الطبقة المتوسطة بين مبارك والإخوان المسلمين
المقدمة
وجود الطبقة المتوسطة ضرورة لتوازن القوى داخل اى مجتمع واستمرار حالة السلم الاهلى ، والاهم من ذلك الدور الذى تلعبه تلك الطبقة في صناعة التغيير ومن ثَم بقاء المجتمع وتطوره . كان الاقتصاد والدخل هما بوابة السلطة في التأثير على مساحة وجود الطبقة المتوسطة وقوة تأثيرها في صناعة التغيير .
واذا كان عبد الناصر قد وسّع ظاهريا في مساحة الطبقة المتوسطة من خلال سياسة التعليم وقوانين الإصلاح الزراعى ، الا انه حرص على السيطرة على تلك الطبقة من خلال التضييق على الحريات والتحكم في النشاط العام ، مما جعلها أسيرة لسياسات عبد الناصر وتوجهاته .
وكذلك السادات فبالرغم من انه قد وسّع مساحات الحرية نسبيا ، مما ساعد في انتعاش تلك الطبقة بفعل عودة جماعة الإخوان المسلمين الى النشاط مرة أخرى ، وهى تنتمى في اغلب أعضائها الى الطبقة المتوسطة ، الا ان سياسة الانفتاح الاقتصادى التي اتبعها السادات وما تبعها من آثار سياسية واجتماعية قد أضعف من فرص تلك الطبقة في صناعة التغيير .
لكن في ذات الوقت كان دور الإخوان المسلمين في قوة تأثير تلك الطبقة ، كان عاملا مهما في التخفيف من آثار سياسات السلطة (السادات) على الطبقة المتوسطة . نستكمل اليوم الحديث عن تلك الطبقة ودور السلطة في فترة حكم مبارك ، وكذلك جماعة الإخوان المسلمين في التأثير في تلك الطبقة.
الطبقة المتوسطة .. وعلاقتها بالسلطة
اهتم الحكام فى الانظمة الغير ديمقراطية بــ :
- اشغال الطبقة المتوسطة بلقمة العيش (الاقتصاد)
- التضيق السياسى على مجال العمل العام (الحريات)
- سياسة الالهاء وحرق البدائل (المعارك الوهمية - قتل الامل فى التغيير) .
كل ذلك من اجل الا تنهض الطبقة المتوسطة بما هو متوقع منها فى صناعة عملية التغيير ... فعبد الناصر جاهد في سبيل تجيير الطبقة المتوسطة لتعمل كحاضنة شعبية طيعة لنظامه وسياساته ، فكانت الطبقة المتوسطة بالنسبة لعبد الناصر هى (الجماهير) التي تهتف دوما باسم الزعيم وبحياته ، وعلى الجهة المقابلة كان الإخوان المسلمون الرافضون لسياسات الزعيم وتوجهاته في السجون ثمنا لموقفهم هذا .
وبينما كان السادات – برغم هامش الحرية – يشارك في صنع طبقة تدعم نظامه عُرفت باسم (القطط السمان) والتي نشأت كأثر عن سياسة الانفتاح الاقتصادى ، كان الإخوان المسلمون يتلمسون طريقهم نحو قلب المجتمع رويدا رويدا . كلاهما كان حكما عسكريا أتى بطريق غير ديمقراطى ، وكلاهما استهدف الطبقة المتوسطة خوفا من حركة تغيير تقتلع سلطانهما .
لكن كانت جماعة الإخوان المسلمين لكلاهما عقبة و للطبقة المتوسطة المستهدفة أملاً ومستقبل .
أزمة الطبقة المتوسطة وسلطة مبارك
ثلاثون عاما قضاها حسني مبارك في حكم مصر (1981-2011) تميزت باتجاه تصاعدى في إجراءات تحجيم الطبقة المتوسطة من جهة سلطة الحكم آنذاك ، وبمقاومة تلك الطبقة لذلك الاتجاه من جهة أخرى ... فقد تميز عصر مبارك بثلاثية هددت المجتمع المصرى وزادت من الفجوات الاجتماعية فيه بدرجة كبيرة .. وتمثلت تلك الثلاثية في (الفساد والغلاء وسياسة الخصخصة) ، مما أدى الى انحدار جزء ليس قليلا من أبناء الطبقة الوسطى نحو الفقر بعد تعرض هذه الطبقة التي تعد الأكثر تعليما ومحافظة "للسحق اقتصاديا" نتيجة سوء توزيع الدخل ..
الفساد في حماية السلطة
فحقول الغاز الطبيعى – على سبيل المثال - التي من ثروات الشعب وممتلكاته ، كان احد اهم المجالات التي رتع فيها الفساد .
(حسين سالم) احد الذى اُتهم بقضايا فساد إبان عصر مبارك أبرزها تصدير الغاز لإسرائيل بسعر أقل من السعر العالمي ، بالإضافة الى تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي له بالمخالفة للقانون بمنتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر . كما اُتهم كذلك بغسيل أموال واستغلال نفوذ لصلته بنظام مبارك ، حسين سالم هذا كان ضابط مخابرات سابق ، وكان واحد من اهم الرجال المقربين من حسني مبارك (1)
الخصخصة ونهب المال العام
وفي ظل غياب الشفافية والمحاسبة نتيجة التضييق على الحريات ترعرت بيئة خصبة للفساد المالى والسياسى فيما بعد . والذى كان يعنى عمليات من النهب المنظم لثروات البلاد لصالح من في سلطة الحكم والمتحالفين معها ، فاختفت عدالة التوزيع وازدادت أعباء الطبقة المتوسطة نتيجة الغلاء الفاحش ...
فبرغم ان معدلات التنمية وصلت في عصر مبارك الى 5.1% في عام 2010 ، الا ان تلك المعدلات كانت تصب مباشرة فى صالح الطبقة العليا (الأثرياء) ، لتظهر بذلك ظاهرة (النمو بلا فرص عمل) تلك التي بدأت من عام 2004 الى عام 2010 ، ويتحول الغلاء الى غول يلتهم دخول المصريين ومدخراتهم نتيجة الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية مثل السكر والقمح والأرز (تقرير لغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية في ديسمبر - كانون الأول 2010 محققا نسبة تضخم 10% في العام الأخير لمبارك قبل ثورة يناير 2011 (2)
فعلى سبيل المثال معايير خصخصة الشركات كانت تمثل "الفساد المنهجي" الذي يتمثل في تقييم أصول هذه الشركات حيث كانت تباع بنحو ثلاثة بالمئة من سعر الأرض المقامة عليها مستشهدا بفندق مقام في جزيرة بنهر النيل في العاصمة وتبلغ مساحته 21 ألف متر مربع. ويقول إن هذا الفندق عرض للبيع عام 1993 وكان سعر المتر لا يقل عن 30 ألف جنيه مصري أي أن قيمة الأرض وحدها تساوي 630 مليون جنيه (أكثر من 185 مليون دولار بأسعار ذلك العام) ولكنه بيع "إلى أمير سعودي" بمبلغ 75 مليون دولار. ويرى أن الثمن الذي بيع به الفندق لا يتجاوز قيمة الأرباح الصافية لتشغيله في أربع سنوات (3)
زيادة الطبقة العليا
فقد زادت أعداد الأثرياء بشكل كبير في مقابل تآكل الطبقة الوسطى وزيادة الفقر بنسب كبيرة ، فوفقا لعمرو حمزاوي في مقال منشور في سبتمبر 2010 فإن الشريحة العليا من أغنياء المصريين (تمثل 10% من السكان) رفعت نصيبها من الناتج المحلى الإجمالي إلى ما يقرب من 28%، ووفقا لبيانات بنك كريدي سويس فإن مصر تحتل المرتبة الثامنة الأسوأ عالميا من حيث توزيع الثروة
ظاهرة المال السياسى
ومع زيادتها أعداد الطبقة العليا في المجتمع المصرى ، بدأت تتمدد تلك الطبقة خارج نطاقها الطبيعى (عالم الاقتصاد والمال) في اتجاه الاستحواذ على مساحة اكبر من (السلطة) ، لتنشأ ما يعرف بظاهرة "المال السياسي"، والذى تم استعماله بكثافة في الوصول للسلطة التشريعية والسيطرة عليها
ففي الانتخابات البرلمانية لعامى 2000 ، و2005 ، فصار رجل الأعمال أحمد عز رئيسا للكتلة البرلمانية للحزب الوطنى الحاكم وأمينا للتنظيم فيه وكذلك وعضو لجنة السياسات ، ومثله عدد كبير من رجال الاعمال ، مما أدى الى ان تصبح التشريعات والسياسات ولتى تُقر داخل مجلس الشعب المصرى تصب في مصلحة هذه الفئة من رجال الاعمال على حساب باقي طبقات الشعب !! (4)
يقول الدكتور جلال امين في كتابه "مصر والمصريون في عهد مبارك" :
- (ابتداء من منتصف الثمانينيات وحتى الآن أي طوال ما يقرب من ربع قرن تلقت الطبقة الوسطى المصرية عدة ضربات متتالية قللت بشدة من معدل نموها وخفضت من مستوى معيشتها وأضعفت من تميزها عن الطبقات الدنيا)
وما حدث في الاقتصاد بالنسبة للطبقة المتوسطة ، حدث كذلك في التعليم ، يقول الدكتور جلال امين :
- (لقد استمر التوسع في التعليم ليخلق فرص لانتقال أعداد كبيرة من شرائح الدخل الدنيا على الطبقة المتوسطة ولكن هذا الانتقال أصبح انتقالاً ظاهرياً بعد أن عمت البطالة صفوف الخريجين فأصبح تعليماً بلا دخل يزيد من حكم الطبقة الوسطى ظاهرياً دون أن يمد المتعلمين بالقوة الشرائية اللازمة لإثبات وجودها) (5)
كانت هذه هي أوضاع المصريين طوال ثلاثين عاما من حكم مبارك ، والتى سببت إزاحات متتالية للطبقة المتوسطة الى مربع الفقراء، مما أضعف الى حد كبير قدرة أبناء تلك الطبقة على صناعة التغيير المطلوب ، لولا وجود وأنشطة جماعة الإخوان المسلمين ، التي ساهمت في وقف تآكل تلك الطبقة (المتوسطة) ، بل وعمل على زيادة فاعليتها وتأثيرها في المجال العام .
الإخوان المسلمون .. طوق النجاة
بينما كان خطاب السلطة الحاكمة يتكلس حول جملة من المفاهيم التي تجعل (الاستقرار) في طرف مقابل لــ (الحرية) فلا يجتمعان ، وبطبيعة الحال كانت الضحية لتلك السياسة هي أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة . بينما كان هذا خطاب سلطة مبارك ، كان الإخوان المسلمون يطورون من خطابهم ويحولونه الى واقع يراه الناس ويلمسونه ، فيخفف من وطأة السلطة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع ، مما منح هذا المجتمع الامل في إحداث تغيير ولو على المدى البعيد .
فقد نجحت جماعة الإخوان المسلمين في توسيع قاعدتها الاجتماعية ومد شبكتها التنظيمية من خلال الجامعات والمدارس والمساجد والعديد من الجمعيات الخيرية التي تُعنى أساسا بالطبقة الفقيرة والمتوسطة ، وكذلك النقابات المهنية التي تُعنى أساسا بالطبقة المتوسطة .
فمع نهاية الثمانينيات كانت جماعة الإخوان قد وصلت إلى ذروة حضورها المجتمعي، وذلك بعد فوزها الكبير في عدد من النقابات المهنية كالأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والعلميين. وقد ساعد الحضور النقابي والتنظيمي للجماعة على زيادة التأثير داخل الطبقة الوسطى وشرائح من الطبقة الدنيا .
ولم تنتصف التسعينات الا وجماعة الإخوان المسلمين تحتل مساحة واسعة ومؤثرة داخل العديد من النقابات المهنية ، مما أعطى – وقتها – مؤشرا واضحا على الدور السياسى الذى يمكن ان تلعبه جماعة الإخوان المسلمين في صناعة التغيير ، مما يصب في النهاية في صالح الطبقة المتوسطة التي يتشكل منها اغلب المنتمين للطبقة المتوسطة في مصر .
وهذه بعض نسب تواجد الإسلاميين في مجالس إدارات بعض النقابات المهنية في عام 1995 :
- ففي نقابة الأطباء مثل الإسلاميون نسبة 87%
- وفى نقابة المهندسين مثل الإسلاميون نسبة 74%
- وفى نقابة الصيادلة مثل الإسلاميون نسبة 68%
- وفى نقابة العلميين مثل الإسلاميون نسبة 68%
- وفى نقابة المحامين مثل المحامون نسبة 72% (6)
موقف السلطة من نشاط الإخوان
أدرك نظام مبارك خطورة بقاء الإخوان خارج السيطرة ، فقرر اللجوء الى المحاكمات العسكرية التي وصلت إلى حوالي ست محاكمات خلال أقل من خمس سنوات .. فكانت محاكمات النقابيين المشهورة في عام 1995 ، والتي وصل الحكم فيها بمدد تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس سنوات ... حتى وصلنا الى عام 2001 حيث المحاكمة العسكرية الأولى في هذا العقد والسادسة تحت حكم مبارك.
وقد حكم على حوالي 16 عضوا بالسجن لفترات تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس سنوات لكن مع عام 2005 بدأ صعود سياسى جديد لجماعة الإخوان المسلمين بتحقيق أكبر فوز برلماني في تاريخها وفي تاريخ المعارضة المصرية، حين فازت بحوالي 88 مقعدا أو ما يوازي 20% من مقاعد مجلس الشعب المصري.
لم يكن هذا الفوز يصب فقط في مصلحة جماعة الإخوان المسلمين ، بل كان يصب في الحقيقة في إعادة التوازن داخل المجتمع المصرى بين سلطة الحكم والتي تدعم بشكل واضح طبقة الأثرياء ، وبين الطبقة المتوسطة بل والفقيرة ، وحيث اغلب جمهور جماعة الإخوان المسلمين ، وهو نفسه الجمهور الذى صنع ثورة يناير 2011 .
ورغم ان مبارك حاول طيلة سنوات حكمه ترويض جماعة الإخوان المسلمين بالاغضاء تارة وبالقمع تارة أخرى ، الا انه في الأخير لم يستطع ان يكبح طموحها السياسى ، بل وصار اسيرا لذلك الطموح ، حتى سقط أخيرا بثورة شعبية في يناير 2011 ، كانت جماعة الإخوان المسلمين في صفوفها الأولى .
كانت فترة حكم حسني مبارك (1981-2011) تمثل فرصة نادرة للطبقة المتوسطة في ان تصنع تغييرا ينصفها ، ولم تكن تلك الفرصة فقط للطبقة المتوسطة ، بل للطبقة الفقيرة كذلك . وكان طوق النجاة الذى ساعد أبناء الطبقة المتوسطة على الإفلات من سياسات السلطة الحاكمة في ذلك الوقت ، هي جماعة الإخوان المسلمين ، بفضل ما تمتعت به من مرونة سياسية كبيرة ، سواء على مستوى الخطاب السياسى او على مستوى العمل الجماهيرى .