من العاطفة والغوغائية إلى العقلانية والعلمية
بقلم / الدكتور يوسف القرضاوي
العاطفة أو الوجدان جزء من كيان الإنسان النفسي، فالإنسان ليس عقلاً فقط، وليس إرادة فحسب، بل هو كذلك عاطفة وشعور، وإذًا لا تذم العاطفة في الإنسان لذاتها، ولا يذم الجانب العاطفي في الإنسان لذاته؛ ما دام جزءًا من كيانه الذي فطره الله عليه، وقد وصف الله المؤمنين من عباده في القرآن بصفات عاطفية متنوعة مثل: الوجل من الله، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ (الأنفال: 2).
وهذه الوجدانات الروحية هي التي عُني بها علماء التصوف والسلوك في الإسلام، وسموها (الأحوال)، أو(المنازل)، وما جاء في القرآن والسنة في شأن العواطف والوجدانات، أو الانفعالات النفسية لا يسلم منها إنسان.. حتى الأنبياء أنفسهم، فهم يفرحون ويحزنون، ويضحكون ويبكون، ويرجون ويخافون، ويرضون ويغضبون، وقد قال نبينا- صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته أو جلدته: فأجعلها له كفارة" (متفق عليه).
ما ننكره هو تغليب العاطفة على العقل
ما ننكره هنا: هو أن تغلب العاطفة على العقل، فتؤثر على صواب إدراكه، وتحرفه عن طريق السداد، لأن الذي يتبع عواطفه، ويسير وراءها حيثما وجهته، إنما يتبع هواه، واتباع الهوى يُعمي ويُصم، ويُضل عن الطريق المستقيم، ولهذا قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ (ص: 26).
وقال عطاء بن رباح: ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمل خمسين أو ستين أو سبعين سنة! ورب غضبة أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: "لا يقضِ القاضي بين اثنين وهو غضبان" (أخرجه البخاري)، وقد قاس العلماء على قضاء القاضي وهو غضبان كل أنواع الانفعالات الأخرى، من شدة الحزن، أو شدة الفرح، أو شدة الجوع ونحوها؛ مما يُخرج الإنسان عن سواء حالته، ويعرضه للبعد عن السداد.
عاطفية الجماعات
وإذا كانت غلبة العاطفة على العقلانية مذمومة في الأفراد، فلا ريبَ أنها كذلك مذمومة في الجماعات والحركات، وقد غلب على كثير من فصائل الصحوة الإسلامية في بعض الأوقات، الجانب والخطاب العاطفي، وتقليص الخطاب العقلاني والعلمي، فراجت بضاعة الخطباء المهيجين، والكتَّاب المثيرين، والصحفيين المبالغين، وهذا النوع من العواطف يدغدغ عواطف الجماهير، ويسلب عقولهم من رءوسهم، ويبقيهم أجسامًا بلا عقول.
مظاهر العاطفية في الصحوة
- تمجيد الذات: بحيث يغطي ذلك على عيوبها، ويبرز حسناتها، ويخفي سيئاتها، وبهذا لا تُقوم نفسها تقويمًا عادلاً، وقد ذمَّ القرآن اليهودَ الذين يزكون أنفسهم، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (النساء: 49).
- الإسراف في الحب والبغض: وقد ورد: "أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما" (أخرجه البخاري)، وفي الأمثال: لا يكن حبك كلفًا، ولا يكن بغضك تلفًا.
- الاستغراق في الأحلام: ومد حبال الأماني والأحلام، دون أن يكون لها رصيد من واقع الأشياء، وقد ذمَّ الله تعالى اليهود والنصارى حين تعلقوا بدخول الجنة دون عمل يؤهلهم لها، فقال تعالى: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة:111)، وفي الحديث: "العاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني" (أخرجه الترمذي).
- الاستعجال في قطف الثمار قبل أوانها: وهذا ما أوقع كثرًا من الشباب المخلصين في أعمال ليس لها جدوى، وتقديم ضحايا في غير عدو وفي غير ميدان الجهاد الحقيقي.
- الاعتماد على حسن النية دون تحري الصواب: وهذه آفة تُصيب كثيرًا من الناس (الطيبين) كما نسميهم، فهم لا يعرفون الأمور على حقيقتها، ولا يتعرفون على الأشياء كما ينبغي أن تعرف، ومعظم البدع التي لحقت بالدين، ولوثت نقاءه، وكدرت صفاءه، كان سببها: الرغبة الصالحة في عبادة الله، والإخلاص له، دون الاجتهاد في تصويب العمل والاطمئنان إلى صحته، وهذا ما نبَّه عليه سلف الأمة الواعون، كما رُوي عن الفضيل بن عياض أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك:2)، فقال: "ولا يقبل العمل إلا إذا كان خالصًا وصوابًا، وخلوصه أن يكون لله، وصوابه: أن يكون على السنة".
خطوات في طريق البحث عن الصواب والأصوب
إن المطلوب من المسلم مع حسن النية وإخلاص القصد؛ هو تحري الصواب، بل البحث عن الأصوب، ما استطاع، والبحث عن الصواب والأصوب يلزمه جملة أشياء، منها:
1- ألا يأخذ كل ما يلقنه قضية مسلمة، بل يمتحن ما عنده حتى يطمئن إلى صحته تمامًا، مترقيًّا من مرتبة إلى أخرى حتى يصل إلى حق اليقين، وقد ذكر القرآن مثالاً في أبينا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة:260)، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" (أخرجه البخاري)، والمراد بالشك هنا؛ طلب اليقين الحق بالمشاهدة.
2- أن يوازن بين ما عنده مما يعتقده صوابًا، وما عند غيره، فلعله يستفيد من ذلك في تصويب ما عنده أو الوصول إلى الأصوب، أو ينتهي بتثبيت ما عنده، فبضدها تتميز الأشياء.
3- أن يسأل غيره فيما يجهله كليةً، أو يعرف بعضه وجهل بعضًا آخر، فليس هنا من يعلم كل شيء إلا الله، وفي الحديث: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال عن قوم أخطأوا الفتوى: "هلاَّ سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال" (أخرجه أبو داود).
4- ألا يقحم نفسه فيما لا يحسنه، فيفسد أكثر مما يُصلح، ويهدم أكثر مما يبني، كالطبيب الذي يعالج المرضى وهو غير متخصص.
- العجلة والارتجال: ومما يجانب العقلانية والعلمية: الارتجال، والاستعجال في رسم السياسات المهمة، واتخاذ القرارات الخطيرة؛ دون أن تأخذ حقها من الدراسة والمناقشة والإنضاج، بدعوى (أن خير البر عاجله) وأن البطء والتواني يقتل الحركة، ويضيع البركة.
- التوكل دون أن يعقل الناقة: جاء في الحديث أن أعرابيًا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- ومعه ناقته، وأراد أن يدخل عند النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأله: أأعقل ناقتي (أقيدها)، يا رسول الله ؟ أم أدعها وأتوكل على الله ؟ فقال له- صلى الله عليه وسلم-: "اعقلها وتوكل"، وصارت من يومها مثلاً بين المسلمين، ومعنى الحديث: أن التوكل لا ينافي الأسباب المشروعة، التي ربط الله تعالى بها مسبباتها.
- إغفال السنن في الكون والمجتمع: ومن دلائل العاطفة والغوغائية في التفكير والسلوك: تجاهل سنن الله في الكون والمجتمع، وإسقاطها من الاعتبار، كأن هذا الكون يمضي اعتباطًا، وهؤلاء يفهمون (القدر) فهمًا أعوج أعرج، كأن (القدر) يعني الفوضى في الكون والحياة والمجتمع.
- اعتماد المبالغة: ويدخل في العاطفة والغوغائية اعتماد أسلوب المبالغة في تصوير الأشياء، وعرضها سواء مشاكل أكانت أو حلولاً، مثل تصوير الكيان الصهيوني أنه (قوة لا تقهر)، أو أن الصهيونية تحرك العالم، وأن العالم (أحجار على رقعة الشطرنج).
- التهريج و(الديماغوجية): ومما يدخل في ذلك أيضًا: أسلوب (التهريج) والصراخ، ومحاولة كسب الآخرين، أو التغطية عليهم بإعلاء الصوت، وإظهار الضجيج، على نحو ما قال المشركون قديمًا، فيما حكاه القرآن الكريم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: 26).
- السطحية في فهم القضايا ومعالجتها: على طريقة ما يسميه العوام بـ(الفهلوة)، ومن مظاهر هذه السطحية:
(أ) التسليم بما يشيع بين الناس، وما يشتهر على الألسنة والأقلام، دون أن يكون له أساس علمي، مثل التصديق لمل سمي (بروتوكولات حكماء صهيون).
(ب) تقبل التفسير التآمري للتاريخ، وللأحداث والوقائع الحديثة والمعاصرة، وهذا يوقعنا في لون من (الجبرية السياسية) التي تسلبنا كل حول وقوة.
(ج) البكاء على الأطلال، والتغني بالأمجاد، والتفاخر بما حققه الأسلاف الكرام.
(د) مواجهة عصر الثورة الإليكترونية، والثورة الفضائية، والمعلوماتية بعقلية عصور ما قبل الثورة الصناعية الأولى.
ومن عجيب ما قرأته: أن بعض مشايخ الدين، ذهب إلى أن كل ما ورد في القرآن والسنة في الثناء على العلم، والتنويه بفضله؛ إنما يقصد علم الدين وحده، ولا يدخل فيه الدنيا، وهو قول ترد عليه الآيات في القرآن الكريم.
(هـ) الاستكثار من المرجيات والمبشرات ومنعشات الآمال، مع تعمد إغفال العوائق والعقبات الكبرى، ومن المهم هنا: التركيز على العوائق الذاتية والداخلية، بدل التركيز على العوائق والعقبات الخارجية.
إلى العلمية والتخطيط
إننا نريد للصحوة الإسلامية- وقد أدركت سن الرشد- أن تنتقل فكريًّا وسلوكيًّا من مرحلة (العاطفية) وما يصاحبها من ارتجال واعتباطية وغوغائية، إلى مرحلة (العقلية) أو (العلمية)، وما يلزمها من تخطيط وإعداد للمستقبل، ولسنا نقصد بـ(العلمية): تحصيل العلم، وإن كان تحصيل العلم من فروض الكفاية على الأمة، وإنما نقصد هنا: أن تتحرر الصحوة الإسلامية من النزعة العاطفية، والذاتية، والتبريرية، والتمجيدية، والخيالية، مع سيادة الروح العلمية، التي من أهم خصائصها، احترام التخصصات، والقدرة على نقد الذات، واستخدام أحدث الأساليب، وأقدرها على تحقيق الغاية، والاستفادة من تجارب الغير حتى من الخصوم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها، كذلك ضرورة سيادة العقلية العلمية لدى أبناء الصحوة؛ التي ترفض الظن، وترفض اتباع الهوى، وتنكر التقليد الأعمى، وتؤمن بوجوب النظر والتأمل، وتخضع لمنطق العلم في كل شيء، ومن سمات العقلية العلمية، استخدام لغة الأرقام والإحصاءات، وأن يمتلكوا القدرة على التخطيط للمستقبل؛ لأن فكرة الدين في جوهرها قائمة على أساس التخطيط للمستقبل، مع إقرار منطق التجربة في الأمور الدنيوية الذي تنتجه الخبرة والممارسة، مع مراعاة السنن في الأنفس والأفاق.
المصدر : إخوان أون لاين