قضية فلسطين بين الإخوان والحكام العرب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

فلسطين هي أرض الرّسالات السّماوية ومهد الأنبياء وملجأهم الحصين، فيها ولد السيد المسيح، ورحل إليها أبو الأنبياء إبراهيم، وعاش فيها أنبياء الله داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.

وهي قبلة المسلمين الأولى فلقد حدثت على أرضها رحلة الإسراء والمعراج التي قام بها النبي محمد صلّى الله عليه و سلّم والتي ذكرت في القرآن الكريم ولذلك تتمتّع فلسطين وأراضيها المقدّسة بمكانة عالية في قلوب كل الأمة الإسلامية بمختلف شعوبها وديانتهم.

فعن أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" (أخرجه الطبراني)

لقد حافظت الأجيال على بيت المقدس وأرض فلسطين جيلا بعد جيل، وضحت من أجله بالرخيص والغالي، لما تحلى به من قدسية خاصة في نفوس المسلمين خاصة والناس عامة، قبل أن يأتي حكام تسلطوا بقوة السلاح والبطش باعوا العرض والأرض، وتنازلوا عن قضية فلسطين من أجل حماية المحتل الصهيوني، ولم ينتفض ضد ذلك إلا الشعوب المؤمنة والحركات الإسلامية وفي القلب جماعة الإخوان المسلمين.

المرتكزات الصهيونية في فلسطين والقدس

يؤمن الصهاينة النصارى واليهود بعقيدة توراتية مشتركة، مفادها:

أنّ اليهود هم شعب الله المختار، وأنّ الله تعالى أعطاهم الأرض المقدسة (فلسطين) بموجب وعد إلهي مقدس قطعه الربّ على نفسه لإبراهيم وإسحاق ويعقوب -إسرائيل- ولنسلهم من بعدهم، ولذا فإنّه يجب أن يملك اليهود أرض فلسطين كلها وما حولها من البلاد التي أعطيت لهم من قبل الرب.

ويعتقد اليهود أنّ لهم حقاً تاريخياً في الأرض المقدسة - فلسطين- لأنّ أجدادهم وآباءهم- حسب زعمهم- مكثوا فيها فترة زمنية في التاريخ القديم، وأقاموا ممالك يهودية منذ ثلاثة آلاف سنة.

كما يؤمنون بوجوب إعادة بناء هيكل الرب الذي بناه نبي الله سليمان-عليه السلام- فوق جبل موريا كما جاء في كتابهم المقدس، وجبل موريا عند جمهورهم هو جبل الحرم القدسي الشريف، أي حيث يوجد المسجدان: الأقصى وقبة الصخرة. ولذا يؤمن هؤلاء بوجوب هدم المسجدين حتى يبنون الهيكل في مكانه الأصلي.

ولقد تسمّت الصهيونية بهذا الاسم نسبة إلى جبل صهيون الموجود بمدينة القدس، وكان هذا الجبل رمزاً لهذه المدينة المقدسة عند اليهود، وذكر هذا الجبل في ترانيم وصلوات اليهود التي وردت في أسفارهم المقدسة، ومن ذلك جاء في سفر المزامير المنسوب زوراً لنبي الله داود: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذي سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين ورنّموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف ترنّم في أرض غريبة...؟ [١].

ظل اليهود في شتات بين بلد وأخرى، حتى تشرذموا في العديد من البلاد الغربية والشرقية، غير أن حاخاماتهم وزعمائهم ظلوا يضعون الخطط والاستراتيجيات من أجل جمع اليهود في مكان واحد، وشجعهم الساسة الغربيين على ذلك في العصر الحديث من أجل التخلص من متاعبهم في بلادهم، وأيضا لوضع شوكة في ظهر العالم العربي يعمل على تفرقتهم وتأخرهم العلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما نراه الآن.

عيون صهيونية على فلسطين

تحولت أنظار اليهود إلى أمريكا حينما أدركوا أنّ نفوذ وسطوة بريطانيا العظمى بدأت تتقلص خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. يقول "ديزموند سيتوارث" في كتابه (تاريخ الشرق الأوسط الحديث – معبد جانوس): "إن بن غوريون شعر خلال الحرب العالمية الثانية أن مصدر القوة سيكون أمريكا لأن الحرب ستترك بريطانيا منهوكة مهما كانت نتائجها، لذلك أمضى في الولايات المتحدة خلال الحرب فترة طويلة، وهو يحاول الحصول على تأييد الحكومة لتكوين جيش يهودي في فلسطين ، ولأغراض الصهيونية العامة فيها، ويعمل أيضاً بين الهيئات اليهودية المختلفة ليعدّها لطلب الدولة اليهودية بعد الحرب"[٢].

وفي أمريكا ألقى اليهود ثقلهم الاقتصادي والسياسي والفكري الديني وتغلغلوا في عقلية المجتمع الأمريكي، مستخدمين كل ما أمكنهم من وسائل الإعلام والتعليم، واستغلوا المجامع الكنسية والمؤتمرات الدينية، ووضعوا التفسيرات والشروحات الدينية للعهد القديم. لقد استطاع اليهود أن يجعلوا الرأي العام الأمريكي ينطلق من المرتكزات التوراتية الصهيونية في الدين والفكر والسياسة.

يقول بول فندلي عضو الكونجرس الأمريكي في كتابه: (من يجرؤ على الكلام): "الواقع أنّ جميع النصارى ينظرون إلى الشرق الأوسط من منظار الصلة الروحية بإسرائيل، ومن زاوية الميل إلى معارضة أو عدم تصديق أي شيء يشكك في سياسة إسرائيل، والقناعات الدينية هي التي جعلت الأمريكيين يستجيبون لنداءات اللوبي الإسرائيلي"، ويضيف: "أعتقد أنّ أسباب البركة في أمريكا عبر السنين أننا أكرمنا اليهود الذين لجئوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا لأنّنا دافعنا عن إسرائيل بانتظام واعترفنا بحقها في الأرض".[٣]

لا يستطيع أحد أن ينكر مدى التغلغل وسيطرة الحركات الصهيونية على السياسة الأمريكية، بل وعلى السياسيين وحكام البلاد، وهو ما يفسر الرعاية الكاملة لأمريكا لمصلحة إسرائيل على حساب حتى وطنهم.

لقد شارك في عضوية تلك المنظمات والمؤسسات الصهيونية بشكل أساسي قيادات دينية بروتستانتية، إضافة إلى المسئولين الحكوميين والسياسيين ورجال الأعمال ورجال الصحافة والإعلام.

لقد أدى تأثير المسيحية الصهيونية في الثقافة العامة للشعب الأمريكي إلى تصوير الصراع العربي الإسرائيلي في الذهنية والثقافة الأمريكية على أنّه امتداد للصراع التوراتي بين داود الإسرائيلي الذي انتصر عل جليات الفلسطيني الغني القوي.

ولقد وضح بن غوريون - أول رئيس وزراء لليهود – ما سيقومون به في الوطن الجديد (فلسطين) ليحافظوا على مكتسباتهم ودولتهم فيقول: أما السيف الذي أعدناه إلى غمده، فإنّه لم يعد إلا مؤقتاً، إننا سنستله حين تتهدد حريتنا في وطننا، وحين تتهدد رؤى أنبياء التوراة، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أرض الآباء والأجداد من النيل إلى الفرات"[٤].

ومن الحقائق الواضحة أن بن غوريون قال: إن صراعنا مع أعدائنا العرب هو صراع حضاري، وهو صراع العلم العنيف.

بل أنه اجتمع مع جنوده بعد حرب ١٩٤٨ قائلا لهم: «أيها الجنود إنكم لم تنتصروا بفضل كفاءتكم ومجهودكم بل لأنكم محظوظون ؛ لأن عدوكم متهور وليس له كلمة أو رأي واحد ، ولا يتعلم أبدا من أخطائه ، لذلك أطلب منكم ومن الآن أن تتدربوا أكثر وتتسلحوا أكثر ، وتدرسوا خططكم بشكل أدق وأشمل ؛ حتى إذا عاد عدوكم للقتال تكون لكم الغلبة عليهم دائما.[٥]

ولم يقتصر الأمر على بن غوريون بل صرح بذلك كثير من القادة الصهاينة، فيقول مناحم بيجن يوم 28 مايو 1968م: إن الأراضي العربية المحتلة هي أراضي إسرائيلية، حررتها إسرائيل من الحكم الأجنبي غير الشرعي.[٦]

ويقول إيفال آلون: جاء اليهود إلى البلاد لكي يستردوا الأرض التي يعتقدون أنها كانت أرض آبائهم الأرض التي وعدها الله لهم ولذراريهم في العهد القديم المبرم قبل آلاف السنين بين الله وابراهيم[٧].

وقال السفير اليهودي السابق بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة - رئيس وزراء إسرائيل - أمام مؤتمر صهيوني مسيحي عقد في واشنطن سنة 1985م: "هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى إسرائيل، هذا الحلم الذي يراودنا منذ ألفي سنة تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين. المسيحيون هم الذي عملوا على تحويل الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية"[٨].

من هذا المنطلق ندرك أن الحرب على القدس والمسجد الأقصى حرب دينية عقائدية، سواء من جانب الصهاينة أو من جانب المسلمين، وهو ما دفع بالصهاينة إلى تربية أجيال من العرب متصهينين نصبوهم على كراسي الحكم لتذليل العقبات أمام قيام دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وهو ما نراه من حكامنا الخائنين في وقتنا هذا.

لماذا اهتم الإخوان بفلسطين في حين خانها الحكام العرب؟

منذ أن طرح الصهاينة اسم فلسطين لتكون وطن قومي لهم في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م ووضعوا الخطط لذلك والتي لم يدرك خطورتها المؤسسات الرسمية في الوطن العربي لخضوعها لسياسة المحتل البريطاني والفرنسي، ولم يلتفت لأهميتها والخطر المحيط بها إلا الحركات الإسلامية وبعض الشخصيات الفردية، فقد جعلتها جماعة الإخوان على رأس أهدافها والعناية بها والذود عنها.

ومع مرور الوقت اتضح للجميع ما يحاك لفلسطين وما يدبر لها وتواطئ القوى الخارجية والداخلية لصالح الصهاينة حتى كان قرار الامم المتحدة بإعلان التقسيم ثم حرب 1948م، والتي حاول بعض الكتاب التقليل من الدور الذي قامت به الحركات الاسلامية والشعب الفلسطيني في الذود عنها في لإثبات أن للصهاينة حق فلسطين.

إعلان قرار تقسيم فلسطين: قرار رقم 181 لعام 1947م

أعلن قرار التقسيم في 29 من نوفمبر عام 1947 وجاء إعلانه مصحوبا بدوي هائل في العالم العربي والإسلامي، لم يستثمره الحكام العرب لصالح القضية، إذ كانت تلك الحكومات ضعيفة متهالكة وهي التي نشأت في أحضان الاستعمار بعد إسقاط الخلافة الإسلامية وعقد معاهدة سايكس – بيكو الخاصة بتقسيم هذه المنطقة مما مهد السبيل للبريطانيين وغيرهم لاحتلال المنطقة العربية، حيث وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني ونتيجة لوعد بلفور الذي بمقتضاه هاجر اليهود من أنحاء العالم فأقاموا المستعمرات في جميع أنحاء فلسطين إلى أن رفعوا قضيتهم إلى المحافل الدولية وصدر قرار التقسيم.

الإخوان والدفاع عن القدس

منذ بدايات دعوة الإخوان ووضع الإمام البنا دستورا لهم استمده من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وسير التابعين[الموت في سبيل الله أسمى أمانينا]، وهو ما أظهره الإخوان في الدفاع عن مقدسات المسلمين بفلسطين والعالم الإسلامي.

لقد نبعت تربية جيل لا يهاب الموت لا بل يتمنى من حب الجهاد الذي فرضه الإسلام على أمة الإسلام لدفع الأخطار عنها، ولذا كان من أسس تربية هذا الجيل تحديد الهدف والغاية التي من أجلها يسيرون في هذا النظام.

ولذا اعتني الأستاذ البنا بتربية هذه الكوكبة عناية خاصة لما عليهم من مسئوليات جسام كانت تحتاج التربية الحقيقية والالتزام بها وعدم الشرود بعيد عن القرآن الكريم والسنة المطهرة.

يقول الإمام البنا: [أيها الإخوان: إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لا بد منه وأنه لا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم] [٩].

لقد تحدث كثير من الباحثين والكتاب عن دور الإخوان المسلمين في مصر نحو القضية الفلسطينية منذ مؤتمر القدس عام 1931م، حتى كللت بدورهم في الحرب حينما أرسلوا كتيبتين إلى فلسطين، وقد نال بعضهم الوسام الملكي من الدرجة الأولى ونشرت صحيفة الأهرام عام 1949م ذلك الخبر.

لقد أدرك الإمام ما يبيت لفلسطين من شرور ومخططات ترمي إلى خطفها من أهلها، وإحلال اليهود الوافدين إليها من كل الآفاق محلهم ، بدعم من البريطانيين، وقد عبر البنا عن ذلك بقوله: إن مصر والعالم العربي والإسلامي يفتدي فلسطين[١٠].

وكان لموقف البنا من القضية الفلسطينية دافع أن يمتدحه الدكتور مصطفى السباعي بقوله : فوالله ما رأيت إنسانًا أروع في الفداء ، وأخلص في النصح ، وأنبل في التربية ، وأكرم في النفس ، وأعمق أثرًا في الإصلاح من حسن البنا رحمه الله[١١].

رسالة مؤتمر رؤساء المناطق والشعب ومراكز جهاد الإخوان المسلمين على مستوى القطر المصري 2شوال 1364ه- 8 سبتمبر 1945م، صـ630لم يكن إخوان مصر وحدهم من انتفض لنصرة القضية الفلسطينية بل شارك إخوان العراق والأردن وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا والجزائر وتونس، وكثير من الجنود من الخليج كالبحرين والسعودية والكويت، وتفاعلت معهم الشعوب فأمدوهم بالمال لشراء السلاح، وخرجوا في مظاهرات عارمة مطالبين الحكام العرب بالتدخل ضد الغزو الصهيوني.

لقد انتفض أفراد من البحريين عام 1948م وجهزوا كتائب من المجاهدين سافروا للتصدي لمحاولات الصهاينة السيطرة على فلسطين وكانوا نموذجا مشرفا، حيث ارتوت أرض فلسطين بدماء بعضهم، ولم يتصور أحدهم أن أحفادهم سيكونون نموذجا للخذلان والتنازل عن فلسطين بأبخس الأثمان بل ودفع ثمن بيع فلسطين للصهاينة واستضافة مؤتمر يقرر فيه أليه بيع الأرض الفلسطينية.

لقد عبر الإمام البنا عن ذلك بقوله: "فلسطين تحتل من نفوسنا موضعًا روحيًّا وقدسيًّا فوق المعنى الوطني المجرد؛ إذ تهب علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفى كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذى الأرواح"، وإن كانت قضية فلسطين قد ملكت على الإمام البنا كل جوانحه منذ أن كان طالبا[١٢].

واتَّسم الموقف العام بإجماع الجماهير في الشارع المصري والطلبة في المدارس والجامعات والعلماء والأحزاب والبرلمان والجماعات الدينية على مساندة القضية الفلسطينية، وبذل الجهود لجمع التبرعات والتطوع في الجيش للمشاركة في الحرب من أجل نصرة فلسطين.

ولذا عمل الإخوان – سواء في مصر أو بقية الدول- على العمل من أجل فلسطين، والدفاع عنها بشتى الوسائل المشروعة، سواء بالتعريف بالقضية، وإنارة الرأي العام، والتبرع لها ولأهلها، والجهاد من أجلها.

ولقد حوت كثير من الكتب والمراجع جهود الإخوان المصريين والإمام البنا تجاه القضية الفلسطينية، كما كتب كثير من المجاهدين المصريين – وهم كثر- مذكراتهم في حرب فلسطين، وما قاموا به.[١٣]

كانت القيادات الصهيونية قد شرعت في إعداد خطط عسكرية تفصيلية منذ مطلع عام 1945 توقعا للمواجهة المقبلة، وفي مايو 1946 رسمت الهاجاناه خطة سميت بخطة مايو 1946 فيما بعد، كانت السياسة العامة لهذه الخطة تقضي بما يسمى "الاجرائات المضادة"، والتي اشتملت على شقين:

العمل التحذيري: تنحصر في منطقة عمليات العدو.

العمل العقابي: لا حدود على نطاقها الجغرافي.

ووقتها أعلن الإخوان رفضهم الشديد لقرار الأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر 1947م بتقسيم فلسطين، وما كادت بريطانيا تنهي انتدابها على فلسطين في 14 مايو سنة 1948م، وقبل أن تعلن العصابات الصهيونية قيام كيانها، كان الإخوان قد أرسلوا كتائبهم للجهاد هناك، ووصلت فعلاً إلى أرض المعارك في شهر مارس 1948م، وتتابعت أفواج المجاهدين الإخوان إلى فلسطين، وانتشروا في مناطق شاسعة امتدت من ساحل البحر المتوسط غرباً حتى بيت المقدس شرقاً، وشارك الإخوان المصريين الإخوان السوريون والأردنيون جهادهم جنباً إلى جنب الجيوش العربية ضد العصابات الصهيونية.

ورفض الإخوان رفضاً تاماً قرارات الهدنة التي أصدرتها هيئة الأمم بعد أن كانت كتائب الإخوان على وشك إحراز النصر الحاسم على العصابات الصهيونية، وكان موقف الإخوان منذ الإعلان عن "اقتراح الهدنة" بهيئة الأمم هو التنديد والرفض المطلق، وأعلن الإمام حسن البنا باسم الإخوان المسلمين أنه "لا قبول للهدنة إلا بعد أن تدخل الجيوش العربية تل أبيب، وتطرد العصابات الآثمة من حيفا ومن يافا ومن عكا ومن طبرية، وترد المهاجرين من عرب فلسطين إلى ديارهم، ثم إذا قيل بعد ذلك هدنة فبها، وإلا فالقتال حتى نقذف بآخر جندي صهيوني إلى البحر، وتطهر فلسطين المباركة من هذا الرجس".

ولكن صدمة الإخوان كانت كبيرة عندما أعلنت الحكومات العربية ـ آنذاك ـ قبولها قرارات الهدنة الأولى في يوليو 1948م، إذ لم يكن لهذا القبول من معنى سوى التخاذل عن مواصلة الجهاد، وأتيحت الفرصة كاملة للعصابات الصهيونية لتقوي نفسها، ولتستمر في عدوانها، وفي ارتكاب جرائمها.

لقد بذل الإخوان المسلمون قصارى جهدهم لأداء ما عليهم من الواجب المقدس تجاه قضية فلسطين، وتشهد بذلك حوادث تلك السنوات التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، التي سجلتها الصحف، وتقارير الأمن العام، وتقارير المخابرات الإنجليزية، والمستشار الشرقي في السفارة البريطانية بالقاهرة.

وفي رسالة ماجستير تقدمت بها الباحثة هيام عبد الشافي عبد المطلب تحت عنوان "مصر وحرب فلسطين 1948" للحصول على درجة الماجستير في التاريخ الحديث المعاصر  بجامعة عين شمس أشادت بدور الإخوان المسلمين في حرب فلسطين وقيام جماعة الإخوان المسلمين بإرسال كتائب المتطوعين الذين حقَّقوا انتصارات مذهلة على العدو الصهيوني.

وأشارت إلى انتصارات الإخوان المسلمين بما حدث في "التبة 86"؛ حيث نجحت كتائب الإخوان المسلمين في سحق القوة الصهيونية المسيطرة على التبة بعد أن فشل الجيش المصري في استردادها..

غير أن الجيوش العربية التي دخلت الحرب كانت محكومة بمواقف حكوماتها السياسية، التي كانت معظمها موافقة سراً أو علناً على قبول مشروع التقسيم، وإقامة الدولة اليهودية؛ ولذلك وضعت الجيوش العربية في وضع عسكري يساعد على تنفيذ التقسيم، بل ويفسح المجال لليهود ولجيشهم للتوسع إلى أبعد حد، والأمثلة على ذلك : أن الجيش العراقي الذي كان تعداده فرقتان في ذلك الوقت، أي من 20 - 40 ألف جندي استخدم منه في فلسطين خلال الشهر الأول والحاسم من القتال 1500 جندي فقط[١٤].

لقد انزعج اليهود مما يقوم به الإخوان فاستنجدوا بأمريكا التي تحركت بسرعة لإنقاذ الموقف عن طريق إعلان الهدنة وحل الجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم اجتمع سفراء الإنجليز وأمريكا وفرنسا في مدينة فايد في 11نوفمبر 1948م وطلبوا من النقراشي باشا إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين، فكما جاء في الوثيقة الممهورة بإمضاء الماجور (أوبريان ماجور) السكرتير السياسي للقائد العام للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط والتي جاء فيها أنها مرسلة إلى رئيس إدارة المخابرات رقم (13) تحت رقم قيد: (1843 /أى/ 48) يعلمه فيها باجتماع السفراء واتخاذ قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين عن طريق السفارة البريطانية، فرفع الكولونيل (أ. م. ماك درموث) رئيس المخابرات البريطانية هذا الأمر تحت رقم قيد (1670/ أ ن ت/ 48) إلى إدارة: ج . س . 3 بتاريخ 20/ 11/ 1948م ليعلم حكومة الملكة بذلك، وفعلًا كلف السفير البريطاني النقراشي باشا باتخاذ الإجراءات اللازمة للحل، فأصدرت الأمر العسكري برقم 61 يوم 8 ديسمبر سنة 1948م ، وبموجبه تم حل جماعة الإخوان، ومع ذلك أرسل الأستاذ البنا خطابًا مع أحد الإخوان يقول فيه للمجاهدين: "إنه لا شأن للمتطوعين بالحوادث التي تجري في مصر، وما دام في فلسطين يهودي واحد يقاتل فإن مهمتهم لم تنته بعد". ثم يختم الرسالة بوصية طويلة للإخوان بالتزام الهدوء وحفظ العلاقات الطيبة مع إخوانهم وزملائهم من ضباط الجيش وجنوده.

غير أن حكومة النقراشي عملت على إعادة المجاهدين من ساحات المعارك في فلسطين مكبلين بالأغلال وزجهم في غياهب السجون والمعتقلات.

وقالت صحيفة "أخبار اليوم" إن قرار الحل أحدث صدى قويًا في لندن وساد الدوائر الرسمية شعور بالارتياح.

وقال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي – صديق النقراشي – الذي علق على قرار حل الإخوان المسلمين بقوله:

ولعمري إن النقراشي لم يكن موفقًا في إصدار هذا الأمر، فإنه ليس من العدل أن تؤخذ الجمعيات والأحزاب بتصرفات أو جرائم، وقعت من بعض أعضائها، بل يجب أن يقتصر الجزاء والقصاص على من ارتكبوا هذه الجرائم. ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164].

يقول اللواء أحمد المواوي أول قائد عام لحملة فلسطين: إن الإخوان سبقوا الجيوش النظامية وأن القوات المسلحة كانت تعتمد على الإخوان كقوة حقيقية وأن روحهم المعنوية كانت عالية.

ويقول الشيخ محمد أمين الحسيني مفتى فلسطين: إن الإخوان كانت بداية مشاركتهم في حرب فلسطين منذ عام 1936م حيث أنهم جمعوا السلاح والذخيرة، كما أن لهم دور كبير في حرب 1948م.

ويقول الكولونيل اليهودي ناتنيال لورك في كتابه "حد السيف":"أول مشاركة مصرية في حرب فلسطين قام بها الإخوان المسلمون، الذين يعتبرون الاستعمار والصهيونية ألدَّ أعداء الإسلام، وكان محاربو الإخوان المسلمين يمتازون بروح قتالية متعصبة، وكانوا على استعداد واضح للتضحية بالحياة.

ويقول ريتشارد ميتشيل: "ونادى البنا في المؤتمر العام الثالث المنعقد عام 1935م بجمع الأموال لمساندة قضية العرب، كما ألف لجنةً لتدعو لها عن طريق البرقيات والرسائل إلى السلطات المختصة، وعن طريق الصحافة والنشرات والخطب، وآزر هذه الوسائل قيام مظاهرات نيابية عن المضربين في فلسطين وإرسال المؤن والعتاد لهم".

ويضيف: "وكان أعظم ما شهر عن كفاح الإخوان هو ما قدموه من عون للمصريين الذين حوصروا في جيب الفالوجا؛ نتيجة الزحف الإسرائيلي بعد فشل الهدنة الثانية في أكتوبر 1948م؛ إذ ساعد الإخوان على إمداد القوات المحاصرة في الميدان().

فلسطين تباع

الغريب أن الموقف تغيير في الآونة الأخيرة حيث سارع حكام العرب والمسلمين على التنازل عن أرض فلسطين للكيان الصهيوني بعد التطبيع التام معه، وتهجم الإعلام العربي على الفلسطينيين وسفه من قضيتهم.

فالجيلُ الذي عاش شبابه في الأربعينات شاهدًا على الأحداث في أوج ظلامها، توشك شمسه أن تغيب للأبد، واللاجئون الذين تشتتوا في الأرض عشرات السنين على أمل العودة يومًا ما، يخشون الآن أن يقبعوا في التيه طول عمرهم، أو أن يُدفن أحفادهم في أوطانٍ غريبةٍ قاحلة بعدما شاهدوا من فصول الرواية الأخيرة أنّ القصة أوشكت على الانتهاء بتوقيع صفقة ترامب كما يُروّج أبطالها.

فقد بدأ مسيرة التنازل والتفريط في فلسطين الحُسين بن علي، شريف مكة وتبعه من بعده حكام العرب في هذا الصدد.

بعدما وجدت بريطانيا أنّ أصدقاءها في الشرق يدعمون سياستها سرًا، بدأت الحكومة الإنجليزية في إصدار القوانين التي تسهل انتقال الأراضي المملوكة للدولة العثمانية إلى اليهود، وفي عام 1922 أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الأول، والذي وعدت فيه بريطانيا العرب مرة أخرى بأن الاستيطان لن يؤثر على وجودهم، لكنّ الغضب العربي لم يكن ليقبل بالسياسات الجديدة، وفي عام 1930 صدر الكتاب الأبيض الثاني، الذي أكد صراحة على تنفيذ وعد بلفور.

وفي عام 1991 عقدت الولايات مؤتمر مدريد بمشاركة خمس دول عربية: مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين، بهدف تشجيع البلدان العربية على توقيع اتفاقيات سلام مع "إسرائيل" كان أهم بنودها السرية: منع إقامة دولة فلسطينية بين الأردن و"إسرائيل".

كما شهدت التسعينات طفرة في العلاقات العربية الإسرائيلية، فكلٌّ من قطر، وتونس، والمغرب، وموريتانيا، وعُمان كانوا على علاقات علنية وتطبيع رسمي مع "إسرائيل"، إلا أنّ الحدث الهام كان الوصول لأول مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، عقب انتهاء الانتفاضة بتوقيع اتفاقية «أوسلو» عام 1993، وهو الاتفاق الذي أنهي 60 عامًا من الصراع المسلح في سبيل القضية الفلسطينية، ووصفه مدير الاستخبارات الإسرائيلي فيما بعد بأنها: «استعمار فاخر».

تغيب للإخوان ومسارعة للتطبيع

كانت أحداث الربيع العربي نذير خطر على الصهاينة، ولذا كانت المراكز البحثية والاستخباراتية الغربية والعربية تسارع الزمن من أجل إفشال هذا الربيع بل والقضاء على القوة المحركة والفعالة وهى الحركات الإسلامية – في الوقت الذي استمالوا القوى الليبرالية واليسارية إلى جنيهم – وذلك من اجل تذليل العقبات أمام الارتماء الكامل للحكام العرب في أحضان الصهاينة، وما كان لهؤلاء الحكام أن يفعلوا ذلك أو يقدموا عليه في ظل وجود وقود الشعوب ومحرك الشارع(الإخوان المسلمون) ولذا كان لابد من القضاء عليهم بكل السبل.

إن خيانة حكام الإمارات والبحرين والسعودية ومصر والسودان وغيرهم للقضية الفلسطينية شيء ليس بالجديد، فهم مع حرصهم على عروشهم – التي يظنون أن إسرائيل ستحميها لهم – يعملون عن عقيدة واقتناع لحماية إسرائيل والدفاع عنها ومحاربة أعدائهم – وهم الحركات الإسلامية والشعوب الرافضة لخيانتهم – وهذا ما نراه اليوم في هذه الأوطان.

وفي ذلك يقول: الكاتب اليهودي "إيرل برغر" في كتابه بعنوان " العهد والسيف": "إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لابد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معنا، ولكن هذا التعاون لن يتحقق إلا بعد القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي وفي مقدمة هذه العناصر رجال الدين المتعصبين من أتباع الإخوان المسلمين[١٥].

إن ما قام به حكام الإمارات والبحرين والسعودية ومصر وغيرهم من خيانة لشعوبهم ولقضايا أوطانهم وعروبتهم لم يكن بالشيء الجديد فالكل الأحداث تؤكد أن الحكام في وادي وشعبوهم في وادي أخر.

فليس لخيانة هؤلاء الحكام مبرر، غير أن التسلط والقهر والاضطهاد ضد شعوبهم هى من أسكتت الأفواه التي إن نطقت فمصيرها القتل أو الحبس، لكن ظني أن ذلك لن يطول وكل هؤلاء الحكام إلى مزبلة التاريخ وستبقى فلسطين كما سيبقى الأقصى والقدس أرض إسلامية عربية.

المصادر

  1. صالح حسين الرقب: المرتكزات العقائدية الصهيونية في فلسطين والقدس، https://bit.ly/3hqbA32
  2. ديزموند سيتوارث: تاريخ الشرق الأوسط الحديث – معبد جانوس، ترجمه الاستاذ زهدي جار الله، دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1981م.
  3. بول فندلي: من يجرؤ على الكلام الشعب والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي، طـ6، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، ١٩٩٠م/ ١٤١٠ه
  4. صالح الرقب: الهيكل اليهودي (المقدس) خرفات بلا حدود، طـ1، مركز النور للدراسات والأبحاث، غزة، 1423هـ/ 2002م.
  5. تحسين يحيى أبو عاصي: لـمـاذا أبـاد هـتـلر الـيـهـود ؟، https://bit.ly/3io3ERr.
  6. محمود شيت خطاب: أهداف إسرائيل التوسعية، دار الاعتصام للطباعة والنشر والتوزيع, 1981م، صـ26
  7. جورجي كنعان: وثيقة الصهيونية في العهد القديم، دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت, 1977م، صـ23.
  8. نظــرة في 71 عام لقيام الدولة الأسطــــــورة الدولة العبرية: موقع كارمن العبري، 12 مايو 2019م، https://bit.ly/2GR9e0B
  9. مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة الجهاد
  10. رسالة مؤتمر رؤساء المناطق والشعب ومراكز جهاد الإخوان المسلمين على مستوى القطر المصري 2شوال 1364ه- 8 سبتمبر 1945م، صـ630
  11. مصطفى السباعي: عظماؤنا في التاريخ، دار الوراق للنشر والتوزيع، 1420هـ/ 1999م، صـ247.
  12. جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (585)، السنة الثانية، 15 جمادى الأولى 1367- 26 مارس 1948، صـ3.
  13. هيام عبد الشافي عبد المطلب محمد: مصر و حرب فلسطين عام 1948م، طـ1،  دار العالم العربي، القاهرة، 2010م.
  14. ريتشارد ميتشيل: الإخوان المسلمون، دار النشر الامريكية، الوقف الاسلامي لأمريكا الشمالية،, 1980م، صـ142.
  15. إيرل برغر: العهد والسيف، عام 1965م، صـ 169- 172