أمة واحدة.. في مواجهة الفتنة
بقلم:الدكتور محمد بديع
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
لا ريب عند العقلاء أن الجريمة المروِّعة في مدينة الإسكندرية ليست موجهةً إلى طائفةٍ دون طائفة في هذا الوطن العزيز، وليست اعتداءً على إخواننا النصارى شركاء الوطن والدم والتاريخ فحسب، إنما هي اعتداء آثم على الوحدة الوطنية والعيش المشترك وعلى حرمة الوطن وأمنه واستقراره الذي يجب على الجميع أن يحموه بأرواحهم، صحيح أن المجرمين ربما قصدوا من أجل إثارة الفتنة استهداف إخواننا المسيحيين بالأساس، لكن اختلطت فيه دماء المواطنين من المسلمين والمسيحيين، وقصد المجرمون الذين ارتكبوا هذا الإثم أو من وقفوا وراءه النَّيل من وحدة هذا الوطن العظيم.
تلك الوحدة النموذجية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي صانها الإسلام على مدار القرون، باعتبار جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة الإنسانية.. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾ (الإسراء)، واعتبر العدوانَ على أي نفس بشرية عدوانًا على البشرية كلها.. ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: من الآية 32).
الدين هو الضمانة الحقيقية
من نافلة القول أن نذكر بأن الرسالات السماوية- وفي مقدمتها الإسلام العظيم الذي ختم الله به رسالات السماء- قد دعت إلى التعايش والأخوة بين البشر، وتميز الإسلام بأنه حمى هذه الأخوَّة الإنسانية وبخاصةٍ مع أهل الكتاب، واختص النصارى بأنهم أقرب مودة إلى المسلمين ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 82)، بل رفض أن يكون اختلافُ الدين سببًا للعداء بين أبناء المجتمع، ودعا إلى اعتماد البر والإحسان قبل العدل صيغةً للتعامل بين المواطنين، فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾ (الممتحنة).
بل دعا إلى ضرورة اختيار وتحرِّي أحسن القول في المناقشة، والجدال معهم برغم اختلاف العقائد، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)﴾ (العنكبوت).
واعتبر الاعتداء على حرمة الدماء غير المسلمة في المجتمع من أعظم الجنايات التي تقطع الجاني عن رحمة الله، فأخرج البخاري في باب: إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"، وأخرج البيهقي في السنن الكبرى، في باب: مَا جَاءَ فِي إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ يُوجِبُ الْقَتْلَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةَ عَامٍ، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يَقْتُلُ نَفْسًا مُعَاهَدَةً إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَرَائِحَتَهَا أَنْ يَجِدَهَا".
لهذا فإن من أكبر الخطأ تصور أن هذه الجريمة التي تستنكرها الأديان وتستشنعها الإنسانية والتي نالت من المسجد والكنيسة المتجاورين ومن المسلمين والمسيحيين الذين وُجدوا في المنطقة؛ من أكبر الخطأ تصور أنه قد ارتكبها أحد له علاقة بصحيح الدين، وإنما يجب النظر إلى مرتكبيها باعتبارهم أيادي وأدوات مجرمة لجهات معادية تريد الإفساد في الأرض، والعبث بوحدة هذا الوطن وسلامه الاجتماعي، والدفع باتجاه إثارة فتنة طائفية تهلك البلاد والعباد.
هذا ما ينبغي على العقلاء التنبه إليه والتحذير منه، وتأكيد رفضه بكل قوة، فالدين هو أعظم الدوافع لحماية الأرواح وعدم الاعتداء عليها.
ومن ثم تكون المهمة العظيمة التي يجب أن تتحملها أجهزة الأمن أن يتم التعامل مع الجريمة النكراء بمنتهى السرعة والدقة والشفافية والوضوح، في كشف ملابساتها، وتقديم المجرمين الحقيقيين الذين وقفوا وراءها، أيًّا ما كان دينهم أو وطنهم، إلى القضاء الشامخ العادل؛ حماية لوحدة الأمة ودرءًا لمخاطر الفتنة.
حذار من الوقوع في الفخ
إن من الأهمية بمكان أن يتحلى الجميع بالحكمة وأن يتداعى العقلاء إلى ضبط النفس وعدم الانجرار وراء دعوات الإثارة، والنعرات الطائفية الضيقة، وردات الفعل غير العاقلة بعد غضب الصدمة الأولى الذي قد نتفهم أسبابه، وأن يتم النظر إلى مصلحة الوطن باعتبارها العنوان الأبرز، وتغليبها على أية مصالح فئوية أو طائفية، وإن من أعظم الخطر أن تستدرج الأمة للوقوع في الفخ الذي نصبه مرتكبو الجريمة من خلال اتهام عموم المسلمين بارتكاب الجريمة، أو أن يلعب الكارهون للمشروع الإسلامي بالنار من خلال استثمار الأجواء المشحونة لمحاربة مظاهر التدين، والتحريض على المتدينين، والدعوة إلى الخلاص من الالتزام الديني، والطعن في تعاليم الدين، وفي منظومته الأخلاقية، فإن ذلك يستفز جماهير الأمة المعروفة بالتدين، ويعطي وقودًا مغذيًا للعنف والتطرف، ويمهد الأجواء لاستغلال القوى المعادية لطلب التدخل في شئون الأمة وتنصيب نفسها مدافعًا عن فئة من شعب مصر المتوحد، على النحو المرفوض الذي تحاوله الإدارة الأمريكية المتصهينة.
دروس مهمة
إن هذه الجريمة التي وحدت المصريين على اختلاف طوائفهم قد كشفت عن دروس مهمة يجب ألا تغيب عن بال المخلصين لهذا الوطن:
- إننا يجب ألا نفصل بين هذه الجريمة المنكرة، وبين مخططات أعداء الأمة لإثارة الفتنة في البلاد، كما اعترف بذلك رئيس المخابرات الصهيونية السابق، مما يوجب السعي الحثيث للحفاظ على وحدة الأمة، وتحصينها ضد كل محاولات الاختراق.
- إننا يجب ألا نفصل بين هذه الجريمة، وبين ما يجري من فتن تستهدف وحدة الأمة، وتمزيق المنطقة، وتقسيم دولها، وإشعال الحروب العرقية والطائفية والدينية بين أبنائها، كما هو الحال في العراق والصومال وجنوب السودان ودارفور، وكما هو الحاصل في اليمن وفي لبنان، وكما يجري في نيجيريا، وغيرها من الدول العربية والإفريقية، على ما هو معروف من القاعدة الاستعمارية: فرق تسد.
الاستبداد والظلم يهيئ الأجواء للاستجابة لمخططات إثارة الفتنة
إن الإقرار بدور الجهات الخارجية المعادية في إثارة الفتنة يجب ألا يشغلنا عن الإقرار بأن هذه الجهات في الأساس تستغل في تحقيق أهدافها الخبيثة تردي الأحوال السياسية الفاسدة، والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية المتدنية للمواطنين، وتستغل تزوير الانتخابات وشيوع ثقافة البلطجة، وإهدار الدولة لقيمة القانون والدستور، وتلاعب النظام الحاكم بالأحكام القضائية، وسد منافذ التعبير عن الرأي وإغلاق أبواب المشاركة أمام أبناء الوطن في حمل همومه منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا بتأميم النقابات والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني وتعويقها عن تقديم الخدمات لشعبنا بالإضافة لاستمرار النظام في تغليب الأمن السياسي لحماية النظام على الأمن القومي لحماية الأمة، وإغراق الأمة بالشهوات، ومحاربة التدين، وعدم الاعتناء بملء الفراغ الفكري والثقافي للشباب، مما يسهل عليه الانزلاق في الاستجابة لهذه المخططات الأثيمة، أو على الأقل يدفعه للسلبية واللا مبالاة وضعف الانتماء للوطن الذي يحيا فيه.
في ظل الاستبداد يتحول المجتمع إلى جزر بشرية متصارعة، تشيع بينها الأنانيات الفردية، وتتمزق فيها شبكة العلاقات الاجتماعية، وتتعطل فعالياتُ القيم والأخلاق والرسالة في الحياة، وتموت معنويات الأمة، فلا تتحرك بقوة ويقظة في مواجهة عدو تنسى أنه عدوُّها الوحيد، كما أن الاستبدادَ والظلمَ يقضي على القُدُراتِ العقليةِ والنفسية للأمة، ويفلُّ من إرادتها وعزمها في التصدي لمحاولات الاختراق وإثارة الفتنة، ويُحوِّل الناسَ إلى شخصياتٍ ضعيفةٍ تهتم بذواتها، ولو على حساب أوطانها، فلا هم يستطيعون المدافعةَ عن وطنهم، ولا هم يرغبون في ذلك، ومن هنا يتهدد الأمن القومي للأمة، ويطمع فيها أعداؤها.
قد لا يموت الإنسان في ظل الاستبداد، ولكنه يعيش بإنسانية مفقودة، وشخصية مشوَّهة، وأخلاق مرذولة، وبَلادة وسلبية ممقوتة؛ ما يشجِّع أعداء الأمة على استثمار ذلك في النَّيل منها واختراق حصونها.
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلاك الأمة حين ترضي بالظلم وتسكت عليه، فيقول: "إِذَا رَأَيْتُ أُمَّتِي تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ" (رواه أحمد)، وقال أيضًا: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلاَ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ" (رواه أحمد).
ويشير إلى ذلك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز, فيقول: "إن الله لا يؤاخذ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ، فإذا ظهرت المعاصي فلم ينكروها استحقوا العقوبة جميعًا"، وصدق الله العظيم: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال: من الآية 25).
والنتيجة الطبيعية لهذا الظلم الحاصل أن يضعف انتماء الكثرة المظلومة فتقعد عن مقاومة أي عدو خارجي يقصد البلاد بسوء؛ ذلك أنه لن يكون لدى البعض عدوٌّ مشتركٌ للجميع.
حفظ الله مصرنا العزيزة موحَّدة قوية عزيزة، وحماها من عبث العابثين، ورد عنها كيد المجرمين، ووقاها شر دعاة الفتنة والمفسدين، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
والله أكبر ولله الحمد.. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر
- أمة واحدة.. في مواجهة الفتنةإخوان أون لاين