الحقبة العسكرية والكذب الإعلامي
الصحافة هي المهنة التي تقوم على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور، وزرع الوعي لدى الرأي العام.
يقول عبد الله العبد الرحمن: وتكمن أهمية الصحافة في تزويد الأفراد والجماعات بالمعلومات التي يحتاجونها في حياتهم والمهمة في صنع القرارات على مستوى الفرد والمجتمع والحكومة، وتتجلى رسالتها في بناء جيلٍ واعٍ يسير على المبادئ والأخلاق الرفيعة، كما تسعى لنشر المعرفة والثقافة بين الشعوب. كانت الصحافة في مصر في العهد الملكي – على الرغم من كثرتها – إلا أنها شهدت رواجا وحرية في العمل والنقد، أكثر مما شهدته في الحقبة العسكرية التي تلتها، والصحف شاهدة على ذلك.
إلا أنه منذ ان سطا العسكر على الحكم بعد انقلاب 1952م، وقد حولوا البلاد إلى صندوق يتحكمون فيه، ويحسبون كل صيحة على كل فرد، ورغم التدهور الذي شهدته البلاد منذ توليه الحكم إلا أن كثير من الصحفيين ساروا في ركابهم وغيبوا الوعي عن الحقيقة التي تحياها البلاد، وظل الحال في كل عسكري يتولى الحكم، لا تتغير الآلية – والتي كانت تصنع من الحاكم إله.
لكن الواضح للعيان أن الطريقة التي تسير عليها الصحافة، ويسير عليها النظام العسكري تحت حكم السيسي، كأنه صورة طبق الأصل من الأكاذيب التي كان يروجها نظام عبد الناصر، بل الصراعات بين الجنرالات الحالية كأن التاريخ يعيدها بصورة مطابقة للصراع الذي دار بين عبد الناصر – في محاولة لتفرده بالسلطة – وبين رفاق الثورة.
لقد شهدت البلاد انتكاسات اقتصادية عنيفة إلا أن الرؤية العسكرية – والتي لم تسمح لغيرها بالحديث كما الآن – عملت على تغيب وعي الرأى العام حتى يظل الجميع يسبح بحمد النظام.
فقد فاجأت صحيفة الأهرام في عددها الصادر يوم الأحد 22 يوليو 1962م الموافق 20 صفر 1383هـ– كان رئيس تحريرها وقتها محمد حسنين هيكل – بمنشت عريض على صفحتها الأولى بعنوان مع عبد الناصر في قاعدة إطلاق الصواريخ، حيث روجت لامتلاك مصر الصورايخ التي لا تقهر، وذلك متزامنا مع صحيفة الأخبار التي خرجت في 24 يوليو 1965م لتقول بخط عريض: المشير عامر يعلن في العرض العسكري الكبير(الصواريخ الجبارة)، ثم زعمت أن الطائرة القاهرة 300 من أقوى الطائرات في العالم وذلك قبل أن تنطلق لرحاب السماء وتدمرها إسرائيل في بضع ساعات وهي قابعة في ممراتها في حرب 1967.
استمرت أكاذيب العسكر الصحفية بالعمل على إلهاء الشعب بالانجازات الوهمية، فنجد صحيفة الجمهورية هي أيضا سارعت لتغيب الرأى العام بما لديها من تعليمات حيث جاء على صفحتها الأولى عام 1963م جاء فيها: برنامج الجمهورية العربية لغزو الفضاء..مصر ثالث دولة في العالم بعد الاتحاد السوفيتي وأمريكا تصنع صواريخها بنفسها.
وظل الشعب يرقص طربا على هذه الأكاذيب والتي خرج علينا نظام السيسي ليعيد نفس السيناريو في أغسطس 2016م حيث جاء [الحكومة توافق على إنشاء وكالة فضاء مصرية]، حيث سار على نسق عد الناصر والتي أظهرت مجلة المصور في عددها الصادر في 16 أبريل 1965م والذي جاء فيه: سر يذاع لأول مرة..سفينة الفضاء المصرية..تحقيق كامل بالصور] ثم أخذ الصحفي يتحدث عن هذا الصرح العظيم والذي سيجعلنا نغزو الفضاء بأول رائد فضاء مصر....وتستمر مسيرة الكذب.
سنصبح دولة بترولية
يعيش العسكر وهم الانتصار وكبرياء الجنرالات الذي لا يقبل المساس بمصالحه، فلا يعبأ بمصالح الغير، حيث عمل سلاح الشئون المعنوية والمخابرات الحربية على تخدير المجتمع، وجعلته يعيش لحظات الوهم حينما أعلنوا عبر صحيفة الدستور في 2 يناير 2014م وفي الصفحة الأولى: المفاجأة المدوية للعالم أجمع. مصر ستصبح من أغنى دول المنطقة بأكملها في خلال شهور قليلة..مشروع مصري يقلب الموازين والحسابات ويطيح بالهيكل الاقتصادي المتردي والمتهالك لتصبح مصر من اغنى دول المنطقة في فترة وجيزة.
وذلك قبل أن تخرج علينا صحيفة روزاليوسف في 23 فبراير 2014م بعنوان [مشاريع تنموية ضخمة هدية الجيش للمصريين].
وفي نفس اليوم ساهمت صحيفة الأهرام بمشاركتها تحت عنوان القوات المسلحة تطور أول نظام في العالم لاكتشاف فيروس سي والايدز.
ولما لا وقد أحيا عبد الناصر الشعب في وهم البترول والرخاء، فقد جاء في مانشيت صحيفة الجمهورية في 12 مايو 1967م الموافق 3 صفر 1387هـ [دخلنا البترولي سيكون أكبر من دخل السعودية وليبيا..إنتاجنا يتضاعف 4 مرات عام 1970م بعد ظهور البترول بغزارة في خليج السويس والدلتا وسيناء..مؤسسة البترول تقوم وحدها بحفر الآبار الجديدة دون الاشتراك مع جهات أجنبية].
وتأتي أكاذيب ملايين الأفدنة التي سيهديها السيسي – ومن قبله عبد الناصر إلى الشباب المصري الطامح.
ففي جريدة الأهرام الجمعة 6 مايو 2016، كتبت "الرئيس يدشن موسم حصاد المشروعات الكبرى.. مشروع الـ 1.5 مليون فدان أصبح جاهزا أمام الشباب دون تعقيدات أو فساد".
وتابعت: "السيسي من الفرافرة: ما تم تنفيذه خلال عامين فقط كان سيستغرق 15 عاما.. مصر ستصبح قوية بوحدة الشعب وإصراره على التقدم.. لا تخافوا على المستقبل ومن وقف ضد قوى الشر لا يخاف".
[هدية السيسي للمصريين قبل العام الجديد].. بهذا المانشيت صدرت صحيفة "المساء" (الحكومية) المصرية، الاثنين 17 ربيع الأول 1437 الموافق 28 ديسمبر 2015م
حيث جاء في الخبر [ساعات.. وينطلق الحلم التنموي المصري.. هدية الرئيس عبد الفتاح السيسي للمصريين قبل العام الجديد.. حيث يفتتح أكبر مشروع تنموي حضاري ريفي في مصر.. وهو مشروع المليون ونصف المليون فدان الذي سيكون نقلة حقيقية.. خاصة للصعيد والمناطق الفقيرة].
وهذا ما روجه نظام عبد الناصر من قبل حيث جاءت المانشتات الرئيسية لصحيفة الأهرام يوم 23 ديسمبر 1958م[3 ملايين فدان جديدة لمصر..التفاصيل الكاملة لمشروع الوادي الجديد الذي أعلنه جمال عبد الناصر ..دراسة المشروع تجري منذ عام كامل في كتمان شديد..تقرير للرئيس بالنتائج الكاملة للأبحاث قبل خطابه ببضع ساعات..جيش الخدمة الوطنية يشترك في تنفيذ المشروع]..وجهاز الخدمة الوطنية هو كالهيئة الهندسية العسكرية في عهد السيسي.
وليس ذلك فحسب بل نجد صحيفة العسكر (اليوم السابع) تروج أن مصر تصنع الطائرات وذلك على نسق ما تم في عصر عبد الناصر.
فقد ذكر اليوم السابع في عددها يوم الثلاثاء، 4 أبريل 2017م [بالفيديو.. طائرة "k8e" قصة نجاح مصرية فى صناعة الطائرات.. "اليوم السابع" فى مصنع طائرات الهيئة العربية للتصنيع.. مدير الورشة: أجرينا صيانة لـ40 طائرة تدريب.. والمصنع يضم أحدث الأجهزة العالمية].
ولو عدنا ليوم 24 أغسطس 1952م – يعنى بعد الثورة بشهر- خرجت علينا صحيفة الأهرام لتقول: نجاح تجربة أول طائرة تصنع في مصر، تحليقها في الجو أمس ساعة كاملة وأدت حركاتها بنجاح تام.
وما يحدث في سيناء الآن – والتي يعرفه القاصي والداني وكتب عنه الصحف العالمية- وعدم مقدرة الجيش المصري على السيطرة على كل سيناء، والبيانات البراقة التي يخرج بها علينا كل متحدث عسكري، تذكرنا بما جاء في حرب 67 من أننا أسقطنا 43 طائرة للعدو (كما جاء في صحيفة المساء يوم 5 يونيو 1967م على صفحتها الأولى)، وغيرها من البيانات العسكرية والتي استيقظ منها الشعب على فاجعة الهزيمة النكراء وضياع الجيش وأسر العساكر في الوقت الذي كان ينعم فيه كبار العسكر.
سيناريو واحد لا يتغير، وفكر واحد يسيرون على نسقه، وأكاذيب لتغيب الوعي والرأي العام وقد ساعدهم على ذلك الكثير من الصحفيين والإعلاميين. بين الأمس واليوم سنوات قليلة لكنها أوضحت طريقة العسكر في حكم البلاد والتي ظلت ترزخ تحت الأعباء والأكاذيب ما يقرب من 66 عام من الوهم.