القـلب .. معين الصفاء
بقلم: الإستاذ عمر التلمسانى
عجيب أمر هذا القَالَبِ الصنوبريِّ، الذي أودعه اللهُ صدورَ بني الإنسان! يصلح القلب فتصلح الدنيا معه, ويفسد القلب فيفسد العالم على أثره، ويتسع فيسع الدنيا وما فيها, ويضيق فكأنما يصعد صاحبه في السماء، أو يتنفس من سم الخياط, ويزكو القلب فلا يرى صاحبه في الوجود إلا خيرًا ونورًا, ويأثم فلا يرى في الكون إلا الظلمة والشرور, ويتجلى ربك ببسط على القلب فلا تجد فيه متسعًا لحقد أو ضغينة، ولا يشرق فيه نور الجمال القدسي فإذا به معترك الإحن والبغضاء.
فلا غرو في أن يقول العليم الخبير:
"مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلاَ أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَني قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ"!! هذا القوي القاهر الذي لا يحيط الناس بشيء من علمه, يشرح فضاء هذا القلب، فينبسط لربه محبةً وألفةً، ووفاءً وإخلاصًا, ويحمل كل ما يلقاه من إخوانه وغيرهم على أجمل محل وأطهر غرض, و﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللهِ﴾ (النساء: 78).
أجل إن النظرة الطاهرة الخالصة المخلصة، التي لا ترى في الوجود إلا الله, هذه النظرة النافذة المدققة لن تحجبها ظلمة الكون, ولا عتمة الهوى عن استخلاص أنصع ما في الحياة رحمةً وبرًّا وحنانًا، وما النظرة في رأيي إلا انعكاس أضواء القلب النقي على صفحة الوجه البريء؛ ألم يقل ربك:
﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
أيها الأخ الحبيب :
في الجسم مضغة "إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كَلُّهُ، ألاَ وَهِيَ الْقَلْبُ".. هذا هدي الصادق الأمين- صلوات الله وسلامه عليه- فاحرص على أن تجعله مهبط التجليات الربانية, والفيوضات الإلهية, والرحمات القدسية, والإمدادات النورانية, تعش سعيدًا هانئًا في خضم الحياة, ولا يجد الشيطان إلى مدخلك سبيلاً مهما استمر الخلاف واكفهر وجه الجدل، وآمِنْ بأن كل ما يصدر من إخوانك إنما يُبتغى به وجه الله ورضاء الرحمن, ولا تؤول ولا تجتهد, فَلأمرٍ ما يقول حبيب الله- صلوات الله وسلامه عليه-:
"يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي عَلَى دينكَ"، وقانا الله وإياكم شر تقلبات القلوب.
أيها الحبيب :
نقدم على ربنا يوم الدينونة الكبرى، طامعين في مَنِّه وقبوله, ولن يحظى بذلك الفضل من جاء ربه بعقل مستنير, أو عمل صالح, كلا وربي؛ إنما يفوز بذلك الإحسان من أتى الله بقلب سليم، ومن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أمعِن الفكر في تخير العليم الخبير للقلب، والقلب وحده محل للمناجاة ومستقر للمثوبة والرضوان..
تلمَّس مدى ما يفيضه القلب- والقلب وحده على صاحبه- من متعة وسعادة أو غير ذلك، إنك لا تحب إلا بقلبك، ولا تكره إلا به، إنك لا تميل بقلبك؛ فعالج هذا القلب الذى جعله الحبيب المحبوب- صلوات الله وسلامه عليه- ملهم الفتوى، ومرجع التقدير؛ حيث يقول:
"اسْتَفْتِ قَلْبَكَ... وَإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وَأفْتَوْكَ".
أيها الأخ الحبيب :
لن يجتمع حب الله وبغض عباده في قلب رجل واحد, ولن يجتمع الرضا والسخط في قلب رجل واحد, ولن يمتزج التعاون بالتقاطع في قلب رجل واحد؛ فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه مهما اجتهد، وأخلص وتأول، مدعيًا سلامة القصد ونيل الغاية. أيها الأخ الحبيب :
تجرد من الحياة المادية البحتة, ولا أقول تجردًا من تحكيم العقل والأخذ بموازينه والتقيد بمقاييسه الجافة الجامدة؛ فقد ترى في ذلك من الشطط ما لا تقره؛ ولكني أنصح بأن تقلل من التزام ذلك الجانب المادي ما أمكن, وكن عاطفًا ما استطعت، وحكم قلبك في كثير مما يعرض لك، فالتضحية عاطفة قبل أن تكون حكمة, والإيثار عاطفة قبل أن يكون خلقًا, والإقدام عاطفة قبل أن يكون رَوِيَّةً وتفكيرًا, ولا إخالك مجادلي في أن التضحية والإيثار والإقدام من أنبل ما تلقيناه عن السلف الصالح, ومن أسمى ما يجب أن يأخذ الأخ المسلم به نفسه.
وما أدق نظرة الصوفي إلى تلك الآية أنه أنزل من السماء ماء, وأن ذلك الماء قد أترع الأرض شبعًا ورِيًّا؛ فأنبتت من كل زوج بهيج..
ما أدق نظرته عندما يرى أن السماء رمز القدرة الإلهية, وأن مُزنها هو وابل الرحمات والنفحات, وأن الأرض هي القلب مستقر فيوضات الجمال والجلال, وأن النبات مختلف الألوان والأُكُل، ما هو إلا تلك الأحاسيس التي ينبض بها القلب الطيب الطاهر من سماحة وعفو ورضا وحب وتسامح.
ما أدق هذه النظرة وما أجلها! وما أحواجنا- بخاصة في ظروفنا هذه- إلى أن تنظر هذه النظرة، وأن نروض أنفسنا عليها؛ لعل الله جاعل هذه القلوب معين الصفاء ونبع الوفاء, ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ (الإنسان: 30).
أيها الأخ الحبيب :
اجعل قلبك مدلهًا في حب إخوانك, عامرًا بالحب لهم, خالصًا لأخوتهم, متفانيًا في إعزازهم, حانيًا عليهم, ترَ من أعمالهم وأحوالهم ما لا يخطر لك ببال.
قلوب العاشقين لها عيون
- ترى ما لا يراه الناظرونا
لست أدري- أو لعلني أدري- ما الذي جعلني أناجي القلوب بهذه الكلمات..
ولست أدري- أو لعلني أدري- ما الذي دفعني إلى حمل القلم في وقت انقطَعْتُ خلاله عن كل أعمال الدنيا ومشاغلها! قد يكون شعورًا قلبيًّا, وقد يكون غير ذلك؛ إنما الذي أعرفه وأُومِن به أنني خالص القلب ويميني تخط هذا الكلام.
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾