العسكر والاستحواذ على الأعمال المدنية والدبلوماسية
يمتلك الجيش المصري القدرة على استخدام المجنّدين كأيدي عاملة رخيصة. كما أن أرباحه معفاة من الضرائب ومتطلّبات الترخيص التجاري وفقاً للمادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005. فضلاً عن ذلك، تنصّ المادة الأولى من قانون الإعفاءات الجمركية لعام 1986 على إعفاء واردات وزارة الدفاع ووزارة الدولة للإنتاج الحربي من أي ضريبة. كل هذه العوامل تعطي مزايا كبيرة للجيش المصري في أنشطته التجارية، ويجعل من الصعب على الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص منافسته. تقليدياً .
والدولة العسكرية تعني سيطرة المؤسسة العسكرية (الجيش) على مقاليد الحكم في الدولة، بحيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة للرجل العسكري أو لمجموعة الرجال العسكريين الذين يقفون على رأس هذه المؤسسة العسكرية.
يقول المفكر رفيق حبيب: أنه لا مكان لتداول السلطة أو اختيار الشعب لقيادته السياسية في الدولة العسكرية، وتصادر إرادة الشعب بالقوة التي يملكها العسكريين.
وقد يكون الحكم العسكري متخفّيا في لباس الحكم المدني، وهذا شكل من أشكال الدولة العسكرية المقنعة؛ حيث تمارس فيها الآليات الديمقراطية كتداول السلطة والانتخابات ولكن في إطار مقيّد، يسمح للجيش بالتدخل إذا وجد أنّ الديمقراطية تأتي بنتائج لا تتفق مع علمانية الدولة . الجدير بالأمر أن في دولة العسكر تصبح كل الوظائف الكبيرة خاصة المدنية والدبلوماسية حكرا على العسكر – خاصة الذين بلغوا سن المعاش- بحيث يتولون جميع مفاصل الدولة بعد انتهاء فترة خدمتهم.
وهذا ما نراه في وقتنا الحالى أن أصبح العسكريين يتولون كل مفاصل الدول وزمام الحكم سواء وزراء أو محافظين أو دبلوماسيين أو حتى رؤساء الأجهزة والإدارات والأحياء.
ثورة يوليو ومبدأ العسكري المدني
لم تشهد مصر في تاريخها الحديث تولي العسكريين المناصب المدنية إلا وقتما تولى محمود سامي البارودي تشكيل الحكومة من 4 فبراير 1882 إلى 17 يونيو 1882م، حتى كانت ثورة 23 يوليو والتي دفعت بمحمد نجيب ليكون أول عسكري يتولى رئاسة الوزراء خلفا لعلي ماهر باشا. لكن لم تكن هذه هي البداية، لكنها كانت حينما غضب مجلس قيادة الثورة على رشا مهنا – أثناء فترة ولاية الوصاية على الملك الصغير أحمد فؤاد- حيث سعوا للإطاحة به من الوصاية، لكن كان لابد من ترضية له، وبالفعل حصل على منصب دبلوماسي خارج البلاد، يقول محمد نجيب – أول رئيس لمصر- في كتابه كنت رئيسا مصر (المكتب المصري الحديث، طـ5، 1988م، صـ156: كان تعيين رشاد مهنا في منصب كبير خارج الجيش فاتحة لتعيين 18 من اللواءات وكبار الضباط في وظائف مدنية ودبلوماسية.
وتولد في داخل إحساس بأننا فتحنا باب أمام باقي الضباط ليخرجوا منه إلى المناصب المدنية، ذات النفوذ القوي والدخل الكبير، حاولت قدر استطاعتي إغلاق هذا الباب وابتعاد الجيش عن الحياة المدنية وترك البلد للسياسيين، لكن الوقت قد فات.
فمن العسكريين كونا لجان تطهير الجيش، ومن العسكريين أصبحوا قضاة مثل محكمة الثورة ومحكمة الشعب.
ويصف أنور عبد الملك [في كتابه المجتمع المصري والجيش، الصادر عن مركز المحروسة للبحوث والتدريب والمعلومات والنشر, 1998 مصر في الحقبة الممتدة بين عامي 1952 إلى 1967 بـ(المجتمع العسكري) نتيجة "سيطرة النخبة من الضباط والتأثير الكبير لهذه السيطرة في المجتمع المصري، فقد اتصف العمل السياسي لمجموعة الضباط في تلك الفترة التاريخية بالاستيلاء الكامل على جهاز الدولة وتشكيل برنامج التغيير الوطني الجذري، وإجراء تغيير واضح في شكل الدولة.
لقد تحول العسكر في عهد عبد الناصر إلى البدل والسيارات الفارهة وتخلوا عن البدل العسكرية والسيارات الجيب من اجل الامبروطورية التي بدأوا يبنوها لأنفسهم وذويهم.
اتجهت احتفالية ذكرى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر لتكريم شخصه ومشروعه الوطني، فيما رأى الدكتور صلاح هاشم خبير التنمية أنه كانت هناك جوانب إخفاق عديدة لا يريد الناصريون تذكرها عادة، وأهمها ملف الحريات والفساد السياسي والإداري ونكسة يونيو والعدل.
فلقد اعتبرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية القوات المُسلحة المصرية الشريك المُفضَّل لإبرام العقود الصناعية!
بدأ الجيش في لعب هذا الدور من خلال توجيه موارد الدولة نحوه ليلعب الجيش الدور الرئيسي في مشاريع استصلاح الأراضي والصناعة المحلية للأجهزة الاستهلاكية وإنتاج السلع الصناعية والزراعية كالفولاذ والسماد. بعيدًا عن اقتصاد الجيش بدأت عملية تعيين ضباط من رتب عالية كمدراء لمصانع مدنية. الأكثر من هذا أن تواجد الجيش دخل إلى مؤسسات الدولة العامة وشبه العامة كذلك
- وتستمر الهيمنة
الجدير بالذكر أن سيطرة العسكر على كل الوظائف المدنية بلغت درجة كبيرة خاصة في الفترة التي سبقت نكسة 1967م والتي راح ضحيتها شباب ورجال مصر.
لقد سيطر العسكريون على جهاز الدولة بداية من منصب رئيس الجمهورية ومنصب نائب رئيس الجمهورية. وشغل العسكريون -أيضا- أهم الوزارات فضلا عن مقاعد المحافظين، مؤلفين الأغلبية العظمى من شاغلي المناصب الرسمية والسياسية التنفيذية والدبلوماسية وغيرها، إلا أن ذلك الأمر لم يستمر بهذا التوحش في عصر السادات، خاصة بعد ثورة التصحيح التي وقعت أحداثها في 15 مايو من عام 1971م، حيث قلت نسبة العسكريين في الحياة المدنية إلى 20 %.
لكن بعدما وقعت أحداث حرب أكتوبر عام 1973م وصحبتها معاهدة كامب ديفيد -والتي أفقدت الجيش خصوصيته الحربية والدفاعية- جعلته يتجه إلى المجالات التنموية والنشاط الاقتصادي المدني، وترافق هذا مع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها السادات، وهو ما جعل النخبة العسكرية للدولة تبدأ في التحالف مع النخبة التجارية المزدهرة.
تعاظمت عملية العسكرة عقب اتفاقية كامب ديفد للسلام مع إسرائيل في 1978، والتي قلصت المهام القتالية للجيش ودفعته نحو مهام السيطرة الداخلية. فاتجه الجيش ككتلة إدارية من العمل العسكري البحت إلى السيطرة على ملفات الاقتصاد الداخلي وريادة الأعمال، بحيث بات يسيطر بموجب القانون على أكثر من 80% من أراضي الدولة، كما أن القوات المسلحة تملك حق الانتفاع المتعدد بالمجندين إجبارياً، عبر توزيعهم على مشاريع الجيش الاقتصادية، لا العسكرية فقط.
إلا أن مبارك أعاد الجيش للسيطرة الكلية مرة أخرى بعد أحداث الأمن المركزي والتي وقعت أحداثها في 25 فبراير 1986م. يقول هاني سليمان في كتابه [العلاقات المدنية–العسكرية والتحول الديمقراطي بعد ثورة 25 يناير، ط1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015م]: لقد وسع الجيش نشاطاته بشكل ضخم في المجالات التي كانت دائمًا من نصيب المدنيين؛ مثل المجالات الصناعية والزراعية وبناء المرافق. أدى هذا النشاط الاقتصادي المتزايد إلى تحقيق مكتسبات مادية كبيرة وتدعيم المصالح المشتركة بين المدنيين والعسكريين ومصالح البرجوازية المصرية بصورة أكثر عمومية.
وفي المحصلة النهائية ارتفع عدد العسكريين الذين يشغلون وظائف مدنية في عهد مبارك حتى وصل عشرين ضعفا عما كان عليه أيام السادات.
السيسي وعسكرة الدولة
يعد الإخوان أكبر جماعة إسلامية سواء في مصر أو خارجها، ولذا بعدما وقع الربع العربي جاء الشعب بالإخوان على رأس السلطة – وهذا ما لم تكن تتمناه الامبريالية الغربية سواء الغربية أو الشرقية- فعمدوا يعاونهم أذنابهم في السلطة في الدول العربية لشيطنة الإخوان، وترويج الشائعات ضدهم سواء في الوظائف أو غيرها، حتى وقع الانقلاب وجاء العسكر في مصر 2013.
سعى العسكر منذ وقوع الانقلاب - بمعاونة السعودية والإمارات وأمريكا - إلى عسكرة الدولة والسيطرة على كل مفاصل الدولة سواء الاقتصادية أو الدبلوماسية أو السياسية أو الإدارية.
فقد رأيناهم يسيطرون على الوزارات وحركة المحافظين ونوابهم ورؤساء الأحياء والأجهزة الرقابية والتنظيم والإدارة، وكل مفصل من مفاصل الدولة. يقول اللواء متقاعد عادل سليمان [الكاتب والباحث الأكاديمي المصري في الشؤون الإستراتجية والنظم العسكرية]: هناك حالة من التماهي الشديد للقوات المسلحة مع كل نواحي ومجالات الشأن العام في مصر من تنظيم دوريات أمنية مشتركة من القوات المسلحة والشرطة المدنية، تجوب الطرقات، إلى تمركز الدبابات والمدرعات على الطرق الرئيسية، وأمام المؤسسات المدنية والعامة، إلى إزالة المباني المخالفة، وإدارة الطرق السريعة، وإنشاء الفنادق الفاخرة والنوادي، وإنتاج المواد الغذائية، والتعدين وعشرات المجالات، وأخيراً النقل العام وتوزيع السلع التموينية. وانتهاء يتولى السلطة وإحكام القبضة على النظام السياسي للدولة .. نحن لسنا أمام دولة عميقة، ولا شمولية، ولا ديكتاتورية، ولا سلطوية، وليست دولة يحكمها العسكر. ولكن، دولة عسكرية بامتياز.
في أواخر مارس 2016م، حذر تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني من "مخاطر توسع الإمبراطورية الاقتصادية العسكرية في مصر". وقال التقرير: إن "الاقتصاد العسكري المصري تطور إلى ما هو أبعد من الاحتياجات العسكرية ليشمل جميع أنواع المنتجات والخدمات".
وأكد أن العسكر "يهيمنون على نسبة تتراوح بين الـ50-60% من الاقتصاد المصري، ويستحوذون على 90% من أراضي مصر، ويسخرون الجنود للعمل مجاناً في مشاريعهم فينافسون بذلك أصحاب المشاريع الأخرى الخاصة المدنية".
وتعزز بعض التشريعات قدرة الجيش على خنق الشركات الاقتصادية المدنية، ومن أمثلة ذلك قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بخفض دعم الوقود لأصحاب المصانع، ومع بقاء ميزانية الجيش، ومن ثم تكاليف الطاقة، خارج السجلات.
وفي ظل السرية التامة حول ميزانية الجيش، وبالتبعية إقطاعياته الاقتصادية، يمكن للشركات التي تسيطر عليها القوات المسلحة أن تستفيد من الإعانات التي تبقى خارج السجلات، والتمتع بمزيد من حرية المناورة في ظل انعدام الرقابة عليها.
وعقب الإطاحة بمبارك قال اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إن الجيش "لن يسلم أبداً هذه المشروعات لأي سلطة أخرى مهما كانت"، وأضاف أن هذه المشروعات "ليست من الأصول التي تمتلكها الدولة، ولكنها إيرادات من عرق وزارة الدفاع والمشاريع الخاصة بها".
كما فتح استحواذ شركة "إيغل كابتال"، التابعة لجهاز المخابرات العامة المصرية، على أسهم شركة إعلام المصريين العديد من علامات الاستفهام حول أسباب قيام المؤسسة العسكرية المصرية بالكشف عن وجهها صراحة فيما يتعلق بالسيطرة على كافة مفاصل الاقتصاد المصري، سواء الربحي أو الترويجي.
وهكذا يظل السيسي يحافظ على نظامه وكيان سلطانه بمنح العسكريين السلطات المدنية، ليكونوا له عونا على الحفاظ على أركان نظامه ومكافأة لهم على ولائهم التام لنظام السيسي.
ظل التغلغل في المؤسسات والوظائف من قبل العسكريين وظل هذا النمط الذي قاد في النهاية إلى إجهاض تجربة التحول الديمقراطي في مصر بعد الإطاحة العسكرية بأول رئيس مدني منتخب.