المقال في أدبيات الإمام حسن البنا
أ.د/جابر قميحة
مقدمة
المقال "فن نثري" يعالج بإيجاز موضوعا معينا: أدبيا أو علميا، أو سياسيا، أو اجتماعيا، أو دينيا...إلخ. وعلى أساس الموضوع يتنوع المقال إلى: مقال نقدي، ومقال علمي، ومقال سياسي،ومقال اجتماعي، ومقال ديني، وغيرها. ولابد أن يكون مكتوبا.
وكلمة "مقال" ليست غريبة على اللغة العربية، ولكنها من الناحية الفنية تعد محدثة في الأدب. فكلمة مقال كانت –في الحقيقة أقرب على ما عرفه الأدب العربي القديم في الرسالة- لا الرسالة الشخصية أو الديوانية- ولكن الرسالة التى تتناول موضوعا بالبحث: كرسائل إخوان الصفا.وازدهار المقال في مصر يرتبط بتاريخ الصحافة، وانتشارها، وتعددها، وإقبال القراء عليها من سنة 1920، وتطورها أسلوبا، وموضوعات، وكان للآداب الغربية آثار واضحة فيها.
وأيا كان نوع المقال فإنه يشترك في عناصره المكونة له، وهي "مادة المقال" يستمدها الكاتب من أى موضوع يشاء: ذاتي أو موضوعي على أن تكون صحيحة لاتخلو من جدة وطرافة. والعنصر الثاني هو الأداء التعبيري أو الأسلوب،ويجب أن يكون صحيحا سليما لغويا وقاعديا، خاليا من الأخطاء والضعف والركة والتعقيد والغموض والانغلاق والتكلف.
وكالرسالة والخطبة يكون للمقال خطة يسير عليها، وأجزاؤها: المقدمة والعرض، والخاتمة. والمقدمة يجب أن تكون موجزة تمهد للعرض، وترتبط به دون تكلف، وتهدف إلى شد القراء لما يرد في العرض، فهى بالنسبة للمقال كالمقدمة الموسيقية بالنسبة للأغنية.
أما العرض فهو الجزء الرئيسي من المقال لذلك يكون مفصلا معتمدا على الأدلة والبراهين.
وتأتي الخاتمة نهاية للمقال، ملخصة النتائج التى وصل إليها الكاتب.
وهذا "التجزيء" إنما هو تجزيء صناعي يقصد به الشرح والتوضيح. أما واقع المقال فيقرر أنه بناء متكامل، ومعمار متماسك لا انفصام بين أجزائه.
ويرى الشهيد سيد قطب –رحمه الله- أن المقال فكرة قبل كل شيء وموضوع: فكرة واعية، وموضوع معين يحتوي قضية يراد بحثها، قضية تجمع عناصرها، وترتب بحيث تؤدي إلى نتيجة معينة، وغاية مرسومة من أول الأمر، وليس الانفعال الوجداني هو غايتها، ولكن الاقتناع الفكري.
وهناك "الخاطرة"، وهي تشبه المقال، ولكنها ليست هو، إذ يغلب عليها الطابع الانفعالي لا الفكري. ويرى سيد قطب –رحمه الله- أنها في النثر تقابل القصيدة الغنائية في الشعر، وتؤدي وظيفتها في عرض التجارب الشعورية التي تنسابها(1).
فالمقال يغلب عليه الموضوعية والعقلانية، وقوة الحجة والتدليل، أما الخاطرة فيغلب عليها –كما ذكرنا- الطوابع النفسية الانفعالية، بصرف النظر عن الجانب الكمي.
ولكن العرف يجري من عشرات السنين –خصوصا في مجال الصحافة- على إطلاق كلمة "الخاطرة" على ما ينشر في كتاب أو صحيفة في مساحة عمود أو بعض عمود،ويعالج لقطة من الحياة في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها، كالذي يكتبه أنيس منصور، وإبراهيم نافع وأحمد سلامة ومكرم محمد أحمد في الأهرام. وكالذي يكتبه على أمين، ومصطفى أمين في الأخبار.
كما أن "الخاطرة" تستعمل أحيانا بمفهوم قريب جدا من مفهوم "المقال". كما نرى في كتاب "خواطر من وحي القرآن" للإمام الشهيد حسن البنا(2).
المقال عند الإمام الشهيد
ترك الإمام الشهيد مئات من المقالات التي كانت تنشر في صحف الإخوان وغيرها. وله خاطرات موجزة جدا كالخاطرات الصحفية التي أشرنا إليها. نكتفي بواحدة منها بعنوان "طبائع النفوس"، وهي من القصاصات التى كتبها، وهو في الإسماعيلية،ونصها:
"لم يصارحني بما تم بينه وبينه بشأن الإنفاق في مشروعهما التجاري، وقد كنت أظن أنه قد برئت نفسه من حب المادة، وهذا الأسلوب الذي يعتمد على اللف والدوران، فإذا بقاياه لا تزال عالقة به. ذلك لايوئسني من إصلاحه، ولكنه يجعلني أعتقد أن تطهير النفوس من أدرانها أشق عمل في الحياة،ويذكرني بقول شوقي:
وشافي الناس من نزعاتِ شرٍّ كشافٍ من طبائعها الذئابا
ويجعلني أتريث كثيرا في الثقة بالناس إلا بعد تمام الخبرة(3)
كما ترك الإمام الشهيد ما يمكن أن نسميه "الرسائل المقالية". والمقصود بالرسالة المقالية" تلك التي نشرت ابتداء في شكل مقالات ذات وحدة موضوعية، ثم تجمع بعد ذلك في رسالة. كرسالة "هل نحن قوم عمليون". وهي تجمع المقالات الآتية:
رد على الشبهات- للغيورين من أبناء الإسلام- مؤسسات ومشاريع- إعداد الرجال- تحديد الوسيلة واعتماد المبدأ- منزلة الصلاة- الزكاة- الجهاد عزنا- حق القرآن- منهج الإخوان وميزانهم(4).
وكتب الإمام الشهيد آخر سنة تخرجه في دار العلوم (سنة 1927) في موضوع نصه "اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبيّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها".
وقد جمع ما كتبه الإمام في هذا "الموضوع الإنشائي" بين ملامح المقال وسمات الخاطرة: ففيه دقة التقسيم، والانتظام الفكري، وعمق التحليل، كما أنه لا يخلوا من الطوابع الذاتية الوجدانية(5).
وترك الإمام كذلك ما يمكن أن نسميه الكتب المقالية. وأعني بالكتاب المقالي: الكتاب الذى يتكون من مقالات نشرت في الصحف، ثم جمعت بعد ذلك في كتاب واحد لاشتراكها في موضوع أساسي واحد مثل كتاب "عظات وأحاديث منبرية"(6). وكتاب "المناسبات الإسلامية"(7).
ومثل هذه الكتب المقالية تختلف في منهجها وطابعها عما وضع أصلا كتابا متكاملا، وهو ما سماه سيد قطب "البحث الطويل" إذ يتناول الموضوع من جوانبه المتعددة، بتسلسل خاص، يجعل كل فصل أو عدة فصول مقدمات لنتائج متدرجة تصل إلى نهايتها في نهاية الكتاب... فكل فصل فيه يعالج جزءا من الفكرة، ويصلح مقدمة للفصل الذي يليه، وجميع فصوله متعاونة(8).
ومقالات الإمام الشهيد تختلف –من ناحية الكم- باختلاف الموضوع من ناحية، وطبيعة الصحيفة وتوجهها من ناحية أخرى، فالمقالات التي تعالج الموضوعات والمواقف السياسية والاجتماعية اليومية أو الطارئة تكون موجزة مباشرة، وفي الصحيفة اليومية لا تستغرق إلا جزءا من الصفحة. هذا غير الموضوعات التي تعالج موضوعات العقيدة والفقه والدعوة وسبل الإصلاح. فما كان ينشر في جريدة الإخوان اليومية تكون موجزة سهلة واضحة مباشرة، كما ذكرنا آنفا، بينما نجد أن المقالات التى كان الإمام ينشرها في مجلات النذير، والشهاب، والفتح تطول حتى يكاد كثير منها أن يكون بحثا صغيرا أو متوسطا،وكأنه فصل في كتاب.
ونقدم في السطور الآتية الصحف والمجلات التي كانت تنشر مقالات الإمام الشهيد، وتمثل فكر الجماعة تبعا لتاريخ صدورها
أولا: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية:
ظهر العدد الأول منها في 22 صفر 1352ه. الموافق 15 يونيو 1933. وظلت تصدر باسم الإخوان حتى العدد 68 من السنة الخامسة في 12 من رمضان 1357- الموافق 4 من نوفمبر 1938.
وكان الإمام يكتب فيها نوعين من المقالات: النوع الأول: هو ما كان يكتبه في القسم الديني من المجلة كالتفسير والعقائد والفقه والفتاوى والتصوف والأخلاق، وعظة المنبر وغيرها.
وتميزت تلك المقالات بوحدة موضوعها، وترتيب أفكارها وتسلسلها.
أما النوع الثاني فكان في موضوعات عامة سياسية واجتماعية وأخلاقية حسب المناسبات والأحداث التي تمر بها مصر، أو العالم الإسلامي في ذلك الوقت. بالإضافة إلى أنه كان يكتب غالبا افتتاحية المجلة. وعادة ما كان يخصصها لتوجيه الإخوان في الموضوعات الدعوية، والتي منها "إلى أي شيء ندعو الناس". و"دعوتنا" .. إلى غير ذلك من الموضوعات التي جمعت في كتاب "رسائل الإمام الشهيد".
وهذا النوع من المقالات يتسم بتنوع موضوعاته، وعدم تسلسلها إلا القليل، وارتباطه بالمناسبات والأحداث الطارئة في المجتمع أو العالم، أو لحاجة الإخوان والدعوة.
ثانيا: مجلة النذير:
صدر العدد الأول في 30 من ربيع الأول 1357ه- الموافق30 من مايو 1938.. وكان آخر عدد للنذير صدر معبرا عن الإخوان في 28 ذي القعدة 1358ه- الموافق 8 من يناير1940.
وكان الإمام الشهيد الذي كتب فيها ما يربو على ثمانين مقالات أكثر احتفاء واهتماما بالجانب السياسي والاجتماعي.
ثالثا: مجلة المنار
وهذه المجلة أصدرها الشيخ رشيد رضا في 15 من مارس سنة 1898،واستمرت في الصدور حتى توفي –رحمه الله- في 22 من أغسطس 1935.
وبعد توقف المجلة استجاب الإمام الشهيد لإلحاح أسرة الشيخ وتلاميذه ومحبيه بتولي مسئولية إصدار المنار، فأخرجها في نفس المستوى العلمي والثقافي الذي كانت تصدر به في عهد صاحبها. وقد صدر العدد الأول برئاسة تحرير الإمام البنا في غرة جمادى الآخرة 1358ه- الموافق 18 من يوليو 1939م.
واستمر الإمام البنا في تفسير القرآن الذي بدأه الشيخ رشيد رضا بالمجلة، والذى كان قد توقف عند سورة يوسف. ومن هنا بدأ الإمام بتفسير سورة الرعد(9). علما بأنه كان يقوم بتحرير معظم موضوعات المجلة تقريبا: حيث كان يكتب الافتتاحية، وباب تفسير القرآن، وفتاوى المنار، وموقف العالم الإسلامي السياسي، والمرأة المسلمة. وظلت المجلة على هذا النهج إلى أن صودرت وتوقفت عن الظهور بعد عدد شعبان 1359ه- سبتمبر 1940.
رابعا: مجلة التعارف
بعد ابتعاد "النذير" عن الطابع الدعوي الإخواني، استأجر الإخوان مجلة "التعارف"، وذلك في 23 من المحرم 1359ه- الموافق 2 من مارس 1940.وكان الإمام البنا يقوم بتحرير بعض الافتتاحيات إضافة إلى باب "صحيفتنا الفقهية"، ومقالات أخرى توضح رؤية الإخوان للإصلاح السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت.
ولكن المجلة صودرت وتوقفت في شعبان 1359ه- الموافق 7 من سبتمبر 1940، بعد مضي ما يقرب من سبعة أشهر من استئجار الإخوان لها.
خامسا: مجلة الإخوان المسلمين نصف الشهرية:
بعد توقف دام سنتين تقريبا لصحف الإخوان سمحت حكومة الوفد للإخوان بصدور مجلتهم، وصدر العدد الأول من المجلة نصف شهري في 17 من شعبان 1361ه الموافق 29 من أغسطس 1942. ثم أصبحت المجلة أسبوعية من العدد الخامس والستين في السنة الثالثة 1 من رمضان 1364ه- الموافق 9 من أغسطس 1945. ثم صودرت بعد صدور العدد 224 للسنة الرابعة في 3 من صفر 1368ه- الموافق 4 من ديسمبر 1948، عندما صدر قرار حل جماعة الإخوان، ومصادرة جميع ممتلكاتها في عهد وزارة النقراشي.
وكتب الإمام البنا بها أكثر من مائة مقال في مختلف القضايا الشرعية والفكرية والاجتماعية والسياسية والدعوية تحت عنوان"من أهداف الدعوة".
سادسا: جريدة الإخوان المسلمين اليومية
صدر العدد الأول منها في 3 من جمادى الآخرة 1365ه الموافق 5 من مايو 1946م. وتمت مصادرتها، وكان آخر عدد صدر منها في 2 من صفر 1368ه- الموافق 3 من ديسمبر 1948. بعد أن صدر منها 794 عددا.
وقد كتب الإمام الشهيد فيها ما يزيد على 370 مقالا في كل القضايا، الشرعية والإيمانية، والسياسية والاجتماعية، وكذلك سلسلة من المقالات بعنوان "نحن" ، ليبين دعوة الإخوان المسلمين، وعلاقتها بالهيئات، والمؤسسات الأخرى، ورؤيتها في إصلاح المجتمع.
سابعا: مجلة الشهاب:
أصدرها الإمام الشهيد في غرة المحرم 1367ه- الموافق 14من نوفمبر 1947. وكانت المجلة حافلة بالبحوث والمقالات العلمية المهمة للإمام البنا، وآخرين من العلماء والمفكرين في شتى المجالات.
ولم يصدر من المجلة إلا خمسة أعداد: آخرها صدر في غرة جمادى الأولى 1367ه- الموافق 12 من مارس 1948.
ثامنا: مجلة الفتح:
وهي مجلة إسلامية علمية أخلاقية أصدرها محب الدين الخطيب في 29 من ذي الحجة 1344ه- الموافق10 من يونيو 1926. وظلت تصدر لمدة 24 عاما، ثم توقفت عام 1368ه-1949م، بفعل صاحبها بعد أن رأى ما أنزله أعداء الإسلام بالإخوان من محن.
وقد أفسحت المجلة للإمام البنا المجال للكتابة فيها، فكتب ما يزيد على 23 مقالا في الدعوة إلى الله، والسبيل إلى الإصلاح الاجتماعي،والسياسي والاقتصادي وغيرها من القضايا، وأغلب هذه المقالات نشر عامي 1928، 1929(10).
وبعد العرض السابق نخرج بعدد من الحقائق أهمها:
(1) أن الصحافة أخذت من اهتمام الإخوان الكثير، كوسيلة دعوية وتثقيفية ذات تأثير كبير، كالخطب والمحاضرات.
(2) أن هذه الصحف تنوعت في توقيت صدورها ما بين شهرية، ونصف شهرية، وأسبوعية، ويومية.
(3) أن أغلب هذه الصحف تعرضت للتوقف، أو لامتناع الإخوان والإمام الشهيد عن الكتابة فيها، لخروجها عن الخط الإخواني. ولكن أشد ما واجهته هو المصادرة الحكومية لأسباب سياسية.
(4) كان الإمام الشهيد هو صاحب الحظ الأوْفى في كتابة المقالات والبحوث في هذه الصحف. ويُشهد له أنه كان يقوم بتحرير معظم موضوعات مجلة "المنار": كالافتتاحية، والتفسير، والفتاوى، وقضايا العالم الإسلامي، والمرأة المسلمة.
(5) كان الهدف الأساسي لهذه المقالات الانتصار للقيم والمبادئ الإسلامية، ونشر دعوة الإخوان، وتربية النشء والشباب على درب السلف الصالح.
وقد كان لهذه المقالات آثار طيبة في تربية الإخوان وتوجيههم، وتنمية معارفهم على الرغم من الصعوبات والعقبات التى كانت تعترضها.
وأذكر أن بعض دور التوزيع كانت تصدر إليها أوامر سلطوية بالامتناع عن توزيع الصحف الإخوانية، فكان الإخوان يقومون بتوزيعها بأنفسهم، في المدن والقرى. وقد كان لي –وأنا ناشئ في حقل الدعوة- شرف المساهمة في هذا العمل النبيل.
وعودا على بدء نذكر القارئ بأن الإمام الشهيد قد عالج كل أنواع المقال، فكتب المقالات الدينية والتاريخية والتربوية والسياسية والوطنية والنقدية، بأسلوب جمع بين الوقار العقلي، والتوهج العاطفي.
والذين كتبوا عن فن المقال عند الإمام الشهيد أغفلوا هذا النوع الأخير: المقال النقدي، وقد يرجع ذلك إلى قلة هذا النوع، وغلبة الأنواع الأخرى لقوة اتصالها بالعمل الدعوي.
وما بين يدي من مقالات نقدية ينم على قدرة فائقة على الحكم والتقييم، ويملك الإمام ذائقة رفيعة في التعامل مع النصوص، فهو يجمع بين العقل والوجدان في التقييم النقدي. وكل أولئك قاده إلى الموضوعية والإنصاف، ففى نقده لكتاب "حياة محمد" للدكتور محمد حسين هيكل(11) ".. وظهر في عالم التأليف كتاب "حياة محمد صلى الله عليه وسلم" وأخذ دوره من التقريظ والنقد، والإعجاب والتقدير، والإطراء والتكريم، ولنا حول هذا الكتاب حيث نحب قبل أن نعالجه أن يعلم الدكتور نفسه، والقارءون معه أننا سنعالجه على ضوء الشعور البريء الخالي من التأثير بأية عاطفة إلا عاطفة الوصول للحق، والحق أسمى مطالب المخلصين."
وفي ختام نقده، وحرصا على الوصول إلى اليقين –يوجه لهيكل الأسئلة الآتية:
1- ما رأى الدكتور الفاضل في المعجزات: ماهيتها وثبوتها، وأمثلتها؟
2- وما رأي الدكتور في حجية الحديث؟ وهل يرى حضرته أن كلام الفنيين من علماء الحديث الإثبات حجة في الفن يعتمد عليها، ويصار إليها؟
3- هل كان الدكتور متأثر حين الكتابة بملاحظة ضرورة إقناع المستشرقين، ومن حذا حذوهم من الشرقيين بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، أم كان مقصده أن يسير مع البحث إلى أية نتيجة أدى إليها؟
وعلى هذا النهج يمضي الإمام الشهيد في نقده لكتب وأصحابها: كنقده لكتاب "لسان المنبر" للأستاذ محمود طيرة خطيب مسجد الجوهري، وقد اعتبره "فتحا جديد في الوعظ والإرشاد إنه المعنى الجامع والسهل الممتنع قول فصل، ولفظ جزل، وعبارة سلسلة رقراقة، يجد فيها الأديب روعة الأدب، ويجد فيها العادي تأثير العظة، فنحن أمام صورة حية من صور المجتمع، تمثل لك الداء والدواء، وتصنف تلك الحياة في ثوبها السعيد البهيج،والشقي المؤلم، مع بيان السبيل إلى كل منها، لتعمل على الأول، وتتجنب الثاني..."(12)
ويربط بين شعر محمد حسن النجمي، ومحمد صادق عرنوس، وبين الإسلام ومتطلباته.. وهو شعر يتجلى خلاله صدق الإيمان، وقوة الشعور والإحساس. أي أنه شعر رسالي ملتزم، يحرص على أداء دوره الإنساني الحيوي على أكمل وجه(13).
وللإمام مقالان طويلان عن التجديد في الأدب العربي(14) عالجا الأفكار الرئيسية الآتية:
- ضرورة التجديد تمشيا مع روح العصر.
- كلمة قيمة لابن قتيبة "لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين، ابتدأ هذا بناء فأحكمه، وأتقنه، ثم الآخر فنقشه وزينه"
- مما يؤسف له أن نلاحظ أن المتصدرين لمهمة تجديد الأدب العربي من رجال المدرسة الحديثة –كما يلقبون أنفسهم- سلكوا إلى هذه الغاية سبلا لا تؤدي إليها، ولا تفيد فيها، ومن هذه السبل:
1- الإسراف في التقليد الأوربي، والإعجاب بأدب الغرب إعجابا جعلهم ينصرفون عن محاسن لغتهم.
2- الغلو في التشكك، واتخاذ الفروض حقائق مسلمة تبنى عليها نتائج ثابتة، لتنقض آراء الأقدمين.
3- الزراية على الأسلاف، وإظهارهم للناشة والمتأدبين بمظهر الأغرار.
4- التستر بحرية البحث، واحترام الفكر، والتوصل بذلك إلى هدم العقائد الأدبية الثابتة.
5- التحلل من قواعد الأخلاق، والعناية بكل ما يتصل بالإباحة والمجون والخلاعة والمتعة.
6- الإبهام والغموض.
هذا هو التجديد المدمر الهدام. لذلك يجب أن يعتمد تجديدنا على أصول صحيحة مثمرة أهمها:
1- الابتكار في الأغراض والمعاني والأخيلة والأساليب، ارتباطا بالحياة وتمثيل لها.
2- تمجيد السلف، والاعتراف بفضلهم وجهودهم.
3- نزاهة البحث، والابتعاد عن الهوى والشبهات.
4- كمال الاستقراء، وحسن الاستقصاء، مع صدق النية في الوصول إلى الحقيقة.
5- خدمة الأخلاق والفضيلة بالأدب بقدر خدمته للفن والعاطفة.
وقد أخذ الإمام نفسه بهذا النوع السوي من التجديد، ولم يكتف بالدعوة النظرية إليه، ولكنه جعل المقال الثاني دراسة تطبيقية بعنوان "التجديد في الأدب العربي: الانتقال الأول من الجاهلية إلى الإسلام"، عالج فيه أفكار رئيسية أهمها:
- تأثر اللغة بظروف الأمة.
- من مظاهر التجديد قديما.
- شواهد من نصوص القدامى، مثل المرقش الأكبر عمرو بن سعد في الحماسة والفخر بقومه، وطرفة بن العبد في وصف السفينة، والأعشى في الاعتذار، وذي الإصبع العدواني في وصيته لابنه أسيد.
المصدر:رابطة أدباء الشام