الفرق بين المراجعتين لصفحة: «عبد الله حلاّق»
لا ملخص تعديل |
ط (عبدالله حلاّق تم نقلها إلى عبد الله حلاّق فوق التحويلة) |
(لا فرق)
|
مراجعة ٢٠:١٤، ١٦ أكتوبر ٢٠١٠
لن أنسى ما حييت، تلك الطلعة البهية، وذلك السَّمت المهيب، لذلك الشيخ الوقور الذي كان يقطع شوارع مدينة حماه، يمشي بخطوات ثابتة، وهندام حسن، يضع على رأسه عمامة صفراء، ويرتدي معطفاً قصيراً يعينه في مشيه.
كنت ذاهباً من حلب إلى حماة لألقاه وألقى إخوانه وتلاميذه، وكثير منهم لقوا ربَّهم شهداء مكرّمين قبل المأساة الكبرى لحماة عام 1982 وبعدها..
استشهد من تلاميذه قبل المأساة: المهندس رياض جعمور، والدكتور حسين خلوف، والدكتور مصطفى الأعوج، والمهندس مروان حديد، وعشرات غيرهم، واستشهد من تلاميذه وأقرانه المئات في تلك المأساة التي سمِّيت بحق: مأساة العصر، فقد أكلت نيران النظام الأسديّ فيها أكثر من أربعين ألف آمن بريء، في شهر شباط 1982 .
ومن زملاء الشيخ الحلاق وأقرانه العلماء مفتي حماة وسبعة علماء آخرين وكلّهم من آل مراد الذين كانوا كآل ياسر في تلك المأساة الكبرى والمحنة الفظيعة. وكان منهم الشيخ العالم الرباني أديب الكيلاني.
ولد الشيخ عبد الله الحلاق في حي سوق الشجرة بحماة عام 1910 في أسرة علم وفضل، عُرفت بآل الشيخ، لأن المشايخ في هذه الأسرة كثر، فهو شيخ، وابن شيخ، وجدّه شيخ.. وهكذا..
نشأ الشيخ عبد الله على الدين والخلق القويم، بعد أن رضع لبان الإسلام والإيمان والأخلاق في تلك الأسرة الفاضلة، فعاش للإسلام ومبادئه وأخلاقه؛ تقياً، نقياً، ورعاً، عفّ اللسان واليد، طاهر الذيل، مسكوناً بالمروءة والشهامة والنخوة، وبكل ما في الإسلام من قيم الحقّ والخير والجمال..
انتسب إلى دار العلوم الشرعية بحماة عام 1924 ونهل منها علوم الدين واللغة العربية والأخلاق، وتتلمذ على مشايخها العلماء العاملين، أمثال الشيخ سعيد الجابي، والشيخ خالد المشنوق، والشيخ توفيق الصبّاغ، والشيخ محمد سعيد النعساني (مفتي حماة الأسبق) ونهل وعلّ من علم الشيخ المربّي الكبير: أحمد سليم المراد.. أخذ عنه العلم والسلوك والأخلاق والدّين والورع.
انتقل الشيخ عبد الله إلى مدينة حلب عام 1927 ليتابع دراسته في المدرسة الخسروية الشرعية، وأمضى فيها ستّ سنوات كانت مترعة بالعلم وألوان المعرفة والتربية، أخذها من كبار علمائها الذين هم علماء حلب، كالشيخ العلامة أحمد الزرقاء، والعلامة الشيخ محمد راغب الطبّاخ، والشيخ إبراهيم السلقيني، والشيخ محمد السلقيني، وسواهم من علماء حلب، كما تتلمذ وأخذ عن علماء حماة.
وفي عام 1933 عاد إلى مدينته حماة، ليرفع لواء العلم الشرعيّ، والدعوة إلى الله، مع إخوانه من العلماء الأبراء، كالشيخ خالد الشقفة، والشيخ محمد الحامد الذي اتخذ- فيما بعد- من زميله الشيخ عبد الله الحلاق، مستشاراً له، يستشيره في كثير من القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، لثقته به وبدينه، وبعقله، ونباهته، وخبرته، ومعرفته بالناس والرجال، فقد كان الشيخ عبد الله ممن عرف زمانه، واستقامت طريقته.
تسلَّم الشيخ عبد الله الحلاق إدارة معهد العلوم الشرعية بحماة، ونجح في إدارتها نجاحاً باهراً، بما آتاه الله من حزم مصحوب بحسن الخلق، وبما تمتعّ به من حنكة وحسن تصرّف، وصدق في التعامل، وإخلاص، وتصميم على النجاح، فنجاح المعهد نجاح للدعوة، وينبغي أن يكون هذا المعهد الشرعي محضناً للدّعوة، يخرّج الدعاة الوعاة المؤمنين بأحقية الإسلام وشريعته في هذه الحياة، ولذلك، كان ينمّي الحسَّ الدعوي والحسَّ الوطني في نفوس طلابه، ويلهب مشاعرهم بدروسه وخطبه الجريئة، وتوجيهاته المركَّزة الهادفة الجادّة.
وكان الشيخ عبد الله خطيباً مفوَّهاً.. كان خطيب جامع سوق الشجرة، ثم جامع الأشقر، فجامع الشيخ إبراهيم.. وكان المسجد الذي يخطب فيه، يكتظّ بالمصلين الذين يأتونه من كلّ مكان، ليستمعوا إلى الشيخ عبد الله ويتزوَّدوا من علمه، وإخلاصه، ووعيه، فقد كانت خطبه أشبه بالمحاضرات، يتناول فيها قضايا الأمة السياسية، والاجتماعية، والتربوية، والتعليمية، بفهم، وعلم، وجرأة، وصراحة، فتكون زاداً للعقول والنفوس والقلوب، تعمرها بالمعرفة والإيمان وحبّ الأوطان، وتدفعها إلى البذل والتضحية في سبيل تحرير سورية من الاستعمار الفرنسيّ الجاثم على صدرها، فلا يخلدون إلى الأرض ولا يرضون بالحياة المرتهنة للاستعمار ونزواته وإرادته.
هكذا كان الشيخ عبد الله في خطبه ودروسه العامة لسائر الناس في المساجد، وكذلك كان مع طلاب العلوم الشرعية.. يعلّمهم جميعاً أمور دينهم، ويربّيهم على أخلاق الإسلام، يبثُّ في نفوسهم الغيرة على هذا الدين، وعلى هذا الوطن المحتلّ، ويشرح لهم قضايا الأمة، ويدعوهم إلى الاستقامة على النَّهج الإسلاميّ السويّ.
وعندما تداعى رؤساء الجمعيات الخيرية والشرعية إلى اللقاء من أجل توحيد جمعياتهم، أو التنسيق بينها، كان في طليعة المطالبين بتوحيدها تحت اسم (الإخوان المسلمين) وذلك كان عام 1938 . وبهذا يكون الشيخ عبد الله من مؤسسي هذه الجماعة المجاهدة، ثم اختير رئيساً لمركز حماة، يرسي دعائم هذه الجماعة، بما أوتي من حيوية ونشاط وبذل سخيّ عُرف به حتى آخر لحظات حياته، فقد كان الشيخ كريماً جدّاً، وبابه مفتوح لأبناء الجماعة، وضيوفها ضيوفه، يقدّم لهم ولا يتكلف، وكانت ابتساماته العذبة، ولسانه الذي يقطر عسلاً، تغني ضيوفه عن الأكل والشرب، فلسان حاله يقول:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف، وأنت ربُّ المنزل
وهكذا كنا نشعر عندما نزوره في بيته، ونجلس إلى مائدته العامرة بالموجود، فنأكل طيب الطعام، ونسمع طيب الكلام، ونستفيد منه علماً وسلوكاً وحكمة وأخلاقاً من نفسه الرضيّة، وقلبه الكبير.
وكما يكون مع ضيوفه، يكون مع سائر الناس، يغمرهم بحبّه وعلمه وأخلاقه السامية، يقضي حاجة المحتاج، ويواسي المصاب، يفرح لأفراحهم، ويحزن لأحزانهم، وبذلك كان الداعية بلسانه وسلوكه وأخلاقه.. وليس هذا بمستغرب على المؤسس الأول لجماعة الإخوان المسلمين في مدينة حماة، فقد كان الشيخ عبد الله هو المؤسس الفعلي والفعال للجماعة في حماة.
كان الشيخ عبد الله يرى في الجماعة حركة شاملة لسائر مجالي الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية والدينية الشرعية، والنضالية، ولهذا توزعت حياته على هذه الميادين، يعمل فيها بنفسه، ويوجّه إخوانه العاملين، وتلاميذه الواعين عليها، ليسدّ كلٌّ منهم ما يستطيع من الثغرات فيها.
وعندما اشتعلت الثورة ضدّ الفرنسيين المستعمرين في حماة عام 1945 نهض الشيخ بدور فعّال في المعارك التي دارت في شوارع حماة، فقد شارك فيها، وأشرك معه مشايخ جمعية العلماء في حماة، وكان الشيخ عبد الله يشغل منصب أمين السّر فيها، كما قاد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في تلك المعارك، واستمّر في جهاده هذا، حتى جلا المستعمر الفرنسي عن سورية الحبيبة.
وعندما دعا داعي الجهاد لتحرير فلسطين من براثن الصهاينة عام 1948 كان الشيخ عبد الله على رأس كوكبة من مجاهدي الإخوان في حماة، قادهم إلى بطاح فلسطين، ثم انضمّ إلى كتائب الإخوان المسلمين السوريين هناك، تحت قيادة المراقب العام للجماعة، الشيخ القائد مصطفي السباعي - طيَّب الله ثراه- وقد أبلى الشيخ عبد الله مع إخوانه البلاء الحسن هناك.
واصل الشيخ كفاحه السياسي في حماة، بشجاعة وجرأة، يتصدَّى للطواغيت الصغار والكبار، ينصحهم مر ومرة ومرة، فإذا لم يستجيبوا لنصحه، وجَّه إليهم نقداته بلطف ولين، فإذا استمروا في ضلالهم، علتْ صيحاته المندّدة بهم وبسياساتهم الخرقاء، وبكفرهم الدخيل، وبالثقافة المدخولة المشبوهة التي يسعون لإشاعتها في عقول النشء الجديد، من خلال برامج التعليم، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية..
كان يندد بها وبأصحابها في خطبه ودروسه، وفي مجالسه الخاصة والعامة، وكانت تهديدات هؤلاء تتوالى عليه منذ الأربعينيات من القرن الماضي، فلا يأبه بها، ولا يلقي لها بالاً، برغم تحذيرات إخوانه له، فقد كان إيمانه يعصمه من الوقوع في وهدات الخوف على الرزق والمنصب والحياة، فكلُّ شيء بقضاء وقدر، ولن ينجي حذرٌ من قدر.
استمر الشيخ عبد الله على هذه الحال، حتى جرّده النظام الأسدي من جميع مناصبه عام 1970 ثم منعه من الخطابة عام 1980 بمناسبة وبغير مناسبة، ولكن الشيخ لم يبال بالمنع والمانعين ولم يمنعه علوّ سنّه عن مشاركة إخوانه وأبناء مدينته المجاهدة بما يصبّه عليها النظام الطاغوتي من أنواع البلاء..
حاول تنبيه النظام لما يقترف تجاه المواطنين عامة، والإسلاميين خاصة، ثمّ حذّره من عقابيل جرائمه، فلم يرعو النظام عن غيّه، بل ظلَّ سادراً فيه، وكأنه يريد أن يجرَّ المدينة كلها إلى بحران من الدّم، فالنظام يحقد على مدينة حماة حقداً أعمى، فأنذرهم الشيخ بسوء المصير، إن هم استمروا في ارتكاب الجرائم والمجازر بحق الشعب السوري عامة، وأبناء حماة خاصة، ولكنهم أوغلوا في ضلالهم، وضربوا بنصائحه وتحذيراته عرض الحائط، وبلغ بهم الأمر أن يسخروا منه ومن الإسلام ومن علماء الإسلام حيثما كانوا، معتزّين بالسلطة التي اغتصبوها، ومتترسين بالأسلحة التي نشروها في أرجاء المدينة المجاهدة، ليذلّوا بها رجال حماة، وليقتلوا من يريدون قتله، ويسجنوا ويشرّدوا ويطاردوا من يريدون سجنه أو تشريده أو مطاردته.
حتى إذا كان اليوم الثاني من شهر شباط 1982 صبّ النظام حُممه على المدينة الباسلة، من البر ومن الجوّ، فكانت الدبابات، والمصفحات، وراجمات الصواريخ، والطائرات، تنفذ أوامر (عليا) بهدم ما يمكن هدمه من المدينة المجاهدة، وإحراق ما يمكن إحراقه، وقتل الناس الآمنين في بيوتهم، وكانت الأوامر تقضي بالقتل، والسلب، والنهب والاغتصاب، وعدم توفير صغير أو كبير، طفل أو امرأة.
وفي اليوم الثامن من شهر المأساة (شباط 1982) اقتحم الوحوش منزل الشيخ عبد الله، واقتادوه إلى منجرة بدر البدر وأدخلوه إليها مع عشرين من أبناء المدينة المجاهدة وأشعلوا النار فيهم أحياءً وأحرقوهم جميعاً بدم بارد حاقد .. وقضى الشيخ الذي صرف أعوامه السبعين في خدمة الناس، ومن أجل تحرير سورية من الاستعمار الفرنسي، وتحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني اليهودي، وارتفعت روح الشيخ المجاهد على سحابة من عبير، تشكو إلى بارئها ظلم هذا النظام الطاغوتي الذي لم يراع سنّه وشيخوخته، ولم يراع علمه وفضله، ولم يحسب حساباً لجهاده.
رحم الله الشيخ أبا صالح رحمة واسعة.. رحم الله الشيخ الشهيد، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع الأنبياء و الشهداء والصّدّيقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وفيما يلي نقدم آخر مقابلة مع الشيخ الشهيد، أجراها معه الأخ الدكتور أبو فارس قبيل استشهاد الشيخ بأربعة أشهر، في مكة المكرمة.
سأله الدكتور أبو فارس:
- سيدي هل لكم أن تحدثونا عن نشأة الإخوان المسلمين في بلادنا ومتى تمَّ ذلك لأول مرة؟
الشيخ: بعد أن ألغت السلطات الكمالية في تركيا الخلافة العثمانية وسقطت سورية تحت نير الاستعمار الفرنسي في أوائل العشرينيات من هذا القرن.. هبّ كثير من الناس من الطبقة المثقفة ومن أصحاب الأملاك وكبار التجار ينادون بالكفاح الوطني والنضال من أجل الحرية، واستقلال البلاد، واعتمدوا النهج الغربي، وأسلوب السياسة داعين إلى التخلص من الجهل والتخلف بزعمهم والالتحاق بركب المدنية الحديثة على طريقة الثورة الكمالية العلمانية التي كانت ثورة على الإسلام وقيمه وعلمائه، وعزلت تركيا عن العالم الإسلامي ودينه ومقدساته. وربما جاهر هؤلاء السادة بطروحاتهم أو سكتوا عنها خشية أن يثور الناس عليهم ويغضبوا لدينهم وقيمهم.. ومثّل هؤلاء رجال الكتلة الوطنية الذين انقسموا على أنفسهم في نهاية المطاف، وأسلموا البلاد إلى الانقلابات العسكرية المتعاقبة.
ومن هنا تنادى أهل الغيرة الدينية والحمية الشرعية الوطنية من رجالات الإسلام وعلمائه ووجهاء البلاد وزعمائها، كي يلتقوا فيما بينهم ويشكلوا جمعيات نهضوية ثقافية وشرعية تعود بالأمة إلى دينها وقيمها السامية، وتؤدي دورها في توعية الجماهير، وبعث روح الجهاد في نفوسها وحياتها.. كي تنال حريتها واستقلالها وتحكمِّ القرآن في حياتها.
لم تغفل هذه الجمعيات النواحي الاجتماعية والتعليمية فقامت على حرب الفقر والحرمان ومساعدة ذوي الحاجات ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وافتتحت دور العجزة والأيتام والمدارس لنشر العلم والمعرفة ومحاربة الجهل. كالذي فعله شيخنا مفتي حماة الأسبق العلامة الشيخ سعيد النعساني الوردي. انتشرت هذه الجمعيات في المحافظات السورية بمسميات مختلفة، فعلى سبيل المثال:
هناك دار الأرقم في حلب. ولا ينسى دور الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري فيها.
وهناك الرابطة الدينية في حمص، ودور الشيخ محمود جنيد والدكتور مصطفي السباعي فيها.
ودار الأنصار في دير الزور ودور الدكتور حسن هويدي فيها.
وجمعية الشبان المسلمين في دمشق ودور الدكتور فايز المط فيها.
وجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية في بيروت وجمعية عباد الرحمن في طرابلس، ودور الشيخ محمد عمر الداعوق فيها.
وجمعية شباب محمد صلى الله عليه وسلم في دمشق ودور الأستاذ محمد خير الجلاد والأستاذ زهير الشاويش فيها وغيرها.
أما نحن في حماة فقد تداعت ثلة من أهل العلم والفضل والغيرة الشرعية وهم: الشيخ منير لطفي والشيخ منير الحوراني والأستاذعبد الغني الساعاتي والأستاذ عبدالغني الحامد والعبد الفقير (يعني نفسه أي الشيخ عبد الله الحلاق) وذلك في عام 1938 م. عليهم رحمة الله أجمعين.
التقت هذه المجموعة وراحت تضع الأسس التي ستقوم عليها هذه الجمعية:
أهدافها، مبادئها، نظمها، عضويتها ووسائلها، وأخيراً وقفنا عند تسميتها إلى أن حضر من إجازته السنوية لطلاب الأزهر أخونا وزميلنا الشيخ محمد الحامد رحمه الله فعرضنا عليه المشروع بالتفصيل، وأننا لم نصل بعد إلى تسمية هذه الجمعية.. فأجاب على الفور: (الإخوان المسلمون) أسوة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أسسها الشيخ حسن البنا وانتشرت حركتها ونشاطاتها في كثير من الأقاليم المصرية..فوافق الجميع، وقام الشيخ محمد الحامد رحمه الله بإرسال برقية إلى الإمام البنا يبشره فيها بافتتاح أول شعبة للإخوان المسلمين خارج مصر وهي في حماة.. وأجابه الأستاذ الإمام بالتهنئة والتبريك... وذلك في صيف عام 1939 م.
قمنا بتوزيع الأدوار والمهام على السادة المؤسسين، وتم اختيار الأستاذ عبد الغني الحامد رئيساً للجمعية ليكون أول رئيس للإخوان المسلمين في سوريا ، وهو الأخ الأصغر الشقيق للشيخ محمد الحامد. وأمانة السر للأستاذ عبد الغني الساعاتي وكان من نصيبي أمانة الصندوق..
الدكتور: ماذا عن دور الشيخ محمد الحامد؟
الشيخ : كنا ندعوه بمرشد الجماعة.
ورحنا نبحث عن تسجيل هذه الجماعة رسمياً، فواجهتنا عقبة عسيرة إذ إن ترخيص الجمعيات الفقيرة لا يمنح للموظفين، والجميع لهم وظائف حكومية ما عدا العبد الفقير (يعني نفسه) ولا بد من ثلاثة أشخاص مؤسسين أحرار ليس لهم ارتباط بوظائف الدولة. والشيخ محمد لا يزال يطلب العلم في الجامع الأزهر.
توجهنا إلى الأخوين الدكتور نورس عبد الرزاق (طبيب عيون) والصيدلي الحاج عبد الحميد عدي وعرضنا عليهما الأمر فرحّبا وقبلا أن يكونا شريكين لي في الترخيص، إلا أنهما اشترطا أن تعفيهما الجمعية من تقلد أي مناصب إدارية، معتذرين لانشغالهما بأعمالهما الخاصة... هذا في عيادته وذاك في صيدليته.
حُزنا على الترخيص، واستأجرنا داراً في جورة حوّى (حي في حماة) قرب زاوية الشراباتي لتكون أول مركز للإخوان في حماة، بل في سورية .
اتفقنا على إقامة حفل للافتتاح، ودعونا عدداً كبيراً من علماء ووجهاء ورجالات حماة، وفوجئنا بأعداد غفيرة تشهد الحفل حتى ضاقت الدار بالحاضرين، وامتلأت الشوارع المحيطة بها.. وكان المتحدث رئيس الجمعية الأستاذ عبد الغني الحامد، مرحباً بالجميع، ومعرفاً بالجمعية وأهدافها ووسائلها والأسس التي قامت عليها.. وطريقة الانتساب إليها فكانت كلمة عصماء من روائع الأدب والبيان والبلاغة ثم تزاحم القوم في تقديم طلبات الانتماء والانتساب إلى الجماعة من سائر شرائح المجتمع، وخاصة وجهاء المدينة وزعماءها.
(يحدثني الشيخ وأنا انظر إلى محياه كيف يعلوه البشر والسرور وهو يستعيد ذكريات تلك الأيام الحافلة من حياته بالنشاط والفاعلية وتوعية الجماهير بحقيقة الإسلام ، من أنه: دين ودولة، ومصحف وسيف، وأنه ينتظم شؤون الحياة جميعها.. وهو السبيل الوحيد لخلاص أمتنا مما اعتراها من تخلف وجهل وفرقة أودت بها بين براثن الأعداء والمستعمرين).
الدكتور: أستاذ.. هل كانت جماعة الإخوان في تلك الحقبة الزمنية مجرد جمعية خيرية، دعوية وإرشادية.؟ أم أن لها دوراً جهادياً يمضي في تحريك وقيادة الجماهير لحرب المستعمر الغاصب الذي يجثم على صدر الوطن؟
الشيخ: هذا أمر لا شك فيه، فقد تميزت جماعتنا بتعبئة المواطنين ضد الوجود الاستعماري وممارساته.. والأدلة كثيرة ووفيرة.. فقد كنا نقود المظاهرات الصاخبة الحاشدة، ونصطدم مع قوات العدو وجنوده ومرتزقته، ولا بد من تقديم تضحيات وشهداء ومعتقلين في كل مرة.
وأهم هذه الاصطدامات، ما حدث في عام 1945 فقد بدأناها بثورة عارمة عامة مسلحة فُجّرت في (حماة) وامتدت نيرانها إلى بقية المحافظات السورية؛ إذ هبَّ المجاهدون بأسلحتهم الخفيفة، والتحق بهم رجال الدرك والأمن، وشارك أهل الريف والبدو في هذه الثورة.
ولقد وجهت قيادة الجيش الإفرنسي حملة عسكرية ضخمة باتجاه (حماة) لإخماد الثورة وتأديب المجاهدين.. لكن هؤلاء الأبطال كانوا لها بالمرصاد، فواجهوها في مدخل حماة الجنوبي، وتمكنوا من قتل قائدها، وتحطيم عدد من مصفحاتها. وردّوها على أعقابها مدحورة مهزومة، رغم مؤازرة الطيران الذي قصف المدينة بقنابله الثقيلة تلك التي كان الناس في أيامها يسمونها (قاظانات) إلا أن الله لطف، وكانت معظم هذه القذائف تسقط في نهر العاصي بتدبير رباني، فأعز الله جنده، وأنزل نصره على عباده المؤمنين. واحتل المجاهدون الثكنة العسكرية في منطقة الشرفة غرب حماة، وأول من وصل إليها الشيخ محمد الحامد الذي رفع الأذان على أعلى مكان فيها: (الله أكبر.. الله أكبر) وكانت هذه الثورة وهذا النصر مقدمة الاستقلال الكامل الذي نالته البلاد بعد ذلك في عام 1946 م وقد خلده شاعر العاصيبدر الدين الحامد بقصيدته التي تبدأ:
بلغت ثارك لا بغي ولا ذام يا دار ثغرك بعد اليوم بسام
هذه واحدة...
والثانية مشاركة فصائل المجاهدين من الإخوان المسلمين في حرب فلسطين عام1948 بقيادة المراقب العام الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله وكان لمنتسبي الإخوان في حماة خاصة من أعضاء الفوج الكشفي الرابع ومن انضوى تحت لوائهم من الجماهير الدور البارز في الدفاع عن القدس. واسأل عن معركة باب الخليل فيها .. وغيرها. وكنت أنا قائد ذلك الفوج الكشفي المجاهد الذي هو جزء من تنظيم الجماعة.
الدكتور: سيدي أبا صالح حدثتني عن نشأة الإخوان المسلمين في حماة، فهل تخبرني عنها في سورية؟
الشيخ: نعم. اتفق ممثلو الجمعيات التي حدثتك عنها على اللقاء في حلب، وكان للدكتور مصطفي السباعي الدور الأكبر (لعلاقاته المتميزة مع الجميع ولانتسابه إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر) في توحيد هذه الجمعيات تحت مسمى واحد هو (جماعة الإخوان المسلمين في سورية) وقد أجمع الحاضرون على اختيار السباعي مراقباً عاماً للجماعة اعتباراً من عام 1946 م.
الدكتور: هل ارتبطت هذه الجماعة في سورية بالجماعة الأم في مصر ؟ أم بقيت بدون ارتباط؟
الشيخ: في صيف عام 1947 توجه وفد كبير من إخوان سورية إلى مصر يضم إلى جانب الدكتور السباعي الشيخ محمد الحامد والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري وغيرهم والعبد الفقير (يعني نفسه رحمه الله).
والتقينا الإمام الشهيد وإخوانه، وقد احتفى الإخوان في مصر بقدوم وفد الإخوان السوري احتفاء منقطع النظير في المركز العام، بعد أن أذنت الحكومة المصرية بافتتاحه، إذ إن الحاكم العسكري في مصر كان قد أقفله. وذلك ليستضيفونا. ومما أذكره في هذه المناسبة أن الإمام البنا رحب بنا بكلمة جامعة أخذت بمجامع القلوب، وألهبت المشاعر، وحلّقت بنا فوق الدنيا، وأججت العواطف، فأسالت المدامع، وعلا البكاء والنحيب .. ثم تلاه الدكتور مصطفي السباعي بكلمة مماثلة زادت من الشجون والأحوال والبكاء..
وأخيراً اعتلى المنبر الشيخ محمد الحامد رحمه الله وهو صاحب الصلة القلبية والمحبة الخاصة مع الإمام البنا وصفوة الإخوان في مصر أمثال الشيخ عبد البديع صقر، والشيخ عبد المعز عبد الستار وغيرهم وذلك في أيام الدراسة التي أمضاها في الأزهر الشريف والمركز العام.
وإذا به يبدل منحى الكلام تبديلاً كاملاً وذهب بالسامعين إلى ميدان آخر، فبعد أن سمَّى وسلَّم وحمد الله وأثنى عليه، راح يطلق النكات والفكاهات الواحدة تلو الأخرى؛ مرة مصرية، ومرة سورية.. وغرق القوم في جو من الضحك والاستئناس وفيهم الإمام المرشد، والدكتور السباعي.الذي يعرف الكثير عن مرح الشيخ اللطيف ومداعباته الأخوية.. إلا أنا فقد كدت أنفجر من الغيظ والألم حتى إذا ما أنهى الشيخ محمد كلامه وعاد إلى جانبي، التفتُّ إليه مغضباً وقلت له:
- ما هذا الذي فعلته يا شيخ محمد؟ وما الذي حملك عليه؟ وكان المؤمل منك أن تخاطبهم بغير هذه اللغة، وتحلق بالجميع في جواء روحية، ومعاني علوية كما فعل صاحباك؟
فأجاب الحامد: يا رجل أشفقت على نفسي وعلى الجميع، فأحببت أن أنقلهم إلى جو جديد فيه بحبوحة وصفاء ومرح مباح.
الدكتور: ثم بعد ذلك سيدي أبا صالح؟
الشيخ: بايع وفد الإخوان السوريين المرشد العام الإمام البنا بيعة السمع والطاعة والالتحام الكامل مع الجماعة الأم. ثم أعيد اختيار وإقرار الدكتور السباعي مراقباً عاماً للإخوان في سورية في جو مفعم بالجد والإيمان والعزيمة والتصميم على متابعة طريق الجهاد والكفاح حتى تتحرر كل الأقطار العربية والإسلامية وتقوم دولة الإسلام.
الدكتور: ما رأيك سيدي بالأحداث الجارية على الساحة السورية والتي تدور رحاها بين مجموعات الشباب المسلم وقوات السلطة الطائفية؟
الشيخ: عندما أقفلت هذه السلطة كل أبواب التفاهم مع الشعب، وأغفلت مطالبه المشروعة في ممارسة حقوقه وحريته، واعتمدت السياسة الانتقامية، فأقصت كل فئات الشعب عن مؤسسات الدولة ومصالحها الحيوية، وبالأخص العسكرية منها والأمنية، ثم طغت على الدوائر التعليمية والإعلامية، وجعلتها حصراًَ في أيدي طائفة واحدة، وحزب واحد هو حزب البعث، وفرضت من البداية قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وأقامت المحاكم الاستثنائية والميدانية للمدنيين من أبناء الشعب، لتفعل ما يحلو لها من قتل واعتقال وتعذيب لكل من يخالفها في الرأي أو لا يسير في ركابها.. دون حسيب أو رقيب.
بل ما من أحد تصل إليه المخابرات - لفروعها الكثيرة- إلا وأمامه واحد من اثنين: إما أن تمزقه السياط وتهلكه وسائل التعذيب الوحشية ثم يكون مصيره إلى الموت كما حدث مع الشهيد حسن عصفور وغيره.. وإما أن يجندوه عميلاً يتجسس لمصلحتهم على أهله وجيرانه. وعندها آثر الشباب الموت وهم أحرار، على الموت تحت السياط والعذاب الأليم.. أما العمالة فهي مستحيلة في عقيدة وتربية هؤلاء الشباب.
الدكتور: هل كان العمل العسكري عارضاً على جماعة الإخوان أم أصلاً له جذوره وقدمه؟
الشيخ: من البدايات كانت لنا مناهجنا التربوية لإعداد جيل مؤمن يتسلح بالإيمان وحب الجهاد والاستشهاد لإعلاء كلمة الله. وناهيك ما حدثتك عنه من مشاركة الإخوان وقيادتهم جماهير الأمة في مقاومة الاستعمار ونيل الاستقلال وكذلك المساهمات الفاعلة في ميدان الجهاد على أرض فلسطين الطهور بقيادة المراقب العام الدكتور السباعي ولا زالت روح الجهاد وحب الاستشهاد تسري في أوصال هذا الشباب المؤمن ودمائه حتى كانت المواجهات الأخيرة التي فرضتها السلطة الطائفية على شعبنا.
الدكتور: هل كان لكم دور في مسيرة الجماعة نحو الإعداد والجهاد ؟
الشيخ: إن أولى التشكيلات الجهادية في حماة كانت من قبلي، وارتبطت بي شخصياً، ولعلك تعرف الكثير منهم أمثال: مروان حديد، و سعيد حوي ، و حسن عصفور ، ومحمود وغيرهم.
المصدر : القدس أون لاين