيام، يقرر أنه لا يحس في رمضان بشيء من الجوع أو الظمأ، ولهذا فهو لا يحس من هذه الناحية بعبء الصيام، وإذا كان الحال كما يقول، فما الفرق بين رمضان وبين غيره من الشهور؟ أليس في ترك الطعام والشراب وأوقاتهما المألوفة، تغيير للوضع المألوف في حياة الإنسان مما يدرج عليه طوال العام؟ أن الصائم يجب أن يشعر أنه جائع، ولكنه لا يستجيب لنداء بطنه طاعة لله، وأن ظمئ فهو يتحمل العطش ولا يروي ظمأه .. طاعة لله، وهذا هو طعم الصيام.
فرحتان للصائم
ليس هذا فحسب، فأين نحن من قول خير من صام وصلى عليه الصلاة والسلام «للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه» لماذا يقرر الأمين الموحى إليه من العليم الخبير، أن الصائم يفرح عند إفطاره، فمن اليقين إذن، مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نؤمن بأن لساعة الإفطار فرحة، ولكي تكون النظرة أوفى شمولاً أقرر أن هذه الفرحة، إما أن تكون مادية فقد أمسى في متناول الصائم شرعًا، أن يباشر مأكلاً منع منه حينًا، وشربًا حيل بينه وبينه فترة، وهذه الفرحة المادية لن تكون إلا لما أحس به الصائم من حرمان طوال النهار، ثم انتهى الحرمان بحلول ساعة الإفطار، وإما أن تكون الفرحة روحية، ينعم فيها الصائم رضاء أن أطاع الله، لقد امتنع عن طعامه وشرابه تمسكًا بالطاعة، وبهذا يكون المقطوع به يقينًا، أن حال المسلم الصائم في رمضان، هو غير حاله بالمرة في كل شهور العام، فلينتبه الصائم ولا يهنئ نفسه بأنه لم يشعر بشيء من جوع أو عطش، وإلا فإنه خارج على مألوف البشر، من ناحية التكوين العضوي الذي يتطلب الطعام والشراب.
ولعل هذا المعنى، أو شبيهًا له، خالط بعض الصحابة عندما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام ليلاً ونهارًا أيامًا، فاستأذنوا أن يواصلوا فلم يأذن لهم، وأخبرهم أنه يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، فلو أن ترك الطعام والشراب لا أثر له على الإنسان لما نهاهم صلوات الله وسلامه عليه من الوصال، فالترك عند النبي صلى الله عليه وسلم، مع عدم الأثر، هو يفيض العطاء من الله، وهو فيض لم يحظ به الصحابة، فإمامهم البديل، يأكلون ويشربون عند لحظة الإفطار.
إن المسلم الذي يصوم دون شعور بالمعركة المحتدمة بين لزوم المأكل والمشرب كضرورة من ضروريات الحياة وألا مهرب منها، وبين الصبر على هذا الاحتدام، ابتغاء مرضاة الله، يجب أن يبدل نظرته إلى الفريضة وأن يقف معها موقف المأمور من الأمر، وأن يحس بأنه ما منع إلا لما في هذا المنع من أثر، وهنا يتجلى مجال الطاعة، لمن التزمها إيمانًا واحتسابًا، وحبذا رجعت إلى الآية التي فرض بها الصيام ﴿ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ إن كل كلمة جاءت في كتاب الله، جاءت لحكمة معينة، لم تأت اعتباطًا ولا استرسالاً في حديث، فلماذا يقول الله تبارك وتعالى في هذه الآية ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هل جاءت تاريخًا؟ أو أخبارًا بحدث؟ أنا لا أظن والذي ارتاح إليه، واسأل الله ألا يكون قد أسأت الفهم، أن هذا التكليف لم يكن خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط ولكن حمله قبلهم قوم آخرون وفي هذا تسرية عن المسلمين والتسرية لا تكون إلا عما يشق حمله أو دفعه، هذه واحدة، والأخرى، ذكر الله سبحانه أن الصيام أيامًا معدودات وليس أسابيع معدودات ولا أشهر معدودات، وفي تقليل الزمن عند الامتحان، ما يعين على الاختبار، وأنه لن تطول أيامه.
الصوم جلاء لصدأ النفوس
والصوم فوق هذا كله، هو الجلاء الكامل لصدأ النفوس، كي تهيأ للمثول في حضرة الديان ظهرًا ظاهرًا مظهرًا وظهورًا.
أن الله اصطفى الإنسان من بين سائر المخلوقات ليكون موضع التكليف، فأنت خليفة الله في أرضه ليأهلك بهذه الخلافة إلى توريثك جنة الخلد، ويسابق علمه جل شأنه، بما جلبت عليه النفس البشرية من الضعف والرغبة في العاجل، ولو كان دون الأجل بمراحل أراد أن يمر به في مرحلة اختبار، يبدو فيه الحال سافرًا .. أيشكر ويصبر؟ أم يجزع ويتغير؟ ثم ماذا بعد هذا؟
ترى أي شعور عامر بالإسعاد .. ذلك الذي يسري بصدر الصائم، وهو يبدأ يقظته محسًا بأنه مطيع لصاحب الفضل عليه، قريب منه، حبيب لديه مرضي عنه، مهيأ للخير في دنياه، موصول المثوبة الضخمة الواسعة في أخراه؟
أي إحساس يجده الصائم، في جنبات قلبه، وقد ارتفع على المادة في كل أوصافها وآثارها، وسما إلى سماء الملائكة المقربين .. إفطاره دعاء، غذاؤه تسبيح، وعشاؤه قيام وترتيل، أين هو من الخلق في المستوى الإنساني، إذا صام كما يجب أن يصوم المسلم .. سمح إذا أخذ، جواد إذا أعطى، حليم إذا غضب، بصير إذا استشير، ذكور إذا نسى، وديع إذا تعامل، طيب الأثر إذا خالط الناس وصبر على أذاهم، جلد إذا حمل الأمانة، وفي إذا عاهد، أمين إذا استودع، مخلص إذا عمل، دءوب في أداء الواجب، طلق المحيا بسام الثنايا، لا تنعقد جبهته، ولا تتجهم طلعته، يظنه الرائي للحيوية التي يمتاز بها، وكأنه من غير الصائمين، فهو النقي الخفي ما بحاله من إعلان.
أجمل ما في الصيام
هذا هو أجمل ما في الصيام .. النزول عند الأمر، ولو شق احتماله، وهل يكون الأجر إلى على قدر المشقة؟ وهل الذي يطوي الأرض سيرًا إلى حبيبه ومبتغاه، على الصخر فوق الشوك وطول السرى، كمن يسير إليه على الممهد من الطرقات، بالميسر من الوسائل؟ شتان .. نفس جامحة، تتصارع فيها الشهوات، وأهواء جارفة تنجذب إلى كل شهي، ووسوسة خفية من النزوات، تتصارع كلها مع إرادة صلبة كالطود، ونفس صامدة كالصرح العتيد، تندحر كل الهجمات على مشارفها، وتندحر عنها فاشلة متهاوية، إن أمام الصائم صدق موعود الله .. إن صبر على الجوع هنا، فهناك فاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون. إذا صمد للظمأ هنا، فهناك ولدان مخلدون، يطوفون بأكواب وأباريق وكأس من معين، ولا نفاذ لخيرات الله، وكيف ينفد عطاء من بيده خزائن السموات والأرض، وأكثر وأكثر وأكثر، أين الصائم من أواني الفضة والأكواب القوارير، وكئوس مزاجها من زنجبيل تعب من عيون السلسبيل؟
بشراك أيها الصائم، المخلص صدق لربه .. بشراك .. سعيك مرضي عنه ووجهك ناضر بديع، في العلا المخضل من الجنان، حيث لا لغو ولا تأثيم، ولكن سلام ونعيم .. في العيون الجاريات في الأكواب الموضوعات .. على النمارق المصفوفات، والزرابي المبثوثات .. حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أخي الصائم .. انتبه .. واحذر، أنت مطالب بالطاعة فيما يشق عليك، وإلا فما السر وما الحكمة؟ ولماذا فرض الصيام؟ إذا استوى حلالك .. صائمًا أو غير صائم.
عش في الفريضة بكل أعبائها .. بكل أسرارها .. بكل حكمتها بكل مقوماتها، ولا يخدعنك الشيطان أنك لا تشعر مع الصيام بجهد، وأن ليس للصوم عندك من أثر، ولا أدائك إياه مشقة.
اللهم إنك تعلم .. إنا لك لصائمون لا نشعر بالخوف إلا منك، ولا بالذل إلا لك، ولا بالفقر إلا إليك، فاجعل خوفنا منك، أمنا لنا من كل من عداك، واجعل ذلنا لك، ذروة العز لنا في هذا الوجود واجعل حاجتنا إليك، هي الزاد الوافر والغنى الكامل، عن كل ما سواك، وأصلح يومنا وأنر ليلنا، وتقبل قيامنا واحفظ صيامنا ﴿﴿ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾.