قالب:الإمام حسن الهضيبي وفقه إدارة الأزمات
الإمام حسن الهضيبي وفقه إدارة الأزمات
بقلم: أ. وليد شلبي
تعد إدارة الأزمات واحدةً من أهم وأخطر الإشكاليات التي تواجه الحركة الإسلامية على وجه العموم، فالعمل الإسلامي سواء كان دعويًّا أو حركيًّا على المحك دائمًا وفي ظل غياب الأُطر المؤسسية القانونية لدول العالم الثالث فإن العمل الإسلامي شأنه شأن أي عمل يواجه أزمات أو يصطدم بعقبات إدارية أو أمنية أو سياسية حتى ولو حاول أن يعمل في ظل الأُطر القانونية القائمة، أو أن يحصل على "صك" القانونية.
وإذا كان بعض علماء الإدارة يعرِّفون الأزمة بأنها "ذلك الحدث السلبي الذي لا يمكن تجنبه أيًّا كانت درجة استعداد المنظمة، "فإن القائمين على العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى ما يمكن تسميته بـ"فقه إدارة الأزمات"، فإدارة الأزمة ليست سهلةً ميسورةً، ولكنها تُعد أحد أهم وأخطر عناصر العمل الإسلامي، فإذا لم يُحسن التعامل معها قد تجر على العمل ويلات كثيرة، فلا بد من تحليل أي مشكلة، ودراسة البدائل في ظلِّ الإمكانات المتاحة، والظروف القائمة، وحسابات الأضرار والمنافع واعتبارات المقاصد الشرعية، وتلمس الحلول المناسبة، دون تفريط في "الثوابت" الخاصة بالعمل أو الخروج عن أُطره.
فمتى يكون القرار صلبًا حاسمًا ومتى يكون مرنًا لينًاً، وكيف تُدار الأزمة للخروج بأقل الخسائر ودون تأثير جوهري على العمل الدعوي وأركانه وأساسياته، بل كيف تُدار الأزمة للاستفادة منها واستثمارها وتحويلها من نقمة إلى نعمة، وكيف يُحافظ من يُدير الأزمة على وحدة الصف في ظل ظروف الأزمة، كل هذا يحتاج لفقه إدارة الأزمات، وأحسب أن العمل الإسلامي عمومًا وقادته خصوصًا في حاجةٍ لهذا الفقه بشدة ليُحسنوا التعامل مع الأزمات من حولهم.
وللأسف الشديد فإن الكثير ممن يعملون على الساحة الدعوية يفتقدون إلى "فقه إدارة الأزمات" مما يُوقعهم في إشكالات أو صدامات مختلفة، تعطل العمل، بل وقد تُعيقه لفترة ما طويلة أو قصيرة عن الساحة.
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين بتجربتها الكبيرة أدركت هذا الأمر جيدًا، وأخذت تتعامل مع الأزمات بمنظورٍ علمي، ورؤى شرعية، وقرار شوري فإن الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله يُعد أفضل مَن أدار الأزمات في العمل الإسلامي في العصر الحديث في إطار دعوي، فلقد واجه الرجل أزماتٍ كثيرةً من داخل الصف (جماعة الإخوان المسلمين) ومن خارجه (الحكومة المصرية) في ذلك الوقت، وأدارها كأفضل ما يكون بمهارة واقتدار.
وإذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي عاش فيها الرجل- داخلية أو خارجية- والمحن التي تعرَّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في عهده والتي بلغت من الشدة والقسوة والضراوة الدرجةَ التي تزلزل أركان أي تنظيم أو جماعة، ما لم تكن هذه الجماعة تُخلص لله وحده، وقائمة على أسس عقدية وفكرية سليمة، ولها في ذات الوقت قيادةٌ ذات قدرة على التعامل مع الأزمات وغنية بمعرفة فقه الأزمات ومتأصل فيها وليس شعارًا.
ولقد مَنَّ الله على الإخوان المسلمين بالإمام حسن الهضيبي ليقودَ الجماعة في ظلِّ أعتى وأشد المحن التي تعرَّضت لها الجماعة في تاريخها، واستطاع بفضل الله أن يتعاملَ مع هذه الأزماتِ بمهارةٍ فائقةٍ في ظلِّ ظروفٍ حالكةِ السواد، واستطاع أن يقودَ السفينةَ كأمهر ربان في بحورٍ متلاطمة الأمواج لينجوَ بها ويصلَ بها إلى برِّ الأمان، محافظًا على ثوابت العمل وأُسسه والأُطر التي وضعها مُؤسسها الأول الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله.
فعن فطنة وكياسة الأستاذ الهضيبي في إدارة الأزمات التي حلَّت بالجماعة وعن منطلقاته الدعوية يقول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله: "وإذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتةَ يانعةً فتيَّةً، فقد كان حسن الهضيبي علاَّمة زمانه، ومشعل عصره، يوم حمل الراية حريصًا لم يُفرط، عزيزًا لم يَلن، كريمًا لم يَهُن، وأدَّى الأمانة أمينًا في عزم، قويًّا في حزم، ثابت الخُطى في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يُثنه حبل المشنقة، ولم يُرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود "مجلة الدعوة العدد الأول رجب 1396 هـ".
وإذا كنَّا ندرس نظرياتِ الآخرين وتجاربهم في كيفيةِ إدارةِ الأزمةِ فإن ما قام به الإمام حسن الهضيبي يستحق أن يُدَّرَس وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية إدارة الأزمات، الأمر الذي جعل الإخوان المسلمين يخرجون من المحن والسجون على عكس ما كان يُستهدف لهم، صبروا و صابروا وجاهدوا أعظم الجهاد، بل وكانوا نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وهذا بفضل الله أولاً، ثم بفضل الأُسس التربوية السليمة التي وضعها الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا يرحمه الله وتعامل القيادة الواعية مع قضاياها وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة.
فجماعة الإخوان المسلمين كانت في أشد الحاجة في تلك الظروف لمثل هذا النوع من الرجال الذين قيَّضهم الله ليقودوا دفةَ العمل، ويكونوا كالهضابِ التي تنكسر عليها النصال ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23) ليقودها في ظلِّ تلك الظروف القاسية، ليقفَ في وجهِ الهجماتِ والضرباتِ المتتالية، صامدًا معينًا إخوانه على الصمود، ومخلصًا معينًا إخوانه على الإخلاص، حازمًا قويًّا لا تلين له قناةٌ، محافظًا على ثوابتِ الجماعة، منافحًا عن الحركةِ برؤية القاضي الصارم المتجرِّد في مواجهة من حاولوا الخروج عن الصف، والالتفاف على الشرعية، فالكل سواء، ومصلحة الجماعة أهم بكثير من مصلحة البعض الذين حاولوا استغلال الجماعة لأغراض شخصية أو لأهداف ضيقة.
فلقد كان يتمتع يرحمه الله بروح القائد، وعلم الفقيه، وضمير القاضي، وثبات وصلابة المجاهد، وقبل ذلك إخلاص وورع الزاهد العابد، لذلك نصره الله وأيَّده وأرشده لأصوب القرارات في أصعب الأوقات.
قد ينظر البعض للمحن التي تعرَّض لها الإخوان في عهده بنظرة سلبية كأنه هو المسئول عنها، وقد أثبتت الأحداث غير ذلك، بل إن أسلوبه في إدارة الأزمة حَوَّلَ هذه المحن إلى نِعَم، وقد حققت الجماعة في ظل الأزمة ما لم تحققه في لحظات الانفراج، وظهر جيل جديد من الإخوان ليقودَ العملَ في أحلك الظروف، بثبات، وقوة، ووعي وإدراك لظروف المرحلة. ورفع مستوى المفاهيم التربوية في نفوس الإخوان وإذكاء روح الأخوة العملية بينهم، فلم تكن المحن كلها بلاءً، ولكنْ مَنَّ الله على الإخوان ببعض الإيجابيات التي تستحق أن تكون درسًا للأجيال. وسنتناول هنا بعض الأسس التي اتبعها الإمام الهضيبي في إدارته للأزمات لتكون درسًا، وعلاماتٍ على الطريق لمن يسلكون طريق أصحاب الدعوات.
وأبرز هذه الأسس:
أولاً: الاعتماد على الله :
فالدعوة دعوة الله، وما وقف الإخوان هذه المواقف وما تعرضوا لتلك المحن إلا لله وفي سبيل الله، لذلك كان الاعتماد على الله سبحانه هو الأساس في المواجهة ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق:3).
فالاعتماد على الله سبحانه عنصر أساسي وبديهي في إدارة الصراع بين الحق والباطل، وهذا من صلب العقيدة؛ فالله هو المعين وهو الملجأ والملاذ وهو الغاية والهدف، ولا يجوز أن يديرَ مسلم مواجهةً بين الحق والباطل بدون طلبِ العون والغوث من الله سبحانه.
ثانيًا: التركيز على الثوابت التربوية :
يقول رحمه الله- موجهًا كلامه للإخوان محددًا دورهم ومهمتهم:
- "إن الله جعلكم جنودًا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله، وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدًا دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم، فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجزُ من أن ينتصرَ مع غيره في معركة السلاح" (مجلة الدعوة 1397هـ)
فهو هنا يركِّز على إصلاح النفس كخطوةٍ أوليةٍ في المواجهةِ، فلا بد للنفسِ أن ترقى لمستوى يؤهِّلها لتحمل التبعات الجسام في مجال العمل عمومًا أو في مجال المواجهة التي ستفرض نفسها بعد ذلك.
ثالثاً: وضوح الهدف :
فتحديد الهدف ووضوحه مطلوب عمومًا، وخاصةً عند الأزمات؛ ليعرفَ الإنسان على أي شيء سيثبت أو من أجل أي شيء سيضحي، فغياب الفهم الصحيح للهدف قد يسبب من المشكلات الكثير، يقول يرحمه الله تعالى: "إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوةً محليةً تنحصر في حدود وطنٍ صغير، وإنما غدت عالميةً تشمل العالم الإسلامي بأسره وتوقظ في المسلمين روحَ العزة والكرامة والتقوى، فهي اليوم عنوانُ انبعاث لا نوم بعده، وتحرُّر لا عبودية معه، وعلم لا جهل وراءه، ولم يعد من السهل على أية طاغية أن يحولَ دون انتشار هذه الروح أو امتدادها؛ وما ذاك إلا لأنها تعبيرٌ صادقٌ عن شعور عميق، ملأ نفوس المسلمين جميعًا ويستولي على مشاعرهم وعقولهم، وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام، فالإسلام في حقيقته ضرورةٌ وطنيةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ "المرجع السابق" فهذه هي أهداف الإخوان المسلمين، عالمية وشمولية الإسلام، وعلى مَن يلتحق بهم أن يفهم ذلك ويدركه ويعمل معهم من أجل تحقيق هذه الأهداف السامية.
رابعًا: الثقة في نصر الله :
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: من الآية 40)، ولعلَّ هذه الآية كانت أمام الأستاذ حين قال: "فكونوا مستعدين دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم.. فنصرة الله في ذات النفس عنصرٌ هامٌّ لطلب النصر من الله، ثم الثقة من نصره سبحانه، ويؤيد ذلك قوله يرحمه الله: "ولم يعد من السَّهْل على أيةِ طاغيةٍ أن يحولَ دون انتشارِ هذه الرُّوح أو امتدادها"، فلنكن على ثقةٍ مـن نصر الله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47) فلنأخذ بالأسباب أولاً، ثم نترك الأمرَ كلَّه لِلَّهِ ونثق بما عند الله، وأن النصرَ قادمٌ لا محالة إذا قدَّمنا له كلَّ ما نستطيع من جهدٍ وبذل وتضحية، وما كان نصر الله للإخوان وإعانته لهم على ما كانوا فيه من شدة وخروجهم ثابتين على الحقِّ غيرِ مبدلين، إلا خير دليل على ذلك. وإن انتشار العمل الإسلامي الكبير هذه الأيام لأكبرُ شاهد، فمن كان يعتقد منذ 45 سنة أثناء المحنة والقتل والتعذيب والاعتقال وأحكام الإعدام أنه ستقوم للإخوان قائمة، لم يعتقد ذلك إلا الإخوان فقط، وذلك لثقتهم الفائقة في نصر الله.
خامسًا: الشجاعة:
فهي ركن أساسي وهام في إدارة الأزمة، فإذا وهن القائد أو تخاذل فسينهار كل من خلفه إلا من عصم ربي، ولقد كان الإمام حسن الهضيبي من الشجاعة بمكان ليقف في وجه أعتى التحديات.
يقول الأستاذ أحمد البس (أحد قيادات الإخوان) يرحمه الله مستشهدًا ببعض عناوين الكتابات التي كانت تحاول أن تنال من عزيمة من يريد أن يخلف حسن البنا:
- "من يقبل أن يكون قائدًا لجماعة اشترك الملك ورئيس الوزراء في قتل مرشدهم".
- "من يقبل أن يكون خلفًا لزعيم قُتلَ على قارعة الطريق وتُركَ دمه حتى ينزف كله فيموت".
- "من يتعرَّض لقيادة جماعة منعت الحكومة أن يُشيع جسد مرشدها، وقد حملته النساء على أكتافهن "الإخوان المسلمون في ريف مصر".
فهذا هو الجو العام الذي قَبِلَ فيه بعد إلحاحٍ شديد الإمام الهضيبي قيادةَ الجماعة، فأي شجاعة هذه التي تجعله يَقبل قيادة جماعة في مواجهةٍ مع السلطة وقد يكون مصيره نفس مصير سلفه؟! ولكنها الشجاعة والإيمان الراسخان في النفس ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( التوبة: 51) وكذلك في مواقفه الكثيرة مع قادة الانقلاب العسكري آنذاك ما يؤكد ذلك.
سادسًا: الحزم والحسم :
وهما عنصران مهمان في إدارة أي أزمة، فهناك لحظاتٌ لا بد من الحزم والحسم؛ حتى لا تستفحل الأمور وتخرجَ عن نطاق السيطرة، ولعلَّ موقف الهضيبي تجاه تصفيةِ النظامِ الخاص أعظم درسٍ على وجوب الحزم في مواجهة مَن يحاول العبث بمقدرات العمل ولا يلتزم بقرارات القيادة، ويعتبر نفسه فوق القيادة وأقوى من الجميع، فقد قرَّر فصل عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص وهو يعلم ما يمكن أن يجرَّه عليه من مصاعبَ ومشكلاتٍ، ولكنها الإدارة الحازمة.
فهناك لحظات حاسمة في تاريخ العمل لا يمكن فيها التهاون ولا تميع المواقف ولا القبول بأنصاف الحلول، فلا بد من موقفٍ حازمٍ واحدٍ لا رجعةَ فيه للحفاظ على وحدة الصف وكيان الجماعة.. شائكةٌ مثل تلك المواقف.. تحتاج لقيادة واحدة ورأي واحد حازمٍ وحاسمٍ ليجتمع الكل عليه، ولأنْ نجتمع على الصواب خيرٌ من أن نفترقَ على الأصوب.
سابعًا: الثبات على الابتلاء:
يقول الله سبحانه وتعالى:
- ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).
ويقول سبحانه:
- ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 1).
فالابتلاء طبيعةٌ في الدعوات، والصبر عليها طبيعةُ الأنبياء والصالحين، ولقد صبر الإخوان بفضل الله على الابتلاء الهائل الذي تعرَّضوا له، وضرب الإمام حسن الهضيبي أروعَ المثل في ذلك، يقول الأستاذ أحمد البس:
- "استيقظ الباطل لتبدأَ سلسلةٌ من المحنِ الجازمةِ والحوادثِ الكالحةِ داخل صفوفِ الإخوان وخارج الإخوان، وأخذ الباطل بتلابيب رجال الدعوة، وفي مقدمتهم مرشدهم حسن الهضيبي وأسرته.
- فقد نكل به وبمن حوله، وصمد الرجل صمود الأبطال، وضرب المثل المشرف الجميل، تلكأ الإخوان وخرج بعضهم عن قيادته ووصفوه بما لا يليق، وكان هذا كافيًا لأن يفرَّ من الميدان الشائك الملتهب.
- كل هذا واجهه حسن الهضيبي، فلم يطرف له جفن ولم تغمض له عين ولم يهدأ له بال من يوم أن أصبح مرشدًا للإخوان إلى أن لقي ربه، اللهم إلا إذا كان هدوء باله وراحة قلبه أن يعمل لربه دون سواه "الإخوان المسلمون في ريف مصر".
ونجد هنا الثبات على الابتلاء المعروف من سجن وتعذيب وإعدام، كما نجد أيضًا الثبات على الابتلاء من داخل الصف فالصف ليس بصف أنبياء ولا رسل، وحدوث أخطاء صَغُرت أم كَبُرت أمر وارد ويبقى الثبات على هذا الابتلاء الأليم على النفس بطبيعية الحال وإدارته بحنكة للخروج بأقل الخسائر الممكنة.
ولعلَّ في قول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله أكبرَ دليلٍ على ثباتِ الرجل على عقيدته ومبدأه وعلى أشد أنواع الابتلاء؛ حيث يقول عنه: إنه أكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يثنِهِ حبل المشنقة، ولم يرهبْه سجنٌ ولا تعذيبٌ، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود.
وصدق الله عز وجل إذ يقول:
- ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
ثامنًا: الثبات على الموقف والمبدأ :
فكما يُقال:
- "الرجل موقف" ينطبق هذا على الإمام المرشد، فلقد صبر الرجل على مواقفه ومبادئه، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة، ولم يَحِدْ عنها لا بتهديدٍ ووعيدٍ ولا بترغيب، وكان هذا واضحًا جليًّا في موقفه من قادة انقلاب يوليو في عدم قبول أي مشاركة ولو نسبية في الحكومة ما لم تطبِّق الشريعة الإسلامية، وهذا ما اتفق عليه قبل الثورة.
لقد ظنَّ قادة الانقلاب أنهم سيغرونه بعدة وزارات أو مناصب ولكنهم واجهوا صنفًا جديدًا من الناس لا يلهث وراء منصب، ولكنه يضحي بكل منصب أو جاه دنيوي في سبيل عقيدته ومبدأه وفكره المستمد من القرآن والسنة، فهنا يبرز ثبات المجاهد الصادق.
وعندما قبل بعض الإخوان بعض المناصب رفض المرشد هذا ولم يقبل بغير استقالتهم من الإخوان؛ لأن الإخوان ليسوا دعاة مناصب ولا سلطة ولا بد أن يثبتوا على الضراء والسراء كذلك.
يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي في كتابه "في صحبة المرشد العام الإمام حسن الهضيبي" قال (يعني المرشد): كنت أتعامل مع جمال عبد الناصر على أنه أحد الإخوان المسلمين، وكان عبد الناصر يقول لي: أنت والدي وأنا ابنك، وأقول له: لا عذرَ لنا إن لم نحكم بما أنزل الله، فقد صار الحكم إلينا، وهو يقول: يحكم كل منا الإسلام في بيته، أما الدولة فلا شأن لها بذلك.
وإذا كان هذا فكره، وهذا أسلوب الحكم عنده، وأن الدولة لا شأنَ لها في الحكم بما أنزل الله فقد حدَّد موقفنا منه، ونحن على موقفنا في المطالبة بالحكمِ بما أنزل الله، وهل هذا الموقف جريمة تستحق الاعتقال وتعذيب المعتقلين؟
أو تدبير جرائم الاغتيال والقتل؟ نحن لا يهمنا أن نموت شهداء في سبيل هذا المبدأ الكريم، وهو المطالبة بالحكم بما أنزل الله، فهذا يؤكد ثبات الرجل على موقفه في ظلِّ أقصى ظروف المحنة والأزمة، وأنه لا مجالَ فيها للتنازل أو الترخص المذل المهين، والذي سيؤدِّي إلى غضبِ الله لتخلينا عن مبدأ الحكم بما أنزل الله مقابل تهديد أو ترغيب دنيوي زائل.
وفي اعترافٍ صريحٍ بموقف المرشد حسن الهضيبي من الإصرار على تطبيق أحكام القرآن يقول البيان الذي صدر في يوم 15 من يناير 1954م عن مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين: "... فقال له البكباشي جمال عبد الناصر في منزل الأستاذ صالح أبو رقيق الموظف بالجامعة العربية، وقد بدأ المرشد حديثه مطالبًا أحكام القرآن في الحال، فردَّ عليه البكباشي جمال إن الثورة قامت حربًا على الظلمِ الاجتماعي، والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني، وهي بذلك ليست إلا تطبيقًا لتعاليم القرآن الكريم.." بيان مجلس الثورة.
تاسعًا: لين الجانب ومراعاة لحظات الضعف البشري :
فعلى العكس تمامًا من الحزم والحسم في إدارته للأزمات السابقة من حل للنظام الخاص وعدم التنازل عن أي مبدأ لرجال الحكم آنذاك نجده لين الجانب مع إخوانه يتعامل معهم بروح الأب الحنون.
يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي:
- "كان رحمه الله تعالى يلقي إليَّ بهذه الأفكار في هدوء عميق جعلني أشعر أنني أعيش مع أبي، وأن أبوتَه لي أبوةٌ حانيةٌ كريمةٌ، بالإضافة إلى أنه مرشدي وإمامي، فكان تقديري له تقديرَ الابن البارِّ بأبيه الحاني الكريم بالإضافة إلى أنه مرشد عام لجماعة الإخوان المسلمين التي امتدَّ نشاطها إلى كل أنحاء العالم" (كتابه السابق).
وبينما هو يتعرَّض في السجن للتعذيب الوحشي والإهانات المتلاحقة في ظل ظروف صحية متدهورة، نجده يحرص على إخوانه ويشفق عليهم من ظروف المرحلة، حتى من طلب منهم أن يؤيِّدَ النظامَ ويخرج من السجن لم يمنعْه أو حتى يعارضْه أو يناقشْه، فلم يُذكر عنه أنه منع أحدًا أو حتى ناقشه في مواقفَ اتخذها تجاه النظام ليخرج من السجن، فقد سمح لكل من جاء يطلب الأذن باتخاذ موقف التأييد، وكان يرفع عنه الحرج.
فقد كان ينظر للحظات الضعف البشري التي تنتاب النفس بمنظور القائد الإنسان، فهو لا يريد أن يُحمِّل إخوانه فوق طاقتهم أو أن يضعَ نفسه في موقف المقارنة أو التفضيل مع الذين يريدون الخروج.
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159).
عاشرًا: مراعاة الضوابط الشرعية :
فلقد أرسى ورسَّخ يرحمه الله قاعدةً عامةً وهي عدم جواز اجتماع الصف على رخصة؛ فهو وكثير من الإخوان لم يؤيِّدوا ولم يخرجوا من السجن، وعندما ناقشه بعض الإخوان عن سبب سماحه لكل مَن جاء يطلب التأييد والخروج بذلك، قال: ألم يشاهدوني فأني لم أؤيد.
فهو لم يؤيد ليخرج من السجن وهو في ذات الوقت لم يقف في وجه الطبيعة البشرية ولحظات الضعف التي تنتابها، فمن جاء ليستأذن سيخرج وسيؤيد فلماذا الإحراج ووضعه في موضع المفاضلة وتجرئته على قراراتِ القيادة، وهنا تكمن حكمة القائد في تقدير المواقف وتأصيلها شرعيًّا وعدم وضع إخوانه موضع المفاضلة بين العمل ولحظات ضعفهم.
وكذلك موقفه من فكر التكفير كما سيأتي دليل واضح على لزوم الضوابط الشرعية في مختلف الظروف الصعبة التي قد تمر بالداعية والعمل.
حادي عشر: وحدة الصف والحفاظ على سلامة الأفراد :
يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تََفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف:4)، ويقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية46)، فالآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة والمواقف المؤيدة لها من السنة المطهرة كثيرة كذلك، ولقد حرص الإمام يرحمه الله أيما حرص على وحدة الصف بدأ من حزمه الشديد في تصفية النظام الخاص، وحرصه على لمِّ شمل جميع الإخوان ثم زياراته للعديد من قرى مصر على الرغم من سوء حالته الصحية ومن الشيخوخة التي يعاني منها.
يقول الأستاذ أحمد البس:
- "وسار بالدعوة يدفعها للأمام، وكان قليلَ الكلامِ قليلَ الحركةِ قبل دخوله الإخوان، يعاني الشيخوخةَ والمرض، فإذا به من النصحاءِ الحكماءِ يخطب بالساعاتِ ويتحرك بالليل والنهار، يزور البلاد ويواجه المشكلات ويتعرض للأزمات والدعوة منطلقة من بين يديه وبمساعدة الإخوة الخلصاء، وقبل هذا بتوفيق الله تعالى إلى بلوغ مناها من تجميع وتكوين وتركيز وإصرار" (كتابه السابق).
لقد كانت وحدة الصف من أهم أولويات الإمام، ولقد وفقه الله سبحانه أن يجمع الأخوان ويوحِّدهم بعد ما ظن البعض أن الخلافات الداخلية قد تأتي على الإخوان وتفرقهم، وعندما عرض عليه بعض رجال الدولة أن ينضموا لهيئة التحرير التي أنشأوها لضرب الإخوان أصلاً رفض؛ لأن في ذلك تفريقًا للصفِّ وحيادًا عن المنهج والأمانة التي أولاه إياها الإخوان.
وكذلك في سماحه لبعض الإخوان الذين جاءوا يطلبون الإذنَ بالتأييد للخروج من السجن وويلاته لدليلٌ على وحدة الصف، فهو لا يريد أن يخسرهم أو يصنفهم على أنهم خارج الصف، فهم من الإخوان وإن ضعفوا في لحظة من اللحظات.
ومن أبرز الأمثلة على حفاظ الإمام حسن الهضيبي على وحدة الصف وسلامة الأفراد عندما حاول عبد الناصر أن يأخذ منه أسماء أعضاء النظام الخاص، يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي:
"قال (عبد الناصر): وتعطيني أسمـاء أعضاء النظام الخاص (الجهاز السري) لأراقبهم.
قلت (المرشد): لتعتقلَهم.. أليس كذلك؟ لا.. أنا لا أوافق على إعطائك أسماء الإخوان، لأن ذلك يعتبر خيانةً مني، ولقد وضعت أنت يا جمال الأسلحة في مخزن في ضيعة (عزبة) مباشر عزبة والد الأستاذ حسن العشماوي سنة 1952م بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م وفي يناير 1954م قبضت على حسن العشماوي وقدمته للمحاكمة بتهمة حيازة الأسلحة" (كتابه السابق).
فأي عظمة يشملها هذا الموقف بأنه يحمي الصف بنفسه وأنه يقول كلمة الحق لسلطانٍ جائرٍ في وجهه لا يخشى في الله لومة لائم، فهكذا ينبغي أن تكون القيادة تحافظ على إخوانها وتدافع عنهم وتحميهم بنفسها إذا اقتضى الأمر ذلك.
وهذا كله يحمي الصف ويقويه، ولقد كانت لهذه المواقف والكثير غيرها أكبر الأثر في إثراء روح الأخوة ووحدة الصف، مما أثَّر على صمود الإخوان بعد فضل الله- للمحن المتتالية في صف متين صعب على أعدائهم هدمه أو النيل منه.
فهذا يعني أن يكونَ نصب أعين من يدير أزمة إن وحدة الصف وسلامته وسلامة أفراده هدف إستراتيجي لا يمكن الحياد عنه.
ثاني عشر: مواجهة أي بوادر لانحراف الفكر :
وأبرز دليل على ذلك عندما بدأ في الظهور داخل المعتقلات فكر التكفير تحت وطأة التعذيب والامتهان الذي تعرضوا له في السجن، فكان المرشد سبَّاقًا لمواجهة هذا الفكر وتفنيده وأصدر كتابه القيم "دعاة لا قضاة" ليضعَ الأسسَ الصحيحةَ في هذا الموضوع، وليعيدَ الفهم الصحيحَ لعقول مَن انحرف بهم الفهم، وكذلك وضع الضوابط الشرعية التي تحكم هذه المنطقة الحساسة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وموقف الإسلاميين ممن بغوا عليهم.
ثالث عشر: استشراف المستقبل:
فالحفاظ على الأهداف المستقبلية للعمل والحركة واجبٌ على مَن يدير الأزمة، فطبقًا لها يستطيع أن يأخذ قراره بوضوح تام.
كما يجب عليه أن يتمتعَ بسرعة اتخاذ القرار السليم المناسب طبقًا لأولويات الحركة وأهدافها المستقبلية، فقد يكون القرار سليمًا ولكنه غير مناسب لمرحلة ما، فلذلك لا بد أن يكون القرار سليمًا ومناسبًا في الوقت نفسه، ونرى هذا واضحًا في موقف الإمام الهضيبي من قادة الانقلاب وعدم تعاونه معهم وقبول بعض المناصب الوزارية، فالإخوان أهدافهم أسمى وأنبل وأرقى من أن تُقاسَ بمناصبَ وزاريةٍ زائلةٍ، فمستقبل الجماعة كان أمانةً بين يديه لذلك رفض هذا العرض، فإما تطبيق كامل للشريعة يتبعه مشاركة في الحكم (حسب المتفق عليه قبل الانقلاب) وإما عدم تطبيق، وعندها فلا مشاركة، وذلك لما يتبعه من إضفاء شرعية للنظام، وقد كان في أمس الحاجة إليها، فتلك قضية لا تقبل الحلول الوسط، وهي في الوقت نفسه تمس مستقبل الجماعة ومدى مصداقيتها لدى جموع الناس.
فتلك بعض الأسس التي اتبعها الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله في إدارته للأزمات الطاحنة التي مرَّت به داخليًّا وخارجيًّا، والتي استطاع بفضل الله أن يبليَ فيها بلاءً حسنًا، وأن يخرجَ منها بأفضلَ وأطيبَ النتائج.
لقد كان من أعظم قادة العمل الإسلامي في إدارة الأزمات، فكان حازمًا وقت الحزم، ولينًا وقت اللين، وحاسمًا وقت الحسم، ورحيمًا وقت الرحمة، وقاضيًا وقت العدل، وفقيهًا وقت الفتوى، وهذه هي أبرز الصفات الواجب توافرها فيمن يدير الأزمة، فليس كل وقت يستحق الحزم أو الحسم أو اللين؛ فلكل موقف وضعه ورؤيته وقراراته، ولكل أزمة طبيعتها التي تستوجب علينا التعامل معها بما يلائمها، رحم الله الإمام الصابر المحتسب- الذي لم يُوفَّ حقه لليوم حسن الهضيبي، وجعل ما بذل في سبيله في موازين حسناته، وجمعنا وإياه في مستقرِّ رحمته.