قداسة الأرض وقداسة الدعوة وقداسة المقاومة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قداسة الأرض وقداسة الدعوة وقداسة المقاومة

د.إبراهيم زيد الكيلاني

مقدمه

شاء الله أن تكون بلاد الشام -الأرض المباركة- شاملة لفلسطين والقدس الشريف والأردن ممتدة إلى سوريا ولبنان وسيناء التي باركها الله بالأنبياء والرسالات التي أنزلها الله على رسله لتكون مهبط الوحي وموطن الأنبياء وأرض الدعوة والجهاد.

وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى مسجدها الأقصى قبلة أولى، ويختارها الله من بين بقاع الأرض مسرى لنبيه ومنطلقاً لمعراجه، وجعل مسجدها الأقصى -كالمسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة- نشد إليه الرحال.


المسجد الأقصى وفريضة الجهاد لتحريره:

وكانت غزوة مؤتة التي وقعت في شهر جمادى من السنة الثامنة للهجرة البداية الأولى لتحرير بلاد الشام، وشاء الله أن تضم رفات القادة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، وإخوانهم من الصحابة الذين شهدوا الغزوة واستشهدوا على أرضها، ثم كانت معركة اليرموك التي حشد فيها (هرقل) ملك الروم ما يزيد على مئتي ألف مقاتل، لينتصر عليهم ثلاثون ألفاً من جند الإيمان بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة، ومعهم من خيرة الصحابة: عكرمة بن أبي جهل -الذي بايعه أربعمئة من المجاهدين على الموت وتمكن من تحطيم قلب الجيش الروماني- وأبوسفيان الذي كان صوته مدوياً أثناء القتال: "يا نصر الله اقترب"؛ ليزيد المؤمنين إيماناً وثباتاً.

ويذكر المؤرخون من الغرب والشرق، أن معركة اليرموك كانت أعظم معركة في التاريخ، لما ترتب عليها من نتائج وآثار حولت بلاد الشام كلها من النصرانية وحكم الروم، إلى الإسلام وحكم القرآن.

وقد استمرت المعركة ثلاثة أيام، طلب الروم في اليوم الثالث الهدنة، فرفض خالد، وأمر الجند أن يضاعفوا من قتالهم ويتحولوا من موقف الدفاع إلى الهجوم، فأنهك الجيش الرومي وهزم شر هزيمة، ونادى (هرقل) بعدها: أنعي إليكم النصرانية والمسجد الأقصى والقدس الشريف.

وبعد انتصار اليرموك تحول المسلمون إلى القدس الشريف فحاصرها وفتحها الخليفة عمر بن الخطاب وتسلم مفاتيحها، ولم يحضر عمر لفتح أية مدينة إلا للقدس الشريف؛ تكريماً لها وإعلاناً لمكانتها وقدسيتها في قلوب المؤمنين.

يذكر ابن جرير الطبري أن عمر -بعد أن وقَّع (العهدة العمرية) لـ(صفرنيوس) البطريرك الذي سلَّمه مفاتيح المدينة وأمّنه عمر- توجه إلى المسجد الأقصى المبارك الذي كان الرومان قد حولوه إلى مكان يجمعون فيه أوساخ المدينة وفضلاتها، ودخل عمر باب الأقصى حبواً من كثرة ما تجمع على بابه من أوساخ، ثم بدأ مع الصحابة الفاتحين في عملية تنظيف وتطهير للمسجد، حتى يعيدوه لسابق عهده في عبادة الله وحده..

وصلى عمر في الجند الفاتحين صلاة العشاء جماعة داخل المسجد الأقصى وذهب الجند للراحة والنوم، وبقي عمر وحده في المسجد قائماً وراكعاً وساجداً، يريد أن يجدد عهده في عبادة الله وحده، ومع الفجر حضر الجند ليصلي بهم عمر صلاة الفجر، وقرأ في الركعة الأولى سورة الإسراء التي تذكر باختيار الله هذا المسجد مسرى لنبيه، وفساد بني إسرائيل وكيف عاقبهم الله بأن شردهم في البلاد، ليأخذ المسلمون الدرس أن يحافظوا على القدس وعلى الدعوة حتى لا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل من هلاك وتعذيب.

وقرأ في الركعة الثانية سورة التي ذكر الله فيها داود وسليمان عليهما السلام، ليُذَكِّر بأن محمداً صلى الله عليه وسلموأمته هم ورثة الأنبياء، الأمناء على رسالتهم التي خانها بنو إسرائيل؛ فقتلوا الأنبياء والعلماء، وافسدوا في الأرض إفساداً كبيراً.

وهذا ما نبَّه القرآن الكريم إليه بقوله في سورة البقرة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].

قال العلماء: ومن المقصود بمساجد الله في الآية: المسجد الأقصى الذي خربه اليهود والرومان، وعطَّلوه عن رسالته في عبادة الله وحده والدعوة إلى الله، وقتلوا الأنبياء والعلماء والدعاة إلى الله في هذه الأرض المباركة.

وفي الآية أن غير المسلمين لا يدخلون هذه الأرض إلا بإذن من المسلمين يزيل خوفهم، وأن السيادة على هذه الأرض المقدسة للمسلمين وحدهم، وهم حملة الدعوة والحافظون لرسالة الله.

حين فصل حكام المسلمين بين الدعوة والأرض والجهاد، وأعلنوا حربهم لتحرير فلسطين فاقدة لهويتها الإسلامية، وكانوا من قبل قد قتلوا العلماء وسجنوهم ونكَّلوا برجال الدعوة الإسلامية، وأعادوا سيرة بني إسرائيل في قتل العلماء وحرب الدعاة، وكان شعارهم في المعركة: "لأجل الربيع ولأجل الحياة ولأجل عشاق الحياة اضرب"!!! ووزعوا على الجيش المصري أكثر من مئة ألف صورة للراقصة (كاريوكا) وغيرها؛ فكانت الهزيمة الساحقة الماحقة التي كشفت جهل القيادة بأمر القتال، وجهلها بأمر الله، واجتراءها على حرمات الله.


من علماء فلسطين الذين شعروا بالهزيمة قبل وقوعها:

وأذكر أنني كنت في زيارة للمسجد الأقصى المبارك قبل النكبة بأشهر، وكنت في ضيافة صديقي الشيخ أسعد بيوض التميمي رحمه الله، ففاجأني بقوله ونحن قرب قبة الصخرة المشرفة: صلّ يا إبراهيم صلاة مودِّع؛ فإن المؤامرة على القدس قريبة!

وحين سأله أحد المسؤولين في الأردن: كيف عرفت نتيجة المعركة قبل وقوعها؟! قال: لقد علَّمنا ربنا في كتابه أن نصره لا يتنزل على من حاربوا دين الله، وعطَّلوا أحكام الله، وإذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني.

وأذكر أن جماعة من المنتسبين لـ(المنظمة) قبل النكبة اجتمعوا على جبل الزيتون في القدس، وقرروا بتصويت أجروه أن قضية فلسطين ليست إسلامية، وكان ممن أنكر عليهم الشيخ أسعد رحمه الله، وقال في إحدى خطبه: تعال يا صلاح الدين من خلف القرون، واسمع ما قاله الصبية على جبل الزيتون!!


عودة جديدة إلى الله:

وبدأ علماء فلسطين يعدون الأمة للجهاد تحت راية الإسلام، وكان رجال الحركة الإسلامية بقيادة العالم المجاهد أحمد ياسين وإخوانه لتكون قلعة المقاومة والجهاد في غزة حصناً عظيماً وبداية مباركة للتحرير جمعت بين قداسة الأرض وقداسة الدعوة.

وشاء الله أن يفضح أمر الخونة الذين يأتمرون بأمر (دايتون) و(الموساد) والمخابرات الأمريكية في حراسة أمن (إسرائيل) في الضفة المحتلة، ليقتلوا قادة المقاومة ويخدموا أهداف العدو الصهيوني في ملاحقة هؤلاء القادة في الخليل وقلقيلية ونابلس وغيرها، ويقتلوهم بدم بارد تنفيذاً لأمر (دايتون) و(الموساد)!!

وهذا ما جعل أهلنا في فلسطين كلها يتوجهون لقادة الدعوة الإسلامية يعطونهم الثقة ويبايعونهم على الجهاد والمقاومة.


الأرض المباركة وحفظة القرآن الكريم:

وهنا نجد أن خمسة آلاف حافظ للقرآن الكريم كانوا من أبطال المقاومة في غزة، وتمكنوا من قهر الجيش (الإسرائيلي) ومنعه من دخول غزة الذي خطط لاحتلالها ليسلمها للعملاء الذين يحرسون أمنه، ويحرسون مصالحهم ورتبهم ورواتبهم.. وأن المعركة انتقلت من الأنظمة وجيوشها إلى الشعوب المقاومة المجاهدة ممثلة بحركات المقاومة الإسلامية التي جمعت بين الولاء لله ودعوته، وبين الوفاء للأرض وتحريرها.


وقفة مع آيات في سورة النمل:

وهنا يحسن التذكير بما ذكره القرآن الكريم عن الأرض المباركة أرض الأنبياء والرسالة والدعوة لنجد أمة القرآن الكريم الوارثة لرسالات الأنبياء المؤهلة وحدها للدفاع عن الأرض والدفاع عن الدعوة.

قال تعالى في سورة النمل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ .إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ . فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 6-8].

قال الإمام الزمخشري وهو يربط بين الآية الأولى وما بعدها: وإنك لتؤتى القرآن وتلقنه من عند أيّ (حكيم) وأيّ (عليم).

وهذا معنى مجيئهما نكرتين، وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.. ومعنى {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}: بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها.

ومكانها: البقعة التي استقبل فيها موسى عليه السلام نداء الدعوة والتكليف بالرسالة وتكليم الله له، وهذه البركة تعني حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وَرُبَّ خير يتجدد في بعض البقاع فينشر الله ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يُمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة؟! وقيل: المبارك فيهم موسى والملائكة الحاضرون.

والظاهر أنه عامٌّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام.

ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71]. وقد ذكر الله هذه الأرض بقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30].

وهذه أرض الشام مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحي إليهم وكفاتهم (التي تضمهم) أحياءً وأمواتاً.

ومن لطائف الآية أن الله ابتدأ موسى عليه السلام حين مجيئه ليرى النار بقوله: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} ليبشره بأنه قد قضى بأمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة.

قال العلماء: بوركت النار، والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه.

{وَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَالَمِينَ}: تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك، وإيذان بأن ذلك الأمر مُريده ومُكوِّنه رب العالمين؛ تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون.

وفي ختام هذه الآيات نقف لنقول لرجال الدعوة: إن خطاب الله لموسى عليه السلام: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} هو تذكير لورثة عهد محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا الرجال المباركين الذين يحملون رسالة الله؛ ليجدوا بركة الدعوة، وبركة المقاومة، وبركة الجهاد، ويجدوا قبس الهداية الإلهية في الدعوة والجهاد التي آتاها الله محمداً صلى الله عليه وسلموأصحابه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29].

المصدر