لولا شباب الإخوان يومي جمعة الغضب والأربعاء الدامي لذبحنا فى الميدان
بقلم: براء الخطيب – 16 فبراير 2011
قبل النزول إلى ميدان التحرير يوم الثلاثاء في 25 يناير كنت أشعر بأن الأيام تدور دورتها فليست الليلة أشبه بالبارحة، والبارحة بالنسبة لكهل تخطى الستين من عمره كانت في عام 1968، عندما اشتعلت أرض الوطن بحركة الطلبة التي انفجرت تنادي بمحاسبة كل الذين كانوا سببا في الهزيمة المروعة التي سموها (النكسة)، وكنا نحن طلبة مدارس وجامعة الإسكندرية نحتاج الى طبع منشور واحد نحدد فيه مطالبنا، ولم تكن هناك مطبعة تطبع لنا هذا المنشور إلا في كلية الهندسة، فذهب وفد منا إلى الكلية وعاوننا الدكتور عصمت زين الدين في طباعة المنشور، بعدها فصل من الطلبة من فصل وعاد لكليته من عاد، وفي الانتفاضة الشعبية في 18 و19 كانون الثاني/يناير التي أطلق عليها السادات اسم 'انتفاضة الحرامية' أردنا أن نطبع منشورا أيضا، ولم يكن أمامنا إلا الدكتور عصمت زين الدين فذهب إليه كاتب هذه السطور، وكنت طالبا في كلية آداب الإسكندرية، والمناضل تيمور الملواني، وكان طالبا في كلية الهندسة، لكننا لم نستطع إقناع الدكتور عصمت زين الدين بطباعة المنشور لأنه ببساطة لم تكن هناك مطبعة، هذه هي البارحة، أما الليلة التي لا تشبه البارحة فلا تحتاج لطباعة منشور، وقد اشتعلت صفحات الإنترنت بما فيها 'الفيس بوك' بالطبع، لقد تغيرت الدنيا باتجاه المستقبل، وليس انتقاما من الماضي، وأجمل وأعظم ما في هذا التغيير هو أن الاتصال بين البشر لم يعد يستطيع منعه أحد حتى لو تم قطع كل كابلات الإنترنت، فهناك عشرات الوسائل للاتصال، وفرها هذا التغير العبقري باتجاه المستقبل.
ليست الليلة أشبه بالبارحة (إنها أول ثورة في التاريخ تستخدم تكنولوجيا الاتصالات) فلن يدوخ شاب لطباعة منشور، ولا لصحيفة 'قومية' مبتذلة على يد كتبة النظام الفاسد، فقد أصبح عرض النظام الحاكم تحت رحمة الشباب الذين يتجهون إلى المستقبل، فالشباب هم من اخترع لنفسه كل وسائل الاتصال، لذلك فإن مصر 25 يناير 2011 غير مصر شباط/فبراير 1968 وهي بالتأكيد غير مصر 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977، مصر تتغير، مصر تقطع الآن الخطى باتجاه المستقبل، ليس من أجل الانتقام من الماضي، لكن من أجل الانتصار للمستقبل، مصر التي لاكوا اسمها دائما كفريق للكرة، وكصورة كارت بوستال بالهرم والنيل وحضارة آلاف السنين يقدمونها للسائحين ويزيفون بها حقيقة مصر للشباب ليخدعوهم، مصر لم تعد 'ما تقولش إيه إدتنا مصر' لينهبوها هم، ويسرقوا من شباب الوطن مستقبلهم، بل ويسرقوا الوطن بأسره، (قومي يا مصر وشوفي حالنا/سرقوا منا مستقبلنا) بل مصر الآن تخب الخطى باتجاه المستقبل، مصر الحقيقية، التي ليست هي فريقا لكرة القدم يهللون لـ'انتصاراته'، مصر لم تعد أغنية ركيكة في أفواه المخنثين وأشباه الرجال، اليوم مصر التي يعرفها الشباب غير مصر التي يعرفها بعض محترفي المعارضة الذين يستطيع النظام شراءهم بمنصب هنا أو بقرض ميسر من أحد البنوك، شباب مصر اليوم الذين خرجوا للشوارع والميادين لا ليحرقوا بعض المباني أو السيارات، بل خرج شباب مصر ليفضوا غشاء بكارة نظام حكم فاسد يتلكأ في الرحيل، ليغتصبوا حكومة كانت قد حافظت على عرضها وحياتها بقوات وبقوانين طوارئ سرقت منهم مستقبلهم، شباب مصر لا يخربون بل إنهم الآن يغتصبون كل الحواجز باتجاه مستقبلهم ومستقبل وطنهم، لذلك فلن يستطيع محترفو الشعارات إياها، ولا محترفو المعارضة سرقة هذه الهبة المجيدة.
تدور الأيام دورتها وليست الليلة أشبه بالبارحة، 25 يناير 2011 حلقة من حلقات انتفاضات شباب مصر الحقيقية، حلقة مجيدة ، من الهبة الشعبية التي بدأت سنة 1919 وتبعتها حلقة حركة الطلبة 1968 وتبعتها حلقة 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977، وها هي هبة 25 يناير 2011 المباركة التي اكتسبت كل الخبرات العظيمة فاختلفت عن كل ما سبقها من هبات، فقد كانت المظاهرات في 1919 و1968 و1977 هبات شعبية مجيدة للانتقام من حكومات ظالمة، لكن هبة 25 يناير 2011 المجيدة توجت نفسها ثورة مجيدة فريدة في التاريخ الحديث، لم تكن انتقاما للماضي، بل سوف تكون انتصارا للمستقبل، فشباب مصر اليوم ليسوا معنيين بالانتقام من الماضي الذي استبد به الحكم، بل انهم معنيون بانتزاع مستقبلهم، والقضاء على الفساد والظلم هو خطوة باتجاه المستقبل، وليس انتقاما من الماضي، لذلك فسوف ينجح شباب مصر في انتزاع هذا المستقبل.
تدور الأيام دورتها وليست الليلة أشبه بالبارحة، فهل هو الحلم يتحقق ونراه اليوم بأنفسنا قبل أن نرحل نحن الكهول؟ هل هو الحلم في بداية التحقق يا شباب مصر الحقيقية؟ وأقول لنفسي: لم تكن هذه نبوءة، بل هي واقع تبدأ فيه شمس الوطن في البزوغ، ها هو العشب الذي حاولوا أن يدوسوا فوقه بقوات أمنهم وقوانين طوارئهم يندفع أشجارا باسقات في الشوارع والميادين، ها هي الأغاني تندفع من جديد، وها نحن نراهم قادمين بسواعدهم يحطمون طغيان وفساد ولصوصية سرقت مستقبلهم ومستقبل وطنهم، ها هم يعيدون الوجه الحقيقي للوطن، ها هم أمامنا، نراهم، ونرى وجوههم الجميلة الغاضبة، ونسمع صوتهم الهادر يعيد للوطن ملامحه الجميلة، ها هم قادمون يرتدون ملابس مبتلة بدماء آبائهم الشهداء الذين دافعوا عن هذا الوطن ليصل إليهم رغم محاولات سرقته (شابابية وأحرار/أبناء الشهدا والثوار) ها هم قادمون ليستردوا وديعة آبائهم الشهداء، ها هم قادمون في الموعد الذي حددوه لأنفسهم، ها هم قادمون بالسواعد الفتية والأغنيات الجديدة ليزيحوا الظلم والعتمة عن وطن أسير للصوص البنوك والحياة، ها هم يوقظون فينا روحا كنا نظن أنها قد ماتت، ويوقظون وطنا كان يظنه الجميع قد مات، وطنا نحن عشاقه، وهو عشقنا الأول والأخير وتتحول الانتفاضة إلى ثورة مجيدة، وسوف أقفز الآن من يوم الثلاثاء 25 يناير عابرا يومي الأربعاء والخميس 26/27 لأصل إلى يوم الجمعة 28/يناير وهو 'جمعة الغضب' التي فجرتها تكنولوجيا العصر وعبقرية شباب مصر:
وجدت نفسي يوم الجمعة صباحا في حاجة ملحة لدخول دورة المياه، ولأنني كنت أبيت في الميدان فقد وجدت أن دار نشر 'ميريت' تلاصق ميدان التحرير، فهي لا تبعد عنه أكثر من عشرة أمتار في بداية شارع قصر النيل، فذهبت إلى 'ميريت' وقابلني المناضل أحمد بهاء الدين شعبان ومعه ابنه الشاب يهتفان مع المتظاهرين فتعانقنا ثم اتخذت طريقي إلى دار نشر 'ميريت' التي كانت خلية حية تمتلئ بالحياة، بشباب الثورة يشرف عليهم محمد هاشم الناشر وصاحب الدار، وهو مناضل قديم اعتقل معنا عدة مرات، وجدت محمد هاشم يشرف على مجموعة من الشباب والفتيات في تحضير الساندوتشات والشاي الساخن لتوزيعه على الشباب في ميدان التحرير، مع البطانيات التي تمكن من جمعها بمعاونة المخرج السينمائي مجدي أحمد على والشاعر إبراهيم داود اللذين كانا مشتركين في التظاهر منذ اللحظات الأولى، بعد مدة قصيرة تركت 'ميريت' في محاولة لدخول ميدان التحرير، لكن كان الميدان يمتلئ بجنود ومصفحات الأمن المركزي، فوجدت أنه يتحتم علي أن أذهب إلى شارع طلعت حرب حتى أتمكن من دخول ميدان التحرير من شارع البستان، وجدت بعض الشباب متجمعين وهم يهتفون: 'الشعب يريد إسقاط النظام' فانضممت إليهم وسرعان ما تجمع الشباب بكثرة شديدة فوجدت نفسي محمولا على الأعناق وفي يدي العصا التي أتوكأ عليها ولم أعرف كيف حملني الشباب ولا أعرف واحدا من الشباب الذين حملوني، وكان لابد وأن أرفع شعارا يخص انتفاضتهم (الثورة المجيدة بعد ذلك) فهتفت من وحي اللحظة 'ثورة..ثورة شابابية / مصر طالعة للحرية' وارتج شارع 'صبري أبو علم' من هتاف الشباب، وفيما يبدو أنه بدا علي الإجهاد فوجدت بعض الشباب يعاونوني على الوقوف وتبينت بينهم بعض شباب 'اليوم السابع' عرفت منهم محمود المملوك ومحمد ثروت وهاني صلاح، وبعض شباب جريدة 'الدستور' وشباب جريدة 'الشروق' وبينهم الكاتب بدر الرفاعي والفنان التشكيلي محمد الجبيلي والروائي مكاوي سعيد، وسرعان ما تضخمت المظاهرة بعد أن طاردت قوات الأمن المركزي شباب مظاهرة الميدان فانضموا إلينا في شارع 'صبري أبو علم' ليتعاظم حجم المظاهرة، وبدأت قوات الأمن المركزي في إطلاق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي وهم يقاومون الاختناق باستنشاق الخل والبصل وغسل أعينهم بالمياه الغازية (يا له من اختراع أوصت به الثورة التونسية) وجرينا جميعا هنا وهناك ثم عاد الشباب جميعا لمواجهة قوات الأمن المركزي وهم يهتفون بشعارهم الأساسي: 'سلمية..سلمية..سلمية' لكن أبدا لم تعتبرها قوات الأمن كذلك، وطورت هجومها على الشباب بالرصاص الحي 'الخرطوش' في البداية ثم بالرصاص الحي، فتفرقت المظاهرة ووجدت شابا يسحبني من يدي ليخرج بي من هذا الجحيم، وبعد أن خفت درجة اختناقنا أنا وهو تبينت أنه الصحافي محمد ثروت بجريدة 'اليوم السابع'، الذي ساهم في محاولة إنقاذ شاب مصاب بطلق ناري فلم يكن هناك طبيب ولا مسعف، بل الغريب في الأمر أن الذي كان يحمله جندي من جنود الأمن المركزي خلع سترته وأقسم لمحمد ثروت أنه لن يعود إلى معسكره وسوف يعود إلى قريته فورا، لكن بعد أن يطمئن على الشاب المصاب، وتركناه أنا وثروت مع الشاب المصاب، ولا أعرف كيف انضمت إلينا ابنتي وسيمة، التي كانت منخرطة في التظاهر، ولا متى، وقادنا محمد ثروت إلى نقابة الصحافيين، حيث أخذنا قسطا من الراحة في القاعة التي يعتصم فيها شباب جريدة "الدستور" الذين رحبوا بنا بقطع البسكويت والشاي الساخن.
وسوف أقفز الآن فوق خمسة أيام لأصل إلى يوم الأربعاء 2 شباط/فبراير ولهذه الأيام شهادات تفصيلية في أيام الثورة المجيدة، أما عن يوم الأربعاء الدامي فقد بدأ بالنسبة لي حوالي الساعة الحادية عشرة، حيث كنت أساعد شابا اسمه إبراهيم (لا أعرف بقية اسمه) في تعليق لافتة ضخمة كتب بنفسه عليها مطالب الثوار، ورأيت الأستاذ سليم العوا يقترب منا ويقول لي: 'أدعوا الشباب لصلاة الغائب على الشهداء' فانفجرت فيه غاضبا وملوحا له بيدي في عنف صارخا: 'إبعد بعيد يا عوا ما تحاولش تنط على الثورة، ها نصلي على الشهداء بعد إسقاط رأس النظام'. فابتعد الرجل سريعا وهو يبتسم في وداعة، بعدها بمدة قصيرة سمعت هرجا ومرجا وصراخا ورأيت الأحصنة والجمال وعليها رجال يضربون المتظاهرين بالعصي والسيوف، لكن شباب الثوار استطاعوا القبض على أربعة من الخيالة وراكبي الجمال، واقتادوهم إلى السجن الذي أقامه شباب الثورة في محطة المترو وقبل أن يسلموهم مع أربعة أحصنة لقوات الجيش اعترف ثلاثة منهم على أسماء من حرضهم وقالوا انهم تقاضوا مبالغ مالية تتراوح بين مئتين وخمسمئة جنيه للفرد الواحد، وأن الذين جهزوهم بالخيول والجمال والسلاح ثلاثة من أعضاء مجلس الشعب المنتمين للحزب الوطني وهم عبد الناصر الجابري وطارق أبو باشا ويوسف هنداوي وعلي الشاعر، وهذا الأخير قال شاب عنه انه هو الذي وضع له الرشاش في جراب الجمل، ومر الوقت في كر وفر بين البلطجية ورجال الأمن بالملابس المدنية المهاجمين وبين شباب المهاجمين، بعد ذلك مباشرة تغير شكل ميدان التحرير فقد انخرط شباب الإخوان المسلمين في بسالة وعزم الرجال الأشداء يدافعون عن شباب الثوار ورحنا نهتف (بلغوه وقولوله/ إرحل.. إرحل يا خسيس/ أنت خلاص ما بقيتش رئيس، بلغوه وقولوله/إرحل..إرحل للندامة/ أنت خلاص مالكش كرامة) حتى غابت الشمس وظهرت الإضاءة الخفيفة في الميدان واستطاع شباب الإخوان المسلمين الحصول على بعض ألواح الصاج من سور كان يحيط بأحد مشاريع البناء في أول شارع قصر النيل وصنعوا منها متراسا قريبا من تمثال 'عبد المنعم رياض' فصل بين قوات البلطجية وأنصار الحزب الوطني وأفراد الأمن بالملابس المدنية، الذين تم طردهم من ميدان التحرير ليصعدوا فوق كوبري أكتوبر، حيث بدأ هجومهم بزجاجات المولوتوف المشتعلة والطوب والرصاص الحي العشوائي، فيما بدا للجميع أن النظام الفاسد ينوي أن ينهي المسألة كلها في هذه الليلة، وتغير الوضع تغيرا رهيبا حيث بدأ القناصة تخير بعض الشباب بإطلاق الرصاص عليهم، وسقط البعض، مصابين وشهداء، واندفعت سيارات إسعاف الجيش في محاولة إسعاف المصابين بطلقات القناصة، وقد رأيت منظرا فريدا لم أره قبل ذلك، كما أني متأكد بأني لن أرى له مثيلا طوال عمري إن كان في عمري بقية، فقد رأيت شابا مصابا بطلق ناري في رأسه وأحد الشباب يحاول تفتيشه والحصول على محفظته، وفي أثناء ذلك يأخذ بيده من دم الشاب المصاب ويضعه على رأسه هو، وما أن جاءت سيارة الإسعاف فقد أخذ يساعد في حمل الشاب المصاب إلى السيارة ودخل معه وجلس إلى جواره وادعى أنه أحد المصابين، لكن شباب الإخوان فطنوا إلى لعبته القذرة وأمسكوا به وعرفنا منه أنه مخبر أمن دولة، وقد كان يريد الحصول على بطاقة الشاب المصاب لتسليمها إلى العقيد الذي كلفه بالقتل كدليل على أنه نفذ الأوامر، واستمر القناصة من فوق كوبري أكتوبر تصيد شباب الثورة، وازدادت حدة إلقاء زجاجات المولوتوف الحارقة، وتزايدت اعداد الإصابات في شباب الثورة وأنا أقول بضمير مستريح، لقد كان هدف النظام الفاسد في يوم الأربعاء الدامي هو القضاء النهائي على شباب الثورة قبل أن يشرق نهار يوم الخميس، وأقول بضمير مستريح وأقسم بشرفي وبكل ما هو مقدس بأنه لولا شباب الإخوان ودفاعهم عن ميدان التحرير في هذا اليوم الدامي لتم ذبح الجميع، وهنا أجد نفسي مدينا باعتذار حقيقي للمفكر الإسلامي الكبير سليم العوا لما بدر مني تجاهه، راجيا من سماحته وسعة صدره أن يغفر لي تجاوزي، ولعلي أنجح بعد ذلك في رواية قصة الثورة من بدايتها وحتى انتصارها عاشت الثورة وعاشت مصر حرة.