في فقه الأقليات المسلمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
في فقه الأقليات المسلمة


بقلم : الدكتور يوسف القرضاوي

مقدمة

الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على الهادي إلى صراط الله المستقيم، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(أما بعد):

فقد طلبت إليّ الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن أكتب بحثاً حول المشكلات الفقهية للأقليات المسلمة في الغرب، ليقدم إلى مؤتمر إسلامي عالمي تعقده الرابطة في مكة المكرمة. وتعني بالمشكلات الفقهية: المشكلات التي تتطلب حلاً وعلاجاً من الفقه الإسلامي في ضوء الشريعة الإسلامية.

ولا ريب أن هناك مشكلات يعاني منها المسلمون في كل مكان، وفي داخل (دار الإسلام) نفسها، أي في قلب المجتمعات الإسلامية في العالم الإسلامي. بعضها مشكلات فردية، وبعضها مشكلات أسرية، وبعضها مشكلات اجتماعية، وبعضها مشكلات اقتصادية. فلا غرابة أن تشكو الأقليات المسلمة في بلاد الغرب ونحوها، مما تشكو منه الأكثريات الإسلامية في بلاد الإسلام نفسها.

وهذه المشكلات العامة التي تشمل المسلمين في كل مكان، لا حديث لنا عنها في هذه الدراسة، ولكن حديثنا هنا يتركز حول المشكلات التي تختص بها الأقليات المسلمة لظروفها الخاصة، أو أنها تكون عندها أكثر حدة، وأعظم إلحاحاً منها في الديار الإسلامية.

وهو ما جعل المسلمين في تلك الديار منذ بدءوا يعودون إلى ذاتهم، ويحسون بهويتهم، يعقدون الندوات والحلقات للبحث عن حلول لمشكلات حياتهم المتصلة بالدين، في ضوء الشريعة الإسلامية.

ثم على الموقع الإسلامي العالمي المتميز Islam online (إسلام أون لاين) الذي يتجاوب مع الأقليات الإسلامية في الغرب والشرق.

وأخيراً تجلى ذلك في (المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث) الذي شرفني الإخوة المؤسسون والأعضاء برئاسته. ووظيفته الأساسية هي تفقيه الأقليات المسلمة في أوربا وترشيدها، والإجابة عن تساؤلاتها، والعمل على إيجاد حلول لمشكلاتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها.

وقد أصدر المجلس مجموعة طيبة من الفتاوى في موضوعات مهمة، وأجاب عن أسئلة كثيرة مطروحة في الساحة الأوربية الإسلامية، كانت تنتظر جواباً من زمن.

ولكن هذا النشاط العلمي المتعدد حول الأقليات، كان يحتاج إلى (تأصيل شرعي) يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويؤسس القواعد اللازمة لوضع (منهجية علمية) لهذا الفقه، تضبط مساره، وتنظم حركته، وفق مبادئ الشريعة ومقاصدها، الضابطة والحاكمة لفروع المعاملات المختلفة.

لهذا كان طلب رابطة العالم الإسلامي فرصة لإيضاح هذه المنهجية، ومحاولة وضع إطار علمي لها، عسى أن يقبله أهل العلم والفكر، أو ينضجوه بالمزيد من الدراسة والمناقشة، ولعل هذه الدراسة الأولية تفتح الباب لمن يعمقها ويوسع آفاقها. ويزيدها نماء وضياء. أو يبدي عليها ملاحظات نافعة وبناءة، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.

أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعل لنا منه نوراً نمشي به في الظلمات، وفرقانا نحكم في المتشابهات، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدوحة في: ربيع الآخر 1422هـ - يونيو 2001م

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

تمهيد

في فقه الأقليات المسلمة

نظرات تأصيلية

تمهيد

خلق الله الناس ليعرفوه من خلال النظر في أنفسهم، ومن خلال النظر في الكون الكبير الذي يعيشون فوق أرضه وتحت سمائه، بل ما خلق هذا العالم علويه وسفليه، إلا ليعرفه الناس، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، كما أشار سبحانه إلى ذلك في آخر كتبه المقدسة حين قال تعالى في كتابه: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} (الطلاق: 12).

وإذا عرف الناس ربهم أعطوه حقه من العبادة والطاعة الواجبة له بحكم خلقه لهم، وإمدادهم بنعمه التي لا تُحصى.

ولهذا أرسل سبحانه وتعالى رسله مبشرين ومنذرين، ليهدوا الناس إلى الله تعالى، ويبينوا له ما يحبه وما يكرهه، وما يرضاه وما يسخطه من الاعتقادات والأقوال والأعمال، ويحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه، ويقيموا الموازين القسط بينهم، في علاقاتهم بعضه ببعض، وعلاقتهم بخالقهم جل شأنه.

فلم يخلق الله هذا الخلق عبثا، ولم يترك الناس سُدى، ولم يدعهم هَمَلا، بل استخلفهم في الأرض، وأمرهم أن يعمروها كما أمرهم بعبادته وحده مخلصين له الدين.

وهذا كله وفق شريعة ربانية، أو منهج إلهي أنزل الله به كتبه، وبعث به رسله، الذين اتفقت رسالاتهم في أصول العقائد، وأمهات الأخلاق، وأساس العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى: 13).

واختلفت شرائعهم التفصيلية، لتناسب الزمان والمكان وحال الإنسان {لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً} (المائدة: 48).

وقد ختمت هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المؤمنين {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة: 03).

أ‌- العقائد السليمة، التي تصحح نظرة الإنسان للوجود: أو إلى الخالق والمخلوق، إلى الكون والمكّون، أو إلى الله والإنسان، إلى الحياة والموت، والدنيا والآخرة. وتضفي العقائد من أوهام العقل، وشطحات الخيال، وانحرافات الهوى، وتحريفات المتاجرين بالدين.

ب‌- وتضمنت الرسالة الخالدة العبادات الشعائرية، التي فرضها الله على عباده المسلمين، لتصلهم بربهم، وتزكو بها أنفسهم، وتطهر قلوبهم، ويؤدوا شكر نعمة ربهم عليهم، ويتحققوا بكمال العبودية له.

ت‌- وتضمنت كذلك (أخلاقيات) وفضائل عليا، تسمو بالإنسان، أو يسمو بها الإنسان، ويتميز عن الحيوانات والسباع، فلا تحكمه الغريزة وحدها كبهيمة الأنعام، ولا يحكمه الناب والمخلب كالسباع. إنما تحكمه فضائل الفطرة السليمة، والعقل الرشيد، والسلوك السوي. الذي تمثل في مثل أعلى، هو محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي كان خلقه القرآن، والذي قال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" أو "مكارم الأخلاق".

وتضمنت هذه الرسالة الإلهية الأخيرة للبشرية: تشريعات تنظم حياة الإنسان الفرد، وحياة الأسرة، وحياة الجماعة، وحياة الأمة، والعلاقات بين الأمم والدول بعضها ببعض.

وهي تشريعات تتميز بالشمول والتوازن والتكامل، ورعاية المعاني الربانية والأخلاقية والإنسانية والعالمية.

كما أنها تتميز بالواقعية واليسر في كل أحوالها. وهي تشريعات معللة ومفهومة، تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان والرقي به في الدنيا والآخرة، مادياً وروحياً.

وهذه الرسالة أو الشريعة المحمدية، شريعة عامة: في المكان والزمان، وشئون الإنسان.

فهي شريعة للناس كافة أو (للعالمين)، وهي شريعة الأجيال كلها، فليس بعد كتابها كتاب، ولا بعد نبيها نبي، وهي شريعة الحياة كلها، لأنها لا تقبل قسمة الحياة بين الله وقيصر، أو أحد من خلقه، بل قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد.

وهي شريعة لازمة ملزمة لكل مسلم أينما كان، وكيفما كان، ومتى ما كان، حسب وسعه، ووفق ظروفه، مراعية ضروراته وحاجاته التي تقدرها الشريعة حق قدرها، سواء كان هذا المسلم حاكماً أو محكوما، رجلا امرأة، غنياً أم فقيراً، في سفر أم في حضر، في دار الإسلام، أم خارج دار الإسلام. في مجتمع مسلم أم غير مسلم. ولكن الشريعة الحكيمة السمحة راعت ظروف كل إنسان، فلم ترد به العسر، ولم تجعل عليه من حرج في الدين، ولم تحمله من البلاء ما لا يطيق.

ومن هنا كان المسلمون في الغرب أو الشرق، في الوطن الإسلامي أو خارجه، في بلاد يحكمها الإسلام أم تسودها العلمانية، مأمورين بتحكيم شريعة الإسلام ومنهجه في حياتهم حسب استطاعتهم، كما تقرر الشريعة نفسها.

ولا يوجد مسلم يحيا خارج نطاق الشريعة، بحيث يقول: أنا معفى من أحكام الشريعة، وتكاليف الدين، إلا إذا أعفته الشريعة نفسها وفق أصولها وقواعدها وأحكامها وأدلتها.

ومن أجل هذا نبحث في (فقه الأقليات) أو (فقه المغتربين) أو فقه (المسلمين في غير المجتمع الإسلامي) في ضوء هذه المسّلمات الدينية: أنهم مسلمون مطالبون بتكاليف الإسلام وأحكام شريعته حينما كانوا {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثّم وجه الله} (البقرة: 115).

فهم مسلمون ملزمون وملتزمون بأحكام دينهم، بموجب عقد الإيمان، كما قال تعالى في كتابه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب: 36).

وقال تعالى: {إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (النور: 51).

ولا بد للمسلم – ليكتمل إيمانه وإسلامه – أن يقبل الإسلام كله بعقائده وعبادته وأخلاقه وتشريعاته. فكلها جاءت في القرآن والسنة في نسق واحد، أمرا من الله أو نهيا، أو إذنا، وقد رغبت النصوص ورهبت، ووعدت وأوعدت، على هذه الأقسام كلها. فلا يجوز بحال قبول بعضها، ورفض بعضها، فهذه التجزئة لأحكام الدين أنكرها الله تعالى على بني إسرائيل حين قال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة: 85).

وقد خاطب الله تعالى رسوله الخاتم بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة: 49).

ولكن من خصائص هذه الشريعة الخاتمة: أنها لا تحلق في الخيال والمثالية الحالمة، مغفلة واقع الناس ومشكلاتهم على ظهر الأرض، بل هي شريعة واقعية، تراعي واقع الإنسان، وضعفه أمام ضغط الضرورات والحاجات، وتعرف مدى تأثره بزمانه ومكانه وحاله وما حوله، فلا غرو أن تغير فتواها بتغير هذه الموجبات، فترفع عن الناس الحرج، وتنزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى، وتأخذهم بالتدرج، وتضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

فليست أحكام هذه الشريعة العظيمة السهلة السمحة الميسرة (أختاما) أو (أكلشيهات) صمّاء، تطبق على جميع المكلفين، دون رعاية لظروفهم وأوضاعهم، بل هي تلبس لكل حالة لبوسها، وتضع لكل مشكلة حلها الملائم لها، من داخلها ذاتها، لا استيرادا من خارج مفروض عليها.

ولعلنا نجد في هذا البحث ما يلقي شعاعا من ضوء على هذه الحقيقة، معتصمين بالله تعالى {ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم} (آل عمران: 101).

الأقليات المسلمة ومشكلاتها الفقهية

المقصود بمصطلح (الأقليات)

ما المراد بمصطلح (الأقلية) الذي نتحدث عنه هنا؟

لقد راجت هذه الكلمة في عصرنا، نتيجة لكثرة الهجرات وتقارب العالم بعضه مع بعض، ويراد بها: كل مجموعة بشرية في قطر من الأقطار، تتميز عن أكثرية أهله في الدين، أو المذهب أو العرق أو اللغة، أو نحو ذلك، من الأساسيات التي تتمايز بها المجموعات البشرية بعضها عن بعض.

ومثل ذلك: الأقليات المسلمة في المجتمعات المسيحية في الغرب، أوالهندوسية في الهند، أو البوذية في الصين، فهي تخالف الأكثرية في العقيدة والدين، ومثلها الأقليات المسيحية في مصر وسورية والعراق وغيرها. والأقليات اليهودية في الغرب وإيران وتركيا وغيرها. ومثلها الأقليات الكاثوليكية في كثير من بلدان العالم.

وهناك الأقليات العرقية كالأقليات البربرية في الجزائر والمغرب، والأقليات الكردية في العراق وإيران وتركيا وسورية.

وهناك الأقليات اللغوية، مثل الأقليات الناطقة بالفرنسية في كندا (مونتريال وما حولها).

وأظهر الأقليات في العالم هي الأقلية الدينية، وهي التي تثور حولها المشكلات هنا وهناك.

ومن لوازم الأقلية: أنها تكون عادة ضعيفة أمام الأكثرية، فالكثرة تنبئ عن القوة، والقلة تنبئ عن الضعف.

والقرآن يحدثنا عن الكثرة في معرض الامتنان والتذكير بالنعمة، وذلك على لسان شعيب – عليه السلام – حين قال لقومه {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم} (الأعراف: 86).

ونحو ذلك قوله تعالى في الامتنان على المهاجرين بعد غزوة بدر {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره} (الأنفال: 26).

والشاعر العربي قديما يقول: وإنما العزة للكاثر! وقال عمرو بن كلثوم مفاخرا بكثرة قومه:

ملأنا البر حتى ضاق عنا

ونحن البحر نملأه سفينا!

وقال السموءل يعتذر عن قلة قومه، فيقول:

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها: إن الكرام قليل!

وهذه القلة العددية كثيرا ما تسبب للأقلية أن تلقى الظلم والاضطهاد من الأكثرية، وخصوصا إذا غلب على الأكثرية التعصب والاستعلاء على الآخرين.

ولهذا نرى الأقليات في أنحاء الأرض تتضام وتتلاحم فيما بينها، لتحافظ على كيانها أمام الأكثرية، وإن كانت الأقليات الإسلامية أقل الناس حظا من هذا التلاحم والتماسك. على الرغم من أن تعاليم دينهم تحثهم على التكامل والترابط والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، بحكم الأخوة الإسلامية الواصلة بينهم، والعقيدة الإسلامية التي تجعلهم كالجسد الواحد.

الأقليات الإسلامية (في الشرق والغرب)

الأقليات الإسلامية:

المسلمون ينقسمون – من حيث الأوطان التي يعيشون – فيها إلى قسمين:

القسم الأول: الذي يعيش داخل ما سماه الفقهاء (دار الإسلام). وبتعبيرنا المعاصر: داخل المجتمعات الإسلامية، أو البلاد الإسلامية. ونعني بها: البلاد التي أغلبية سكانها مسلمون معلنون بإسلامهم، على الأقل في إقامة الشعائر الدينية مثل: الأذان والصلاة والصيام وتلاوة القرآن، وإقامة المساجد، والسماح بالحج ونحو ذلك، ويمارسون أحوالهم الشخصية من الزواج والطلاق ونحوهما وفق أحكام دينهم.

والقسم الثاني: هو الذي يعيش خارج (دار الإسلام) بعيدا عن المجتمعات الإسلامية، أو عن (العالم الإسلامي).

وهذا القسم نوعان:

النوع الأول: من أهل البلاد الأصليين، الذين أسلموا من قديم، ولكنهم يعتبرون أقلية بالنسبة لمواطنيهم الآخرين من غير المسلمين.

وقد تكون هذه الأقلية كبيرة مثل الأقلية المسلمة الهندية، فإنها تبلغ نحو 150 (مائة وخمسين) مليونا. وقد تكون أقل من ذلك، حتى إن بعض الأقليات لا تبلغ أكثر من عدة ألوف.

ومن هؤلاء عدة ملايين في أميركا الشمالية معظمهم من المسلمين الذين جيء بهم من إفريقيا، واقتيدوا قسرا على أنهم رقيق، وهم أحرار أبناء أحرار.

ومنهم عدة ملايين في أوربا الشرقية، كما في بلغاريا وغيرها.

والنوع الثاني: من المهاجرين الذين قدموا من البلاد الإسلامية للبلاد غير الإسلامية، للعمل فيها، أو للهجرة، أو للدراسة، أو لغير ذلك من الأسباب المشروعة، وحصلوا على إقامة قانونية بهذه البلاد. وبعضهم حصل على جنسيتها، وأصبح له حق المواطنة والانتخاب وغير ذلك مما تقره دساتير هذه الأقطار.

الأقليات المسلمة في الغرب:

وهناك الأقليات المسلمة في أوربا الشرقية والغربية.

بعضهم من أهل البلاد الأصليين، مثل الجزء الأوربي من تركيا، وألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا، وهؤلاء لا يجوز اعتبارهم أقليات، لأن بلادهم في الحقيقة بلاد إسلامية. ومثل مسلمي كرواتيا وصربيا والجبل الأسود، وبلغاريا، وغيرها، فهم من أهل البلاد.

وهناك من دخل الإسلام حديثا من أهل أوربا الغربية، ومن انضم إليهم من المهاجرين من بلاد المغرب في فرنسا، وفيها أكبر جالية إسلامية – نحو خمسة ملايين – بعضهم يحملون الجنسية الفرنسية، وآخرون يقيمون إقامة مشروعة لها حقوقها.

وكذلك الجالية المسلمة في ألمانيا، ومعظمها من الأتراك، ويبلغون نحو ثلاثة ملايين، كثير منهم ولد في ألمانيا.

وهناك الجالية المسلمة في بريطانيا، ومعظمهم من بلاد (الكومنولث) من الهند وباكستان وبنجلاديش، وغيرها.

وهناك مسلمون في عدد من دول أوربا الغربية في هولندا وبلجيكا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا والبلاد الإسكندنافية، وغيرها.

ولقد بدأ المسلمون في أوربا منذ مدة يشعرون بذاتيتهم، وأدركتهم الصحوة الإسلامية العامة، فطفقوا ينشئون المؤسسات المختلفة – دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية: للحفاظ على كيانهم: المساجد لصلواتهم، والمدارس لتعليم أولادهم، والكليات والجامعات لتخريج المتخصصين منهم. ومن المؤسسات التي تذكر للجالية المسلمة في أوربا: اتحاد المنظمات الإسلامية، والكلية الأوربية للدراسات الإسلامية في فرنسا، وقد خرجت عدة دفعات، ومثلها في بريطانيا، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وقد عقد سبع دورات، وأصدر عددا من الفتاوى والتوصيات المهمة، حلت كثيرا من مشكلات المسلمين في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها.

وهناك عدد من المؤسسات مثل (المؤسسة الإسلامية) و (دار الرعاية الإسلامية) في بريطانيا، والمركز الإسلامي في (لندن)، وعدد من المراكز الإسلامية في (باريس)، وفي (روما) وفي (دبلين) في ايرلندا، و(ميونخ) و (آخن) و (كولن) في ألمانيا، وفي جنيف وغيرها من سويسرا، وفي عدد من البلدان الأوربية.

وهناك المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويقدر عددهم بأكثر من سبعة ملايين، معظمهم من (المسلمين الأفارقة) الذين استلبوا من أوطانهم استلابا، وسيقوا بسلاسل القهر إلى (الرق) وهم أحرار أبناء أحرار.

واستخدمت معهم أشنع صنوف التعذيب والإرغام، وقتل منهم من قتل بالأمراض بالعذاب.

لقد عادت أعداد من هؤلاء بعد إلغاء الرق، إلى (جذورهم)، وعرف كثير منهم أنهم في الأصل مسلمون أبناء مسلمين، وكان إسلام مجموعة غير قليلة منهم مشوشا ومضطربا، ثم هيأ الله لهم من الرجال الأخيار من صحح لهم إسلامهم، فرجعوا إلى (الإسلام الحق) بعد شرود عنه. وانضموا إلى القافلة الإسلامية الكبرى.

كما انضم إلى هؤلاء المهاجرين الجدد من البلاد العربية والإسلامية، ممن أصبحوا يحملون الجنسية الأمريكية والكندية، ومن له حق الإقامة في هذه البلاد.

وقد أصبحت لهم مؤسساتهم الدينية والتربوية والثقافية والاجتماعية، بل والسياسية، بما يتناسب مع عددهم ونشاطهم وهممهم.

الأقليات المسلمة في الشرق:

ومما لا يجوز أن ننساه من أحوال الأقليات والجاليات الإسلامية في أنحاء العالم: الأقليات في الشرق، وبعضها أقليات كبرى مثل الأقليات الإسلامية في الهند، وتقدر بأكثر من (مائة وخمسين مليونا) من المسلمين، لهم تراثهم ومساجدهم ومدارسهم وثقافتهم وشخصيتهم، ولهم مشاركاتهم العميقة في بناء الحضارة الهندية، بل جل ما تعتمد عليه الهند من آثار تجذب إليها السياح من أنحاء العالم هي الآثار الإسلامية، كما كان لهم مشاركاتهم القوية المتميزة في حرب الاستقلال، ومعارك التحرير ضد الاستعمار الإنجليزي.

وهناك بلاد إسلامية خالصة كانت تعتبر إلى وقت قريب من بلاد الأقليات الإسلامية، وهي بلاد الجمهوريات الإسلامية في آسيا: أوزبكستان وطاجيكستان، وكازاخستان وأذربيجان وغيرها، وقد كنت أقول أيام الاتحاد السوفيتي: إن اعتبار هذه الجمهوريات أقليات إسلامية ظلهم مبين لها، فهي جمهوريات إسلامية صميمة، ضمت بالقسر والإكراه إلى السوفييت.

وفي روسيا الاتحادية حوالي عشرين مليونا من المسلمين من القوقاز والتتار وغيرهم من القوميات المختلفة. ومنهم الشيشان، الذين قاتلوا ولا زالوا يقاتلون في سبيل الحصول على استقلالهم من الروس، فهم لا يشعرون بأي وشيجة تصل بينهم وبين الروس، لا من عرق، ولا من لغة، ولا من وطن، ولا من تاريخ، ولا من دين.

ويوجد في الصين عشرات الملايين، يحاول الرسميون في الصين تقليل أعدادهم ما استطاعوا، وقد ذكر أمير البيان شكيب أرسلان – رحمه الله – في تعليقاته الشهيرة على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) الذي ترجمه الأستاذ عجاج نويهض – أن عدد المسلمين في ذلك الوقت منذ نحو سبعين سنة أو تزيد خمسون مليونا. ولو حسبنا عددهم وفق النمو السكاني للمسلمين في العالم طوال هذه السنين، لكان عددهم لا يقل عن مائة وخمسين مليونا.

وهناك بلاد هي في حقيقتها ذات أكثرية إسلامية، ولكن الغرب مصر على أن يجعلها مسيحية، ويجعل المسلمين فيها أقلية، رغم أن الأرقام تكذب تلك الدعوى. ويتمثل ذلك بوضوح في أثيوبيا وإريتريا وتشاد.

وهناك أقليات لها وزنها في عدد من البلاد الآسيوية والإفريقية مثل تايلاند وبورما وسنغافورة وسيريلانكا، ومثل تنزانيا وأوغندا وكينيا وغانا والكونغو والنيجر وجنوب إفريقيا وغيرها.

تطور صلة الأقليات الغربية المسلمة بالإسلام

ولقد مرت الأقليات المسلمة في صلتها بالإسلام – فكرا وشعورا وسلوكا – بمراحل متفاوتة وخصوصا فئات المهاجرين من أوطان الإسلام الأصلية.

في المرحلة الأولى كانت (ضياعا) بمعنى الكلمة. لم يكن هناك وعي، ولا حتى إحساس كاف بالانتماء الإسلامي، أو الهوية الإسلامية.

بدأ ذلك من بعد الحرب العالمية الأولى، حيث هزمت دولة الخلافة، وانتصر الحلفاء، وتألق العالم الغربي بحضارته، وانسحب العالم الإسلامي ليدخل تحت سلطان الاستعمار، الذي لم يكن قد دخل بلدانه من قبل.

كانت الأقليات الإسلامية أو قل: ما اعتبر أقليات إسلامية – في ذلك الوقت تمثل صنفين من المسلمين:

1- أهل البلاد الأصليين
2- المهاجرين الجدد من العالم الإسلامي

أما أهل البلاد الأصليون فكان معظمهم في (أوربا الشرقية) وفي داخل (روسيا) تحت مطارق الحكم الشيوعي، ومنهم: أهل البوسنة والهرسك وكسوفا ومقدونيا وألبانيا وبلغاريا، وغيرها. فهؤلاء قد عزلوا عن الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وثقافة، كما عزلوا عن سائر الأمة الإسلامية. فأصبح هؤلاء جاهلين بالإسلام من ناحية الفكر، بعيدين عن الإسلام من ناحية السلوك، فكل ما يربطهم بالإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، التي يلقنها الآباء والأمهات للأبناء والبنات، دون أن يعرفوا حقيقة مدلولها، وما تقتضيه من قائلها من التزام بفرائض تؤدى، ومحرمات تجتنب، ومع هذه الشهادة عاطفة إسلامية غامضة نحو الإسلام، وشخصية الرسول – صلى الله عليه وسلم – والقرآن الكريم، أو المصحف الشريف الذي يعرفون اسمه، ويقدسون رسمه، ولا يعرفون حتى تلاوته. ومع هذا لم يكونوا يجدون هذا المصحف إلا بصعوبة، ومن وجده منهم – بطريقة أو بأخرى – فكأنما عثر على كنز عظيم.

وقد أدخل في دائرة (الأقليات المسلمة) في ذلك الوقت المسلمون في (الجمهوريات الإسلامية الآسيوية) في الاتحاد السوفيتي، مثل: أوزبكستان، وطاجيكستان، وكازاخستان، وأذربيجان، وغيرها، باعتبارها ضمت قسرا إلى الاتحاد السوفيتي، وأصبحت جزءا من كيانه السياسي، فاعتبرت أقليات من هذه الحيثية، وكنت أقول في ذلك الوقت: إن هذه (أقطار إسلامية) كاملة، لا يخرجها عن وصفها الإسلامي ضمها بالقوة إلى السوفييت.

على كل حال، كان هذا هو وضع الأقليات المسلمة من أهل البلاد الأصليين.

أما وضع المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية، فقد كانوا قليلين في أول الأمر، وكان معظم المهاجرين من أناس لم يكن تدينهم راسخا، وكانوا يبحثون عن الرزق وعن المال، وأما هذا العالم فلم يكونوا يعرفون عنه شيئا. وقد هاجروا من بلاد ضعف شأن الإسلام فيها، فكان وضعهم الخاص، ووضع قومهم العام – مع ظهور العالم الغربي في أوج قوته وانتصاره – يجعل هؤلاء لا يفكرون في هويتهم ومتطلبات دينهم، فكانت النتيجة أن ضاع الجيل الأول والثاني من هؤلاء وخصوصا الجيل الأول، فقد ذاب تمام في المجتمع الجديد، إذ لم يكن له من عقيدته ووعيه عاصم يعصمه من الذوبان، ولا يوجد من حوله أية (محاضن) تحتضنه أو (حراسة) تحميه.

وأبرز ما يتجلى ذلك في المهاجرين الأوائل إلى (أستراليا) ، وكانوا من الأفغان، وأكثرهم من الأميين، فبني الجيل الأول منهم مساجد، ولكنهم تزوجوا أستراليات، ونشأ أولادهم على دين أمهاتهم، وبعد ذلك رأينا (المساجد) هناك (أبنية) فقط، ولا يوجد من يعمرها بالصلاة والعبادة والعلم.

ومثل ذلك في (أمريكا الجنوبية) وخصوصا في (الأرجنتين)، فقد فني الجيل الأول في أهل البلاد، حتى رأينا منهم من تنصر علنا (مثل كارلوس منعم[1]) وغيره.

ثم بدأ المسلمون المهاجرون ينفضون غبار الغفلة عن أعينهم، ويشعرون بالحنين إلى أصلهم، وبالهوية الدينية لهم، وبأن لهم عقيدة تخصهم، ورسالة تميزهم، وطفقوا يتصلون بإخوانهم المسلمين داخل العالم الإسلامي، يطلبون منهم المساعدة في بناء المساجد، وإرسال العلماء والدعاة.

وربما كان هذا التنبه الجديد، ثمرة لعناصر جديدة لحقت بالمهاجرين القدامى، فأحيت مواتهم، وحركت سواكنهم. وهي عناصر ربما دفعها إلى الهجرة الاضطهاد في وطنهم الأصلي، فهاجرت بدينها إلى تلك البلاد، لتبذر فيها بذورا جديدة، يخرج الله منها ثمرات مختلفا ألوانها {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء@ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} (إبراهيم: 24-25).

وبهذا بدأ عصر جديد للأقليات المسلمة، ولا سيما المهاجرة. تطور هذا العصر من مرحلة إلى مرحلة، ومن درجة إلى درجة أقوى منها وأرسخ، حتى انتهى إلى ما نراه ونلمسه اليوم في أوربا والأمريكتين وأستراليا، وبلاد الشرق الأقصى وإفريقيا، وهو ما يمكن أن نسميه (عصر الصحوة الإسلامية).

وأدركت هذه الصحوة الجديدة المسلمين الأصليين، فاستيقظوا من سباتهم العميق، وشرعوا ينضمون بقوة – تتفاوت من بلد إلى بلد – إلى الركب الإسلامي المتحرك.

ويمكننا أن نقسم مراحل هذا العصر الجديد للأقليات إلى ما يأتي:

1- مرحلة الشعور بالهوية.

2- مرحلة الاستيقاظ.

3- مرحلة التحرك.

4- مرحلة التجمع.

5- مرحلة البناء.

6- مرحلة التوطين.

7- مرحلة التفاعل.

ونحن الآن في مرحلة هذا التفاعل الإيجابي مع المجتمع، فلا مجال في هذه المرحلة للعزلة والانكفاء على الذات، والحذر من مواجهة الآخرين، فقد غدت الأقليات المسلمة واقفة على أرض أصلية، واثقة من نفسها، معتزة بذاتها، قادرة على التعبير عن هويتها، والدفاع عن كينونتها وإبراز خصائصها، وتقديم ما عندها من رسالة حضارية للبشرية.

وهي في هذه المرحلة تستكمل مؤسساتها العلمية والتربوية والدعوية، فقد كانت في وقت ما معنية أبلغ العناية بإنشاء (المسجد)، وكانت ضرورية، لأنها المؤسسة الأولى في المجتمع المسلم.

ثم تطورت فأصبحت تعنى بإنشاء (المدرسة) ليتعلم فيها أبناء المسلمين أصول دينهم، كما يتعلمون المناهج الدراسية المقررة على أمثالهم.

ثم تطورت أكثر فأصبحت تنشئ المعاهد العليا والجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية، لتخريج الإمام والداعية المعاصر، والمعلم المؤهل المعاصر، والعالم الشرعي المعاصر الذي ينهل من الثقافة الإسلامية الأصلية، ويعيش في عصره وتياراته ومعارفه ومشكلاته وتطوراته، ويجتهد أن يأخذ من الشرع ما يحل به مشكلات العصر.

[1] الذي انتخب رئيسا لجمهورية الأرجنتين، وأصله مسلم، كما هو واضح من اسمه.

المشكلات الفقهية للأقليات

هذه الأقليات – بنوعيها الأصلي والمهاجر – لها مشكلات كثيرة تشكو منها، بعضها سياسي من جراء حيف الأكثرية على حقوقها، وعدم رعايتها لخصوصيتها الدينية... وبعضها اقتصادي، فكثيرا ما تكون تلك الأقلية من الفقراء وذوي الدخل المحدود، الذي تتحكم في مقدراتهم وأقواتهم الأغلبية المتحكمة... وبعضها ثقافي، ناشئ من هيمنة ثقافة الأكثرية على التعليم والإعلام ومراكز التوجيه، والحياة العامة، متجاهلين ثقافة المسلمين التي تميزهم وتعبر عن عقائدهم وقيمهم وهويتهم الخاصة.

وكثير من مشكلات المسلمين لها طابع فقهي، وذلك ناشئ من رغبة الأقليات المسلمة في تلك البلاد في التمسك بهويتها الدينية، وعقائدها الإسلامية، وشعائرها التعبدية، وأحكامها الشرعية في الزواج والطلاق وشئون الأسرة، ومعرفة الحلال والحرام في أمور المطعومات والمشروبات والملبوسات، وسائر المعاملات، وشتى العلاقات بين الناس، وخصوصا غير المسلمين: هل ينعزلون عنهم أو يندمجمون فيهم؟ وإلى أي حد يجوز الاندماج؟

وأذكر أني منذ بدأت زياراتي للمسلمين في أوربا وأمريكا والشرق الأقصى منذ نحو ربع قرن أو يزيد، لا أكاد أنزل مدينة أو ولاية، وألقي محاضرة أو درسا، إلا وأمطر في العادة بسيل من الأسئلة، كثيرا ما تكون متشابهة أو مكررة، لأن الجميع يعيشون ظروفا واحدة، ويحملون هموما مشتركة، ويعانون من مشكلات واحدة أو متقاربة.

إن أسئلتهم تبدأ أول ما تبدأ – وخصوصا من المهاجرين منهم – عن وجودهم نفسه في هذا العالم الغربي: أهو مشروع أم غير مشروع؟ وبعبارة أخرى: هل تجوز الإقامة في بلاد الكفر، أو لا تجوز؟ وما المراد بالأحاديث التي تمنع من ذلك؟ مثل حديث "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وحديث "من جامع مشركا فهو مثله" وهل هذه الأحاديث صحيحة؟

وما حكم إقامة المسلم هنا إذا خاف على دينه أو دين أبنائه وبناته من العيش في محيط غير إسلامي؟ وغير أخلاقي؟

ثم إن هناك ما هو أقوى من مجرد الإقامة، وهو الحصول على (جنسية) تلك البلاد، وهي تعطي المسلم قوة مادية ومعنوية، وتجعل له حق المواطنة، كالمواطنين الأصليين، فلا يستطيع أحد طرده كما يشاء، وله حق الانتخاب والترشيح، وحقوق أخرى كثيرة ومهمة، وتستطيع الجماعة المسلمة إذا اتحدوا وتفاهموا وتعاونوا أن يكونوا جماعة من (جماعات الضغط) السياسي، (اللوبي)، وحينئذ تخطب الأحزاب السياسية ودهم، وتحاول كسبهم إلى جانبها، ويستطيع المسلمون أن يقوموا بدور مهم في الترجيح بين الأحزاب، وبين المرشحين، ويختاروا منهم من يرونه أقرب إلى قيمهم، أو أرعى لمصالحهم وحقوقهم. أو قضايا أمتهم الكبرى.

ولكن هذه الجنسية قد يترتب عليها أشياء تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، وهي صيغة القسم التي يؤديها من يأخذ الجنسية، وفيها يعلن عن احترامه للدستور أو للنظام العام. فهل هذا ينافي الإسلام أو لا؟

كما أن هذا قد يعرض المسلم للتجنيد الإجباري في جيش تلك الدولة، ولا حرج في ذلك، إلا إذا قامت تلك الدولة بإعلان الحرب على بلد إسلامي، فماذا يكون موقف المسلم في تلك الحالة؟ أيعصي دولته أم يحارب إخوانه المسلمين؟ وكل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه؟

ومن الأسئلة التي سئلت عنها، ويسأل عنها عادة كل عالم ديني يزور تلك البلاد: ما حكم اللحوم التي تباع في الأسواق، وتقدم مطبوخة في المطاعم، وهي من ذبائح القوم، ولا نعرف أهي مستوفية الشروط الشرعية للذبح أم لا؟

هل يجب أن تكون هذه الذبائح مستوفية كل شروط ذبيحة المسلم أو يترخص بعض الترخيص في ذبائح أهل الكتاب، الذين أباح الله تعالى لنا طعامهم؟

وهل يجب أن نتحرى ونسأل ونستقصي، أو أن ما غاب عنا لا نسأل عنه، ونسمي الله عليه ونأكل؟

وما حكم الأطعمة مثل (الجلي) وغير الأطعمة، مثل (الصابون)، أو بعض (المعجونات) التي قد تكون مصنوعة من دهن الخنزيز أصلا، ولكنه تغير تغيرا كيمائيا، أو بتعبير الفقهاء: (استحالت نجاسته)، هل يعتبر الأصل الخنزيزي أو الحالة التي صار عليها الشيء الآن؟

وما حكم (الجبن) الذي قد تدخله (المنفحة) وهي قد تؤخذ من معدة حيوان، قد يكون الخنزير، وقد يكون غيره؟ وما الحكم إذا غلب على الظن أنها مأخوذة من الخنزير؟

وإذا سلمنا أنها من الخنزير هل هذه المنفحة نجسة أو غير نجسة؟ وإذا كانت نجسة فهل مقدارها في صناعة الجبن بحيث لا يعفى عنه، أو يمكن أن تدخل دائرة العفو لضالتها؟

وما حكم العمل في المطاعم التي تقدم لحم الخنزير ومشروب الخمر؟ وما حكم الأكل فيها؟ وإن لم يتناول الخمر والخنزير؟

وما حكم عمل المسلم في المحلات (البقالات ومحلات السوبر ماركت) التي تبيع أشياء كثيرة معظمها حلال، ولكن منها الخمر ولحم الخنزير؟

وهل يجوز للمسلمين أن يفتحوا مثل هذه المحلات إذا كانت القوانين تلزمهم أن يبيعوا هذه المحرمات فيها، وإن كانت نسبتها قليلة؟ أو يحرم المسلمون من هذه التجارة تماما؟

وما الحكم إذا دُعي المسلم إلى وليمة؟ يقدم فيها للضيوف الخمر والخنزير، وإن كان لا يقدم له هو شخصيا؟ أيعتذر عن عدم استجابة الدعوة، ويعيش وحده ويقاطع المجتمع من حوله، وبهذا يقدم صورة سلبية للمسلمين؟ أم يقبل الدعوة من باب المجاملة وحسن التعايش؟

وما حكم السلام على غير المسلم؟ وما حكم مجاملته في حضور عرسه وأفراحه المشروعة؟ وما حكم تهنئته بأعياده، ولا سيما إذا كان هو يهنئ المسلمين بأعيادهم؟ ولا سيما الأعياد الدينية مثل (الكريسماس).

وما حكم الزواج الذي يتم في تلك البلاد عن طريق الجهات الرسمية؟ أيعتبر زواجاً شرعياً وإن لم يعقده مسلم؟ أو لا بد من عقد زواج في مسجد أو مركز إسلامي على يد أحد شيوخ الدين؟ وهل يغني هذا عن توثيق الزواج في الجهة الرسمية؟

وما حكم الطلاق إذا تم من الجهة الرسمية، ورفضه الزوج المسلم، لأنه طلاق من قاض غير مسلم؟

وما حكم المسلم الذي تزوج زوجة ثانية – زواجا عرفيا – والقوانين لا تسمح له بذلك؟

ومن يضمن حقوق هذه الزوجة إذا اختلفت مع زوجها؟ وهل يجوز لإمام المركز الإسلامي أن يخالف القوانين ويعقد هذا النوع من الزواج؟

وهل يجوز للمرأة إذا اضطرتها الظروف القاسية أن تكون وحدها في تلك البلاد أن تتزوج بدون وليّ؟ أو يكون وليها رئيس الجالية أو إمام المركز أو نحو ذلك؟

وما حكم الزواج من امرأة غربية؟ وهل يعتبر الغربيون الآن كتابيين أو لا دينيين؟ وهل هناك شروط وقيود لهذا الزواج؟

وما حكم المرأة إذا أسلمت ولم يسلم زوجها معها؟ هل يفرق بينها وبين زوجها أو هناك حل آخر؟

وما حكم من مات وله أب ذو مال أو أم ذات مال، وقد تركا تركة يستحقها كلها أو بعضها بحكم القانون؟ هل يدع هذا المال وهو في أمس الحاجة إليه لنفسه ولأهله ولإخوانه وللدعوة الإسلامية؟ بناء على أن المسلم لا يرث الكافر، كما أن الكافر لا يرث المسلم؟ أو هناك رخصة لميراث هذا المسلم من أبيه أو أمه؟

وما حكم التعامل مع البنوك الربوية، ومع شركات التأمين في هذه الديار، ولا يوجد غيرها هنا؟

وهل يجوز لنا أن نودع أموالنا فيها، مع أننا مضطرون إلى ذلك؟ وهل يمكن أن نودعها بفائدة ونأخذ هذه الفائدة لنعطيعها للفقراء، أو للجمعيات الإسلامية، التي تحتاج إلى التمويل ولا تجده؟

وما حكم شراء البيوت للسكنى عن طريق القرض من البنك الربوي؟ مع حاجة المسلم إلى أن يكون له بيت يملكه، يسع أسرته وضيوفه، ولا يتحكم فيه المالك؟ هذا مع أن ما يدفعه المشتري من البنك من قسط وفائدة يساوي أو يقارب ما يدفعه من أجرة شهرية؟

وما حكم المشاركة في الحياة السياسية في هذه البلاد، عن طريق الانتخاب أو الترشيح إن تيسر، أو تأييد بعض الأحزاب أو الانضمام إليها وإكتساب عضويتها أو مساندة بعض المرشحين الأقرب نفعا للمسلمين؟

وهل يجوز للمسلمين تكوين حزب لهم يعبر عن مطالبهم؟

وما حكم العمل الجماعي بين المسلمين، لإقامة المساجد والمدارس والأندية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟

إلى آخر هذه الأسئلة الكثيرة والمتشعبة في شتى نواحي الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدولية، والتي نريد التعرف على موقف الدين منها، وموقف المسلم حيالها إذا أراد أن يلتزم بأحكام دينه.

وهذه الأسئلة ينبغي ألا تزعجنا ولا تقلقنا، بل هي بالعكس تدلنا على أن الإسلام لا يزال له أثره البالغ على سلوك المسلم وعلى تفكيره، وإن كان خارج دار الإسلام، وأن اغترابه عن وطنه الإسلامي، لم ينسه دينه وربه وشرعه، بل هو حريص على أن يرضى الله عنه، وألا يخرج من سلطان دينه، وأحكام شريعته، والله تعالى يقول: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} (البقرة: 115)، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: "اتق الله حيثما كنت[1]".

وهذه الأسئلة المطروحة من الأقليات والجاليات المسلمة في بلاد الغرب ونحوها، تتطلب الإجابة من علماء الشريعة الحاكمة على جميع أفعال المكلفين أينما كانوا، في غرب أو شرق، في دار الإسلام أو خارجها.

وكثير من هذه الأسئلة أجاب عنها العلماء، واختلفت إجاباتهم تبعا لمذاهبهم التي يقلدونها، أو لوجهتهم التي يتبنونها، موسعين أو مضيقين، ميسرين أو معسرين.

وبعضهم علماء فضلاء، ولكنهم ينقصهم الوعي بظروف هذه الأقليات، ومعاناتها في مجتمع غير مسلم، فلا يكفي أن يفتيهم العالم بما قرأ في بطون الكتب، دون فقه لواقعهم، ودراسة كافية لضروراتهم وحاجاتهم.

لهذا كان لا بد لنا من فقه بصير، فقه واقعي، فقه معاصر، فقه ينطلق من محكمات النصوص، ومن قواعد الشرع ومقاصده، ولكنه يراعي تغيرات الزمان والمكان وأحوال الإنسان، وهذا ما نحاول إلقاء بعض الضوء عليه في هذه الصحائف. وبالله التوفيق، ومنه العون.

[1] رواه الترمذي عن أبي ذر (1987) وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (5 \ 153، 158، 177) والدارمي.

فقه الأقليات المسلمة أهدافه وخصائصه ومصادره

حقائق حول فقه الأقليات

فقه الأقليات المسلمة

أهدافه وخصائصه ومصادره

عندما أصدرت الطبعة الأولى من كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) لأعالج – في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها – قضية الأقليات الدينية غير الإسلامية، التي تعيش في الأوطان الإسلامية، وهم من أهل البلاد الأصليين، وأصبحت بعض الجهات الأجنبية تستغل قضيتهم في تعويق الدعوة إلى الحل الإسلامي، وتحكيم الشريعة الإسلامية، واستئناف حياة إسلامية متكاملة، ويعتبرون وجود هؤلاء عقبة في سبيل ما يطالب به المسلمون المتدينون من تحقيق الإسلام والعودة به إلى قيادة المجتمع والحياة.

فأردت بهذا الكتاب أن أجيب عن أهم التساؤلات حول وضع غير المسلمين – الأقليات الدينية – في ظل مجتمع إسلامي، وحكم إسلامي. ولكن مما أذكره ولا أنساه: أن بعض الإخوة ممن يعيشون في الغرب، قالوا لي: قد قرأنا كتابك المهم عن (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) وانتفعنا به، وننوي أن نترجمه إلى الإنجليزية، ولكن نطمع منك في كتاب آخر نحن أشد حاجة إليه، وهو (المسلمون في غير المجتمع الإسلامي)، فإذا كان كتابك يعالج فقه الأقليات غير المسلمة في المجتمعات المسلمة، فنحن في حاجة إلى علاج آخر، لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، أعني في الغرب وغيره من البلاد التي لا يدين أغلب سكانها بدين الإسلام.

وهذه الأقليات المسلمة خارج دار الإسلام أو البعيدة عن المجتمع المسلم، تحتاج إلى فقه خاص، يقوم على اجتهاد شرعي قويم، يراعي مكانها وزمانها وظروفها الخاصة، وأنها لا تملك أن تفرض أحكام شريعتها على المجتمع الذي تعيش فيه، وأنها مضطرة أن تتعامل وفق أنظمة ذلك المجتمع وقوانينه، وبعض هذه الأنظمة والقوانين تخالف شريعة الإسلام.

ولعل هذه الحاجة، وهذه الاعتبارات هي التي دفعت بعض الإخوة الغيورين والمهتمين بالشأن الإسلامي، في (اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا) إلى السعي لإنشاء مؤسسة علمية فقهية إسلامية، تسد هذه الثغرة، وتلبي هذه الحاجة، وتجيب عن تساؤلات المسلمين في تلك الديار، فأنشئ (المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث) الذي اجتمع مؤسسوه في بريطانيا. وقرروا بالإجماع قيام هذا المجلس، الذي أعلن عن ميلاده، وعن أهدافه وعن وسائله وعن أعضائه.

حقائق حول فقه الأقليات: وفي حديثنا عن (فقه الأقليات المسلمة) يجب أن نقرر بعض الحقائق التالية:

أولاً: ليس بالفقه وحده تحيا الجماعة المسلمة وتقوى وترقى. فالفقه – بالمعنى الاصطلاحي المعروف – إنما يعنى ببيان الأحكام للحياة الظاهرة للإنسان، ولا يعنى في الأساس بحياته الباطنة: الحياة الروحية – الإيمانية والأخلاقية – وإنما يعنى بها علم السلوك أو التصوف والتزكية. وهذا هو أساس الاستقامة والسعادة في الدنيا، والخلاص ورضوان الله في الآخرة.

ولقد اعتبر الإمام الغزالي في (الإحياء) علم الفقه من (علوم الدنيا) وليس من (علوم الآخرة) وذلك أنه الذي يوصل إلى مناصب القضاء والإفتاء والإشراف على الأوقاف، وتصدر المجالس للخلاف والجدل، إلى غير ذلك من الاعتبارات، التي جعلت الغزالي يخرج الفقه من علوم الآخرة، حتى إنه حين يتعرض للعبادات، يهتم بمادتها لا بروحها، بظاهرها لا بباطنها ولبها.

ومن هنا كانت الجماعة المسلمة في حاجة إلى عدد معين من أهل الفقه والفتوى، وإلى إضعافهم من الدعاة والمرشدين والمربين، الذين يعلمون الجماعة (الفقه الأكبر) ويزكونها ويعلمونها الكتاب والحكمة.

الأقلية المسلمة جزء من أمتها المسلمة ومن مجتمعها الخاص:

ثانياً: إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التي تشمل كل مسلم في أنحاء العالم، أيا كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه، أو طبقته، وهم – من ناحية أخرى – جزء من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وينتمون إليه. فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا نطغي أحدهما على الآخر، ولا نضخم أحدهما على حساب الآخر.

فقه خاص في دائرة الفقه العام:

ثالثاً: إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءا من (الفقه العام). ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم.,

وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبي) المتعلق بالصحة والمرض وعلاج الأمراض، والمشكلات الخاصة بالطب وتطوراته ومستجداته... وكان عندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادي) وهو المتعلق بشئون المال والاقتصاد والزكاة والمعاملات والبنوك وغيرها، وهو فقه اتسع نطاقه في عصرنا وتنوعت بحوثه ودراساته إلى حد بعيد...

وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسي)، وهو ما يتعلق ببناء الدولة المسلمة ومؤسساتها الشورية والقضائية والتنفيذية والعسكرية، وموقف هذه الدولة من الديموقراطية والتعددية، وغير المسلمين والسلام والحرب ونحوها...

إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كي يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم. وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور في فقهنا الإسلامي، ولكنها غير منظمة، وهي مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها. لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنه، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.

ضرورة الوجود الإسلامي في الغرب:

رابعاً: أود أن أشير هنا إلى حقيقة مهمة، ينبغي لنا – نحن المسلمين – ألا نغفل عنها، وهي: أنه يجب أن يكون للمسلمين – بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية – (وجود إسلامي) ذو أثر، في بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم. ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته. وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها.

فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.

ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوي المؤثر للنفوذ اليهودي وحده، يستغله ويوجهه لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر في سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله، قابعون في أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، في حين نؤمن نظريا بأن رسالتنا للناس جميعا وللعالمين قاطبة. ونقرأ في كتاب ربنا {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107). {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان: 01).

ونقرأ في حديث نبينا "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة". متفق عليه عن جابر.

ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، أو في (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا – كما يتصور بعض العلماء – لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره في العالم. ولانْحصر الإسلام من قديم في جزيرة العرب ولم يخرج منها.

ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدا، لوجدنا أن انتشار الإسلام في البلاد التي تسمى الآن: العالم العربي، والعالم الإسلامي، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد في آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس في بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذي غرس فيهم هذه الفضائل، فدخلوا في هذا الدين أفواجا وفرادى.

حتى البلاد التي دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بني أمية في مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين في الإسلام، حتى أبطل عمر بن عبدالعزيز، وقال قولته الشهيرة لواليه: "إن الله بعث محمدا هاديا، ولم يبعثه جابيا".

أهداف الفقه المنشود للأقليات

أهداف الفقه المنشود للأقليات: والفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة في أنحاء العالم – وخصوصا العالم العربي – له أهداف ومقاصد يسعى إلى تحقيقها في حياة هذه الأقليات، في إطار أحكام الشريعة وقواعدها.

أولاً: أن يعين هذه الأقليات المسلمة – أفرادا وأسرا وجماعات – على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا.

ثانيا: أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشِّئ ذراريها على ذلك.

ثالثا: أن يمكِّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذي يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف: 108) فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة، وخصوصا من كان يعيش بين غير المسلمين.

رابعا: أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة: محافظة بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان.

خامسا: أن يسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات.

سادسا: أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع في الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزا محركا لهم، ودليلا يأخذ بأيديهم، وليس غلا في أعناقهم، ولا قيدا بأرجلهم.

سابعا: أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة، ويعالج مشكلاتهم المتجددة، في مجتمع غير مسلم، وفي بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، في ضوء اجتهاد شرعي جديد، صادر من أهله في محله.

خصائص هذا الفقه المنشود: ولهذا الفقه المنشود خصائص لا بد أن يراعيها، حتى يؤتي أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلي:

1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامي الفقهي بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرنا، ولا يستغرق في التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام يثقافته واتجاهاته الكبرى على الأقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التي يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول – صلى الله عليه وسلم – يراعي طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال: "إن الأنصار يعجبهم اللهو" وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده.

3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، فلا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة، استمساكا بالظواهر وعملا بحرفية النصوص.

4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات في ضوء الكليات، موازنا بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد عند التعارض في ضوء فقه الموازنات، وفقه الأولويات.

5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته، ودار يعيش فيها الإسلام غريبا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده.

6- يراعى هذه المعادلة الصعبة: الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء.

مصادر هذا الفقه

مصادر هذا الفقه: وقد يسأل سائل هنا: ما مصادر هذا الفقه؟ وهل له مصادر غير مصادر الفقه العام؟

وأبادر فأقول: إن مصادر (فقه الأقليات) هي مصادر الفقه العام نفسها. ولكن ينبغي أن يكون لهذا الفقه وقفات (تجديدية) لهذه المصادر، ذكرنا نماذج لها في الجزء الأول من كتابنا (تيسير الفقه للمسلم المعاصر).

ومن أهم هذه الوقفات:

1- الاعتماد على المصدر الأول، أو مصدر المصادر، وأصل الأصول – وهو القرآن الكريم – في تأصيل هذا الفقه، وترسيخ قواعده، بحيث ترد الأصول أو المصادر كلها إلى القرآن، حتى السنة النبوية يجب أن (تفهم في ضوء القرآن الكريم)، كما بينا ذلك بتفصيل في كتابنا (كيف نتعامل مع السنة النبوية؟).

إن القرآن بمثابة الدستور للتشريع، والأب لكل القوانين والأحكام، ولذا يعنى بإرساء القواعد والمبادئ العامة، أكثر من التعرض للجزئيات والتفصيلات، بخلاف السنة التي تعالج مسائل وقتية، وحالات شخصية، وأمورا دنيوية قد لا يكون لها علاقة بالدين، وهي التي جاء فيها الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة وأنس – رضي الله عنهم - :"أنتم أعلم بأمر دنياكم".

وبهذا قرر المحققون من علماء الأمة: أن السنة فيها ما هو للتشريع، وما ليس للتشريع. وما كان للتشريع منه ما هو عام وما هو خاص، وما هو دائم وما هو مؤقت، ومنها ما صدر عن الرسول الكريم بصفة الفتوى والتبليغ عن الله تعالى، ومنه ما صدر بوصف الإمامة ورئاسة الدولة. ومنها ما كان في وقائع أحوال جزئية أو شخصية، يقول فيها العلماء: إنها مقصورة على موضعها ولا عموم لها.

ومما يلزم التنبيه عليه هنا: بعض الأحاديث التي لم تثبت صحتها، ويبني بعضهم عليها أحكاما، مع اتفاق الجميع على أن الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام. مثل حديث: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"[1]. وحديث "من جامع مشركا، وسكن معه، فهو مثله"[2]. وإن حسنهما بعض العلماء، ولكن تحسين الحديث – لا سيما لغيره – مما ينبغي التثبت فيه. وهو مجال كبير للاختلاف بين أهل هذا الشأن. ولهذا نجد بعض علماء الحديث – مثل الشيخ الألباني – يُحسِّن الحديث في كتاب، ويضعفه في آخر، ويحسنه فترة من الزمن ثم يتراءى له فيضعفه، أو العكس.

على أن لحديث "أنا بريء" تأويلا غير ما يتبادر منه[3]؟

وكلمة (المشرك) في المصطلح القرآني تعني الوثني، ولا يدخل فيها الكتابي، وكيف يحرم الإسلام مساكنة الكتابي في بيت واحد، وهو يجيز للمسلم أن يتزوج كتابية، تكون ربة بيته؟

وهناك أحاديث صحيحة، ولكنها مئولة، لمعارضتها لظاهر القرآن، كحديث: "لا تبدءوا اليهود والنصار بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطروهم إلى أضيقه"[4]. فهو مخالف لآية {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء: 86).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام"[5].

ويجب تأويل هذا الحديث بأنه خاص بأهل الحرب المعادين للمسلمين، وليس في شأن المسالمين.

وقد فصلّنا في ذلك في مواضع آخر[6].

والمهم أن ترد السنة إلى القرآن، وأن ترد السنن بعضها إلى بعض، وأن تفهم الأحاديث في ضوء ملابساتها ومقاصدها، وأن نميز بين الهدف الثابت والوسائل المتغيرة. وبعد القرآن والسنة يأتي الإجماع، ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن كثيرا من دعاوي الإجماع غير ثابتة، بل ثبت عكسها، وتبين للباحثين أن فيها خلافا. كما إن بعض أنواع الإجماع المنقولة تكون مبنية على مصلحة وقتية أو عرف تغير، فينبغي أن يتغير حكم الإجماع بتغير مناط الحكم.

بل إن الإجماع إذا كان مبنيا على نص، وقد راعى النص ظرفا أو عرفا، فتغير هذا العرف أو هذا الظرف، فإن الحكم المبني عليه يجب أن يتغير، كما ذكرنا في قصة وجود نصابين للنقود في الزكاة: نصاب للفضة ونصاب للذهب، وهما متفاوتان غاية التفاوت.

وبعد الإجماع يأتي القياس بشروطه وضوابطه، وإن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، كما لا تسوي بين مختلفين، ولا يستغني فقيه في أي عصر عن استخدام القياس إذا اتضحت علته، ولم يوجد فارق معتبر بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه.

وهناك المصادر أو الأدلة المختلف فيها، وهي: الاستصلاح (العمل بالمصلحة المرسلة)[7] والاستحسان، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستصحاب، وقول الصحابي... إلخ.

وعلى الفقيه في عصرنا أن يستفيد من كل هذه الأصول أو الأدلة، على أن يضع كلا منها في موضعه، ويقدم أقواها على أضعفها إذا تعارضت، في ضوء موازين التعارض والترجيح، وهي معروفة.

[1] رواه أبو داوود (2645) عن جرير بن عبد الله وقال عقبة: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة، لم يذكروا جريرا. وقال المنذري: رواه الترمذي والنسائي. وذكر أبو داوود: إن جماعة رووه مرسلا. وأخرجه الترمذي أيضا مرسلا، وقال هذا أصح. وذكر أن أكثر أصحاب إسماعيل – يعني ابن أبي خالد – لم يذكروا فيه جريرا. وذكر البخاري أنه قال: الصحيح مرسل، ولم يخرجه النسائي إلا مرسلا. انظر: مختصر سنن أبي داوود للمنذري (3 / 437، 438) برقم (2530) مطبوع مع معالم السنن للخطابي وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق: الشيخين شاكر والفقي. ومع ذلك ذكره الألباني في (صحيح سنن أبي داوود) برقم (2304)!

[2] رواه أبو داوود (2787) عن سمرة بن جندب. وقال الشيخ الألباني في (الإرواء): سنده ضعيف. وله طريق أخرى أشد ضعفا منها، أخرجه الحاكم (2 / 141، 142) وقال "صحيح على شرط البخاري"! ووافقه الذهبي في "التلخيص"، ولكن وقع فيه "صحيح على شرط البخاري ومسلم"!.

وذلك من أوهامهما فإن فيه إسحاق بن إدريس وهو متهم بالكذب، وقد ترجمه الذهبي نفسه في "الميزان" أسوأ ترجمة.

وذكر له الشيخ الألباني شاهدا آخر رواه الحاكم، وذكر أن فيه راويا ليس بالقوي. انظر إرواء الغليل (5/32، 33) حديث رقم (1207)، ومع ذلك صححه في (صحيح سنن أبي داوود) برقم (2420)!

[3] معناه: أنه بريء من ديته إذا قتله المسلمون خطأ، لأنه أقام بين المشركين المحاربين للإسلام، فحكمه حكمهم، فإذا قتل خطأ فلا يتحمل الرسول ولا المسلمون ديته.

[4] رواه مسلم "2167" عن أبي هريرة.

[5] صح ذلك من حيث عبدالله بن الحارث، وأبي هريرة وأبي موسى والبراء وأبي الدرداء وابن عمر وعبدالله بن سلام وغيرهم. انظر: صحيح الجامع الصغير. الأحاديث: (1021) و (1089).

[6] أبرزها ما كتبناه في فصل (الجانب التشريعي في السنة) من كتابنا (السنة مصدر للمعرفة والحضارة) نشر دار الشروق بالقاهرة.

[7] انظر: ما كتبناه عن (المصلحة المرسلة) في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها). نشر مكتبة وهبة – القاهرة.

ركائز فقه الأقليات

لا فقه بغير اجتهاد معاصر قويم

يقوم فقه الأقليات المنشود على ركائز أساسية يجب أن يراعيها أكثر من غيره من أنواع الفقه الأخرى، وإن كان كل الفقه في حاجة إليها:

1- لا فقه بغير اجتهاد معاصر قويم:

أولى هذه الركائز: أن الفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة – ليحقق الأهداف والغايات المنوطة به – لا يتحقق إلا من خلال (اجتهاد صحيح) صادر من أهله في محله.

أما إذا روّجنا مقولة إغلاق باب الاجتهاد، وفكرنا بعقول الأموات من السابقين، ولم نفكر بعقولنا، فلن تحل بالفقه مشكلة.

لقد بينا فيما كتبناه من قبل أن الاجتهاد فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، فالاجتهاد هو الذي يبرز خصوبة الشريعة وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان. وهو الذي يحافظ على حيوية الأمة وبقائها قادرة على أن تعيش برسالتها ولرسالتها.

والاجتهاد الذي نريده، منه ما هو ترجيحي انتقائي، ومنه ما هو إبداعي إنشائي.

فأما الاجتهاد الانتقائي والترجيحي، فهو الذي يختار من تراثنا الغني من الأقوال والآراء المتعددة أرجحها ميزانا، وأولاها بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، فإذا ذكر ابن القيم تسعة أقوال في شأن المرأة إذا أسلمت ولم يسلم زوجها، فالاجتهاد المطلوب هنا أن نختار قولا من هذه الأقوال نجده أقوم قيلا، وأهدى سبيلا.

وليس المقصود أن نختار أي القولين منها اختيارا عشوائيا، ثم نقول: هذا ما نختاره ونرجحه، بل لا بد من الموازنة بين الأقوال وأدلتها وآثارها ومآلاتها، ثم نرجح – في ضوء الأصول والاعتبارات الشرعية – ما هو أقوى وأقوم.

وأما الاجتهاد الإبداعي والإنشائي، فهو يتعلق بالمستجدات في أمور الحياة، وقد امتلأت حياتنا المعاصرة بمئات – بل بألوف – من المسائل الجديدة، التي لا يمكن أن تجد لها جوابا مباشرا في تراثنا الفقهي العظيم.

وهذا طبيعي، لأن التطور الذي حدث في عالمنا المعاصر، تطور هائل في كمه وفي نوعه، وهو تطور لم يكن يخطر ببال أحد من الأئمة الماضين، حتى يتخيل له حلا.

ولقد رأينا الخلاف ما بين أبي حنيفة وصاحبيه كثيرا ما فسره علماء الحنفية بقولهم: هذا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان، برغم قصر المدة ما بين أبي حنيفة وصاحبيه (مات أبو حنيفة سنة 150 هـ، ومات أبو يوسف سنة 182 هـ، ومات محمد سنة 189 هـ).

وغير الشافعي مذهبه من قديم إلى جديد، وهو لم يعش أكثر من 54 سنة قمرية (ولد سنة 150 هـ وتوفي سنة 204 هـ).

وإذا كان الفقه كل يحتاج إلى الاجتهاد بنوعيه الانتقائي والإنشائي، فإن فقه الأقليات أشد حاجة، للظروف التي تعيشها الأقلية بين ظهراني أكثرية تخالفها في الدين، وبالتالي في الكثير من المفاهيم والسلوكيات والتقاليد.

وهذا الاجتهاد إنما هو جزء من (التجديد) الذي حدثنا عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[1].

والتجديد للدين يشمل تجديد الفقه فيه والفهم له، وتجديد الإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه بلسان القوم والعصر حتى يبين لهم. ولا يتجدد الفقه والفهم للدين إلا باجتهاد معاصر قويم[2].

[1] رواه عن أبي هريرة أبو داوود والحاكم والبيهقي في المعرفة وصححه جمع من العلماء.

[2] انظر معالم هذا الاجتهاد في كتابنا (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) وكتابنا (الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط).

مراعاة القواعد الفقهية الكلية

ومما ينبغي لهذا الفقه أو هذا الاجتهاد المنشود أن يراعيه: الرجوع والاستناد إلى القواعد الفقهية التي أصلها الفقهاء، استمدادا من القرآن والسنة والاستدلال منها والبناء عليها، وهي كثيرة، ولها تطبيقاتها المتعددة في الجزئيات والفروعيات العملية المختلفة، مثل:

الأمور بمقاصدها.

العادة محكمة.

ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

لا ضرر ولا ضرار.

الضرر يدفع بقدر الإمكان.

الضرر يزال بقدر الإمكان.

الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.

يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.

يرتكب أخف الضررين.

درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

تغتفر المفسدة القليلة لجلب مصلحة كبيرة.

تفوت أدنى المصلحتين.

المشقة تجلب التيسير.

إذا ضاق الأمر اتسع.

يجوز تبعا ما لا يجوز أصلا.

يجوز بقاء وانتهاء ما لا يجوز إنشاء وابتداء.

الأصل في الأشياء الإباحة.

الأصل في العاديات والمعاملات النظر إلى العلل والمصالح.

الغرم بالغنم.

المسلمون عند شروطهم.

المعروف عرفا كالمشروط شرطا.

النادر لا حكم له.

للأكثر حكم الكل.

حقوق الله مبنية على المسامحة. وحقوق العباد مبنية على المشاحة.

حق الأمة مقدم على حقوق الأفراد.

فرض العين مقدم على فرض الكفاية.

فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد مقدم على فرض الكفاية الذي قام به بعض الناس.

لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.

المشدد يشدد الله عليه.

العبرة بالخواتيم.

أعمال القلوب أفضل من أعمال الجوارح.

لا يزال المنكر بمنكر أكبر منه.

الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها.

ما قارب الشيء يأخذ حكمه.

ما بني على باطل فهو باطل.

ليس بعد الكفر ذنب.

البدعة شر من المعصية.

الظني لا يقاوم القطعي، فضلا من أن يقدم عليه.

اليقين لا يزول بالشك.

إلى غير ذلك من (القواعد) التي لا يستغني عنها مفت ولا قاض ولا باحث في علوم الشرع.

العناية بفقه الواقع المعيش

ولا يستطيع هذا الاجتهاد المعاصر المرجو أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتي ثمرته، إلا إذا ضم إلى فقه النصوص والأدلة: فقه الواقع المعيش.

فالفقيه أشبه بالطبيب، ولا يمكن الطبيب أن يصف الدواء للمريض إلا إذا عاينه وفحصه وسأله، وعرف تاريخ مرضه، وحجمه ومداه، فاستطاع بذلك أن يشخص الداء، ويصف له الدواء الملائم.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم في (إعلامه): "لا يتمكن المفتي ولا الحاكم (القاضي) من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا.

"فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عن الأم[1]...".

والفقيه الحق – كما قال ابن القيم في مقام آخر – هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون فقط، بل فيما هو كائن، وبهذا يعرف ما يفرضه الواقع من أحكام، فكثيرا ما ينزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى.

وهذا ما جعل ابن القيم يقرر وجوب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.

وقبله قرره الإمام المالكي شهاب الدين القرافي.

وقرره بعدهما علامة المتأخرين من الأحناف ابن عابدين صاحب الحاشية الشهيرة (رد المحتار على الدر المختار).

إن واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.

ونريد بدراسة الواقع: أن يدرس على الطبيعة لا على الورق، بلا تهويل، ولا تهوين. فأعظم ما يؤثر في سلامة النظرة العلمية هو اللجوء إلى أسلوب المبالغة والتضخيم، الذي يجعل من الحبة قبة، أو من القط جملا، كما يقول المثل أو إلى الأسلوب المقابل، وهو التصغير والتهوين، ومحاولة تقليل من أهمية الأمر، رغم خطورته، كما نشاهده في موقفنا من دولة العدو الصهيوني (إسرائيل)، وكما نشاهده في موقفنا من الحضارة الغربية.

إننا أحيانا نبني حكمنا الفقهي على معرفتنا بالواقع. فإذا أراد الفقيه أن يفتي في مسألة كالتدخين، فإنه يبني فتواه على رأي الطبيب، وتقرير المحلل، فإذا قال الطبيب: إن التدخين ضار بالصحة، خطر عليها، فلا يسع الفقيه إلا أن يقول: هو حرام. لأنه لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه باختياره، فلا ضرر ولا ضرار، ومناط الضرر قد تحقق برأي الطبيب، فوجب الإفتاء بالتحريم.

وكذلك إذا قال الخبراء الاجتماعيون والاقتصاديون: إن تملك بيوت السكنى للأسر المسلمة في الغرب يعتبر حاجة ماسة للأفراد وللجماعة، وأنه لا توجد وسيلة لتملك هذه البيوت لغالبية المسلمين إلا بالشراء عن طريق البنك، لم يسع الفقيه المسلم إلا أن يفتي بالجواز، للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة. فإن تقدير الحاجة هنا ليس للفقهاء، بل لأهل الاختصاص.

ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتي لها، فلا شك أن الأقليات تتفاوت فيما بينها تفاوتا بعيدا.

فالأقلية التي يكون معظمها من الوافدين المهاجرين، غير الأقلية التي يكون معظمها من المواطنين الأصليين.

والأقلية المستضعفة غير الأقلية المتمكنة ذات المال والجاه والنفوذ.

والأقلية المحدودة العدد، غير الأقلية الكبيرة، كالأقلية المسلمة في الهند (أكثر من 150 مليونا).

والأقلية الحديثة الوجود غير الأقلية العريقة التي لها مئات السنين.

والأقلية في البلاد الليبرالية التي تنعم بالحريات وحقوق الإنسان، غير الأقلية في البلاد الدكتاتورية التي لا تعترف للإنسان بحق ولا حرية، ولا ترقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.

والأقلية المبعثرة المنقسمة على نفسها، المختلفة فيما بينها، باختلاف عروقها واتجاهاتها الدينية والفكرية، غير الأقلية المتماسكة المنظمة، التي أمست لها قياداتها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

ويلزم الفقيه الذي يعالج الواقع في ضوء الشريعة أن يراعي هذا الواقع المتغير، فإن للك واقع حكمه.

[1] إعلام الموقعين (1/87، 88) طبعة السعادة.

التركيز على فقه الجماعة لا مجرد الأفراد

ومما يسهم في ترشيد فقه الأقليات: التركيز على الأقلية باعتبارهم (جماعة) متميزة، لها هويتها وأهدافها ومشخصاتها، ولا يمكنها أن تتغافل عنها. وينبغي لأهل الفقه أن ينظروا إلى هذا الكيان الجماعي وما يتطلبه من مقومات، وما له من ضرورات وحاجات. وكيف تستطيع الجماعة أن تعيش بإسلامها في مجتمع غير مسلم، قوية متماسكة، مؤمنة بالتنوع في إطار الوحدة.

وقد لاحظت أن أهل الفقه عادة حينما يتحدثون عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن الحاجة التي قد تنزل منزلة الضرورة، إنما يركزون على ضرورة الفرد المسلم وحاجته، غير معنيين كثيرا بضرورات الجماعة المسلمة وحاجاتها.

وأعتقد أن من المهم واللازم للفقيه لتكون فتواه عن بينة: أن يهتم بالجماعة وضروراتها وحاجاتها المادية والمعنوية، الآنية والمستقبلية، وألا يغفل تأثير هذه الضرورات والحاجات في سير الجماعة وقوتها الاقتصادية، وتماسكها الاجتماعي، وسلوكها الأخلاقي، وتقدمها العلمي والثقافي، وقبل ذلك: هويتها الإيمانية.

لقد عني القرآن والسنة بالجماعة، ولهذا كان الخطاب القرآني بأحكام الله تعالى خطابا للجماعة {يا أيها الذين آمنوا} سواء تعلق التكليف بالتعبد {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} (البقرة: 183). أم تعلق بالمعاملات {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} (البقرة: 282). أم تعلق بشئون الأسرة {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن (أي انتهت عدتهن) فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} (البقرة: 231)، أم تعلق بالعقوبات والتشريع الجنائي {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: 178).

بل يخاطب القرآن الجماعة أو الأمة كلها بما ينفذه الولاة والأمراء، مثل إبرام المعاهدات مع الأعداء، ومثل إقامة الحدود على الجناة، مثل قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} (التوبة: 4)، وقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله} (المائدة: 38).

وهذه النصوص وغيرها تؤكد أهمية الجماعة، ومسئوليتها التضامنية في إقامة شرع الله، وتطبيق أحكامه في الأرض.

والأحاديث النبوية تؤيد هذا الاتجاه وتقويه: "يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار".

والفقه الإسلامي يبارك هذه النزعة الجماعية بأحكام كثيرة، بعضها يتعلق بالجانب الاجتماعي، وبعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبعضها بالجانب السياسي.

وحسبنا أنه يقدم حق الجماعة على حقوق الأفراد الخاصة، فعندما يغزو العدو أرضا، تنفر الجماعة كلها للمقاومة، فيخرج الابن بغير إذن أبويه، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والمرءوس بغير إذن رئيسه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا حق لفرد أمام حرمات الأمة.

ويذكر الإمام الغزالي هنا مسألة (التترس)، وهو أن يتخذ العدو المحارب بعض المسلمين (تروسا بشرية) يحتمي بهم، ويضعهم في مواجهة الخطر، ويجيز الإمام الغزالي وغيره من الفقهاء التضحية بهؤلاء المتترس بهم إذا كان في الإبقاء عليهم خطر على الجماعة كلها، لأن الإبقاء على الكل أهم من الإبقاء على الجزء.

ومن ثم كان لا بد للفقه المطلوب هنا: أن يراعي مصالح الجماعة المسلمة، ولا يجعل كل همه الاقتصار على حفظ مصالح الأفراد، فالفرد قليل بنفسه كثير بجماعته.

ومن حق الجماعة المسلمة في ديار الغرب ونحوها: أن تكون جماعة قوية متعلمة متماسكة قادرة على أن تؤدي دورها، وتتمسك بدينها، وتحافظ على هويتها، وتنشئ أبناءها وبناتها تنشئة إسلامية حقة، وتبلغ رسالتها إلى من حولها بلسان عصرها.

تبني منهج التيسير

ومن خصائص فقه الأقليات: تبني منهج التيسير ما وجد إليه سبيل، اتباعاً للتوجيه النبوي: حينما بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فأوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا وحلا تنفرا"[1] وروى عنه أنس: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"[2].

ولا شك أن الناس تختلف طبائعهم، فمنهم الميسر بطبعه، ومنهم المشدد، وكل ميسر لما خلق له، وقد عرف تراثنا الفقهي: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس.

والمعروف أن الصحابة – بصفة عامة – كانوا أكثر تيسيرا من تلاميذهم من التابعين، كما أن التابعين كانوا أكثر تيسيرا ممن بعدهم.

فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأحوط، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية (الأحوطيات). وإذا كثرت الأحوطيات وتراكمت كونت ما يشبه الإصر والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليضعها عن الناس {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157).

وإنما اختار الصحابة منهج التيسير والتخفيف، لأنهم وجدوا هذا هو منهج القرآن الكريم، ومنهم هذا الدين الذي شرع الرخص في المرض والسفر، وأجاز تناول المحرمات عند المخمصة والضرورة، وأجاز التيمم لمن لم يجد الماء، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتضمن التخفيف. ولذا عقب القرآن على أحكام آية الطهارة بقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6)، وعقب على آية أحكام الصيام بقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 185)، وعقب على أحكام النكاح بقوله {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} (النساء: 28).

كما وجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تيسيرا، وأشدهم ضد الغلو والتنطع في الدين، فروى عنه ابن مسعود "هلك المتنطعون"[3] قالها ثلاثا، وروى عنه ابن عباس: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"[4].

وأنكر على من مال إلى الغلو في عبادته تقليداً لرهبان النصارى وغيرهم، كما فعل مع عبدالله بن عمرو بن العاص[5]، ومع الغلاة الذين قال أحدهم: أنا أصوم فلا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً[6]... ورد على عثمان بن مظعون إرادته للتبتل[7]، وأنكر على معاذ بن جبل إطالة الصلاة بالناس، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ ثلاثا[8]، وغضب على أبي ابن كعب غضباً شديداً حين بلغه طول صلاته بالناس، وقال: "إن منكم منفرين، من أم الناس فليتجوز"[9].

وأنكر على بعض الصحابة الذين أفتوا رجلا أصابته جراحة – وقد أصابته جنابة – أن يغتسل، فمات من ذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم"[10]!

من هنا تعلم الصحابة التيسير، شربوه من الهدي النبوي.

وينبغي الاستئناس هنا بقول الإمام سفيان بن سعيد الثوري – رضي الله عنه -: إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد[11].

وهذا قول رجل انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات: في الفقه، حيث كان له مذهب متبوع لمدة من الزمن، وفي الحديث، حيث سمي (أمير المؤمنين في الحديث). وفي الورع والزهد، حيث كان من الشيوخ المقتدى بهم في هذا الجانب.

كما يحسن بنا أن نذكر هنا ما كان يذكره الفقهاء المتأخرون في ترجيح بعض الأقوال على بعض، فيقولون: هذا القول أرفق بالناس.

[1] متفق عليه عن أبي موسى، كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1130).

[2] متفق عليه عن أنس، المصدرالسابق (1131).

[3] رواه أحمد ومسلم وأبو داوود عن ابن مسعود. صحيح الجامع الصغير (7039).

[4] رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس صحيح الجامع الصغير (2680).

[5] حين قال له: "إن لبدنك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً". الحديث متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان.

[6] متفق عليه عن أنس، كما اللؤلؤ والمرجان (885).

[7] متفق عليه عن سعد، المصدر السابق (886).

[8] رواه البخاري وغيره.

[9] رواه البخاري وغيره.

[10] رواه أبو داوود عن جابر ورواه أحمد وأبو داوود، والحاكم عن ابن عباس صحيح الجامع الصغير (4362) و (4363).

[11] رواه أبو نعيم في الحلية (6 / 367)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (ج2 ص26) وابن طاهر في السماع ص90، والنووي في مقدمة المجموع (1 / 42).

مراعاة قاعدة (تغير الفتوى بتغير موجباتها)

ومن أعظم ما يقتضي التخفيف والتيسير: أن يكون المستفتي في حالة ضعف، فيراعى ضعفه ويخفف عنه بقدره. ولهذا يخفف عن المريض مالا يخفف عن الصحيح، ويخفف عن المسافر ما لا يخفف عن المقيم، ويخفف عن المعسر ما لا يخفف عن الموسر، ويخفف عن المضطر مالا يخفف عن المختار، ويخفف عن ذي الحاجة مالا يخفف عن المستغني، ويخفف عن ذي العاهة (الأعمى والأعرج) مالا يخفف عن السليم.

ولهذا كله أدلة من نصوص الشرع وقواعده.

والمسلم في المجتمع غير المسلم أضعف من المسلم في داخل المجتمع المسلم، ولهذا كان يحتاج إلى التخفيف والتيسير أكثر من غيره.

وأحسب أنه مما لا يختلف فيه اثنان: أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والعرف، كما قال الإمام ابن القيم الحنبلي، وبينه من قبله الإمام القرافي المالكي، وأكده بعدهم علامة متأخري الحنفية ابن عابدين في رسالته (نشر العرف في بيان أن من الأحكام ما بني على العرف).

ومن ذلك ما روي أن عمر بن عبدالعزيز كان يقضي – وهو أمير في المدينة – بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام، لم يقبل إلا شاهدين، لما رأى من تغير الناس هنالك عما عرفه من أهل المدينة.

وهو القائل كلمته المشهورة: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور". ومن ذلك ما ذكر: أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده – عهد أتباع التابعين – اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه – أبي يوسف ومحمد – منعا ذلك لانتشار الكذب بين الناس[1].

ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان!!

وقد خالف المتأخرون من علماء المذهب الحنفي ما نص عليه أئمتهم، والمتقدمون منهم في مسائل عدة، بناء على تغير الزمان والحال، وألف في ذلك علامة الحنفية المتأخرين الشيخ ابن عابدين في ذلك رسالته الشهيرة "نشر العرف" وذكر في هذه الرسالة: "أن كثيرا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد (إمام المذهب) في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه[2]".

وفي المذهب المالكي نجد ما كتبه العلامة شهاب الدين القرافي في كتابه "الفروق" وكتاب "الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام" منبها على وجوب تغير الحكم إذا كان مبنيا على عادة تغيرت، أو عرف لم يعد قائما.

ومن الأسئلة التي تذكر هنا ما حكي عن الشيخ الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني (المتوفى سنة 386هـ) صاحب "الرسالة" المشهورة في فقه المالكية، والتي شرحها أكثر من واحد من جلة علماء المذهب.

فقد رووا أن حائطا انهدم في داره، وكان يخاف على نفسه من بعض الفئات، فاتخذ كلبا للحراسة، وربطه في الدار، فلما قيل له: إن مالكا يكره ذلك، قال لمن كلمه: لو أدرك مالك زمانك لاتخذ أسدا ضاريا!![3].

وفي كل مذهب نجد مثل هذه المواقف – على تفاوت فيما بينها – مما يدلنا على مقدار السعة والمرونة التي أودعها الله هذه الشريعة، وجعلها بذلك صالحة لكل زمان ومكان.

ولا نزاع أن من أعظم ما يتغير به المكان اختلاف دار الإسلام عن غير دار الإسلام، فهذا الاختلاف أعمق وأوسع من الاختلاف بين المدينة والقرية، أو بين الحضر والبدو، أو بين أهل الشمال وأهل الجنوب.

ذلك أن دار الإسلام – وإن قصر فيها من قصر، وانحرف من انحرف – تعين المسلم على أداء فرائض الإسلام، والانتهاء عن محارم الإسلام. بخلاف دار غير الإسلام، فلا توجد فيها هذه الفضيلة. ولهذا اعتبر الفقهاء، الجهل بالأحكام في دار الإسلام لا يعتبر عذرا لصاحبه، تخفيفا عنه، لتيسر التعلم لمن أراده في دار الإسلام، بخلاف الجهل في غير دار الإسلام، فقد يكون عذرا للجاهل.

[1] انظر: أصول التشريع الإسلامي – للأستاذ علي حسب الله ص84، 85.

[2] مجموعة رسائل ابن عابدين: ج2 ص125.

[3] انظر: شرح العلامة زروق على "الرسالة" ج2 ص414 ط مطبعة الجمالية بمصر.

مراعاة سنة التدرج

وينبغي أن يقوم فقه الأقليات على سنة (التدرج) رعاية لظروفهم واغترابهم عن المجتمع المسلم. والتدرج – كما نعلم – سنة كونية، وسنة شرعية.

أما أنه سنة كونية، فإن الله تعالى قد خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاما، فكسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، هذا في المرحلة الجينية ثم بعد ولادته، يكون طفلا وليدا، فرضيعا، ففطيما، فصبيا، فغلاما، فمراهقا، فبالغا، فشابا، فكهلا، فشيخا... إلخ

وهذا يتم في عالم الحيوان، وعالم النبات أيضا.

كما أنه تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام – الله أعلم بحقيقتها – ولم يخلقها في لحظة واحدة، دلالة على سنة التدرج.

وأما أنه سنة شرعية، فإن الله تعالى شرع أول ما شرع في الإسلام: أسس العقائد، وأصول الفضائل، ثم بدأ يشرع العبادات بالتدرج، وقد شرعت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر، كما روت عائشة – رضي الله عنها -.

والصيام شرع أولا على التخيير {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} (البقرة: 184) ثم جاء الإلزام بالصيام {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 185).

والمحرمات حرمت بالتدرج، كما في قصة الخمر.

فلا مانع أن نتدرج في تعاملنا مع المسلمين إذا كانت لهم ظروف غير مساعدة.

ويحسن بنا أن نضرب المثل هنا بعمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين. فقد كان من الذين رعوا هذه السنة واحتفلوا بها.

فقد جاء هذا الخليفة الراشد بعد انحراف الحكم، وانتشار المظالم، واتخاذ كثير من الأوضاع الفاسدة صورة التقليد المستمر، والنظام المستقر.

وكان على هذا القائد المؤمن أن يواجه هذا الفساد بالإصلاح، وهذا العوج بالتقويم، وأن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام الخلفاء الراشدين.

وشرع بالفعل يرد المظالم ويزيل المفاسد، لا يخاف في الله لومة لائم، ولكن بسياسة عاقلة، ونفس هادئ، وتدرج حكيم، قد يحسبه بعض المتحمسين أو المتسرعين ضربا من التساهل أو التهاون في تطهير الدولة من رواسب الفساد. بل هذا ما حدث فعلا من أقرب الناس إلى عمر بن عبدالعزيز: من ابنه نفسه (عبدالملك بن عمر)، وكان من الشبان الأتقياء الصالحين، ولهذا لم تمكنه ثورة الشباب، ولا حرارة أهل التقوى، أن ينظر من الزاوية التي ينظر منها أبوه. فهذا ابن الجوزي يقص علينا حوارا بين الابن الشاب وأبيه، حيث يريد الابن ألا ينام عن مظلوم حتى يؤتيه حقه، مع كثرة المظلومين حين ذلك.

ولهذا يوقظه من نوم القيلولة ويقول له: ما يؤمنك في نومك وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها؟

ويرد الأب قائلا:

"يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، وإني إن أتعبت نفسي وأعواني لم أك ذاك إلا قليلا، حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي! إن الله جل شأنه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم"[1]! وما أبلغه من رد ينطوي على أعمق الفهم وأوسعه لمنهج الإسلام.

ويذكر الإمام الشاطبي في "الموافقات" موقفا شبيها بذلك، حيث قال الابن يوما لأبيه: مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!

قال عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة: وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة[2].

وكانت له سياسة حكيمة في تنفيذ ما يهدف إليه من التمكين لقيم الدين.

فيقول عمر: والله ما أستطيع أخرج لهم شيئا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا، أستلين به قلوبهم، خوفا أن ينخرق عليّ منهم ما لا طاقة لي به[3].

[1] "سيرة عمر بن عبدالعزيز" لابن الجوزي ص106.

[2] "الموافقات" للشاطبي 2 / 94.

[3] "سيرة عمر بن عبدالعزيز" لابن عبدالحكم ص 60.

الاعتراف بالضرورات والحاجات البشرية

ومما يقوم عليه فقه الأقليات: النظرة الواقعية لمشكلات الناس، لا النظرة المثالية، التي تحلق في أجواء حالمة، لا يستطيع الناس أن يطيروا إليها. وهذه النظرة هي التي تتفق مع خصائص هذه الشريعة، فهي من غير شك شريعة واقعية.

ومن واقعية الشريعة: أنها أقرت بيعة الإمام المفضول مع وجود من هو أفضل منه، منعا للفوضى، وحفظا لمصالح الأمة.

وأمرت بطاعة الأمراء وإن كان فيهم هنات وهنات، صيانة لوحدة الأمة أن تمزق، وحفظا للدماء أن تسفك في غير طائل "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان"، ولم تجز الخروج المسلح على الأمير الجائر أو الفاسق إذا ترتب على ذلك فتنة أكبر من بقائه، ارتكابا لأخف الضررين، وتجنبا لأعلى المفسدتين.

وبهذا أقرت القعود عن إزالة المنكر عليها منكر أكبر منه. والأصل في ذلك حديث عائشة الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم".

أي أنه راعى ظروف أهل مكة وحداثة عهدهم بالإسلام، وقربهم من الشرك، وخشي نفورهم إذا هدم الكعبة وبناها من جديد، فترك ذلك لهذه المقاصد، ومن هذا الباب أقر الفقهاء "إمارة الغلب" وإن كان الأصل في الإمارة هو الرضا، والاختيار بالشورى والبيعة.

ومن كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين" قال:"إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا عن شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض، وولي الأمثل فالأمثل".

ونظير هذا:" لو كان الفسق هو الغالب على أهل البلد وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له، لتعطلت الحقوق وضاعت، قبل شهادة الأمثل فالأمثل".

ونظير هذا:" لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو مال أو عرض وهن منفردات، بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس، قبل شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعا.

ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ويعطل إقامة دينه في مثل هذه الصور أبدا، بل نبه الله على قبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة نزلت ولم ينسخها شيء البتة، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة، ولا اجتمعت الأمة على خلافه ولا يليق بالشريعة سواه، فإن الشريعة شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أثناء تلك العقود شاهدان حران ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: نقبل شهادة النساء، حيث لا رجل، وينفذ حكم الفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عادل عالم، فكيف لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعضهم إذا خلا جمعهم عن مسلم؟[1]

[1] الفواكه العديدة في المسائل المفيدة ج2 ص 182 ص 183 وانظر: كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية) ص 123 – 125.

التحرر من الإلتزام المذهبي

ومن الضروري في فقه الأقليات خاصة – وفي الفقه المعاصر بصفة عامة – ألا يضيق المفتي المسلم على الناس بالتزام مذهب معين، لا يخرج عنه بحال، وإن كان فيه من التضييق على عباد الله ما فيه، وربما كان مأخذه ضعيفا، ودليله غير مُرْضٍ عند التحقيق.

والأولى بالمفتي المعاصر: أن يخرج بالناس من سجن المذهبية الضيقة إلى باحة الشريعة الواسعة، بما فيها المذاهب المتبوعة، والمذاهب المنقرضة، وأقوال الأئمة الذين لم يعرف لهم مذهب يتبع، وهم جد كثيرين. وفوق هؤلاء جميعا، أقوال علماء الصحابة، الذين هم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وهم شيوخ الجميع بلا منازع، وهم الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وربوا في حجر الرسالة، مع فطرة نقية، وأنفس زكية، وقلوب مشرقة بنور الإيمان، وفهم سيلقي للغة العرب، فلا غرو أن يكونوا أقرب ممن بعدهم إلا الاهتداء إلى الحق والصواب، وإن لم يكونوا معصومين، فلا عصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إننا قد نرى بعض المذاهب تشدد في مسألة، على حين يخفف فيها مذهب آخر أو مذاهب أخرى. وبعضها يضيق في قضية غاية التضييق، وغيره يوسع فيها غاية التوسعة، وهذا يعطينا فرصة للموازنة والترجيح، واختيار ما هو أهدى سبيلا، وأرجح دليلا. ومن هذه الأدلة المعتبرة: أن يكون الرأى أو المذهب إلى أدنى تحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، فما قامت الشريعة إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد.

وهنا يلزم الفقيه أو المفتي أو الباحث الشرعي، أن يسبح سبحا طويلا في آفاق الفقه، بمختلف مدارسه ومشاربه، ولا يقف عند الرأي السائد والشائع، فكم من آراء رشيدة مخبوءة في بطون الكتب لا يعلمها إلا القليلون، أو لعلها لا تعلم إلا بالبحث والتفتيش، وكم من آراء مهجورة، تستحق أن تشهر، وآراء ضعفت في زمنها، يجدر بها أن تقوى الآن، وكم من آراء أهيل عليها التراب لأنها لم تجد من ينصرها ويدفع عنها، أو لأنها كانت سابقة لزمنها، فلعلها لم تكن صالحة لذلك الزمن، وهي صالحة لزماننا هذا.

ولعل أبرز مثال لذلك: آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق ونحوه، فقد رفضها أكثر أهل عصره، واتهموه من أجلها بتهم شتى، وحاكمه علماء وقته، ودخل السجن أكثر من مرة من أجل آرائه هذه.

والآن نرى كثيرين من علماء العصر يفتون بها، إذ يرون فيها إنقاذ الأسرة المسلمة من الانهيار بسبب كثرة إيقاع الطلاق، مع حرص الزوجين على بقاء العشرة.

ولو أردت أن أضرب مثلا لذلك في موضوعنا، لوجدت أمثلة شتى.

من ذلك: ما يتعرض له كثير من الذين يهديهم الله للإسلام، فيدخلون في دين الله، من الرجال والنساء، ثم يتوفى آباؤهم أو أمهاتهم، وقد تركوا وراءهم تركات كثيرا ما تكون كبيرة، فهل يسع المسلم والمسلمة أن يرث هذا المال من أبيه أو أمه؟ والقوانين تجعل له الحق في الميراث، وهو وأسرته في حاجة إليه، وإخوانه من المسلمين من حوله في حاجة إليه؟

إن الذي يكتفي بالمذاهب الأربعة المشهورة عند أهل السنة، بل الذي يقرأ المذاهب السبعة أو الثمانية (بزيادة مذهب الجعفرية والزيدية والإباضية والظاهرية) يجد أن اختلاف الدين مانع من موانع الميراث المشهورة، وهم يستندون في ذلك إلى الحديث المشهور "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم[1]" والحديث الآخر: "لا يتوارث أهل ملتين[2]".

ولكن من يبحث خارج المذاهب الأربعة يجد قولا معتبرا بجواز توريث المسلم من الكافر، وهو رأي قال به بعض الصحابة والتابعين، فقد روي عن معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، من الصحابة، كما روي عن محمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسن، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبدالله ابن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه.

وقد رجح هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم – رحمهما الله – وهو ترجيح له وزنه وقيمته في عصرنا[3].

وأول أصحاب هذا القول (الكافر) في حديث "لا يرث المسلم الكافر" أن المراد به (الكافر الحربي) مثل حمل طائفة من العلماء حديث "لا يقتل مسلم بكافر" على الكافر الحربي. قال ابن القيم: وحمله على الحربي هنا أول وأقرب محملا.

ونجد المذاهب الثلاثة تشدد في نجاسة الكلب، في حين يخفف مالك في ذلك، ويرى أن كل حي طاهر، حتى الكلب والخنزير. ويستدل مالك على طهارة الكلب بأن الله تعالى أباح صيده، كما في قوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم} (المائدة: 4).

والقوم في بلاد الغرب مبتلون بالكلاب من حولهم في كل ناحية، فالقول بنجاستها يحرجهم في دينهم، ويضيق عليهم في دنياهم.

ونجد المذاهب الثلاثة تشترط الولي للزواج، وتعتبر العقد باطلا بدونه، ويرى أبو حنيفة أن من حق المرأة البالغة الرشيدة أن تزوج نفسها، بشرط أن يكون الزوج كفئا لها. وهذا كثيرا ما يحتاج إليه في ديار الغرب.

وقد قال الإمام بن قدامة في (المغني) بعد أن رجح اشتراط الولي في عقد النكاح: فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولّي لعقده حاكما، لم يجز نقضه. لأنها مسألة مختلف فيها، يسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم له، كما لو حكم بالشفعة للجار[4].

ومثل ذلك إذا أسلمت الزوجة الكتابية – كالمسيحيات في الغرب – ولم يسلم زوجها معها، فالرأي السائد في المراجع الفقهية للمذاهب الأربعة، بل المذاهب الثمانية: أن الواجب هو التفريق بينها وبين زوجها، إما في الحال، أو بعد انقضاء العدة، أو بعد أن يعرض الإسلام على الزوج فيأبى.

وهذا هو الذي يفتي به عامة العلماء في عصرنا في أوروبا وغيرها، وهو لا شك يحدث مشكلة إذا كانت المرأة متعلقة بزوجها، ولم يسيء إليها، ولم يضق بإسلامها، وخصوصا إذا كان لها منه أولاد وذرية ضعاف.

فإذا خرجنا عن دائرة المذاهب المتبوعة، ورجعنا إلى الفقه العام، وإلى آثار الصحابة وتابعيهم بإحسان، رأينا في الأمر سعة، لم نكن نتصورها، فقد ذكر المحقق ابن القيم في المسألة (تسعة أقوال) وردت عن علماء الصحابة والتابعين، نقلتها المصادر الموثقة مثل مصنف عبدالرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وشرح الآثار للطحاوي، وسنن البيهقي، وأمثالها.

منها: ما يجعل للزوجة حق البقاء مع زوجها دون أن يعاشرها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم.

ومنها: ما يخيرها بين تركه والإقامة معه.

ومنها: ما يقرها على الإقامة معه، ما لم تخرج من مصرها.

ومنها: ما يبقي نكاحهما على ما هو عليه، حتى يفرق بينهما سلطان[5].

وفي هذه الأقوال متسع ليختار منه الفقيه المعاصر ما يراه أرجح وأهدى، وأقرب إلى ترغيب النساء المتزوجات في الدخول في الإسلام، دون أن يخشين فراق من يحببن من الأزواج. وكذلك لا يخشين تشتيت الأولاد، بعد الفراق بين الأم والأبز

وفي هذا كله من التيسير ما فيه، فلماذا نعسر ما يسره الله علينا، ونضيق على أنفسنا – بالتزام مذهب أو مذاهب معينة – وقد وسع الله لنا، وهو يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر.

والحق أنه لا يلزمنا شيء إلا ما ألزمنا به الله ورسوله، وهما لم يلزمانا باتباع فلان أوعلان من الناس، إن عظمت منزلته في العلم والاجتهاد.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

[1] رواه الجماعة عن أسامة، كما في صحيح الجامع الصغير (7685).

[2] رواه الترمذي عن جابر، والنسائي والحاكم عن أسامة. المصدر السابق (7613).

[3] انظر: أحكام الذمة بتحقيق د. صبحي الصالح – نشر جامعة دمشق ج1.

[4] انظر: المغني لابن قدامة (9 / 346، 347) تحقيق: د. عبدالله بن عبد المحسن التركي ود. عبدالله الفتاح محمد الحلو.

[5] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم ج1 ص 317 وما بعدها.

نماذج تطبيقية في العقائد والعبادات

هل يجوز التقريب بين الأديان؟

ما مدى إمكانية التقريب بين الأديان (الإسلام والنصرانية مثلاً) وهل الدعوة لمثل ذلك جائز؟ سمعنا أن بعض شيوخ الأزهر ساهموا في ذلك.

من س. ف. عبدالرحمن (عن طريق البريد الإلكتروني):

ج: الحمد لله

التقريب بين الأديان كلمة تطلق، ويراد بها أكثر من معنى، أو مفهوم. بعضها مرفوض، أو يجب أن يرفض، وبعضها مقبول، أو لا بأس أن يقبل.

المفهوم المرفوض للتقريب:

فأما المعنى أو المفهوم المرفوض للتقريب بين الأديان، فهو الذي يقصد به: إذابة الفوارق الجوهرية بين الأديان المختلفة بعضها وبعض، كما بين (التوحيد) في الإسلام (التثليث) في النصرانية، وما بين (التنزيه) في العقيدة الإسلامية (التشبيه في العقيدة اليهودية).

ومن نتائج ذلك: اختلاف النظرة إلى المسيح عليه الصلاة والسلام بين المسلمين والنصارى، فالنصارى – على اختلاف فرقهم ومذاهبهم – يعتبرون المسيح إلهاً أو ابن إله، أو ثلث إله، أو عضواً في شركة ثلاثية من الآلهة: الأب والابن وروح القدس.

والمسلمون ينظرون إلى المسيح بوصفه رسولا من أولي العزم من الرسل، أنزل الله عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة للمتقين، وآتاه البينات، وأيده بروح القدس، وعلمه الكتاب والحكمة، ومنحه من الآيات الكونية والمعجزات الحسية مالم يؤت غيره من الرسل، وذكر القرآن هنا من الآيات ما لم يذكر في الإنجيل، مثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، ومثل المائدة التي أنزلت من السماء، وسميت باسمها (سورة المائدة).

ولكن المسيح – مع هذا – بشر رسول، وعبد رسول، دعا الناس إلى عبادة الله، لا إلى عبادة نفسه.

كما قال الله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون} (النساء: 172).

وقال سبحانه: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} (المائدة: 75)، ومن ضرورة أكل الطعام: الإفراز، فكيف يكون مثله إلهاً؟!

ومن هنا خاطب القرآن النصارى بقوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} (النساء: 171).

كما أن من الفوارق الأساسية بين المسلمين وأهل الكتاب: أن كتاب المسلمين (القرآن) محفوظ من كل تغيير وتبديل، بضمان الله تعالى ووعده الذي لا يخلف: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 09)، ولا عجب أن يحفظه عشرات الألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى أن الأعاجم ليحفظونه ما يخرمون منه حرفاً، وأكثرهم لا يعرفون معنى كلمة مما يحفظونه.

بخلاف التوراة والإنجيل اللذين قامت الأدلة على وقوع التحريف فيهما بالحذف والزيادة والتغيير، وهذا لم يقله علماء المسلمين وحدهم، بل قاله كثيرون في عصرنا الحديث من علماء الغرب أنفسهم، من يهود ونصارى على اختلاف نحلهم.

وهذا التحريف قد أدى إلى تغيير صفات الألوهية في التوراة التي يؤمن بها الفريقان: اليهود والنصارى جميعاً – حيث وصف الإله بما لا يليق بكماله: من الجهل والعجز والحسد والندم، كما يتجلى ذلك في (سفر التكوين) من أسفار التوراة الخمسة، وهذا فارق جوهري بيننا وبين القوم من يهود ومسيحيين: فنحن نصف الله تعالى بكل كمال، وننزهه عن كل نقص، وهم لا يبالون أن يصفوا الله بنقائص البشر.

وأدى هذا التحريف لذلك إلى تغيير سورة (النبوة الهادية)، فوصف الأنبياء الكرام، والرسل العظام بما لا يليق بكمالهم البشري، حيث هيأهم الله تعالى ليحملوا رسالته وهدايته إلى البشر: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: 124).

ولهذا نؤمن نحن المسلمين بعقيدة (عصمة الأنبياء) من الخطايا والرذائل التي تنافي تكليفهم هداية البشر، وتنفر الناس منهم، وتجعلهم عرضة للانتقاد: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44).

فلا يجوز التقريب بين الأديان بمحاولة مفتعلة وممجوجة لتذويب الفوارق الجوهرية فيما بينها، فلا نحن نقبل هذا، ولا هم يقبلونه.

ولهذا نرى أن كل دعوة تقوم على أساس التنازل عن أمر من الأمور الجوهرية في الدين، سواء أكانت في العقائد أم في العبادات، أم في أمر الحلال والحرام ونحوه من أمور التشريع الأساسية للفرد أو للأسرة أو للمجتمع، إنما هي دعوة مرفوضة شرعاً.

المفهوم المقبول للتقريب:

وأما المفهوم المقبول للتقريب بين الأديان – وخصوصاً السماوية منها، فيراد به التقريب بين أصحاب الأديان في ضوء الحقائق التالية:

الحوار بالتي هي أحسن:

1- الحوار بالحسنى، فنحن المسلمين – مأمورون – من ربنا وبنص قرآننا – بجدال المخالفين بالتي هي أحسن. وهذا الجدال أو الحوار بالتي هي أحسن هو إحدى وسائل الدعوة التي أمر بها القرآن في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 125). فالموافقون لك في الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أي بما يقنع العقول، وما يحرك القلوب والعواطف... والمخالفون يجادلون بالتي هي أحسن. بمعنى أنه لو كانت هناك طريقتان للحوار: طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها وأجود، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التي هي أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة، ولم يرضَ مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.

وقد نص القرآن على ذلك في خصوص أهل الكتاب، فقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (العنكبوت: 46).

ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)، لأنها تفهم خطأ والتركيز على القواسم المشتركة.

التركيز على القواسم المشتركة:

2- التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب، ولهذا جاء في تتمة الآية السابقة في مجادلة أهل الكتاب: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت: 46).

ففي مجال التقريب والحوار بالتي هي أحسن: ينبغي ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التميز والاختلاف.

وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله.

وهذا فهم خاطئ للموقف الإسلامي من القوم. فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية؟ مقتضى هذا: أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب؟ وهؤلاء جميعاً لهم حقوق ذوي الرحم وأولي القربى.

ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس – وهم مجوس يعبدون النار – على الروم، وهم نصارى أهل الكتاب؟ حتى أنزل الله قرآنا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون في المستقبل القريب {ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله} (الروم: 4، 5) كما جاء في أول سورة الروم.

وهذا يدل على أن أهل الكتاب – وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم – أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين.

التعاون لمواجهة الإلحاد والإباحية:

3- الوقوف معاً لمواجهة أعداء الإيمان الديني، ودعاة الإلحاد في العقيدة والإباحية في السلوك، من أنصار المادية، ودعاة العري، والتحلل الجنسي والإجهاض والشذوذ الجنسي، وزواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.

فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب في جبهة واحدة، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من أنق الإنسانية إلى درك الحيوانية: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} (الفرقان:43، 44).

وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والفاتيكان يقفون في (مؤتمر السكان) في القاهرة سنة 1994م، وفي مؤتمر المرأة في بكين سنة 1995م في صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية.

مناصرة قضايا العدل والشعوب المستضعفة:

4- الوقوف معاً لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين في العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا، وكشمير، واضطهاد السود والملونين في أمريكا وفي غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عباداً لهم.

فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أي شعب، ومن أي جنس، ومن أي دين.

والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه في الجاهلية، وكان حلفاً لنصرة المظلومين، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم.

وقال عليه الصلاة والسلام: "لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت"[1].

إشاعة روح التسامح لا التعصب:

5- ومما ينبغي أن تتضمنه هذه الدعوة: إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل بين أهل الأديان، لا روح التعصب والقسوة والعنف.

فقد خاطب الله تعالى رسوله محمداً بقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).

وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه "إنما أنا رحمة مهداة"[2].

وذم بني إسرائيل بقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} (المائدة: 13)، وفي موضع آخر قال في مخاطبتهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة: 74).

وقال لزوجه عائشة: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"[3] "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه" "إن الله يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"[4].

ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق في معاملة أهل الكتاب: ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر في فكر المسلم وضميره.

1- أنه يعتقد أن اختلاف البشر في أديانهم: واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته. كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: 118، 119). أي خلقهم ليختلفوا ما دام قد منحهم العقل وحرية الإرادة.

2- أن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس في هذه الدنيا، ولكن في الآخرة، وليس موكولاً إلينا ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير. كما قال تعالى لرسوله: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} (الشورى: 15).

3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان. وفي هذا روى البخاري عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفاً، فقالوا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: "أليست نفساً؟" بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل!!

4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 08)، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدي الحق لأهله، مسلماً أو غير مسلم، صديقاً أم عدواً.

[1] رواه ابن إسحاق في السيرة كما في ابن هشام (1 / 29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله: فذكره، قلت: وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل. ولكن له شواهد تقوية، فرواه الحميدي بإسناد آخر مرسلا أيضاً كما في (البداية 2 / 29). وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655، 1676) من حديث عبدالرحمن بن عوف مرفوعاً دون قوله "ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" وسنده صحيح.

[2] الحاكم: عن أبي هريرة 1 / 35 صححه الحاكم ووافقه الذهبي، تفسير ابن كثير 3 / 201، 202.

[3] متفق عليه: اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400).

[4] الدارمي: عن عبدالله بن مغفل (2796).

صلاة الجمعة قبل الزوال وبعد العصر

س: ما حكم صلاة الجمعة قبل الزوال، أو بعد دخول وقت العصر، وذلك لضيق الوقت لاستيعاب الخطبة والصلاة في وقت الظهر في بعض البلاد في فترة الشتاء خاصة، أو لعدم وجود فرصة لأداء الجمعة بسبب الدراسة أو العمل إلا في وقت مبكر على الوقت أو متأخر عنه؟

ج: جمهور الفقهاء على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر: أي من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله عدا فيء الزوال، فلا يجوز تقديمها على هذا الوقت أو تأخيرها عنه.

توسعة الحنابلة في أول الوقت:

ولكن الحنابلة وسعوا في وقتها من الأول والبداية، فجعل بعضهم وقتها وقت صلاة العيد،أي من ارتفاع الشمس بنحو عشر دقائق أو ربع ساعة، إلى أن ينتهي وقت الظهر، وبعضهم جعل وقتها من (الساعة السادسة)، وهي الساعة التي تسبق الزوال، ولهم، في ذلك أدلة من الحديث النبوي، ومن عمل الصحابة.

قال في (المبدع): وأول وقتها: وقت صلاة العيد، نص عليه (أي أحمد) وقاله القاضي وأصحابه، لقول عبدالله بن سيدان: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحداًعاب ذلك ولا أنكره" رواه الدارقطني وأحمد وقال الإمام ابن قدامة في (المغني) في شرح قول الخرقي: "وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة، أجزأتهم".

(والساعة السادسة هي الساعة التي تسبق الزوال، فإن كان وقت الظهر فقط من الساعة الثانية عشر ظهراً، فالساعة السادسة تبدأ من الساعة الحادية عشرة).

قال ابن قدامة: وفي بعض النسخ، في الساعة الخامسة. والصحيح في الساعة السادسة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة. وروي عن ابن مسعود، وجابر وسعيد ومعاوية، أنهم صلوها قبل الزوال. وقال القاضي وأصحابه: يجوز فعلها في وقت صلاة العيد. وروى ذلك عبدالله (ابن الإمام أحمد) عن أبيه: نذهب إلى أنها كصلاة العيد.

وقال مجاهد: ما كان للناس عيد إلا في أول النهار.

وقال عطاء: كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة، والأضحى، والفطر،لما روي عن ابن مسعود، أنه قال: ما كان عيد إلا في أول النهار، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الجمعة في ظل الحطيم[1]. رواه ابن البختري في (أماليه) بإسناده.

وروي عن ابن مسعود، ومعاوية، أنهما صليا الجمعة ضحى، وقالا: إنما عجلنا خشية الحر عليكم.

وروى الأثرم حديث ابن مسعود.

ولأنها عيد، فجازت في وقت العيد، كالفطر والأضحى.

والدليل على أنها عيد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين"[2]. وقوله: "قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان"[3].

وقال أكثر أهل العلم: وقتها وقت الظهر، إلا أنه يستحب تعجيلها في أول وقتها، لقول سلمة بن الأكوع: "كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء". متفق عليه.

وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخاري، ولأنهما صلاتا وقت، فكان وقتهما واحداً، كالمقصورة والتامة، ولأن إحداهما بدل عن الأخرى، وقائمة مقامها، فأشبها الأصل المذكور، ولأن آخر وقتهما واحد، فكان أوله واحداً، كصلاة الحضر والسفر.

وقال ابن قدامة: ولنا على جوازها في السادسة السُّنة والإجماع، أما السُّنة فما روى جابر بن عبدالله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي: - يعني الجمعة – ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس. أخرجه مسلم.

وعن سهل بن سعد، قال: ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. قال ابن قتيبة: لا يسمى غداء، ولا قائلة، بعد الزوال.وعن سلمة، قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان فيء نستظل به. رواه أبو داوود.

وأما الإجماع، فروى الإمام أحمد، عن وكيع، عن جعفر بن برقان... وذكر حديث عبدالله بن سيدان الذي ذكرناه، وفيه: فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. قال: وكذلك روي عن ابن مسعود، وجابر وسعيد ومعاوية، أنهم صلوا قبل الزوال، وأحاديثهم تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته، ولا خلاف في جوازه، وأنه الأفضل والأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال، ولا تنافي بينهما.

وأما في أول النهار، فالصحيح أنها لا تجوز، لما ذكره أكثر أهل العلم، ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل، من نص، أو ما يقوم مَقامه، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه، أنهم صلوها في أول النهار، ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر، وإنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا من الدليل، وهو مختص بالساعة السادسة، فلم يجز تقديمها عليها، والله أعلم.

ولأنها لو صليت في أول النهار لفاتت أكثر المصلين، لأن العادة اجتماعهم لها عند الزوال، وإنما يأتيها ضحى آحاد من الناس، وعدد يسير، كما روي عن ابن مسعود، أنه أتى الجمعة، فوجد أربعة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد[4] اهـ.

ويرد على هذا بأنها حين يتفق على وقتها في بلد ما، ويعلن عنه، لا تفوت أحداً، ولا تشق على أحد، لأنهم سيسعون إليها في الوقت المناسب لها.

على أنا لا نجيز أداءها في أول النهار إلا للضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فيقتصر عليها، وتقدر بقدرها.

توسعة المالكية في آخر الوقت:

وأما المالكية، فقد وسعوا في وقت الجمعة من جهة الآخر والنهاية، فقد أجاز بعضهم أن يستمر وقتها إلى الغروب أو ما قبل الغروب بقليل اختلف في تحديده.

فقال ابن القاسم: قبل الغروب بقدر الخطبة والجمعة وجملة العصر.وبعضهم قال: إلى اصفرار الشمس. إلخ[5].

وعلى ضوء هذا يمكننا الاستفادة من هذه الرخصة في المذهبين: الحنبلي والمالكي، إذا وجدنا المسلمين في حاجة إليهما، حتى لا تضيع على المسلمين الجمعة خارج دار الإسلام، وهي من الأمور المهمة التي يجب أن يحرص عليها المسلمون، ويتشبثوا بها، لما فيها من تقوية الروابط، وتوثيق الصلة بالدين وشعائره، وتذكير المسلمين إذا نسوا، وتقويتهم إذا ضعفوا، وتأكيد هويتهم، وتثبيت أخوتهم.

فإذا استطعنا أن يصلي المسلمون الجمعة في الوقت المتفق عليه، وهو بعد الزوال إلى العصر، فهو الأولى والأحوط، والواجب على قادة المسلمين الفكريين والعمليين: أن يحرصوا دائماً على الخروج من المختلف فيه إلى المتفق عليه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

أما إذا تعارض ذلك مع ظروف المسلمين في بعض البلدان أو في بعض الأوقات، أو في بعض الأحوال، فلا حرج في الأخذ بالمذهب الحنبلي في التبكير بالصلاة قبل الزوال، ولو في وقت صلاة العيد عند الضرورة، فإن للضرورات أحكامها.

وكذلك في الأخذ بالمذهب المالكي بجواز تأخير الصلاة إلى ما بعد العصر، تقديراً للحاجة، وتحقيقاً لهذه المصلحة الدينية.

على أن يعلن ذلك على المسلمين ويعرفوه، ويتفقوا عليه، حتى يجتمعوا عليه، ويؤدوا فريضتهم الأسبوعية، كما أمر الله تعالى ورسوله.

[1] الحطيم بمكة: هو ما بين المقام إلى الباب، أو ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر. معجم البلدان 290/2.

[2] أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة، من كتاب إقامة الصلاة. سنن ابن ماجه 349/1، والإمام مالك، في: باب ما جاء في السواك، من كتاب الطهارة. الموطأ 65/1 مرسلاً.

[3] رواه أبو داوود في الصلاة عن أبي هريرة: (1073) وابن ماجه: (1311).

[4] انظر: المغني لابن قدامة بتحقيق د. عبدالله التركي، ود. عبدالفتاح الحلو.

[5] انظر: الذخيرة للقرافي ج 232, 231/2.

الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في الصيف

س: ما حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في فترة الصيف، إما لشدة تأخر وقت العشاء في بعض الدول حتى يصل إلى منتصف الليل أو يتعدى، وإما لإنعدام العلامة الشرعية لوقت العشاء؟

جـ: الصلاة فريضة لها مواقيتها المحددة، كما قال تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" ]النساء: 103[.

وقد عرفت مواقيت الصلوات الخمس بالسنة النبوية العملية، وتواترت بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

فكل صلاة من الصلوات الخمس لها وقتها المعين، الذي لا يجوز أداؤها قبله بحال، ولا يجوز تأخرها عنه إلا لعذر، وإلا كان من أخرها آثماً.

ولكن من يسر هذا الدين وواقعيته: أن شرع الجمع بين الصلاتين: في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، تقديماً وتأخيراً، لبعض الأسباب، منها: السفر، كما ثبت ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: الجمع للمطر، ومثله: الوحل، وأشد منه: الثلج، وكذلك الريح الشديدة، ونحو ذلك من عوارض المناخ والطبيعة، التي يترتب عليها الحرج وشدة المشقة إذا صليت كل صلاة في وقتها.

ومنها: الجمع للحاجة والعذر، في غير سفر ولا خوف ولا مطر، بل لرفع الحرج والمشقة عن الأمة، كما في حديث ابن عباس الآتي بعد.

ومن إعجاز هذا الدين: أن يجد المسلم في نصوصه ما يتسع لحوادث الأزمنة، ومستجدات العصور، التي لم يكن يعرفها الناس ولا يتوقعونها في أزمانهم.

نجد هذا فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الظهر والعصر جمعا، والمغرب والعشاء جمعا، في غير خوف ولا سفر.

وفي رواية: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم – بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، بالمدينة، من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته.

وفي رواية عبدالله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر، حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة! الصلاة! قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر،ولا ينثني: الصلاة! الصلاة! فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبدالله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته، فصدق مقالته[1].

وهذا التعليل من حبر الأمة ابن عباس، يعني: أنه أراد أن يوسع على الأمة وييسر عليها، ولا يوقعها في الحرج والضيق، فما جعل الله في هذا الدين من حرج، بل يريد الله بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.

والحديث واضح صريح على مشروعية الجمع للحاجة، وقد رواه أيضاً أبو داوود والنسائي والترمذي في سننهم.

وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في (معالم السنن): هذا الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء...

وكان ابن المنذر يقول[2]: ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث، وسمعت أبا بكر القفال يحكيه عن أبي إسحاق المروزي.

قال ابن المنذر: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه، وهو قوله: "أراد ألا تحرج أمته".

وحكي عن ابن سيرين: أنه كان لا يرى بأساً: أن يجمع بين الصلاتين، إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة[3]. انتهى.

وكذلك نقل ابن قدامة في (المغني) عن ابن شبرمة أنه قال ما قاله ابن سيرين[4].

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقاً، لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به: ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أهل الحديث[5] انتهى.

وعلى كل حال عندنا حديث صحيح لا مطعن في صحته، رواه ابن عباس وأقره عليه أبو هريرة، وطبقه ابن عباس عملياً، واستشهد به في الرد على من أنكروا عليه تأخير صلاة المغرب، وقد علله بما علله به، وهذا كله يفيدنا في الجواب عن السؤال المعروض علينا، وهو جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في أوروبا في فترة الصيف حين يشتد تأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل أو بعده، والناس يطالبون بالذهاب إلى أعمالهم في الصباح الباكر، فكيف نكلفهم السهر لأداء العشاء في وقتها، وفي ذلك حرج وتضييق عليهم، وهو مرفوع عن الأمة بنص القرآن، وبما قاله راوي حديث الجمع بين الصلاتين في الحضر: ابن عباس – رضي الله عنهما – بل يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضاً، لقصر النهار جداً، وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم، إلا بمشقة وحرج، وهو مرفوع عن الأمة.

[1] انظر: صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر. حديث (705) برواياته: 49، 50، 51، 54، 56، 57.

[2] أظن هنا لفظة ساقطة، وهي كلمة (به) كما يدل عليه السياق ودفاع ابن المنذر عن الحديث.

[3] انظر: مختصر سنن أبي داوود للمنذري مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم: ج 55/2 طبعة السنة المحمدية – القاهرة.

[4] انظر: المغني 137/3، وأخشى أن تكون لفظة (ابن شبرمة) محرفة عن ابن سيرين!.

[5] انظر: فتح الباري: وتحفة الأحوذي: 558/1 شرح الحديث (187).

بناء المراكز الإسلامية من أموال الزكاة

فضيلة الشيخ / د. يوسف القرضاوي... "حفظه الله"

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!

وبعد:

نرجو من فضيلتكم إفتاءنا في أمر بالغ الأهمية لنا ولجميع المسلمينفي أمريكا وبلاد الغرب عموماً، ويمس قضية بناء المراكز الإسلامية والمساجد في الغرب، والتي تمس بدورها حياة المسلمين هنا مسّاً مباشراً.

تحتاج الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، والطلاب الذين يدرسون هناك مؤقتاً، يحتاجون إلى مركز إسلامي في مدينتهم حاجة كبيرة، فوجوده أمر لا غنى عنه وله دور كبير في الحفاظ على دين الجاليات والطلاب.

والسؤال المهم الذي يطرح دائماً خلال عملية جمع التبرعات، والتي هي المصدر الرئيسي لتمويل تلك المشروعات هو:

هل يجوز إنفاق مال الزكاة في بناء مركز إسلامي في بلاد الغرب؟

إذ إن كثيراً من المتبرعين يشترط هذا الأمر للتبرع، كما أن القائمين على المشروع يتحرجون من قبول مال الزكاة لعدم تيقنهم من جواز إنفاقه في هذا المصرف.

فهل ترون فضيلتكم أن هذا مصرف من مصارف الزكاة؟ علماً بأن المركز يحتوي مسجداً – قاعة للصلاة – وقد يحتوي مكتبة، وقاعة صلاة للنساء، ومسكنا للإمام الراتب، وبعض المرافق الأخرى مع العلم أيضاً أن المالك القانوني لمعظم المراكز في أمريكا هو "الوقف الإسلامي في أمريكا الشمالية NAIT" التابعة "للإتحاد الإسلامي في أمريكا الشمالية، وكلاهما من الهيئات الإسلامية الموثوق بها أمانة وكفاءة".

نرجو من فضيلتكم التكرم بالرد على استفتائنا هذا، خاصة ونحن الآن في أوج جمع التبرعات لبناء مركزنا، ولا بد لنا من جمع مبلغ كبير من المال للبدء بالبناء وإلا سوف – لا سمح الله – نخسر موافقة البلدية ومعها مبالغ كبيرة وجهوداً غالية بذلت لإنجاح هذا المشروع.

وفقكم الله وحفظكم ونفع بكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ابنكم هـ. ع.

رئيس المركز

جـ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد وصلتني رسالتكم الكريمة حول بناء مركز إسلامي في مدينة "توسان" بأمريكا ومدى جواز الإنفاق عليه من مال الزكاة.

ونظراً لأهمية الموضوع وخطورة الوضع في مدينتكم خاصة، سارعت بالكتابة إليكم،برغم ضيق وقتي وكثرة مشاغلي.

وأود أن أبين هنا: أن من مصارف الزكاة التي نص عليها القرآن الكريم: مصرف "في سبيل الله".

وقد اختلف الفقهاء في تفسير سبيل الله، فمنهم من قصره على "الجهاد" لأنه المتبادر عند إطلاق الكلمة، وهذا هو رأي الجمهور.

ومنهم من جعله يشمل كل طاعة أو مصلحة للمسلمين... ويدخل في ذلك بناء المساجد والمدارس والقناطر وتكفين الموتى من الفقراء، وغير ذلك من كل ما هو قربة أو مصلحة.

والذي أراه أن مصرف "في سبيل الله" يتسع – على الرأيين جميعاً – لينفق منه على إنشاء مراكز إسلامية للدعوة والتوجيه والتعليم في البلاد التي يهدد فيها وجود المسلمين بالغزو التنصيري أو الشيوعي أو العلماني، أو غير ذلك من الملل والنحل، التي تعمل على سلخ المسلمين من عقيدتهم أو تضليلهم عن حقيقة دينهم، وذلك مثل وضع المسلمين خارج العالم الإسلامي، حيث يكونون أقلية محدودة الإمكانات في مواجهة الكثرة صاحبة النفوذ والسلطان والمال.

وأما على الرأي الآخر، فلا شك أن إنشاء هذه المراكز هو ضرب من الجهاد الإسلامي في عصرنا، وهو الجهاد باللسان والقلم والدعوة والتربية... وهو جهاد لا يستغني عنه اليوم لمقاومة الغزو المكثف من قبل القوى المعادية للإسلام.

وكما أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فكذلك من دعا وعلم ووجه لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

إن المركز الإسلامي اليوم بمثابة قلعة للدفاع عن الإسلام، وإنما لكل امرئ ما نوى ويتأكد هذا الأمر بصفة خاصة في مدينة "توسان" حيث يوجد مركز "رشاد خليفة" الذي أنكر بعض آيات القرآن الكريم، وأنكر السنة المطهرة إنكاراً كلياً، وترتب على ذلك إنكار الصلاة المعلومة من الدين بالضرورة، والتي اعتبرها صلاة حابطة وسماها "صلاة المشركين".

ثم ختم هذا الضلال بفرية كبرى، وهي ادعاء أنه "رسول الله"!!.

فلا بد من مركز للحق يقاوم الباطل، ومن قلعة للإسلام في مواجهة الكفر المدعوم من الداخل والخارج.

"ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" ]محمد: 38[.

سدد الله خطاكم، وأعانكم على إحقاق الحق، وإبطال الباطل ولو كره المجرمون.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!

دفن المسلم في مقبرة النصارى

س: ما حكم دفن الميت المسلم في مقابر النصارى، لعدم وجود مقبرة للمسلمين، أو مع وجود مقبرة للمسلمين، لكنها بعيدة عن أهل الميت، بحيث لا يتيسر لهم الزيارة لميتهم بسهولة كلما أرادوا؟

جـ: هناك أحكام شرعية مقررة تتعلق بشأن المسلم إذا مات، مثل تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ومن ذلك دفنه في مقابر المسلمين. ذلك: أن للمسلمين طريقة في الدفن واتخاذ المقابر، من حيث البساطة والاتجاه إلى القبلة، والبعد عن مشابهة المشركين والمترفين وأمثالهم.

ومن المعروف: أن أهل كل دين، لهم مقابرهم الخاصة بهم، فاليهود لهم مقابرهم، والنصارى لهم مقابرهم، والوثنيون لهم مقابرهم، فلا عجب أن يكون للمسلمين مقابرهم أيضاً. وعلى كل مجموعة إسلامية في البلاد غير الإسلامية أن تسعى – بالتضامن فيما بينها – إلى اتخاذ مقبرة خاصة منفصلة للمسلمين، وتجتهد في إقناع المسئولين بذلك، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

فإذا لم يستطع المسلمون الحصول على مقبرة خاصة مستقلة، فلا أقل من أن يكون للمسلمين رقعة خاصة في طرف من أطراف مقبرة النصارى، يدفنون فيها موتاهم.

فإذا لم يتيسر هذا ولا ذاك للمسلمين، ومات لهم ميت، فليعملوا على نقله – إن تيسر لهم – إلى مدينة أخرى فيها مقابر للمسلمين، وإلا فليدفنوه في مقابر النصارى، حسب استطاعتهم، وفقاً لأحكام الضرورة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولن يضير المسلم الصالح إذا مات أن يدفن في مقابر غير المسلمين في مثل هذه الحال، فإن الذي ينفع المسلم في آخرته هو سعيه وعمله الصالح، وليس موضع دفنه "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" ]النجم: 39[.

بقي أن أقول للأخ السائل بأن بعد المقبرة عن أهل الميت لا يسوّغ دفن الميت في مقبرة غير المسلمين، فإن دفن المسلم في مقبرة المسلمين فريضة كما يبدو من إجماع العلماء على ذلك، وزيارة الميت نافلة، ولا يجوز أن تضيع فريضة من أجل نافلة.

كما أحب أن أبين هنا أن الأصل في زيارة المقابر إنما شرعت أساساً لمصلحة الزائر، للعبرة والاتعاظ، كما جاء في الحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة"[1].

أما الميت فيستطيع المسلم أن يدعو له ويستغفر له، ويصله الثواب بفضل الله تعالى في أي مكان كان الداعي والمستغفر له.

[1] رواه أحمد والحاكم عن أنس. صحيح الجامع الصغير (4584).

ترك الأضحية في أوروبا لانتشار الأمراض الوبائية في البقر والغنم

سماحة شيخنا القرضاوي حفظه الله:

س: تعلمون ما تناولته وكالات الأبناء، وما أصبح معلوماً للخاص والعام من انتشار الأوبئة الفتاكة في المواشي في أوروبا، من جنون البقر، إلى الحمى القلاعية في الغنم وغيرها، مما جعل الكثيرين يحذرون من تناول هذه اللحوم، وينصحون المسلمين – بمناسبة قدوم عيد الأضحى – بالاستغناء عن الأضاحي في هذا العام، خوفا من الإصابة بالأمراض.

فهل يسعنا – نحن المسلمين في أوروبا – ترك هذه الشعيرة أو هذه السنة الإسلامية؟ أو ماذا تنصحوننا أن نفعل إزاء هذه الأزمة الطارئة، حتى لا تفوتنا فضيلة الأضحية.

وجزاكم الله خيراً

إخوة من بريطانيا

جـ: الحمد لله

شرع الإسلام الأضحية في العيد ليوسع الناس على أنفسهم وأقاربهم وجيرانهم وعلى أهل الفقر والعوز منهم، ولكن إذا ثبت أن في الحيوانات التي سيضحى بها أمراض يمكن أن تؤذي الإنسان إذا أكلها، أو تنقل إليه العدوى منها، أو غير ذلك من الأضرار الظاهرة أو الخفية، الحاضرة أو المستقبلة، فإن القاعدة الشرعية المقررة بإجماع الأمة: أن لا ضرر ولا ضرار، أي لا يجوز للمرء أن يضر نفسه، أو يضار غيره. وهي قاعدة مقطوع بها، لأنها مأخوذة من القرآن والسنة.

وقد قال تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" ]النساء: 29[.

وقال جل شأنه: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ]البقرة: 195[.

ولهذا شرع الرخص والتخفيفات، حفاظا على سلامة الإنسان وصحة بدنه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لبدنك عليك حقاً" متفق عليه.

ولهذا حرم علماء الأمة كل ما يضر تناوله بالإنسان من مأكول أو مشروب أو ملبوس، أو غير ذلك – حماية للنفس البشرية ومحافظة على حياتها وسلامتها، وهذه إحدى الضروريات الخمس، التي اتفقت على رعايتها كل الأديان.

ومن هنا نقول: إذا ثبت أن في تناول لحوم البقر أو الإبل أو الغنم أضرارا على الإنسان، فحرام عليه تناولها في الأضحية وفي غيرها، لأن نفسه وحياته وديعة من الله لديه، فلا يحل له التفريط في حقوقها، أو إيذاؤها بغير حق.

وفي الأضحية يكون الترك أوجب، لأنه يعطي منها غيره من الجيران والأحباب، ومن الفقراء والمساكين، فالضرر ليس مقصورا عليه، بل هو ضرر متعدّ إلى غيره، فتكون الحرمة أوكد.

وهذا كله إذا ثبت أن هذه اللحوم تضر بالإنسان، ويرجع إلى أهل الذكر والاختصاص في ذلك، كما قال تعالى: "فاسئل به خيراً" ]الفرقان: 59[، "ولا ينبئك مثل خبير"]فاطر: 14[ فقد ذكر المختصون من العلماء: أن الحمى القلاعية تهلك الحيوان، ولكنها لا تضر الإنسان.

فإذا ثبت الضرر في لحوم نوع من الأضاحي، فيمكن للمسلم أن ينتقل إلى غيره،فإذا ثبت في البقر، تركها وضحى بالغنم، أو بالإبل، إن تيسر له ذلك، فإذا ثبت الضر في جميعها في بلد ما، فإن المسلم يستطيع أن يقيم هذه الشعيرة في أي بلد آخر يوكل عنه من يذبح عنه، ويدفع له ثمن الأضحية، وهذا ما تقوم به الجمعيات الخيرية في بلاد شتى. بل قد يستطيع المسلم أن يشتري عدة أضاح في بعض البلاد الفقيرة، بثمن الأضحية الواحدة في بلده، وفي هذا فائدة كبيرة للمسلمين الفقراء في تلك البلاد، فنعم البديل هذا. والله أعلم.

نماذج تطبيقية في فقه الأسرة

بطلان زواج المسلمة من شيوعي

س: تقدم إلى خطبة ابنتي شاب عرفت من تاريخه أنه شيوعي، ولا زال مصراً على شيوعيته، فهل يجوز لي شرعاً أن أزوجه ابنتي، نظراً لأنه – من الناحية الرسمية – يدين بالإسلام وأسرته مسلمة،ويحمل اسماً إسلامياً، أم يجب عليّ أن أرفضه، لفساد عقيدته؟ أفتونا في هذا، ولكم الشكر.

ع. ل.

جـ: من الواجب علينا – قبل إجابتنا عن هذا السؤال – أن نقدم نبذة موجزة عن موقف الشيوعية من الدين، لكي يكون المستفتى على بصيرة من الأمر. الشيوعية مذهب مادي، لا يعترف إلا بكل ما هو مادي محس، ويجحد كل ما وراء المادة، فلا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالروح، ولا يؤمن بالوحي، ولا يؤمن بالآخرة، ولا يؤمن بأي نوع من أنواع الغيب، وبهذا ينكر الأديان جملة وتفصيلاً، ويعتبرها خرافة من بقايا الجهل والانحطاط والاستغلال، وفي هذا قال مؤسس الشيوعية "كارل ماركس" كلمته المعروفة: الدين أفيون الشعوب، وأنكر على الذين قالوا: إن الله خلق الكون والإنسان فقال متهكماً ما قاله الماديون الملحدون من قبل: إن الله لم يخلق الإنسان، بل العكس هو الصواب، فإن الإنسان هو الذي خلق الله. أي اخترعه بوهمه وخياله.

وقال لينين: إن حزبنا الثوري لا يمكن أن يقف موقفاً سلبياً من الدين، فالدين خرافة وجهل.

وقال ستالين: نحن ملحدون، ونحن نؤمن أن فكرة "الله" خرافة، ونحن نؤمن بأن الإيمان بالدين يعرقل تقدمنا، ونحن لا نريد أن نجعل الدين مسيطراً علينا لأننا لا نريد أن نكون سكارى.

هذا هو رأي الشيوعية وزعمائها في الدين، ولهذا لم يكن غريباً أن نرى دستور الحزب الشيوعي ودستور الشيوعية الدولية يفرضان عل كل عضو في الحركة الشيوعية أن يكون ملحداً، وأن يقوم بدعاية ضد الدين. ويطرد الحزب من عضويته كل فرد يمارس شعائر الدين، وكذلك تنهي الدولة الشيوعية خدمات كل موظف يتجه هذا الاتجاه.

ولو صح جدلاً أن شيوعياً أخذ من الشيوعية جانبها الاجتماعي والاقتصادي فقط، دون أساسها الفكري العقائدي – كما خيل للبعض وغير واقع ولا معقول – لكان هذا كافياً في المروق من الإسلام والارتداد عنه،لأن للإسلام تعاليم محكمة واضحة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية ينكرها النظام الشيوعي إنكاراً، كالملكية الفردية والميراث والزكاة، وعلاقة الرجل بالمرأة.... إلخ... وهذه الأحكام مما علم بالضرورة أنه من دين الإسلام، وإنكاره كفر بإجماع المسلمين.

هذا إلى أن الشيوعية مذهب مترابط، لا يمكن الفصل بين نظامه العملي وأساسه العقائدي والفلسفي بحال.

وإذا كان الإسلام لم يجز للمسلمة أن تتزوج بأحد من أهل الكتاب – نصراني أو يهودي – مع أن الكتابي مؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر في الجملة، فكيف يجيز أن تتزوج رجلاً لا يدين بألوهية ولا نبوة ولا قيامة ولا حساب؟

إن الشيوعي الذي عرفت شيوعيته يعتبر في حكم الإسلام مارقاً مرتداً زنديقاً، فلا يجوز بحال أن يقبل أب مسلم زواجه من ابنته، ولا أن تقبل فتاة مسلمة زواجها منه، وهي ترضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماماً.

وإذا كان متزوجاً من مسلمة وجب أن يفرق بينه وبينها، وأن يحال بينه وبين أولاده، حتى لا يضلهم، ويفسد عليهم دينهم.

وإذا مات هذا مصراً على مذهبه فليس بجائز أن يغسل، أو يصلى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين.

وبالجملة يجب أن تطبق عليه في الدنيا أحكام المرتدين والزنادقة في شريعة الإسلام، وما ينتظره من عقاب الله في الآخرة أشد وأخزى "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" ]البقرة: 217.

زواج المسلم بغير المسلمة

س: هذا موضوع أرجو أن يتسع وقتكم لتحريره وتحقيقه، وهو موضوع الزواج من غير المسلمات. وأعني بالذات "الكتابيات" مسيحيات أو يهوديات – ممن نعتبرهم نحن المسلمين "أهل كتاب" ولهم حكم خاص يميزهم عن غيرهم من الوثنيين وأمثالهم.

وقد رأيت ورأى الكثيرون غيري مفاسد جمة من وراء هذا النوع من الزواج، وخصوصاً على الأولاد من هذه الزوجة، التي كثيراً ما تصبغ البيت كله بصبغتها، وتربي الأبناء والبنات على طريقتها، والزوج لا يقدم ولا يؤخر، فهو في الأسرة مثل "شرابة الخرج" كما يقول العامة.

وقد سألت بعض العلماء في ذلك فقال: إن القرآن أباح الزواج من نساء أهل الكتاب وليس لنا أن نحرم ما أحل الله تعالى.

ولما كان اعتقادي أن الإسلام لا يبيح ما فيه ضرر أو مفسدة كتبت إليكم مستوضحاً رأيكم في هذه القضية، لما علمته من نظرتكم الشاملة إلى مثل هذه القضايا، ومعالجتها في ضوء النصوص الأصلية للشريعة، وفي ضوء مقاصدها ومبادئها العامة وأصولها الكلية.

أرجو أن تهملوا الرد على هذه الرسالة بالرغم مما أعلم من مشاغلكم والله معكم ويسدد خطاكم.

م. ش.

جـ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

فقد قدر لي أن أزور عدداً من أقطار أوروبا وأمريكا الشمالية، وأن ألتقي بعدد من أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يُعلّمون هناك، ويقيمون بتلك الديار إقامة مؤقتة أو مستقرة.

وكان مما سأل عنه الكثيرون: حكم الشرع في زواج الرجل المسلم من غير المسلمة وبخاصة المسيحية أو اليهودية، التي يعترف الإسلام بأصل دينها، ويسمي المؤمنين به "أهل الكتاب" ويجعل لهم من الحقوق والحرمات ما ليس لغيرهم. ولبيان الحكم الشرعي في هذه القضية، يلزمنا أن نبين أصناف غير المسلمات وموقف الشريعة من كل منها. فهناك المشركة، وهناك الملحدة، وهناك المرتدة،وهناك الكتابية.

تحريم الزواج من المشركة:

فأما المشركة – والمراد بها: الوثنية – فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم. قال تعالى: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" ]البقرة: 221[، وقال تعالى: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" وسياق الآية والسورة كلها – سورة الممتحنة – وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات: أعني الوثنيات.

والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض. ولهذا علل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: "أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه"، ولا تلاقي بين من يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة.

أيها المنكح الثريا سهيلاً

عمرك الله كيف يلتقيان؟!

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يمان

وهذا الحكم – منع الزواج من المشركات الوثنيات – ثابت بالنص، وبالإجماع أيضاً، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وغيره.

بطلان الزواج من الملحدة:

وأعني بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم، لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أنداداً أو آلهة أخرى اتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا.

وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولّن الله" ]لقمان: 25[، "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" ]الزمر: 03[.

فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حرم نكاحها تحريماً باتاً، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين؟

إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقيناً.

وأبرز مثل لها:الشيوعية التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيراً مادياً، على أنها إفراز المجتمع، ومن آثار مايسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.

وإنما قلت: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، لأن بعض المسلمين والمسلماتقد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يخدع به حين يعرضه بعض دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان...إلخ. فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات.

المرتدة:

ومثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله ونعني بالمرتدة والمرتد كل من كفر بعد إيمانه كفراً مُخرجاً من الملة، سواء دخل في دين آخر أم لم يدخل في دين قط.

وسواء كان الدين الذي انتقل إليه كتابياً أم غير كتابي. فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات، أو خرج من الإسلام ولم يدخل في شيء، بل ظل سائباً بلا دين ولا مذهب.

والإسلام لا يُكره أحداً على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المُكره ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجز له الخروج عنه.

وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة وبعضها بالدنيا.

فمما يتعلق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدمه من عمل صالح واستحق الخلود في النار، قال تعالى: "من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" ]البقرة: 217[.

ومن أحكام الدنيا: أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاء، فمن تزوج مرتدة فنكاحه باطل،وإذا ارتدت بعد الزواج فرق بينهما حتما، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلاً كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرأة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية.

ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الحكم بالردة والكفر على مسلم هو غاية العقوبة. لهذا وجب التحري والاحتياط فيه، ما وجد إليه سبيل، حملاً لحال المسلم على الصلاح. وتحسيناً للظن به، والأصل هو الإسلام، فلا يخرج منه إلا بأمر قطعي، واليقين لا يزال بالشك.

بطلان الزواج من البهائية:

والزواج من امرأة بهائية باطل، وذلك لأن البهائية إما مسلمة في الأصل، تركت دين الله الحنيف إلى هذا الدين المصطنع، فهي في هذه الحال مرتدة بيقين، وقد عرفنا حكم الزواج من المرتدة.

وسواء ارتدت بنفسها أم ارتدت تبعاً لأسرتها، أو ورثت هذه الردة عن أبيها أو جدها، فإن حكم الردة لا تفارقها.

وإما أن تكون غير مسلمة الأصل، بأن كانت مسيحية أو يهودية أو وثنية أو غيرها، فحكمها حكم المشركة، إذ لا يعترف الإسلام بأصل دينها، وسماوية كتابها، إذ من المعلوم بالضرورة أن كل نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم مرفوضة، وكل كتاب بعد القرآن باطل، وكل من زعم أنه صاحب دين جديد بعد الإسلام فهو دجال مفتر على الله تعالى. فقد ختم الله النبوة، وأكمل الدين، وأتم النعمة: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" ]آل عمران: 85[.

وإذا كان زواج المسلم من بهائية باطلاً بلا شك، فإن زواج المسلمة من رجل بهائي باطل من باب أولى، إذ لم تجز الشريعة للمسلمة أن تتزوج الكتابي، فكيف بمن لا كتاب له؟

ولهذا لا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم وبهائية أو بين مسلمة وبهائي، لا ابتداء ولا بقاء. وهو زواج باطل، ويجب التفريق بينهما حتماً.

وهذا ما جرت عليه المحاكم الشرعية في مصر في أكثر من واقعة.

وللأستاذ المستشار علي علي منصور حكم في قضية من هذا النوع قضى فيه بالتفريق، بناء على حيثيات شرعية فقهية موثقة، وقد نشر في رسالة مستقلة، فجزاه الله خيراً.

رأي جمهور المسلمين إباحة الزواج من الكتابية:

الأصل في الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين هو الإباحة. فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم في آية واحدة من سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، قال تعالى: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان" ]المائدة: 05[.

رأي ابن عمر وبعض المجتهدين:

وخالف في ذلك من الصحابة عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – فلم ير الزواج من الكتابية مباحاً، فقد روى عنه البخاري: أنه كان إذا سُئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، (يعني قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول: "ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله"!).

ومن العلماء من يحمل قول ابن عمر على كراهية الزواج من الكتابية لا التحريم ولكن العبارات المروية عنه تدل على ما هو أكثر من الكراهية.

وقد أخذ جماعة من الشيعة الإمامية بما ذهب إليه ابن عمر استدلالاً بعموم قوله تعالى في سورة البقرة: "ولا تنكحوا المشركات" ]البقرة: 221[ وبقوله في سورة الممتحنة: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" ]الممتحنة: 10[.

ترجيح رأي الجمهور:

والحق أن رأي الجمهور هو الصحيح، لوضوح آية المائدة في الدلالة على الزواج من الكتابيات. وهي من آخر ما نزل كما جاء في الحديث.

وأما قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات" وقوله: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فإما أن يقال: هذا عام خصصته سورة المائدة، أو يقال: إن كلمة "المشركات" لا تتناول أهل الكتاب أصلاً في لغة القرآن، ولهذا يعطف أحدهما على الآخر كما في سورة البقرة: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين..." ]البينة: 01[، "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها..." ]البينة: 06[.

وفي سورة الحج يقول تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة..." ]الحج: 17[ فجعل الذين أشركوا صنفاً متميزاً عن باقي الأصناف، ويعني بهم الوثنيين... والمراد بـ "الكوافر" في آية الممتحنة: المشركات، كما يدل على ذلك سياق السورة.

قيود يجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية:

وإذن يكون الراجح ما بيناه من أن الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية، ترغيباً لها في الإسلام، وتقريباً بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيعاً لدائرة التسامح والألفة وحسن العشرة بين الفريقين.

ولكن هذا الأصل معتبر بعدة قيود، يجب ألا نغفلها:

القيد الأول:

الاستيثاق من كونها "كتابية" بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة – في الجملة – بالله ورسالاته والدار الآخرة. وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.

ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلاً مسيحية. ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة. فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساساً في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.

القيد الثاني:

أن تكون عفيفة محصنة فإن الله لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب" قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان" ]النساء: 25[. وهذا ما أختاره. فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوج من فتاة تسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات.

وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأى الجمهور، وقال "وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشفّاً وسوء كيله !"[1].

وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلاً سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات؟ فإن كان ولا بد فاعلاً: فليعمد إليها حصاناً (أي مصحنة) غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.

ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبرشيئاً نادراً بل شاذاً، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تُعيّر من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.

القيد الثالث:

ألا تكون من قوم يعادون المسلمون ويحاربونهم. ولهذا فرق جماعة من الفقهاء بين الذمية والحربية. فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية. وقد جاء هذا عن ابن عباس فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا. ثم قرأ: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية..." ]التوبة: 29[. فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.

وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي – أحد فقهاء الكوفة وأئمتها - فأعجبه[2]. وفي مصنف عبدالرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد. وعن علي – رضي الله عنه – بنحوه.

وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد.

وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب. قال الشارح في "الروض النضير": والمراد بالكراهة: التحريم، لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين. قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرموه، لعموم قوله تعالى: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" ]المائدة: 05[ فغلبوا الكتاب على الدار[3]. يعني: دار الإسلام. والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.

ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجاحته لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" ]الفرقان:54[. فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلاً عن أن تكون زوجة وربة داره وأم أولاد منهم؟ وكيف يؤمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟

ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس، محتجاً له بقوله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله" ]المجادلة: 22[ والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" ]الروم: 21[.

قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظوراً، لأن قوله تعالى: "يوادون من حاد الله ورسوله" إنما يقع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدنا[4].

يؤيد ذلك قوله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" ]الممتحنة: 09[.

وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءا من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة؟

وبناء على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود... وكل امرأة يهودية إنما هي جندية – بروحها – في جيش إسرائيل.

القيد الرابع:

ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح، فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضرراً عاماً، منعت منعاً عاماً، أو ضرراً خاصاً منعت منعاً خاصاً، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".

وهذا الحديث يمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع، لأنه – وإن كان بلفظه حديث آحاد – مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمة من القرآن والسنة، تفيد اليقين والقطع.

ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضرراً معيناً.

والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة منها:

1- أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالباً ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعاً من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال.

فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيحرمن من الزواج، ولا سيما أن تعدد الزواج في عصرنا أصبح أمراً نادراً، بل شاذاً، ومن المقرر المعلوم بالضرورة أن المسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلماً، فلا حل لهذه المعادلة إلا سد باب الزواج من غير المسلمات إذا خيف على المسلمات.

وإذا كان المسلمون في بلد ما، يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وإفريقيا، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة ألا يجد بنات المسلمين – أو عدد كبير منهن – رجلاً مسلماً يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث:

أ‌- إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام.
ب‌- وإما الإنحراف، والسير في طريق الرذيلة. وهذا من كبائر الإثم.
ت‌- وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.

وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام. وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم.

هذا الضرر الذي نبهنا عليه هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – فيما رواه الإمام محمد بن الحسن – في كتابه "الآثار، حين بلغه أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان تزوج – وهو بالمدائن – امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفي بذلك فتنة لنساء المسلمين"[5].

2- وقد ذكر الإمام سعيد بن منصور في سننه قصة زواج حذيفة هذه، ولكنه ذكر تعليلاً آخر لمنع عمر لحذيفة. فبعد أن نفى حرمة هذا الزواج قال: "ولكني خشيت أن تعاطوا المومسات منهن"[6].

ولا مانع أن يكون كل من العلتين مقصوداً لعمر – رضي الله عنه -.

فهو يخشى من ناحية – كساد سوق الفتيات المسلمات،أو كثير منهن. وفي ذلك فتنة أي فتنة.

ومن ناحية أخرى يخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان – العفاف – الذي قيد به القرآن حل الزواج منهن، حتى يتعاطوا زواج الفاجرات والمومسات،وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تمنع قبل وقوعها، عملاً بسد الذرائع. ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يعزم على طلحة بن عبيدالله إلا طلق امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود، كما في مصنف عبدالرزاق[7].

3- إن الزواج من غير المسلمة إذا كانت أجنبية غريبة عن الوطن واللغة والثقافة والتقاليد – مثل زواج العربي والشرقي من الأوروبيات والأمريكيات النصرانيات – يمثل خطراً آخر يحس به كل من يدرس هذه الظاهرة بعمق وإنصاف، بل يراه مجسداً مائلاً للعيان. فكثيراً ما يذهب بعض أبناء العرب المسلمين إلى أوروبا وأمريكا للدراسةفي جامعاتها، أو للتدريب في مصانعها، أو للعمل في مؤسساتها، وقد يمتد به الزمن هناك إلى سنوات ثم يعود أحدهم يصحب زوجة أجنبية، دينها غير دينه، ولغتها غير لغته، وجنسها غير جنسه، وتقاليدها غير تقاليده، ومفاهيمها غير مفاهيمه، أو على الأقل غير تقاليد قومه ومفاهيمهم، فإذا رضيت أن تعيش في وطنه – وكثيراً ما لا ترضى – وقدر لأحد من أبويه أو إخوانه أو أقاربه، أن يزوره في بيته، وجد نفسه غريباً. فالبيت بمادياته ومعنوياته أمريكي الطابع أو أوروبي في كل شيء، وهو بيت "المدام" وليس بيت صاحبنا العربي المسلم، هي القوامة عليه، وليس هو القوام عليها. ويعود أهل الرجل إلى قريتهم أو مدينتهم بالأسى والمرارة، وقد أحسوا بأنهم فقدوا ابنهم وهو على قيد الحياة!!.

وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يشبون – غالباً – على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، ألصق بها، وأعمق تأثراً بها، وخصوصاً إذا ولدوا في أرضها وبين قومها هي، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها. وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسماً وصورة، لا حقيقة وفعلاً ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينياً وقومياً إن لم نخسر آباءهم أيضاً.

وهذا الصنف أهون شراً من صنف آخر يتزوج الأجنبية، ثم يستقر ويبقى معها في وطنها وبين قومها، بحيث يندمج فيهم شيئاً فشيئاً، ولا يكاد يذكر دينه وأهله ووطنه وأمته. أما أولاده فهم ينشئون أوروبيين أو أمريكيين، إن لم يكن في الوجوه والأسماء، ففي الفكر والخلق والسلوك، وربما في الاعتقاد أيضاً، وربما فقدوا الوجه والاسم كذلك، فلم يبق لهم شيء يذكرهم بأنهم انحدروا من أصول عربية أو إسلامية.

ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيراً من الدول تحرم على سفرائها، وكذلك ضباط جيشها، أن يتزوجوا أجنبيات، بناء على مصالح واعتبارات وطنية وقومية.

تنبيه مهم:

وفي ختام هذا البحث، أرى لزاماً عليّ – في ضوء الظروف والملابسات التي تتغير الفتوى بتغيرها – أن أنبه على أمر لا يغيب عن ذوي البصائر، وهو في نظري على غاية من الأهمية، وهو:

إن الإسلام حين رخص في الزواج من الكتابيات راعى أمرين:

1- أن الكتابية ذات دين سماوي في الأصل، فهي تشترك مع المسلم في الإيمان وبرسالاته، وبالدار الآخرة وبالقيم الأخلاقية، والمثل الروحية التي توارثتها الإنسانية عن النبوات، وذلك في الجملة لا في التفصيل طبعاً. وهذا يجعل المسافة بينها وبين الإسلام قريبة، لأنه يعترف بأصل دينه، ويقر بأصوله في الجملة، ويزيد عليها ويتممها بكل نافع وجديد.

2- إن المرأة الكتابية – وهذا شأنها – إذا عاشت في ظل زوج مسلم ملتزم بالإسلام، وتحت سلطان مجتمع مسلم مستمسك بشرائع الإسلام – تصبح في دور المتأثر لا المؤثر والقابل لا الفاعل – فالمتوقع منها والمرجو لها أن تدخل في الإسلام اعتقاداً وعملاً. فإذل لم تدخل في عقيدة الإسلام – وهذا حقها إذ لا إكراه في الدين – اعتقاداً وعملاً. فإنها تدخل في الإسلام من حيث هو تقاليد وآداب اجتماعية. ومعنى هذا أنها تذوب داخل المجتمع الإسلامي سلوكياً، إن لم تذب فيه عقائدياً.

وبهذا لا يخشى منها أن تؤثر على الزوج أو على الأولاد، لأن سلطان المجتمع الإسلامي من حولها أقوى وأعظم من أي محاولة منها لو حدثت.

كما أن قوة الزوج عادة في تلك الأعصار، وغيرته على دينه، واعتزازه به اعتزازاً لا حد له، وحرصه على حسن تنشئة أولاده، وسلامة عقيدتهم، يفقد الزوجة القدرة على أن تؤثر في الأولاد تأثيراً يتنافى مع خط الإسلام.

أما في عصرنا، فيجب أن نعترف بشجاعة وصراحة: إن سلطان الرجل على المرأة المثقفة قد ضعف، وإن شخصية المرأة قد قويت، وبخاصة المرأة الغربية، وهذا ما وضحناه فيما سبق.

أما سلطان المجتمع المسلم فأين هو؟ إن المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقاً وحضارة شاملة، غير موجود اليوم.

وإذا كان المجتمع المسلم غير موجود بالصورة المنشودة، فيجب أن تبقى الأسرة المسلمة موجودة، على أن تعوض بعض النقص الناتج عن غياب المجتمع الإسلامي الكامل.

فإذا فرطنا في الأسرة هي الأخرى، فأصبحت تتكون من أم غير مسلمة، وأب لا يبالي ما يصنع أبناؤه وبناته، ولا ما تصنع زوجته، فقل على الإسلام وأهله السلام!

ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا ينبغي أن يمنع سداً للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد. ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحة، وهو يقدر بقدرها.

ولا ننسى هنا أن نذكر أنه مهما ترخص المترخصون في الزواج من غير المسلمة، فإن مما لا خلاف عليه، أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عديدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة. بل كلما توافقا فكرياً ومذهبياً كان أفضل.

وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".

[1] تفسير ابن كثير جـ 2 ص 20 ط. الحلبي.

[2] تفسير الطبري جـ 9، ص788 بتحقيق شاكر.

[3] الروض النضير (274-270/4).

[4] أحكام القرآن (2 ص 397، 398).

[5] انظر كتابنا: شريعة الإسلام: خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان ص 39 ط. أولى.

[6] المصدر السابق ص40، وكذلك ذكره الطبري، جـ4، ص366، 367، ط. المعارف: وتكلم عنه ابن كثير، جـ 1، ص 257 وصحح إسناده. وهناك علة ثالثة ذكرها عبد الرزاق في "المصنف" عن سعيد بن المسيب عن عمر: أنه عزم عليه أن يفارقها، خشية أن يقيس الناس المجوسية على الكتابية ويتزوجوا المجوس اقتداء بحذيفة، جاهلين الرخصة التي كانت من الله في الكتابيات خاصة. وانظر المصنف، جـ 7، ص178.

[7] المصنف (178 – 177/7).

إسلام المرأة دون زوجها هل يفرق بينهما؟

س: من الملاحظ في الغرب أن النساء أكثر إقبالاً على الدخول في الإسلام من الرجال، وهي ظاهرة معروفة، فإذا كانت المرأة غير متزوجة، فلا إشكال، إلا من حيث حاجتها إلى الزواج من رجل مسلم.

ولكن الإشكال يكمن فيما إذا كانت المرأة متزوجة ودخلت في الإسلام قبل زوجها، أو دون زوجها، وهي تحبه وهو يحبها، وبينهما عشرة طيبة طويلة، وربما كان بينهما أولاد وذرية. ماذا تفعل المرأة هنا وهي حريصة على الإسلام، وفي الوقت نفسه حريصة على زوجها وأولادها وبيتها؟

إن عامة المفتين هنا يفتونها بوجوب فراقها لزوجها بمجرد إسلامها أو بعد انقضاء عدتها منه على الأكثر. وهذا يشق على المسلمة الحديثة العهد بالإسلام أن تفعله، فتضحي بزوجها وأسرتها.

وبعضهن يرغبن في الدخول في الإسلام بالفعل، ولكن عقبة فراق الزوج تقف في طريق إسلامها.

هل من حل شرعي لهذه المشكلة العويصة في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة؟ أفيدونا أفادكم الله، وجزاكم عن الإسلام وأهله خيراً.

جـ: الحمد لله، والصلاة والسلام على إمامنا وحبيبنا وأسوتنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه (أما بعد):

فقد كنت لسنوات طويلة أفتي بما يفتي به هؤلاء العلماء الذين ذكرهم السائل في سؤاله. وهو أن المرأة إذا أسلمت يجب أن تفارق زوجها في الحال أو بعد انتهاء عدتها، لأن الإسلام فرق بينهما، ولا بقاء لمسلمة في عصمة كافر. وكما لا يجوز لها أن تتزوج غير المسلم ابتداء، فكذلك لا يجوز لها الاستمرار معه بقاء.

هذا هو الرأي السائد والمشهور والمتعالم عند الناس عامة، والعلماء خاصة.

وأذكر منذ نحو ربع قرن. كنا في أمريكا، وفي مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين هناك، وعرضت قضية من هذا النوع، وكان الدكتور حسن الترابي حاضراً، فلم ير بأساً بأن تبقى المرأة إذا أسلمت مع زوجها الذي لم يسلم، وثارت عليه ثائرة، ورد عليه عدد من الحاضرين من علماء الشريعة، وكنت منهم، وقد كان عمدة الرادين عليه: أنه خرج على الإجماع المقطوع به، المتصل بعمل الأمة.

تسعة أقوال ذكرها ابن القيم في المسألة:

ثم إن المسلم يظل يطلب العلم من المهد إلى اللحد، وليس هناك أحد أحاط بالعلم كله. وقد قال الله لرسوله: "وقل رب زدني علماً" ]طه: 114[، وقال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" ]الإسراء: 85[.

ولا غرو أن اطللعت على ما ذكره الإمام ابن القيم في هذه المسألة المهمة، وذلك في كتابه (أحكام أهل الذمة) فقد ذكر – رحمه الله – فيها تسعة أقوال، لصحابة وأئمة وعلماء معتبرين، ذكرها كلها، واختار سادسها، وهو اختيار شيخة شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً.

ذكر العلامة ابن القيم المسألة ثم قال: اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً.

القول الأول: انفساخ النكاح بمجرد إسلامها:

قالت طائفة: متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه، سواء كانت كتابية أو غير كتابية، وسواء أسلم بعدها بطرفة عين أو أكثر، ولا سبيل له عليها إلا بأن يسلما معاً في آن واحد، فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها ساعة إسلامه ولو أسلمت بعده بطرفة عين[1]. هذا قول جماعة من التابعين وجماعة من أهل الظاهر، وحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عباس وحماد بن زيد والحكم بن عيينة وسعيد بن جبير وعمر بن عبدالعزيز والحسن البصري وعدي بن عدي وقتادة والشعبي.

قال ابن القيم: قلت: وحكاية ذلك عن عمر بن الخطاب غلط عليه، أو يكون رواية عنه، فسنذكر من آثار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد وغيره: فهذا قول.

القول الثاني: الإنفساخ إذا أبى الزوج الإسلام:

وقال أبو حنيفة: أيهما أسلم قبل الآخر، فإن كان في دار الإسلام عرض الإسلام على الذي لم يسلم، فإن أسلم بقيا على نكاحهما، وإن أبى فحينئذ تقع الفرقة. ولا تراعى العدة في ذلك، فهذا قول ثان.

القول الثالث: انفساخ النكاح عند انقضاء عدة المدخول بها:

وقال مالك: إن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة، وإن كان بعده، فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه، فإن أسلم هو ولم تسلم هي عُرض عليها الإسلام، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما، وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها، سواء كان قبل الدخول أو بعده، فهذا قول ثالث.

القول الرابع: عكس القول الثالث:

وقال ابن شبرمة عكس هذا، وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين، وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته، وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة، فهذا قول رابع.

القول الخامس: اعتبار العدة لكل من الرجل والمرأة:

وقال الأوزاعي والزهري والليث والإمام أحمد والشافعي وإسحاق: إذا سبق أحدهما بالإسلام فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان بعده فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما، وإن انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح، فهذا قول خامس.

القول السادس: تنتظر المرأة وتتربص، ولو مكثت سنين إن اختارت ذلك:

وقال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين عن عبدالله بن يزيد الخطمي: أن نصرانياً أسلمت امرأته، فخيرها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه. (وعبدالله بن يزيد الخطمي هذا له صحبة).

قال ابن القيم: وليس معناه أنها تقيم تحته وهو نصراني، بل تنتظر وتتربص، فمتى أسلم فهي امرأته، ولو مكثت سنين: فهذا قول سادس، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة، وعليه تدل السنة كما سيأتي بيانه، وهو اختيار شيخ الإسلام (ابن تيمية).

القول السابع: هو أحق بها ما لم تخرج من مصدرها:

وقال حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: إن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما: هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها. وقال سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي عن علي: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها: فهذا قول سابع.

القول الثامن: هما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان:

وقال ابن أبي شيبة: حدثنا معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري: إن أسلمت ولم يسلم زوجها، فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان: فهذا قول ثامن.

القول التاسع: تقر عنده ويمنع من وطئها:

وقال داوود بن علي: إذا أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تَقَرُّ عنده، ولكن يُمنعُ من وطئها. وقال شعبة: حدثنا حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي في ذمية أسلمت تحت ذمي، فقال: تقر عنده. وبه أفتى حماد بن أبي سليمان.

قلت (والقائل ابن القيم): ومرادهم أن العصمة باقية، فتجب لها النفقة والسكنى، ولكن لا سبيل له إلى وطئها، كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواء، فهذا قول تاسع.

تحقيق ابن القيم في المسألة:

قال ابن القيم: ونحن نذكر مآخذ هذه المذاهب وما في تلك المآخذ من قوي وضعيف وما هو الأولى بالصواب.

فأما أصحاب القول الأول – وهم الذين يوقعون الفرقة بمجرد الإسلام – فلا نعلم أحداً من الصحابة قال به البتة. وما حكاه أبو محمد بن حزم عن عمر وجابر وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثار رويت عنهم مطلقة، ونحن نذكرها. قال شعبة: أخبرني أبو اسحاق الشيباني قال: سمعت يزيد بن علقمة يقول: إن جده وجدته كانا نصرانيين، فأسلمت جدته، ففرق عمر بن الخطاب بينهما. وليس في هذا دليل على تعجيل الفرقة مطلقاً بنفس الإسلام، فلعله لم يكن يدخل بها، أو لعله فرق بعد انقضاء العدة، أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه، أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باق حتى يفسخ السلطان.

وقد روي عن عمر في هذا آثار يظن أنها متعارضة، ولا تعارض بينها، بل هي موافقة للسنة، فمنها هذا، ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خيّر المرأة، إن شاءت أقامت عليه، وإن شاءت فارقته. ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن علقمة أن عبادة بن النعمان التغلبي، كان ناكحاً امرأة من بني تميم، فأسلمت، فقال له عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: إما أن تسلم وإما أن ننزعها منك، فأبى فنزعها عمر – رضي الله عنه – وقد تمسك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني، فإن أبى فرق بينهما. (وهو القول الثاني: قول أبي حنيفة).

قال ابن القيم: وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارض بينها، فإن النكاح بالإسلام يصير جائزاص بعد أن كان لازماً، فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة، ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ولو مكثت سنين. كل هذا جائز لا محذور فيه، والنكاح له ثلاثة أحوال:

حال لزوم، و حال تحريم وفسخ ليس إلا، كمن أسلم وتحته من لا يجوز ابتداء العقد عليها، وحال جواز ووقف، وهي مرتبة بين المرتبتين لا يحكم فيها بلزوم النكاح ولا بانقطاعه بالكلية. وفي هذه الحال تكون الزوجة بائنة من وجه دون وجه. ولما قدم أبو العاص بن الربيع المدينة في زمن الهدنة، وهو مشرك، سألت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ينزل في دارها؟ فقال: "إن زوجك، ولكن لا يصل إليك".

فالنكاح في هذه المدة لا يحكم ببطلانه، ولا بلزومه وبقائه من كل وجه، ولهذا خير أمير المؤمنين المرأة تارة، وفرق تارة، وعرض الإسلام على الثاني تارة، فلما أبى فرق بينهما. ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأته أسلم أحدهما قبل الآخر أصلاً، ولا في موضع واحد.

قال مالك: قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان بن أمية وامرأته بنت الوليد ابن المغيرة نحو من شهر، أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد "حنيناً" و "الطائف" وهو كافر، ثم أسلم، فلم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح.

قال ابن عبد البر: وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده.

وقال الزهري: أسلمت أم حكيم يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن فارتحلت حتى قدمت عليه اليمن، فدعته إلى الإسلام، وقدم فبايع النبي صلى الله عليه وسلم، فثبتا على نكاحهما.

وقال ابن شبرمة: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما.

وأسلم أبو سفيان عام الفتح قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ولم تسلم امرأته هند حتى فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فثبتا على نكاحهما.

وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن أمية فلقيا النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح "بالأبواء" فأسلما قبل نسائهما.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته على أبي العاص (زوجها الذي تأخر إسلامه) بالنكاح الأول بعد ست سنين. قال أبو داوود حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن داوود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شيئا. وفي لفظ له: بعد ست سنين، وفي لفظ: بعد سنتين.

قال شيخ الإسلام (ابن تيمية): هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث، والذي روى أنه جدد النكاح ضعيف.

قال: وكذلك كانت المرأة تسلم، ثم يسلم زوجها بعدها، والنكاح بحاله، مثل أم الفضل امرأة العباس بن عبدالمطلب، فإنها أسلمت قبل العباس بمدة. قال عبدالله بن عباس: كنت أنا وأمي ممن عذر الله بقوله: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" ]النساء: 98[.

ولما فتح النبي مكة أسلم نساء الطلقاء[2]، وتأخر إسلام جماعة منهم، مثل صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، الشهرين والثلاثة وأكثر، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فرقّا بين ما قبل انقضاء العدة وما بعدها، وقد أفتى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بأنها ترد إليه وإن طال الزمان. وعكرمة بن أبي جهل قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بعد رجوعه من حصار الطائف وقسم غنائم حنين في ذي القعدة، وكان فتح مكة في رمضان، فهذا نحو ثلاثة أشهر يمكن انقضاء العدة فيها وفيما دونها، فأبقاه على نكاحه ولم يسأل امرأته: هل انقضت عدتك أم لا؟ ولا سأل عن امرأة واحدة، مع أن كثيرا منهن أسلم بعد مدة يجوز انقضاء العدة فيها، وصفوان بن أمية شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم "حنينا" وهو مشرك، وشهد معه "الطائف" كذلك إلى أن قسم غنائم "حنين" بعد الفتح بقرب من شهرين، فإن مكة فتحت لعشر بقين من رمضان، وغنائم (حنين) قسمت في ذي القعدة، ويجوز انقضاء العدة في مثل هذه المدة.

قال: وبالجملة، فتحديد رد المرأة على زوجها بانقضاء العدة لو كان هو شرعه الذي جاء به، لكان هذا مما يجب بيانه للناس من قبل ذلك الوقت، فإنهم أحوج ما كانوا إلى بيانه، وهذا كله مع حديث زينب – يدل على أن المرأة إذا أسلمت وامتنع زوجها من الإسلام، فلها أن تتربص وتنتظر إسلامه، فإذا اختارت أن تقيم منتظرة لإسلامه، فإذا أسلم أقامت معه، فلها ذلك، كما كان النساء يفعلن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كزينب ابنته وغيرها، ولكن لا تمكنه من وطئها، ولا حكم له عليها ولا نفقة ولا قسم، والأمر في ذلك إليها لا إليه، فليس هو في هذه الحال زوجاً مالكاً لعصمتها من كل وجه، ولا يحتاج إذا أسلم إلى ابتداء عقد يحتاج فيه إلى ولي وشهود ومهر وعقد، بل إسلامه بمنزلة قبوله للنكاح، وانتظارها بمنزلة الإيجاب.

وسر المسألة أن العقد في هذه المدة جائز لا لازم، ولا محذور في ذلك، ولا ضرر على الزوجة فيه، ولا يناقض ذلك شيئا من قواعد الشرع. وأما الرجل إذا أسلم، وامتنعت المشركة أن تسلم، فإمساكه لها يضر بها، ولا مصلحة لها فيه، فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالما. فلهذا قال تعالى "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فنهى الرجال أن يستديموا نكاح الكافرة، فإذا أسلم الرجل أمرت امرأته بالإسلام، فإن لم تسلم فرق بينهما[3].

من أدلة المعجلين للفرقة:

ومما ذكره العلامة ابن القيم من أدلة للقائلين بتعجيل الفرقة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها، أنهم قالوا: قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهن ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم" ]الممتحنة: 10[.

قالوا: فهذا حكم الله الذي لا يحل لأحد أن يخرج عنه، وقد حرم فيه رجوع المؤمنة إلى الكافر، وصرح سبحانه بإباحة نكاحها، ولو كانت في عصمة الزوج حتى يسلم في العدة أو بعدها لم يجز نكاحها، لا سيما والمهاجرة تستبرأ بحيضة.

وهذا صريح في انقطاع العصمة بالهجرة. وقوله: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" صريح في أن المسلم مأمور ألا يمسك عصمة امرأة إذا لم تسلم، فصح أن ساعة وقوع الإسلام منه تنقطع عصمة الكافرة منه. وقوله تعالى: "لا هنّ حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن" صريح في تحريم أحدهما على الآخر في كل وقت، فهذه، أربعة أدلة من الآية، ودعونا من تلك المنقطعات والمراسيل والآثار المختلفة، ففي كتاب الله الشفاء والعصمة.

رد الآخرين عليهم:

قال الآخرون: مرحباً وأهلاً وسهلاً بكتاب الله، وسمعاً وطاعة لقول ربنا، ولكن تأولتم الآية على غير تأويلها، ووضعتموها على غير مواضعها، وليس فيها ما يقتضي تعجيل الفرقة إذا سبق أحدهما الآخر[4]، ولا فهم هذا منها أحد قط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين، ولا يدل على ما ذهبتم إليه أصلاً. أما قوله تعالى: "فلا ترجعوهن إلى الكفار" فإنما يدل على النهي عن رد النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار، فأين في هذا ما يقتضي أنها لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلماً مهاجراً إلى الله ورسوله، ثم ترد إليه؟ ولقد أبعد النجعة كل الإبعاد من فهم هذا من الآية. وكذلك قوله: "لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن" إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين والكفار، وأن أحدهما لا يحل للآخر، وليس فيه أن أحدهما لا يتربص بصاحبه الإسلام فيحل له إذا أسلما. وأما قوله: "ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن" فهذا خطاب للمسلمين ورفع للحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بنّ من أزواجهن وتخلين عنهم. وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها. ولا ريب في أن المرأة إذا انقضت عدتها تخيّر بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها، فترجع إليه إما بالعقد الأول على ما نصرناه، وإما بعقد جديد على قول من يرى انفساخ النكاح بمجرد انقضاء العدة. فلو أنا قلنا: إن المرأة تبقى محبوسة على الزوج، لان نمكّنها أن تتزوج بعد انقضاء العدة، شاءت أم أبت، لكان في الآية حجة علينا، ونحن لم نقل ذلك ولا غيرنا من أهل الإسلام، بل هي أحقّ بنفسها إن شاءت تزوجت وإن شاءت تربصت. فأما قوله تعالى: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فإنما تضمن النهي عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها، وهي مقيمة على شركها وكفرها، وليس فيه النهي عن الانتظار بها أن تسلم ثم يمسك بعصمتها.

فإن قيل: فهو في التربص ممسك بعصمتها، قلنا: ليس كذلك، بل هي متمكنة بعد انقضاء عدتها من مفارقتها والتزوج بغيره، ولو كانت العصمة بيده لما أمكنها ذلك.

وأيضاً فالآية إنما دلت على أن الرجل إذا أسلم ولم تسلم المرأة، أنه لا يمسكها بل يفارقها، فإذا أسلمت بعده فله أن يمسك بعصمتها، وهو إنما أمسك بعصمة مسلمة لا كافرة. وأيضاً فإن تحريم النساء المشركات على المؤمنين لم يستفد بهذه الآية، بل كان ثابتاً قبل ذلك بقوله: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" ]البقرة: 221[ وإنما اقتضت هذه الآية حكمه سبحانه بين المؤمنين والكفار في النساء اللاتي يرتددن إلى الكفار واللاتي يهاجرن إلى المسلمين، فإن الشرط كان قد وقع على أنّ من شاء أن يدخل في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في دين قريش وعهدهم دخل، فهاجرت نسوة اخترن الإسلام وارتدت نسوة اخترن الشرك، فحكم الله أحسن حكم بين الفريقين في هذه الآية، ونهى المسلمين فيها أن يمسكوا بعصمة المرأة التي اختارت الكفر والشرك، فإن ذلك منع لها من التزوج بمن شاءت وهي في عصمة المسلم، والعهد اقتضى أنّ من جاء من المسلمين، رجالهم ونسائهم، إلى الكفار يقرّ على ذلك، ومن جاء من الكفار إلى المسلمين يردّ إليهم، فإذا جاءت امرأة كافرة إلى المسلمين زالت عصمة نكاحها، وأبيح للمسلمين أن يزوجوها، فإذا فاتت امرأة من المسلمين إلى الكفار فلو بقيت في عصمته ممسكاً لها لكان في ذلك ضرر بها إن لم يمكنها أن تزوج، وضرر به إن أمكنها أن تتزوج وهي في عصمته، فاقتضى حكمه العدل الذي لا أحسن منه تعجيل التفريق بينه وبين المرأة المرتدة أو الكافرة عندهم لتتمكن من التزويج، كما تتمكن المسلمة من التزويج إذا هاجرت، فهذا مقتضى الآية، وهي لا تقتضي أنّ المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بمجرد إسلامها بينها وبين زوجها، فلو أسلم بعد ذلك لم يكن له عليها سبيل، فيبنغي أن تعطى النصوص حقها، والسنة حقها، فلا تعارض بين هذه الآية وبين ما جاءت به السنة بوجه ما، والكل من مشكاة واحدة، يصدق بعضها بعضاً.

قال شيخ الإسلام: "وأما القول بأنه مجرد إسلام أحد الزوجين المشركين تحصل الفرقة قبل الدخول أو بعده، فهذا قول في غاية الضعف، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من شريعة الإسلام، فإنه قد علم أن المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كان يسبق بعضهم بعضاً بالتكلم بالشهادتين، فتارة يسلم الرجل وتبقى المرأة مدة ثم تسلم، كما أسلم كثير من نساء قريش وغيرهن قبل الرجال. وروي أن أم سليم امرأة أبي طلحة أسلمت قبل أبي طلحة، وتارة يسلم الرجل قبل المرأة ثم تسلم بعده بمدة قريبة أو بعيدة، وليس لقائل أن يقول: هذا كان قبل تحريم نكاح المشركين، لوجهين: أحدهما: أنه لو قدّر تقدّم ذلك فدعوى المدّعي أنّ هذا منسوخ تحتاج إلى دليل. الوجه الثاني أن يقال: لقد أسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بعد نزول تحريم المشركات، ونزول النهي عن التمسك بعصم الكوافر، فأسلم الطلقاء بمكة وهم خلق كثير، وأسلم أهل الطائف وهم أهل المدينة، وكان إسلامهم بعد أن حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ونصب عليهم المنجنيق ولم يفتحها، ثم قسم غنائم حنين بالجعرانة، واعتمر عمرة الجعرانة ثم رجع بالمسلمين إلى المدينة، ثم وَفَدَ وَفْدُ الطائف فأسلموا، ونساؤهم بالبلد لم يسلمن، ثم رجعوا وأسلم نساؤهم بعد ذلك. فمن قال: إن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيل الفرقة قبل الدخول أو بعده، فقوله مقطوع بخطئه ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم: هل دخلت بامرأتك أم لا؟ بل كل من أسلم وأسلمت امرأته بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاح، وقد قدم عليه وفود العرب، وكانوا يسلمون ثم يرجعون إلى أهليهم، فيسلم نساؤهم على أيديهم بعد إسلام أزواجهن، وبعث علياً ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن فأسلم على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله من الرجال والنساء، ومعلوم قطعا أن الرجل كان يأتيهم فيسلم قبل امرأته، والمرأة تأتيهم فتسلم قبل الرجل، ولم يقولوا لأحد: ليكن تلفظك وتلفظ امرأتك بالإسلام في آن واحد، لئلا ينفسخ النكاح، ولم يفرقوا بين من دخل بامرأته وبين من لم يدخل، ولا حدّوا ذلك بثلاثة قروء، ثم يقع الفسخ بعدها، بل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وقد باشر ذلك بنفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي غيبته عنه – قد قال: "هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها"، وفي رواية عنه: "ما لم تخرج من دار هجرتها"، ولم يعجل الفرقة، ولا حدها بثلاثة قروء، وفي قضية زينب الشفاء والعصمة.

وكانت سنته صلى الله عليه وسلم أنه يجمع بين الزوجين إذا أسلم أحدهما قبل الآخر وتراضيا ببقائهما على النكاح، لا يفرق بينهما ولا يحوجهما إلى عقد جديد، فإذا أسلمت المرأة أولاً فلها أن تتربص بإسلام زوجها، أي وقت أسلم فهي امرأته، وإذا أسلم الرجل فليس له أن يحبس المرأة على نفسه ويمسك بعصمتها، فلا يكرهها على الإسلام ولا يحبسها على نفسه، فلا يظلمها في الدين ولا في النكاح، بل إن اختارت هي أن تتربص بإسلامه تربصت، طالت المدة أو قصرت، وإن اختارت أن تتزوج غيره بعد انقضاء عدتها فلها ذلك، والعدة هاهنا لحفظ ماء الزوج أولاً، وأيهما أسلم في العدة أو بعدها فالنكاح بحاله، إلا أن يختار الرجل الطلاق فيطلق كما طلق عمر – رضي الله عنه – امرأتين له مشركتين لما أنزل الله تعالى: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" أو تختار المرأة أن تزوّج المرأة بعد استبرائها، فلها ذلك.

وأيضاً فإن في هذا تنفيراً عن الإسلام، فإن المرأة إذا علمت أو الزوج أنه بمجرد الإسلام يزول النكاح ويفارق من يحب، ولم يبق له عليها سبيل إلا برضاها ورضا وليّها ومهر جديد، نفر عن الدخول في الإسلام، بخلاف ما إذا علم كل منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراق بينهما إلا أن يختار هو المفارقة، كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبته ما هو أدعى إلى الدخول فيه.

وأيضاً فبقاء مجرد العقد جائزاً غير لازم من غير تمكين من الوطء خير محض ومصلحة بلا مفسدة، فإن المفسدة إما بابتداء استيلاء الكافر على المسلمة، فهذا لا يجوز كابتداء نكاحه للمسلمة، وإن لم يكن فيه وطء، كما لا يجوز استيلاؤه بالاسترقاق، وإما بالوطء بعد إسلامها، وهذا لا يجوز أيضاً فصار إبقاء النكاح جائزاً فيه مصلحة راجحة للزوجين في الدين والدنيا من غير مفسدة، وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي بتحريمه[5]. انتهى.

تعقيب على تحقيق الإمام ابن القيم:

كان ما ذكره ابن القيم (فتحاً) في المسألة، التي كنا نحسبها من مسائل الإجماع، بل نعتبره إجماعاً نظرياً من أئمة المذاهب الفقهية، مقترنا بالعمل المستمر من جانب الأمة الإسلامية، والإجماع إذا اقترن بالعمل ازداد قوة ورسوخاً.

ثم تبين لي أن هذا الإجماع صحيح وثابت بالنظر إلى تزويج المسلمة بغير المسلم ابتداء، فهذا حرام مقطوع به، ولم يقل به فقيه قط، لا من المذاهب الأربعة، أوالثمانية، أو من خارج المذاهب، فهو إجماع نظري وعملي معا، وهو ثابت ومستقر بيقين.

أما الذي ذكر المحقق ابن القيم فيه الخلاف، فهو فيما إذا كانت المرأة غير المسلمة متزوجة أصلا من غير مسلم، وشرح الله صدرها للإسلام، فأسلمت، ولم يسلم زوجها، فهذه هي التي حدث فيها الخلاف، وذكر ابن القيم هذه الأقوال التسعة.

وهذا ما دفعني إلى أن أرجع إلى المصادر الأساسية التي استمد منها ابن القيم هذه الأقوال، وهي الأصول والمصنفات التي عنيت بنقل أقوال الصحابة – رضي الله عنهم – وتابعيهم بإحسان، وتلاميذهم من سلف الأمة، في خير القرون، المفضلة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

وهذه الأصول مثل مصنف عبدالرزاق الصنعاني (ت 211 هـ)، ومصنف ابن أبي شيبة (ت 235 هـ)، ومؤلفات أبي جعفر الطحاوي (321 هـ)، والسنن الكبرى للبيهقي (ت456 هـ). فماذا قالت هذه المصادر؟

عودة إلى فتاوى الصحابة والتابعين خارج المذاهب:

روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن علي – رضي الله عنه – في شأن امرأة اليهودي أو النصراني إذا أسلمت، كان أحق ببضعها، لأن له عهداً[6].

وفي رواية أخرى عند ابن أبي شيبة عنه: هو أحق بها ما داما في دار الهجرة. يعني: في دار هجرتها[7].

وروى عبدالرزاق بسنده عنه قال: هو أحق بها لم يخرجها من مصرها[8].

وروى بسنده عن الحكم: أن هانئ بن قبيصة الشيباني – وكان نصرانياً – كان عنده أربع نسوة، فأسلمن، فكتب عمر بن الخطاب: أن يقررن عنده[9].

وهذا واضح في أن عمر – رضي الله عنه – يجيز للمرأة أن تقر عند زوجها.

وروى أيضاً بسنده عن عبدالله بن يزيد الخطمي، أن عمر كتب: يخيرن[10].

وروى هذه القصة عبدالرزاق عن الخطمي قال: أسلمت امرأة من أهل الحيرة، ولم يسلم زوجها، فكتب فيها عمر بن الخطاب: أن خيروها، فإن شاءت فارقته، وإن شاءت قرت عنده[11].

ومعناها: أنه وكِّلَ الأمر إلى اختيار المرأة، إن شاءت بقيت عند زوجها، وإن شاءت انفصلت عنه.

ومثله ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن الحسن: أن نصرانية أسلمت تحت نصراني، فأرادوا أن ينزعوها منه، فرجعوا إلى عمر، فخيرها[12].

وروى ابن أبي شيبة بسنده أيضاً عن إبراهيم (النخعي) قال: يقران على نكاحهما[13].

وروى عنه عبدالرزاق بسنده قال: هو أحق بها ما لم يخرجها من دار هجرتها[14].

وهذا هو نفس ما روي عن علي – رضي الله عنه - .

وروي عن الشعبي قال: هو أحق بها ما كانت في المصر (أي في مصرها)[15].

فهذا قول علي – رضي الله عنه – لم يختلف عنه: أن الرجل الكتابي (من يهودي أو نصراني) أحق بزوجته إذا أسلمت، ما لم يخرجها من مصرها، أو من دار هجرتها، وجاء في بعض الروايات: لأن له عهداً. يقصد: عهد الذمة.

وقد أكد قول عليّ ما جاء عن الشعبي وإبراهيم، من أئمة التابعين، وقول عمر – رضي الله عنه – في أكثر من رواية: إن المرأة تقر عند زوجها، أو تخير بين بقائها وبين تركه ومفارقته.

ولم يخالف ذلك إلا رواية عن عمر في قصة الرجل التغلبي الذي عرض عليه الإسلام فأبى، وانتزع منه امرأته. وفي بعض الروايات: أنه قال لعمر: لم أدَعْ هذا إلا استحياء من العرب أن يقولوا: إنما أسلم على بضع امرأة! ففرق عمر بينهما[16].

ولعل هذا من عمر – رضي الله عنه – يدلنا على أن الإمام أو القاضي لديه فسحة في مثل هذا الأمر، فيمكنه أن يقر المرأة عند زوجها أو يخيرها، أو يفرق بينهما إن رأى في ذلك المصلحة. وخصوصاً إذا رفعت إليه القضية، كما في هذه الواقعة.

ولعل هذا من عمر أيضاً يؤيد ما ذكره ابن القيم من قول ابن شهاب الزهري: هما على نكاحهما، ما لم يفرق بينهما سلطان.

وقفة مع ابن القيم:

ورغم أن المحقق ابن القيم – رحمه الله – وعد بأن ينظر في مآخذ هذه الأقوال أو المذاهب التسعة التي ذكرها وما فيها من قوي وضعيف، فإنه لم يف بوعده، ولم ينظر فيها كلها، بل ركز على القول السادس الذي نصره – ونصره شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية – وهو أن المرأة تقيم مع زوجها، وتنتظر إسلامه، ولا تمكنه من نفسها، ولو مكثت معه سنين، وأطال في تأييد هذا القول، وكأنه نسي الأقوال الثلاثة الأخرى.

واختيار ابن القيم وشيخه: له وزنه ووجهته وأدلته، ولكن تظل فيه مشكلة عملية، وهي أن تبقى المرأة مع زوجها تنتظر إسلامه، ولو مكثت سنين، ولكن لا تمكنه من نفسها، والمشكلة العملية هنا هي: هل يصبر كل منهما على هذه الحالة: أن يعيشا تحت سقف واحد سنين، ولا يقرب أحدهما الآخر، وخصوصاً إذا كانا شابين؟

وكنت أود أن يعرض العلامة ابن القيم لرأي الإمام علي – كرم الله وجهه -، الذي ذكره عنه، وهو قوله عن المرأة تسلم قبل زوجها: هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها، وفي رواية أخرى: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها.

وعلي – رضي الله عنه – قد بعثه رسول الله إلى اليمن في حياته، وتولى الخلافة بعد عثمان، ولا بد أن يكون قد باشر ذلك بنفسه. فحكمه في هذه القضية، فيه معنى الفتوى ومعنى القضاء معاً.

وكأني ألمح في حكمه – رضي الله عنه – استناداً إلى الآية الكريمة من سورة (الممتحنة) حيث قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن" ]الممتحنة: 10[.

والمؤمنون مطالبون –وفق هذه الآية – إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وعلموا صدق إيمانهن: ألا يرجعوهن إلى الكفار، فيعرضوهن للفتنة في دينهن، ولكن إذا بقيت المرأة في دارها لم تغادرها إلى دار الإسلام، وأقامت مع زوجها، فهي امرأته. وكأن هذا ما استند إليه علي – كرم الله وجهه -.

وفي رأيي أن هذا قول وجيه، ترجحه حاجة المسلمات الجديدات الباقيات مع أزواجهن في ديارهن غير الإسلامية – إلى بقائهن مع أزواجهن، ولا سيما إذا كن يرتجين إسلامهم، وخصوصاً إذا كان لهن منهم أولاد يخشى تشتيهم وضياعهم.

ومما نذكره هنا: أن القضية التي اعتمد عليها ابن القيم وشيخه ابن تيمية فيما روي عن عمر، ظاهرها ليس معهما، فما رواه عبدالله بن يزيد الخطمي – رضي الله عنه: أن نصرانياً أسلمت امرأته، فخيرها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه.

هذه الرواية أفادت أنه أجاز لها أن تقيم عليه، وظاهر هذا يقتضي أن تجوز معاشرته لها، فهذا مقتضى الإقامة مع الزوج، ولكن الإمام ابن القيم – رحمه الله – أوّل هذا الظاهر قائلا: وليس معناه أنها تقيم تحته، وهو نصراني، بل تنتظر وتتربص... انتهى، فلو أن مجتهداً أخذ بظاهر قول عمر، لم يكن عليه من حرج.

وقد أيدت هذه الرواية روايات أخر عن عمر – رضي الله عنه -، بعضها فيه إقرار للمرأة لتبقى مع زوجها، وبعضها فيه تخيير للمرأة كما في رواية الخطمي عنه.

يؤكد هذا ما ذكره ابن القيم عن الزهري – وهو القول الثامن – أنه قال: إن أسلمت ولم يسلم زوجها، فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان.

وهذا تيسير عظيم للمسلمات الجدد، وإن كان يشق على الكثيرين من أهل العلم، لأنه خلاف ما ألفوه وتوارثوه، ولكن من المقرر المعلوم: أنه يغتفر في البقاء، ما لا يغتفر في الابتداء. وهذه قاعدة فقهية مقررة، ولها تطبيقات فروعية كثيرة، وهي: التفريق بين الابتداء والانتهاء، يتسامح في البقاء والانتهاء، ما لا يتسامح في الابتداء.

فنحن منهيون ابتداء أن نزوج المرأة لكافر، كما قال تعالى: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" ]البقرة: 221[.

وهذا مما لا يجوز التهاون فيه، فلا نزوج مسلمة ابتداء لغير مسلم.

ولكن نحن هنا لم نزوجها، بل وجدناها متزوجة قبل أن تدخل في ديننا، ويحكم عليها شرعنا، وهنا يختلف الأمر في البقاء عنه في الابتداء.

ثلاثة أقوال معتبرة:

فلدينا إذن ثلاثة أقوال معتبرة، يمكن لأهل الفتوى الاستناد إليها لعلاج هذه المشكلة التي قد تقف عقبة في سبيل دخول الكثيرات في الإسلام.

القول الأول: هو قول سيدنا علي – رضي الله عنه – وكرم الله وجهه، وهو: أن زوجها أحق بها ما لم تخرج من مصرها. وهنا نجد المرأة باقية في وطنها ومصرها ولم تهاجر منه، لا إلى دار الإسلام ولا غيرها. وقول علي هذا ثابت عنه، لم يختلف عليه فيه، ووافقه عليه اثنان من أئمة التابعين: الشعبي وإبراهيم.

والقول الثاني: هو ما روي عن سيدنا عمر – رضي الله عنه -: من إقراره بعض النساء إذا أسلمن عند أزواجهن غير المسلمين أو تخييرهن، كما رواه عنه أكثر من مصدر، ولم يخالف ذلك إلا رواية واحدة، لها ملابسات خاصة. فإما أن نرجح الروايات الأكثر، أو نقول: إن للإمام أو القاضي فسحة في الإبقاء، أو التخيير للمرأة، أو التفريق بينها وبين زوجها. وفق ما يراه من المصلحة في ذلك، وقد يختلف هذا من حالة إلى أخرى.

والقول الثالث: هو قول الزهري: إنهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان، أي ما لم يصدر حكمٌ قضائي بالتفريق بينهما.

جواز الفتوى بأقوال الصحابة والتابعين:

ولقد ذهب بعض العلماء – في العصور التي غلب فيها على الفقه التقليد والعصبية المذهبية – إلى أنه لا يجوز للعالم الإفتاء بأقوال الصحابة – رضي الله عنهم – من الخلفاء الراشدين المهديين أمثال عمر وعلي، وغيرهما من فقهاء الصحابة أمثال: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وغيرهم – رضي الله عنهم -. ويزعمون أن أقوال الصحابة وردت مطلقة غير مقيدة، ومجملة غير مفصلة، فلا يجوز أن تكون مصدر للفتوى، مع أن كثيراً مما ورد عن أئمتهم يكون مطلقاً ومجملاً.

ولقد أصل الإمام ابن القيم مشروعية الفتوى بالآثار الصحابية والتابعية في كتابه (إعلام الموقعين) فقال رحمه الله:

في جواز إن الفتوى بالآثار السلفية، والفتاوى الصحابية، أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول – صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله – وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا، وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص، ولكن المفضَّلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم، فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين، ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم، بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم، بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح وأبي وائل وجعفر ابن محمد وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم، فلا يدري ما عذره غداً عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين الأخذ بها حكماً وإفتاء، ومنع الأخذ بقول الصحابة واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟ تالله لقد أخذ بالمثل المشهور "رمتني بدائها وانسلت"، وسمى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن: إنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. وهذا كلام من أخذ به وتقلده ولاّه الله ما تولى، ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى، والذي ندين الله به ضد هذا القول[17].

هذا ولا أنسى أن أنوه هنا بالدراسة المتعمقة والمطولة التي قدمها الأخ الباحث المحقق الشيخ (عبدالله الجديع) للمجلس الأردني للإفتاء والبحوث، وانتهى فيها إلى ما انتهيت إليه، وأوسع منه. وقد لخص بحثه نهايته في هذه النقاط التي أذكرها هنا للإفادة منها، والاعتبار بها. وهذه هي النتائج كما عرضها:

1- ليس في المسألة نصّ قاطع.

2- ليس فيها إجماع.

3- عقود النكاح الواقعة قبل الإسلام صحيحة معتبرة بعد الإسلام، لا تبطل إلا بيقين، وليس اختلاف الدين مبطلاً بيقين، لعدم النص ولوجود الخلاف.

4- أفادت الأدلة من الكتاب والسنة أن مكث الزوج مع زوجته مع اختلاف الدين الطارئ بعد الزواج لا يقدح في أصل الدين، ولا توصف به العلاقة بينهما بالفاسد.

5- إبطال العلاقة بين الزوجين لاختلاف الدين بإسلام أحدهما بعد الزواج لا يقع بمجرد الإسلام.

6- على كثرة من دخل الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يأت ولا في سُنّة عملية واحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين امرأة وزوجها، أو رجل وامرأته لكون أحدهما أسلم دون الآخر، أو قبل الآخر كما لم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بذلك، بل صح عنه خلاف ذلك، كما في شأن ابنته زينب، فإنها مكثت في عصمة زوجها أبي العاص حتى أسلم قُبيل فتح مكة بعدما نزلت آية الممتحنة، وغاية ما وقع أنها هاجرت وتركته بمكة بعد غزوة بدر، وما أبطلت الهجرة عقد النكاح بينهما.

7- التعلق بآية الممتحنة في إبطال العلاقة الزوجية باختلاف الدين ليس صواباً، إنما الآية في قطع العلاقات بين المسلمة والزوج المحارب لدينها، وبين المسلم وزوجته المحاربة لدينه، لا في مطلق الكفار.

8- رفعت آية الممتحنة الجُناح في نكاح المؤمنة المهاجرة إن كانت ذات زوج كافر محارب، ولم تُلزم بذلك، لما وقع في قصة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أن عقد النكاح مع الزوج الكافر يتحول من عقد لازم إلى عقد جائز، والعلّة: تعذّر رجوعها إلى زوجها المحارب وما يَرِدُ عليها من الحرج بفوات الزوج.

9- منعت الآية إمساك الرجل المسلم زوجته الكافرة التي لم تهاجر إليه من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو هربت منه مرتدة إلى الكفار المحاربين، والمعنى: خشية أن تبقى علاقة الزوجية من الميل إلى الكفار كالذي وقع من حاطب من أبي بلتعة حين كتب إلى المشركين بسرّ المسلمين بسبب أرحام له بمكة، كذلك لما يقع به من ضرر بها بتعليقها دون زوج.

10- إذا أسلم أحد الزوجين وليس الكافر منهما محارباً جاز مكثهما جميعاً لا يفرّق بينهما بمجرد اختلاف الدين، كما دلّ عليه العمل في حق من أسلم قبل الهجرة بمكة، ومن أسلم في فتح مكة، وبه قضى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خلافته دون مخالف، وأفتى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

11- اختلاف الدين بإسلام أحد الزوجين سبب يُجيز فسخ عقد النكاح بينهما ولا يوجبه، كما دلّ عليه قضاء عمر وإقرار الصحابة.

12- مقتضى إباحة مُكث الزوج بعد إسلامه مع زوجة كافرة غير محاربة لدينه، أو مُكث الزوجة بعد إسلامها مع زوج كافر غير محارب لدينها: أنّ عشرتهما الزوجية مباحة، لأن الإبقاء على صحة عقد النكاح بينهما يوجب العشرة بالمعروف، والوطء من ذلك.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، آمين...

[1] الكلام في الزوجة المشتركة، كما كان حال أهل مكة وجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. أما الزوجة الكتابية، فإن إسلام زوجها لا يضرها، إذ له أن يتزوجها ابتداء، فلا حرج في استمرارها معه بقاء.

[2] الطلقاء هم الذين أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراحهم ومنحهم الحرية يوم فتح مكة، وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

[3] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم ج1 / 318-326 بتحقيق د. صبحي الصالح طبعة جامعة دمشق.

[4] في الأصل هنا كلمة غير مفهومة.

[5] أحكام الذمة لابن القيم السابق ذكره (2 / 338-344).

[6] مصنف ابن أبي شيبة (18301) بتحقيق مختار الندوي، نشر الدار السلفية بالهند (بومباي).

[7] مصنف ابن أبي شيبة (18302)، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3 / 260): (هو أحق بنكاحها، ما كانت في دار هجرتها).

[8] مصنف عبدالرزاق، الأثر رقم (10084) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي نشر المكتب الإسلامي – بيروت.

[9] مصنف ابن أبي شيبة (18306).

[10] المصدر السابق (18303)

[11] الأثر (10083) من مصنف عبدالرزاق.

[12] مصنف ابن أبي شيبة (18307).

[13] المصدر السابق (18305).

[14] الأثر (10085) من مصنف عبدالرزاق.

[15] مصنف ابن أبي شيبة (18304).

[16] شرح معاني الآثار للطحاوي (3 / 259).

[17] انظر: إعلام الموقعين (4 / 95 – 96)، طبعة دار الحديث بمصر.

ميراث المسلم من غير المسلم

فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ يوسف القرضاوي

حفظه الله ونفع بعلمه المسلمين

أنا رجل هداني الله للإسلام منذ أكثر من عشر سنوات وأسرتي أسرة مسيحية بريطانية الجنسية، وقد حاولت دعوتهم وتحبيب الإسلام إليهم، طوال هذه السنين، ولكن الله لم يشرح صدورهم للإسلام، وبقوا على مسيحيتهم، وقد ماتت أمي منذ سنوات، وكان لي منها ميراث قليل، ولكني رفضت أخذه، بناء على أن المسلم لا يرث الكافر، كما أن الكافر لا يرث المسلم.

والآن مات أبي وترك مالاً كثيراً، وتركة كبيرة، وأنا وارثه الوحيد، والقوانين السائدة تجعل هذه التركة أو هذا الميراث كله من حقي.

فهل أرفض هذه التركة الكبيرة وأدعها لغير المسلمين ينتفعون بها، وهي ملكي وحقي قانوناً، وأنا في حاجة إليها، لأنفق منها على نفسي وعلى أسرتي المسلمة: زوجتي وأطفالي، وأوسع بها على إخواني المسلمين، وهم أحوج ما يكونون إلى المساعدة، وأساهم منها في المشروعات الإسلامية النافعة والكثيرة، والتي تفتقر إلى التمويل فلا تجده؟

ثم إن معظم المسلمين ضعفاء اقتصادياً، ولا يخفى على فضيلتكم أن المال عصب الحياة، وأن الاقتصاد هو الذي يؤثر في السياسة اليوم، فلماذا ندع فرصة يمكن أحد المسلمين أن يكسب من ورائها قوة اقتصادية، وهي تواتيه بلا معاناة، ولا ارتكاب لحرام ولا شبهة؟

أرجو أن أجد عند سماحتكم حلاً لهذه المشكلة، فهي ليست مشكلتي وحدي، بل مشكلة الألوف وعشرات الألوف من أمثالي، ممن شرح الله صدورهم لهذا الدين العظيم، فآمنوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً.

وفقكم الله وسدد خطاكم، ونفع بكم.

مسلم من بريطانيا

جـ: الحمد لله.

جمهور الفقهاء يذهبون إلى أن المسلم لا يرث الكافر، كما أن الكافر لا يرث المسلم، وأن اختلاف الملة أو الدين مانع من الميراث. واستدلوا بالحديث المتفق عليه: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"[1].

والحديث الآخر "لا يتوارث أهل ملتين شتى" رواه أحمد وأبو داوود[2].

وهذا الرأي مروي عن الخلفاء الراشدين، إليه ذهب الأئمة الأربعة، وهو قول عامة الفقهاء، وعليه العمل كما قال ابن قدامة.

وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية – رضي الله عنهم - :أنهم ورّثوا المسلم من الكافر، ولم يورثوا الكافر من المسلم. وحُكي ذلك عن محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق، وعبدالله بن معقل والشعبي، ويحيى بن يعمر، وإسحاق[3].

ورُوي أن يحيى بن يعمر اختصم إليه أخوان: يهودي ومسلم، في ميراث أخ لهما كافر، فورَّث المسلم، واحتج لقوله بتوريث المسلم من الكافر، فقال: حدثني أبو الأسود أن رجلا حدثه، أن معاذا حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يزيد ولا ينقص"[4] يعني: أن الإسلام يكون سببا لزيادة الخير لمعتنقه، ولا يكون سبب حرمان ونقص له.

ويمكن أن يذكر هنا أيضاً حديث "الإسلام يعلو ولا يُعلى"[5].

وكذلك لأننا ننكح نساءهم، ولا ينكحون نساءنا، فكذلك نرثهم ولا يرثوننا.

وأنا أرجح هذا الرأي، وإن لم يقل به الجمهور، وأرى أن الإسلام لا يقف عقبة في سبيل خير أو نفع يأتي للمسلم، يستعين به على توحيد الله تعالى وطاعته ونصرة دينه الحق، والأصل في المال أن يرصد لطاعة الله تعالى لا لمعصيته، وأولى الناس به هم المؤمنون، فإذا سمحت الأنظمة الوضعية لهم بمال أو تركة، فلا ينبغي أن نحرمهم منها، وندعها لأهل الكفر يستمتعون بها في أوجه قد تكون محرمة أو مرصودة لضررنا.

وأما حديث "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" فنئوله بما أول به الحنفية حديث "لا يقتل مسلم بكافر" وهو أن المراد بالكافر: الحربي، فالمسلم لا يرث الحربي – المحارب للمسلمين بالفعل – لانقطاع الصلة بينهما.

ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم:

هذا، وقد عرض الإمام ابن القيم لهذه القضية – ميراث المسلم من كافر – في كتابه (أحكام أهل الذمة) وأشبع القول فيها، ورجح هذا القول، ونقل عن شيخه ابن تيمية ما كفى وشفى. قال رحمه الله:

(وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث كما لا يرث الكافر المسلم: وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر، دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين (أبو جعفر الباقر) وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبدالله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم، ولا ينكحون نساءنا.

والذين منعوا الميراث: عمدتهم الحديث المتفق عليه: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". وهو عمدة من منع ميراث المنافق الزنديق، وميراث المرتد. قال شيخنا (يعني: ابن تيمية): وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجرى الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين، فيرثون ويورثون. وقد مات عبدالله بن أبيّ وغيره ممن شهد القرآن بنفاقهم، ونُهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه والاستغفار له، وورَثهم وَرَثتهم المؤمنون: كما ورث عبدالله بن أبي ابنُه، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من تركة أحد من المنافقين شيئاً، ولا جعل شيئاً من ذلك فيئاً، بل أعطاه لورثتهم وهذا أمر معلوم بيقين.

فعلم أن الميراث: مداره على النصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة. والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم، وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك. فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على ما في القلوب.

وأما المرتد فالمعروف عن الصحابة مثل علي وابن مسعود: أن ماله لورثته من المسلمين أيضاً[6]. ولم يدخلوه في قوله (صلى الله عليه وسلم): "لا يرث المسلم الكافر". وهذا هو الصحيح.

وأما أهل الذمة، فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر" المراد به الحربي لا المنافق، ولا المرتد، ولا الذمي: فإن لفظ (الكافر) – وإن كان قد يعم كل كافر، فقد يأتي لفظه والمراد به بعض أنواع الكفار، كقوله تعالى: "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ (الكافرين). وكذلك المرتد، فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ (الكافر) عند الإطلاق. ولهذا يقولون: إذا أسلم الكافر لم يقض ما فاته من الصلاة، وإذا أسلم المرتد ففيه قولان.

وقد حمل طائفة من العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر"[7]. على الحربي دون الذمي، ولا ريب أن حمل قوله: "لا يرث المسلم الكافر" على الحربي أولى وأقرب محملاً، فإن في توريث المسلمين منهم ترغيباً في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، فإن كثيراً منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئاً. وقد سمعنا ذلك منهم من غير واحد منهم شفاهاً، فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام و (صارت) رغبته فيه قوية. وهذا وحده كافٍ في التخصيص. وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير، فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته، وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم، وليس هذا مما يخالف الأصول، فإن أهل الذمة إنما ينصرهم ويقاتل عنهم المسلمون ويفتدون أسراهم، والميراث يستحق بالنصرة، فيرثهم المسلمون، وهم لا ينصرون المسلمون فلا يرثونهم. فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب، ولو كان هذا معتبراً فيه كان المنافقون لا يرثون ولا يورثون. وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون.

وأما المرتد فيرثه المسلمون، وأما هو فإن مات له ميت مسلم في زمن الردة ومات مرتداً لم يرثه لأنه لم يكن ناصراً له. وإن عاد إلى الإسلام قبل قسمة الميراث فهذا فيه نزاع بين الناس. وظاهر مذهب أحمد: أن الكافر الأصلي[8]. والمرتد إذا أسلما قبل قسمة الميراث ورثا، كما هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين. وهذا يؤيد هذا الأصل، فإن هذا فيه ترغيب في الإسلام.

قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه، أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة، والمانع هو المحاربة. ولهذا قال أكثر الفقهاء: إن الذمي لا يرث الحربي، وقد قال تعالى في الدية: "فإن كان من قوم عدوٍ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" ]النساء: 92[ فالمقتول – إن كان مسلماً – فديته لأهله، وإن كان من أهل الميثاق فديته لأهله، وإن كان من قوم عدو للمسلمين فلا دية له. لأن أهله عدو للمسلمين وليسوا بمعاهدين، فلا يعطون ديته. ولو كانوا معاهدين لأعطوا الدية. ولهذا لا يرث هؤلاء المسلمين، فإنهم ليس بينهم وبينهم إيمان ولا أمان.

قال المانعون: الكفر يمنع التوارث، فلم يرث به المعتق، كالقتل.

قال المورثون: القاتل يحرم الميراث لأجل التهمة، ومعاقبة له بنقيض قصده. وههنا علة الميراث الإنعام، واختلاف الدين لا يكون من علة. وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة: وهي توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته، وتوريث المعتق عبده الكافر بالولاء، وتوريث المسلم قريبه الذمي، وهي مسألة نزاع، بين الصحابة والتابعين، وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع، بل المنقول عنهم التوريث.

قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع، فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم وأموالهم، وفداء أسراهم. فالمسلمون ينفعونهم وينصرونهم ويدفعون عنهم: فهم أولى بميراثهم من الكفار. والذين منعوا الميراث قالوا: مبناه على الموالاة: وهي منقطعة بين المسلم والكافر، فأجابهم الآخرون بأنه ليس مبناه على الموالاة الباطنة التي توجب الثواب في الآخرة، فإنه ثابت بين المسلمين وبين أعظم أعدائهم، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: "هم العدو فاحذرهم". فولاية القلوب ليست هي المشروطة في الميراث، وإنما هو بالتناصر، والمسلمون ينصرون أهل الذمة فيرثونهم، ولا ينصرهم أهل الذمة فلا يرثونهم. والله أعلم[9]. ا. هـ.

ويمكن اعتبار هذا الميراث من باب الوصية من الأب المتوفّى لولده، والوصية من الكافر للمسلم، ومن المسلم للكافر غير الحربي: جائزة بلا إشكال، وعندهم يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله، ولو لكلبه! فلابنه أولى.

على أنا لو أخذنا الجمهور الذين لا يورثون المسلم من غير المسلم، لوجب علينا أن نقول لهذا المسلم الذي مات أبوه: خذ هذا المال الذي أوجبه لك القانون من تركة أبيك، ولا تأخذ منه لنفسك إلا بقدر ما تحتاج إليه لنفقتك ونفقة أسرتك، ودع الباقي لوجوه الخير والبر التي يحتاج إليها المسلمون وما أكثرها، ما أحوجهم إليها كما قلت في رسالتك. ولا تدع هذا المال للحكومة، فقد يعطونها لجمعيات تنصيرية ونحوها.

هذا على نحو ما أفتينا به في المال المكتسب من حرام، مثل فوائد البنوك ونحوها، فقد أفتينا وأفتت بعض المجامع الفقهية، بعدم جواز تركه للبنك الربوي، ولا سيما في البلاد الأجنبية، ووجوب أخذه لا لينتفع به، بل ليصرفه في سبيل الخير ومصالح المسلمين.

وبالله التوفيق.

[1] رواه البخاري في كتاب المغازي، وكتاب الفرائض عن أسامة بن زيد، وكذلك مسلم في كتاب الفرائض (1614).

[2] رواه أحمد في المسند (2 / 178 و 195). وأبو داوود (2911). وابن ماجه (2731). جمعهم عن عبدالله بن عمرو، وذكره في صحيح الجامع الصغير (7614). ورواه الترمذي واستغربه من حديث جابر (2109).

[3] المغني: 9 / 154.

[4] رواه أحمد في مسنده (5 / 230، 236) وأبو داوود (2912) و (2913) والحاكم – وفيه: أبو الأسود عن معاذ – وصححه (4 / 345) ووافقه الذهبي. قال في الفتح: وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، لكن سماعه منه ممكن. (الفيض: 3 / 179).

[5] رواه الدارقطني والبيهقي والروياني والضياء عن عائذ بن عمرو، وحسنه في صحيح الجامع الصغير (2778).

[6] ولكن قارن هذا بمسائل أحمد ص 220: حدثنا أبو داوود قال: سمعت أحمد سئل عن ميراث المرتد، قال: كنت مرة أقول: "لا يرثه المسلمون"، ثم أجبن عنه!

[7] قارن بسنن الترمذي (بشرح ابن العربي) 6 / 180 وسنن أبي داوود 4 / 252 رقم 4530 (باب: أيقاد المسلم بالكافر؟).

[8] أحكام أهل الذمة لابن القيم بتحقيق د / صبحي الصالح ص 462 – 465، وانظر بعدها إلى ص 474 طبعة جامعة دمشق.

[9] المصدر السابق.

حكم الخل المصنوع من الخمر

س: ما حكم الخل المصنوع من الخمر؟

من فرانكفورت - ألمانيا

جـ: إذا كانت الخمر تخللت – أي تحولت إلى خل – بنفسها، فهي حلال، وطاهرة بالإجماع. وإذا كانت تخللت بمعالجة وعمل متعمد، كوضع ملح أو خبز، أو بصل، أو خل أو مادة كيميائية معينة، فقد اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من قال: تطهر، ويحل الانتفاع بها، لانقلاب عينها، وزوال الوصف المفسد فيها. ومنهم من قال: لا تطهر، ولا يحل الانتفاع بها، لأنا أمرنا باجتنابها "فاجتنبوه" وفي التحليل اقتراب منها، فلا يجوز.

وقد جاء في ذلك حديث أنس عن أبي داوود: أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: "أهرقها" فقال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: "لا"[1]. فدل على أنه لا يجوز، ولأنه لو جاز لندبه إليه لما فيه من إصلاح مال اليتيم. ولما روي عن عمر قال: لا تأكل خلا من خمر أفسدت، حتى يبدأ الله بفسادها، وذلك حين طاب الخل. ولا بأس على امرئ أصاب خلا من أهل الكتاب أن يبتاعه، ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها[2].

يعني بما بدأ الله بفساده: ما تحول بنفسه من خمر إلى خل دون معالجة.

ولأنه – حسب قول الشيرازي في المهذب – إذا طرح فيها الخل نجس الخل، فإذا زالت بقيت نجاسة الخل النجس، فلا تطهر، انتهى.

قال الإمام النووي في (المجموع): إذا انقلبت الخمر بنفسها خلاً، تطهر عند جمهور العلماء، ونقل القاضي عبدالوهاب المالكي فيه الإجماع. وحكى غيره عن سحنون: أنها لا تطهر.

وأما إذا خللت بوضع شيء فيها، فمذهبنا أنها لا تطهر، وبه قال أحمد والأكثرون. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والليث: تطهر.

وعن مالك ثلاث روايات: أصحها عنه: أن التخليل حرام، فلو خللها طهرت. والثانية: حرام ولا تطهر. والثالثة: حلال وتطهر.

وفي كتب المالكية: الراجح: جواز التخليل[3].

وذكر الإمام الخطابي في (معالم السنن): ورخص في تخليل الخمر ومعالجتها عطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبدالعزيز: وإليه ذهب أبو حنيفة.

وكره ذلك سفيان وابن المبارك[4].

روى أبو عبيد في (الأموال) بسنده عن عطاء: في رجل ورث خمراً! قال: يهريقها. قيل: أرأيت إن صب عليها ماء، فتحولت خلا؟ قال: إن تحولت خلا فليبعه[5].

وروى أبو عبيد أيضاً بسنده عن المثنى بن سعيد قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن عبدالرحمن – وهو عامله على الكوفة - :أن تُحمل الخمر من رستاق إلى رستاق، وما وجدت منها في السفن فصيره خلا. فكتب عبدالحميد إلى عامله بواسط، محمد المنتشر – بذلك، فأتى السفن، فصب في كل راقود (دن كبير) ماء وملحاً، فصيره خلاً.

قال أبو عبيد: فلم يحل عمر بينهم وبين شربها، لأنهم على ذلك صولحوا. وحال بينهم وبين التجارة فيها. (لأنها لم تكن مما شرط لهم). وإنما نراه أمر بتصييرها، ولو كانت لمسلم ما جاز إلا هراقتها في الأرض[6].

وهذا التفسير من أبي عبيد لتصرف عمر بن عبدالعزيز يخالف ما فهمه الخطابي: أنه كان يرخص في تحليلها ومعالجتها بإطلاق، أي للمسلم وغير المسلم.

وروى أبو عبيد عن المبارك بن فضالة عن الحسن: في رجل ورث خمراً أيجعلها خلا؟ قال: كان يكرهه[7].

أي على سبيل التنزه والتورع والبعد عن الشبهات، كما ذكره الخطابي عن سفيان وابن المبارك.

والذي يترجح عندي: أن الخمر إذا صارت (خلا) طهرت وحلت، لأنها استحالت من عين إلى أخرى، تغيرت صفاتها، فيجب أن يتغير حكمها، كما نقول في كل النجاسات المستحيلة، سواء استحالت بنفسها أم بفعل فاعل.

والخمر نفسها كانت عيناً حلالا من العنب وغيره، فلما استحالت إلى مادة مسكرة حرمت، فإذا تغيرت وزال وصف الإسكار، زالت الحرمة، وعادت إلى الحكم الأصلي.

على أن من المستبعد أن يغير القوم الخمر إلى خل عامدين، إذ الخمر عندهم أهم وأغلى ثمناً من الخل، فلا يتصور أن يحولوها إلى خل ليخسروا فيها، وهم يركضون وراء الكسب المادي.

ومنطق الحنفية ومن وافقهم قوي، لأن التخليل – مثل التخلل – يزيل الوصف المفسد، وهو الإسكار، ويثبت وصف الصلاحية، لأن فيه مصلحة التغذي والتداوي وغيرهما، ولأن علة التنجيس والتحريم هي الإسكار، وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. قال الإمام الطحاوي في (شرح مشكل الآثار): مؤيداً ما ذهب إليه الحنفية: لأنا رأينا العصير الحلال إذا صار خمراً بعلاج من غيره أن ذلك سواء، وأنها حرام للعلة التي حدثت فيها، ولم تفترق في ذلك ما كان من ذاتها، ولا ما كان فعل أحد من الناس بها. وكان مثل ذلك إذا كانت خمراً، ثم انقلبت خلاً أن يستوي ذلك فيها، وأن يكون انقلابها بذاتها، وانقلابها بفعل أحد من الناس بها بمعنى واحد، ويكون حدوث صفة الخل فيها يوجب لها حكم الخل، فيعود إلى حله، ويزول عن حكم الخمر التي عليه في حرمته، ومثل ذلك أيضاً دباغ الميتة أن يستوي علاجها وهي حرام حتى تعود حلالاً، كما تعود حلالاص لو تركت حتى تجف في الشمس وتسفي عليها الرياح، فيكون ذلك سبباً لذهاب وضر الميتة عنها، وإعادة لها حكم الأهب التي من المذكى من أجناسها[8].

ولأن التخليل إصلاح، فجاز قياساً على دبغ الجلد النجس، فقد صح في الحديث: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"[9].

يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخل"[10] مطلقاً، من غير تفريق بين خل وآخر، ولا طلب منا البحث عن أصله ماذا كان.

وقد روى أبو عبيد عن علي: أن اصطبغ (أي ائتدم) بخل الخمر. وعن ابن عون: أن ابن سيرين كان لا يسميه (خل الخمر) ويسميه (خل العنب) وكان يأكله[11].

وفي عصرنا عندما يشترى الخل، يعرض على المعامل العلمية ومختبرات التحليل، وهي تبحث في المادة الموجودة، وتصدر حكمها بناء على العناصر المكونة لها، ولا تنظر إلى أصلها أي شيء كان.

وأما حديث أنس وسؤال أبي طلحة وتشديد النبي عليه، فيظهر أن ذلك كان من باب التغليظ عليهم في أول الأمر، حتى يفطمهم فطاماً تاماً عن الخمر، وعن مجرد الاقتراب منها، ولو لإصلاحها. يدل على ذلك: رواية الترمذي في حديث أنس الذي احتج به الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فقد رواه عن أنس عن أبي طلحة، أنه قال: يا نبي الله، إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري؟ قال: "أهرق الخمر، واكسر الدنان"[12].

أما إهراق الخمر، فهو المطلوب، حتى لا ينتفع بها، فلماذا تكسر الدنان؟ أي أواني الخمر، مع أن تطهيرها بالغسل ميسور، والأصل أنها مال، وهو منهي عن إضاعته؟

والجواب: أن هذا كان من باب الردع والتشديد عليهم في أول الأمر، حتى لا يتهاونوا فيها بحال.

أما بعد استقرار الأمر، فالواجب أن تراق الخمر، ولا تكسر أوانيها، محافظة على المال، وهو إحدى الضروريات الخمس. بل إذا أمكن الاستفادة من الخمر بتخليلها فهو أولى، حتى لا يضيع هذا المال على المسلمين.

وقد ذكر هذا الوجه في منع التخليل الإمام القرطبي في تفسيره، فقد قال: وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام، عند نزول تحريمها، لئلا يستدام حبسها، لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك، وإذا كان كذلك، لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها، ما يمنع من أكلها إذا خللت[13].

أقول: إن الذي ذكره القرطبي رحمه الله – احتمالا في تفسير المنع من تخليل الخمر – هو الذي نرجحه، بل نجزم به إن شاء الله، وهو الذي يتمشى مع المنهج الإسلامي في التدرج في التربية والتشريع.

وأما نهي عمر عن أكل خل الخمر حتى يبدأ الله بفسادها، أن تتحلل من نفسها، فحمله بعضهم على الورع، والذي تبين لنا: أنه نوع من التربية للأمة، والسياسة التعزيرية التي كان يتبعها مع الرعية، مثل إراقة اللبن المغشوش، ومثل معاقبة (رويشد) الثقفي، الذي وجد عمر في بيته خمراً، فأمر ببيته فأحرقه[14]، وهذه مبالغة في الردع من عمر، حتى يتجنب الناس المنكرات. وليست لازمة دائماً، وكثير من الفقهاء خالفوا عمر في ذلك.

ونحن مع السياسة العمرية في ردع أصحاب المنكر، وفي وقاية الأمة من التلبس بالخمر شرباً أو صنعاً أو اتجاراً، واقتراباً منها بحال، وقد لعن الحديث فيها عشرة من كل من ساهموا فيها، ولكن قد تدخل الخمر في ملك المسلم جبراً عنه، كما في تحويل العصير خمراً، أو عن طريق الميراث، أو غير ذلك، فهنا لا ينبغي أن نضيع مال المسلم، إذا وجدنا سبيلا لذلك.

وكذلك قد نمتلك خلا، ربما كان أصله خمراً، فالورع اجتنابه، ولكن لا نقول بحرمته، كما هو الراجح عندنا، وكما دلت على ذلك الدلائل. ولله الحمد.

على أن حديث أنس هذا، إنما ورد في قضية حال لا عموم لها، فإعمال المعلومات أولى.

وما قالوه من تنجس الملح وغيره إذا لاقى الخمر النجسة: لا يسلّم، لأنه العنصر المؤثر والمغيّر، وقد تغير وصف الكل، فتغير حكمه.

على أن هذا التعليل يسقط إذا تبنّينا ما ذهب إليه بعض السلف من أن نجاسة الخمر إنما هي نجاسة معنوية لا حسية، كنجاسة المشركين[15]، وهو مذهب قوي، نقله القرطبي في تفسيره عن ربيعة شيخ مالك، والليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها، ولا يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون نجساً، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس[16]. ولا يوجد دليل صحيح صريح على نجاسة الخمر. قال الإمام الشوكاني في (السيل الجرار). ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به. وعضد ذلك بالأدلة[17].

[1] رواه أبو داوود في الأشربة (3672) قال النووي في المجموع (2 / 576): حديث صحيح، ورواه مسلم مختصراً (1983) في الأشربة.

[2] الأموال لأبي عبيد: 153 الأثر (288).

[3] المجموع: 2 / 578، 579، وانظر أيضاً: بداية المجتهد: 1/461. وحاشية الدسوقي: 1/52 والشرح الصغير بتحقيق وصفي: 1/48، والروضة: 4/72 وفتح القدير: 8/166، 167. وحاشية ابن عابدين: 1/209 وكشاف القناع: 1/187.

[4] معالم السنن: 5/261.

[5] الأموال بتحقيق محمد خليل الهراس. نشر مكتبة الكليات الأزهرية ص 152. الأثر (285).

[6] المصدر السابق ص 149، 150 – الأثر (280).

[7] نفسه: ص151، الأثر (284).

[8] شرح مشكل الآثار (8/407) تحقيق شعيب الأرناؤوط – طبعة الرسالة – بيروت.

[9] رواه مسلم عن ابن عباس في الحيض (366) وأبو داوود في اللباس (4123) والترمذي (1728) وابن ماجه (3609) والنسائي أيضاً.

[10] رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن جابر، ومسلم والترمذي عن عائشة. صحيح الجامع الصغير (6768).

[11] الأموال بتحقيق الهراس: 155 الأثران: 291، 292.

[12] رواه الترمذي في كتاب البيوع (1293) ورجال إسناده ثقات، كما في نيل الأوطار (5/154).

[13] المصدر السابق ص 190.

[14] الأموال: 152 – الأثر (287).

[15] في قوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام..." ]التوبة: 28[.

[16] تفسير القرطبي: ج 6/188، 189 طبعة دار الكتب المصرية.

[17] السيل الجرار: 1/35-37.

حكم الإنزيمات التي أصلها من الخنزير

1- حصلنا على قائمة بأسماء وأرقام بعض الإنزيمات الحافظة في المواد الغذائية والتي تقول: إن أصلها يرجع إلى عظام أو دهن الخنزير.

من هذه الأرقام: E 442، E 153 وغيرها الكثير.

نرجو إفادتنا بحكم تناول هذه الأطعمة التي تحتوي على تلك الإنزيمات.

جـ1: ليست كل الإنزيمات – إذا كان أصلها من عظم خنزير أو دهنه – محرمة بالقطع، كما قد يتوهم الكثيرون. فمن المقرر لدى جمهور الفقهاء: أن النجاسة إذا (استحالت) تغير حكمها، كما إذا تحولت الخمر إلى خل، أو احترقت النجاسة وتحولت إلى رماد، أو أكلها الملح، كما لو مات حيوان في ملاحة – ولو كان كلباً أو خنزيراً – وأكله الملح تماماً، بحيث زالت (الكلبية) أو (الخنزيرية) ولم يعد لها وجود، ولم يبق إلا (الملحية). فهنا قد تغيرت الصفة، وتغير الاسم، فتغير الحكم، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

ومن هنا نقول: إننا لا نحكم على الأشياء بأصلها، فإن أصل الخمر هو العنب وغيره من الأشياء المباحة شرعاً. فلما استحالت إلى هذه المسكرة حكمنا بخمريتها وحرمتها. فإذا تغيرت وأصبحت خلاً حكمنا بحلها وطهارتها.

وكثير من الأشياء التي أصلها من الخنزير قد استحالت، وبعبارة أخرى: تغيرت تغيراً كيماوياً، لم تعد رجساً، ولم يعد لها حكم لحم الخنزير المحرم، مثل مادة (الجلي) الذي يؤخذ من عظام الحيوان، وقد يكون منها عظم الخنزير، فقد أكد الخبراء، ومنهم أخونا الدكتور محمد الهواري – أن هذه المادة قد استحالت كيماوياً. ومثله بعض أنواع من الصابون، ومعجون الأسنان وغيرها مما كان أصله من الخنزير، وقد انتفت عنه الصفة الخنزيرية الآن.

ومن أجل ذلك نطالب إخواننا العلماء والخبراء من أمثال الدكتور الهواري أن يضعوا قائمة للمسلمين في أوروبا بالأشياء التي استحالت كيميائياً، فغدت بذلك حلالاً وطاهرة، وإن كان أصلها من الخنزير. وبالله التوفيق.

نماذج تطبيقية في المجتمع وعلاقاته ومعاملاته

تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم

أنا طالب مسلم أدرس دراسات عليا (دكتوراه) في علوم الذرة في بلد أوروبي هو ألمانيا، وأحمد الله أني محافظ على ديني، مؤد لفرائض ربي، متعاون مع إخواني هنا على خدمة ديني، والحفاظ على الجالية الإسلامية هنا، وهي كبيرة بحمد الله.

والمشكلة التي أود أن أعرضها على فضيلتكم هي: ماذا يحل لنا من مجاملة القوم في المناسبات المختلفة وما يحرم علينا؟ ومنها: مناسبات وطنية، وأخرى مناسبات دينية، وأشهرها عيد (ميلاد المسيح) أو ما يسمى (الكريسماس) الذي يحتفل به القوم احتفالاً كبيراً.

هل يجوز للواحد منا أن يجامل زميله في الدراسة، أو مشرفه على الرسالة، أو رفيقه في العمل، أو جاره في المسكن، في هذه المناسبة ويهنئه بها ببعض الكلمات الرقيقة المعتادة؟

فقد سمعت من بعض الإخوة: أن هذا حرام، بل من كبائر الذنوب عند الله، لأن فيه إقراراً لهم على الباطل والكفر، وموافقة لهم على التمادي فيه، ومشاركة لهم فيما هو من شأن دينهم.

وأنا حين أجاملهم بكلمة أو بهدية لا يخطر في بالي أني أقرهم على باطلهم، أو أوافقهم على كفرهم، إنما هو من حسن المعاشرة التي أمر بها الإسلام، ولطف التعامل مع الناس. ولا سيما أنهم يبادرون بتهنئتنا في أعيادنا، وقد يهدون إلينا بعض الهدايا، وأجد من الجفاء والخشونة والقسوة التي لا تليق بالمسلم: أن يقابل هذا التودد من القوم بوجه عبوس، وجبين مقطب، وتجاهل للمناسبة، تظهر المسلم بمظهر منفر للقوم، مسيء إلى الإسلام، وخصوصاً في هذه الآونة التي تشتد فيها الهجمة على الإسلام، ووصفه بالعنف ووصف دعاته بالإرهاب، فنحن بهذا التعامل الخشن نعطيهم حجة أو سلاحاً للطعن في ديننا وأمتنا.

نرجو من فضيلتكم التكرم ببيان موقف الفقه الإسلامي المعاصر من هذه القضية الحساسة في ضوء الموازين الشرعية، كما عودتمونا، في مثل هذه القضايا، سائلين الله تعالى أن ينفع الأمة بعلمكم، ويبارك في جهودكم وجهادكم، آمين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (وبعد):

فلا شك أن القضية التي سأل عنها الأخ قضية مهمة وحساسة، كما وصفها، وقد سئلت فيها في بلاد شتى في أوروبا وأمريكا من الإخوة والأخوات، اللذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها المسيحيين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يعين الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان!

وما موقف المسلم من هؤلاء من (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟

إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين◙ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" ]الممتحنة: 08-09[.

ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم.

فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برّهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، العدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه – والبر: أن تزيده على حقه فضلاً وإحساناً. وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق، إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول وأصحابه.

وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كملة (البر) حين قال: "أن تبروهم" وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).

وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: صِلِي أمك.

هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.

حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم وطعامكم حلٌ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" ]المائدة: 05[.

ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" ]الروم: 21[.

وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" ]البقرة: 187[.

ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً" ]الفرقان: 45[.

ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة ومالها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمة، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله" ]الأنفال: 75[. وقال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" ]النحل: 91[.

فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم، ورحابة صدره، ووفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم أبا ذر بقوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"[1] هكذا: "خالق الناس" ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من (العنف) والخشونة في ذلك.

ولما دخل بعض اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، ولووا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: (السام) عليك يا محمد، ومعنى (السام): الهلاك والموت، وسمعتهم عائشة، فقالت: وعليكم السام واللعنة يا أعداء الله، فلامها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال: "سمعت، وقلت: وعليكم"، (يعني: الموت يجري عليكم كما يجري عليّ) يا عائشة: "الله يحب الرفق في الأمر كله"[2].

وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا – كما ذكر السائل – يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" ]النساء: 86[.

ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرماً، وأدنى حظاً من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظاً، والأكمل خلقاً، كما جاء في الحديث "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"[3] وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[4].

وقد روي أن مجوسياً قال لابن عباس: السلام عليكم، فقال ابن عباس: وعليكم السلام ورحمة الله. فقال بعض أصحابه: تقول له: ورحمة الله؟ فقال: أوليس في رحمة الله يعيش؟!

ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى إنهم – لثقتهم به عليه الصلاة والسلام – كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام حين هاجر إلى المدينة، ترك علياً – رضي الله عنه – وأمره برد الودائع إلى أصحابها.

فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم، أو المركز الإسلامي بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتعارض مع مبادئ الإسلام مثل (الصليب)، فإن الإسلام ينفي فكرة الصليب ذاتها "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" ]النساء: 156[.

والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، إنما هي كلمات مجاملة تعارفها الناس.

ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير.

أنا أعلم أن بعض الفقهاء، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية قد شددوا في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، وذلك في كتابه القيم (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم).

وأنا معه في مقاومة احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب، كما نرى بعض المسلمين يحتفلون بـ (الكريسماس) كما يحتفلون بعيد الفطر، وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا ما لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا أرى بأساً من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي المودة وحسن الصلة، التي يقرها العرف السليم.

ولا يخفى أن شيخ الإسلام قد أفتى في هذه القضية في ضوء أحوال زمنه، ولو عاش – رضي الله عنه – في زمننا ورأى تشابك العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، وتقارب العالم حتى غدا كأنه قرية صغرى، ورأى حاجة المسلمين إلى التعامل مع غير المسلمين، وأنهم أصبحوا أساتذة للمسلمين – للأسف – في كثير من العلوم والصناعات، ورأى حاجة الدعوة الإسلامية إلى الاقتراب من القوم، وإظهار المسلم بصورة الرفق لا العنف، والتبشير لا التنفير، ورأى أن تهنئة المسلم جاره أو زميله، وأستاذه في هذه المناسبة لا تحمل أي رضا من المسلم عن عقيدة المسيحي، أو إقراره على كفره الذي يعتقده المسلم، بل لو رأى أن المسيحي نفسه لم يعد يحتفل بهذه الأعياد على أنها عمل ديني يتقرب به إلى الله، بل إنه أصبح – في الأعم الأغلب – عرفاً وعادة وطنية أو قومية تعودها الناس، ليستمتعوا فيها بالإجازة والطعام والشراب والهدايا المتبادلة بين الأهل والأصدقاء.

لو عاش ابن تيمية إلى زمننا ورأى هذا كله، لغيّر رأيه – والله أعلم – أو خفف من شدته، فقد كان – رضي الله عنه – يراعي الزمان والمكان والحال في فتواه.

هذا كله في الأعياد الدينية، أما الأعياد الوطنية، مثل عيد الإستقلال أو الوحدة، أو الأعياد الاجتماعية مثل: أعياد الأمومة والطفولة والعمال والشباب ونحوها، فلا حرج على المسلم من أن يهنئ بها أو يشارك فيها باعتباره مواطنا أو مقيما في هذه الديار، على أن يحرص على تجنب المحرمات التي قد تقع في تلك المناسبات، وبالله التوفيق.

[1] رواه الترمذي: 1988 وقال: حديث حسن، وأحمد.

[2] متفق عليه عن عائشة.

[3] رواه أحمد وأبو داوود وابن حبان والحاكم.

[4] رواه ابن سعد والبخاري في الأدب المفرد.

التعامل مع الجار غير المسلم في بلد غير إسلامي

س: أنا طالب علم في السنة الرابعة في الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في فرنسا، أجري بحثاً بالعنوان التالي: "التعامل مع الجار غير المسلم في بلد غير إسلامي".

وسيكون هذا البحث بحث تخرجي إن أراد ذلك المولى سبحانه.

ولقد أوقفتني مسألة فأود من فضيلتكم مساعدتي فيها وهي:

إذا دعا جار غير مسلم جاره المسلم إلى طعام ووضع على مائدة الطعام زجاجة من خمر:

1- هل إجابة الدعوة واجبة؟

2- هل تدخل هذه الحالة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر" (أخرجه الترمذي وأحمد وصححه الحاكم).

3- هل يجوز له هذا الجلوس؟

4- في حالة ما يظن هذا بعد دعوة الجار، هل عليه أن يسأل جاره ليتأكد بعدم الوقوع في ذلك المحظور أو يترك الأمر حتى يذهب إلى بيت جاره؟

5- هل هناك حالات يجوز فيها هذا الجلوس؟

6- هل يمكن أن ندخل في حالة الجواز سبب الدعوة، أعني: إن قصد المسلم بنفسه دعوة جاره غير المسلم إلى الإسلام، وتوقع ميله إليه، في هذه الحالة: هل يمكن له أن يجلس مع جاره بنية الدعوة إلى الله عملاً بالقاعدة: ارتكاب أخف المنكر لإزالة منكر أكبر وهو كفر جاره.

أرجو منكم أن تفيدنا بما أفادكم الله مبيناً لنا أدلتكم في هذه المسألة: ابنكم، عمر ريفي.

الابن العزيز، والطالب النابه عمر ريفي حفظه الله ورعاه وسدد خطاه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرجو أن تكون وإخوانك جميعاً بخير وعافية في دينكم ودنياكم. كتب الله لكم التوفيق وأمدكم بروح من لدنه.

(أما بعد):

فأقول – وبالله التوفيق – إجابة عن تساؤلاتك:

أولاً: إن الإسلام يؤكد حق الجار أبلغ التأكيد، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب" ]النساء: 36[. والجار الجنب هو: البعيد، سواء بعيداً في النسب، أم في الدين، أم في الدار.

وقد أوصى عبدالله بن عمرو غلامه ألا ينسى جاره اليهودي من ذبيحة ذبحها، وأكد وصيته له، حتى سأله الغلام عن سر هذا الاهتمام، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه".

ثانياً: لا يجب على المسلم إجابة الدعوة التي توجه إليه إذا علم أن هناك منكراً لا يستطيع تغييره. وما دام لا يمكنه إزالة المنكر، فليزل هو عنه.

هذا ما نص عليه الفقهاء فيمن دُعي إلى وليمة عرس، وعلم أن فيها بعض المنكرات، حتى عند من قالوا: إن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس واجبة، وهناك من قال: إن الإجابة مستحبة وليست واجبة.

أما في غير وليمة العرس، فإن إجابة الدعوة ليست واجبة بالإجماع. وإنما تستحب توثيقاً للروابط، وتنمية لمشاعر المودة بين الناس، وخصوصاً إذا كانت بينهم وشائج وصلات معينة، مثل القرابة والجوار والزمالة.

ثالثاً: لعل السؤال الأهم هنا: هل يجوز له أن يذهب إلى هذه الدعوة، وإن لم يكن ذلك واجباً عليه؟

والجواب: أن الأصل في ذلك ألا يجوز ذلك، للحديث الذي ذكره السائل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر".

ولأن من قواعد الإسلام: أن يحاصر المعصية من كل جهة حتى تنقطع جذورها، ولهذا يحرم كل عمل يؤدي إليها أو يعين عليها. وهذا ما جعل الرسول الكريم يلعن في الخمر عشرة، تشمل كل من ساعد على تناولها بصورة من الصور.

وكذلك لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.

ومن هنا يكون المسلم الذي يحضر مجالس الخمر آثماً، وإن لم يشربها، لأن مجرد حضوره في تلك المجالس، يقوي مرتكبيها ويشد أزرهم.

وقد ورد أن عمر بن عبدالعزيز أتي إليه بجماعة شربوا الخمر، ليقيم عليهم الحد، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، إن فيهم رجلاً ليس ممن شرب، بل هو صائم! فقال: به فابدءوا، فإن الله تعالى يقول: "وقد نزل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم" ]النساء: 140[.

فاعتبر القرآن القاعدين مع الكفار المستهزئين مثلهم، أي في أصل الإثم.

ولا يعفي من الإثم هنا إلا خوف ضرر بليغ يحيق به إن هو رفض الدعوة، فهو يرتكب بالحضور أخف الضررين، ويرضى بأهون الشرين، وهذا من القواعد الشرعية المقررة: دفع الضرر الأعلى بتحمل ضرر أدنى.

ويقرب من ذلك: أن يرجو مصلحة كبيرة بقبوله الدعوة، مثل رجاء قبول هذا الجار للإسلام، وإحساسه ببداية انعطافه نحو هذا الدين، ويخشى أن تضيع هذه الفرصة، إذا أوحش قلب الرجل، وأعرض عن قبول دعوته، فللاجتهاد هنا مجال.

أما قضية سؤاله صاحب الدعوة عما إذا كان يوجد خمر أو خنزير أو نحو ذلك مما يحرمه الإسلام قطعاً، فهذا هو الأولى، حتى يعرف الرجل أن المسلم لا يشرب خمراً، ولا يأكل خنزيراً... إلخ: وهذا ما يفعله المسلمون الذين يعيشون في مجتمعات غير إسلامية، يعرِّفون من يدعونهم أنهم لا يتناولون المسكرات، ولا يجلسون على مائدة تقدم فيها، وهذا ما يجعل جيرانهم وزملاءهم حين يدعونهم يحترمون قيمهم ومبادئهم، ولا يقدمون لهم شيئاً من هذا.

وهذا أولى من أن يترك الأمر معمّى، حتى يفاجأ بما لم يكن في حسبانه، ويعتذر عن عدم تلبية الدعوة، بعد أن يكون داعيه قد كلف نفسه، وتوقع حضوره.

وبالله التوفيق.

شراء بيوت السكنى في الغرب عن طريق البنوك

السؤال عن شراء البيوت السكنية بالقروض الربوية في بلاد الغرب، ليس جديداً بالنسبة إليّ، بل هو سؤال قديم، عمره نحو ربع قرن من الزمان أو يزيد... وقد سمعته مراراً منذ بدأت زياراتي تتوالى للأقليات والجاليات الإسلامية في أمريكا وأوروبا وبلاد الشرق الأقصى، وغيرها.

فكان السؤال عن شراء البيوت يتكرر باستمرار، تكرر السؤال عن لحوم الذبائح التي يذبحها الغربيون – وهم في الغالب مسيحيون – وعن الأطعمة التي يمكن أن يدخل فيها لحم الخنزير أو شحمه.

والظاهر من كثرة ورود السؤال عن شراء البيوت أن وراءه سببين:

الأول: هو حاجة الناس الماسة لامتلاك بيوت خاصة بهم، تسعهم وتسع أولادهم، وتسع ضيوفهم.
والثاني: أن هناك من العلماء – وهم قلة – من أفتى بجواز شراء هذه البيوت، وجادل عنها.

وقد أخبرني بعض الإخوة في بريطانيا: أن بعض علماء الهند وباكستان، أفتوا قديما لبعض الإخوة الهنود والباكستانيين المقيمين في بريطانيا بجواز شراء هذه البيوت بالفوائد، على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، فاشتروا بيوتا في لندن وبعض المدن الكبيرة، بأسعار رخيصة في ذلك الزمن، وسرعان ما تغير الحال وارتفعت الأسعار، فأصبحت هذه البيوت – وبعضها في قلب لندن – تساوي الملايين وعشرات الملايين، مما أدى إلى تغير الوضع الاقتصادي لهؤلاء، وغدا بعضهم من كبار الملاك في إنجلترا.

وأود أن أقول هنا بصراحة: إن رأيي في هذه القضية ظل – إلى نحو عشرين سنة تقريباً – هو المنع والتحريم والتشديد في ذلك، والرد على من يميل إلى الإباحة.

وأذكر أنني خلال السبعينيات في القرن العشرين، لقيت في أمريكا الفقيه العلامة الأستاذ مصطفى الزرقا عليه رحمة الله، وعرضت هذه القضية في أحد اللقاءات، فكان رأيه الإجازة، بناء على تبنيه للمذهب الحنفي، وكان رأي المنع، بناء على ما تبنيته من رأي الجمهور، ومن ظاهر عموم الأدلة المحرمة للربا، بغض النظر عن دار الإسلام أو دار الحرب.

ولكن دماغ العالم المسلم، ليس قطعة من الفولاذ، ولا من جلمود الصخر. إن عقله يظل يتحرك، ويبحث ويقارن ويوازن، وهو لا يقف في العلم عند حد، ولا يأتي وقت يقول فيه: قد بلغت غاية العلم، ولا طمع في الزيادة. بل المسلم يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ولا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل. وقد قال الله تعالى لخاتم رسله وأفضل خلقه: "وقل ربي زدني علماً" ]طه: 114[، وقال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" ]الإسراء: 85[.

وما دام العالم يطلب العلم، فلا يستغرب منه أن يغير رأيه، بناء على أدلة شرعية جديدة بدت له، لم تظهر له من قبل: من فقه النصوص، أو فقه المقاصد، أو فقه الواقع، وهو ما جعل الإمام محمد بن إدريس الشافعي يغير كثيرا من أقواله، حتى بات ذلك معروفا في مذهبه: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد. وذلك أنه – حين دون مذهبه الجديد بعد أن استقر في مصر – رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع من قبل، مع نضج السن والتجربة، وتغير الاجتهاد.

وهو ما جعل أصحاب أبي حنيفة يخالفون إمامهم الأعظم في أكثر من ثلث المذهب، وما جعل كثيرا من علماء الحنفية يختارون رأي الصاحبيين أو أحدهما للفتوى، وكثيرا ما يكون الخلاف لتغير الأحوال في عصرهما عن عصر شيخهم، ولهذا قالوا: لو رأى ما رأينا لقال بمثل ما قلنا. وقد عبر علماء الأحناف عن هذا النوع من الخلاف: بأنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان.

ومثل هذا يقال في الخلاف بين مالك وأصحابه، وأحمد وأصحابه، بل لعله السبب وراء اختلاف الروايات الكثيرة المروية عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة، حتى لتبلغ في بعض الأحيان إلى عشرة، أو أكثر، فإنه يجيب في كل حالة بما يناسبها، مشددا في حالة، ومسهلا في أخرى. مطلقا في حالة، ومقيدا في أخرى.

وإذا كان هذا شأن الكبار من أئمتنا، فليس عجبا ولا غريبا أن يتغير رأي مثلي في هذه القضية، من المنع إلى الإجازة، ومن التشديد إلى التيسير.

وقد ظللت متحرجا فترة من الزمن من إعلان هذا الرأي، وكنت أفتي به لمن سألني خاصة، ثم رأيت الإعلان عنه، لأني أصبحت أسأل على الملأ، وفي المحاضرات واللقاءات العامة، ثم في القنوات الفضائية بعد ذلك، ولا يسعني أن أكتم ما انتهى إليه رأيي في المسألة. والفقيه المسلم لا يجوز له أن يفتي الناس بغير ما اقتنع به عقله، وانتهى إليه اجتهاده وعلمه، وإلا كان خائنا لأمانة العلم، بل خائنا لله وللرسول ولجماعة المسلمين.

وهب أن رأيه هذا كان خطأ، فهو معذور، كما علمنا الله تعالى أن نقول: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" ]البقرة: 286[، وقد جاء في الصحيح أن الله تعالى قال: "قد فعلت" أي أنه استجاب الدعاء، وكما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله وضع عنا الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه[1]؟

بل صح في الحديث المتفق عليه أن المجتهد إذا أخطأ فليس بمعذور فقط، بل هو مأجور أيضاً، وإن كان أجرا واحدا، المهم أنه لم يحرم من الأجر. كما في حديث عمرو بن العاص: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"[2].

فهو إذا أصاب، له أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، وإذا أخطأ فله أجر واحد، هو أجر الاجتهاد. وهذه لا شك من روائع الإسلام: أن يثاب المجتهد المخطئ، ولا يعاقب، فأي تشجيع على الاجتهاد – ولو خطأ – أكثر من هذا؟

وقبل أن نجيب عن هذا السؤال الكبير، يحسن بنا أن نستبين حقيقة المشكلة، من أصحابها أنفسهم، فهم أعلم بها وبجوانبها المختلفة منا، ولا ينبئك مثل خبير، وهذا يعيننا على إصدار حكم أقرب إلى السداد ما استطاع البشر غير المعصوم.

تصوير المشكلة كما يعرضها أهلها:

من حق المفتي – بل من واجبه – أن يتصور المشكلة التي يفتي فيها تصوراً صحيحاً، مبنيا على الواقع، دون تهوين، ولا تهويل، حتى تكون فتواه على بصيرة، وقد قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وهذا ما نعبر عنه بـ (فقه الواقع) فكثيرا ما يكون خطأ الفقيه ناشئا عن عدم تصور واقع المسألة المستفتى فيها، وليس من عدم فهم النصوص والقواعد الشرعية، ومن هنا نعرض هذه البيانات كما قدمها الإخوة المهتمون والعارفون بهذا الشأن في الغرب:

1- تشكل الفائدة في الأقساط الأولى للبيت المشترى عن طريق البنك الربوي: النسبة الغالبة من قيمة القسط، والنسبة الأقل تكون سداداً لقيمة القرض الأصلي، وتنعكس هذه النسبة تدريجيا حتى تصبح النسبة الغالبة سداداً للقرض في الأقساط الأخيرة.

2- الوفاء للدين يكون لمدة قد تصل إلى ثلاثين عاما، وتقل الفائدة بتقصير مدة السداد، كما تزيد بتطويلها، وقد تصل الفوائد في نهاية مدة السداد ضعفي أصل القرض حسب المدة.

3- القسط المدفوع شهريا للبنك يعادل الإيجار السنوي الذي يدفع في حالة استئجار البيت، أو يكون أكثر منه بقليل، وفي بعض الأحيان يكون أقل.

4- في حالة شراء البيت من البنك بطريق الفوائد الربوية، بعد سداد الأقساط يصبح البيت ملكا للمشتري، أما في حالة الإيجار، فما يدفعه المستأجر للمالك يعتبر مبلغا مهدرا في نظره، لا يملك في مقابله شيئا غير المنفعة.

5- في حالة القرض بطريق الفوائد تعفى الفوائد المصرفية بما يعادلها من نسبة الضريبة الكلية، وهي في العادة كبيرة وثقيلة على الناس، أما في حالة الإيجار فهو يقوم بدفع هذه الضريبة كاملة.

6- في حالة الإيجار لا يدفع قيمة التدفئة والكهرباء وضريبة الأملاك والنظافة وإصلاحات المنزل، فهي على المالك، في حين أنه يدفع كل هذا في حالة شراء البيت وتملكه.

7- هناك ضرر محتمل الوقوع، وهو أن: إطلاق جواز شراء البيوت للسكن من البنوك الربوية قد يهدد نمو واتساع الشركات الإسلامية العاملة في هذا المجال.

8- يتعذر مطلقا تملك المسلمين للعقار في هذه الديار إلا في أحوال ثلاثة:

a. في حالة الشراء نقدا، أو بواسطة التعاون بين الأفراد (وهذا أمر صعب، وهو نادر جداً)
b. أو عن طريق بعض الشركات الإسلامية (وهذه من حيث رءوس الأموال لا تفي بمتطلبات الأقلية المسلمة لضعف رءوس الأموال، ثم إن نسبة المرابحة التي تحصل عليها قد تصل إلى ثلاثة أضعاف نسبة فوائد البنك الربوية، ومدة القرض تكون قصيرة لا تزيد على خمس سنوات، وقيمة القسط السنوي تكون مضاعفة لا يستطيع الكثيرون غالبا الوفاء بها).
c. أو أن يتم تملك المسلمين للعقار عن طريق البنوك الربوية.

9- الملاك في الغرب عامة لا يؤجرون بيوتهم للأسر الكثيرة الأولاد، وهذا منتشر بين المسلمين، وكثير من الأسر المسلمة طردوا من سكن الإيجار لكثرة الأبناء، أو لكثرة الضيوف، أو لكثرة الحركة في الشقة، أو لتعنت بعض الجيران غير المسلمين، وفي هذه الحالة يصعب التنقل من مكان لآخر لنفس السبب وتكون المشقة أكثر وروداً.

10- بعض الأقطار في أوروبا، وبعض الولايات في أمريكا تحدد عددا من الأبناء لسكن الإيجار، وفي هذه الحالة تصبح المشقة مضاعفة، خصوصا مع من يزيد أبناؤه على أربعة أولاد، وهؤلاء كثيرون.

11- هنا إشكالية تتصل بالعقد الذي يبرمه البنك: أنه تعاقد على بيع بيت، ولا يسلّم المقترض مالا، بل يسلمه البيت، والإشكالية التي يدعيها البعض أن الربا شكلي: يتمثل في صورة التعاقد، أما حقيقة الإجراء فهو إجراء بيع أجل، زيد فيه الثمن في مقابل الأجل.

12- في بعض الأحيان يقوم الناس بشراء بيت عن طريق البنك مكوّن من شقتين، يسكن في شقة ويؤجر الشقة الثانية، وتكون أجرة الشقة الثانية قيمة القسط الواجب سداده للبنك عن البيت كله، وبعد الوفاء للبنك بالدين تصبح الشقتان ملكا للمشتري!

مزايا تملك بيت للسكن:

يؤكد الإخوة في الغرب أن وراء تملك بيت للسكن للمسلم جملة من المزايا المادية والأدبية، وبتعبير آخر: الاقتصادية وغير الاقتصادية، وسنجملها فيما يلي:

أولاً: المزايا الاقتصادية:

1- تخفيض الفوائد المدفوعة من الدخل الخاضع للضريبة، مما يؤدي إلى تخفيض مقدار الضريبة المدفوعة: النقص بالضريبة هو دائما أقل من مقدار الفوائد المدفوعة، بينما الأجرة المدفوعة غير معفاة من الضريبة، وبالتالي لا يحصل المستأجر على أي تخفيض ضريبي.

2- يؤخذ جزء من القسط المدفوع – يبدأ قليلا جدا ويتزايد مع الزمن لأن الأقساط متساوية – لسداد رأس مال القرض. وهذا يعني تكوين رأس مال للمشتري، أما الأجرة فهي كلها نفقة.

3- المشتري يملك، فهو الذي ينال أي فرق في السعر بين الشراء والبيع – عند البيع – فإذا زادت الأسعار أخذ الفرق عن جمع البيت، وليس فقط عما دفع فيه. وإذا انخفضت كان هو الخاسر، لأنه مدين بمقدار القرض، ولا علاقة لذلك بثمن المسكن، ولكن الغالب هو زيادة الأسعار، وهو ما يتوقعه الناس عادة عند الشراء، ويحرصون عليه عند اختيار الموقع. وقد يحصل العكس فيخسر.

4- قسط الثمن في الأغلب ثابت (وهناك قروض تتغير فيها الفائدة ولكن بمقدار القرض لا يتغير إلا بما يدفع منه) وفي الأمد الطويل – وهو المعتاد في قروض السكن – يحصل تضخم – ولو كان بطيئا – فيتزايد دخل الشخص دون أن يزيد القسط الذي يدفعه، وبذلك تتناقص نسبة القسط إلى الدخل، أما الأجرة فتتزايد عادة مع التضخم.

5- ملك المسكن علامة استقرار مما يزيد في ثقة المقترضين الآخرين بالشخص، كما أن وجود التزام المقرض بمبلغ كبير مقسط على مدة طويلة يعتبر مزية تساعد على الحصول على قروض أخرى، وعلى بطاقات ائتمان وغير ذلك من مزايا الثقة المالية، والاستئجار لا يفيد في ذلك.

6- ملك السكن يشجع صاحبه على التحسين المستمر فيه، لأنه ملكه، مما يزيد في قيمته، بخلاف السكن المستأجر.

ثانياً: المزايا غير المالية:

1- المشتري يتخير المناطق ذات المدارس الجيدة، ولا يستطيع المستأجر غالبا ذلك، لأن الأماكن المتاحة للاستئجار تكون في مناطق من مستوى أقل في الأغلب، وفرق المدارس فارق مهم جدا.

2- المشتري يستطيع أن يتخير الأماكن القريبة من المسجد ومن المركز الإسلامي، وكذلك يمكن للمسلمين المالكين أن يتقاربوا بعضهم من بعض، وفي ذلك فوائد معنوية كبيرة، ولا يتيسر ذلك للمستأجرين.

3- جميع الخدمات الحكومية هي أفضل في المناطق المسكونة من قبل مالكيها منها في المناطق المعدة للتأجير.

4- السكن في منزل مملوك فيه عزة وكرامة للساكن، أكثر بكثير من سكان الشقة المستأجرة، وهذا يؤثر على نظرة الآخرين ممن يتعامل معهم الشخص بدءا من معلم المدرسة، وانتهاء بمكان العمل، مارا خلال ذلك حتى بسائق سيارة جمع القمامة.

5- البيئة على العموم أفضل في مناطق المنازل منها في مناطق الشقق، حتى الجرائم هي أقل في الأولى منها في الثانية على العموم.

6- للاستقلال مزايا كثيرة: في أصوات الأطفال والكبار وزائريهم، وحرية الحركة للنساء في البيت، إذ كثيرا ما يمكن لهن الراحة، ووضع الملابس الخارجية، دون أن ينكشفن على الجوار، ومن هذه المزايا: الاستيقاظ للفجر والسحور في رمضان، وجلسات المدارسة والتعليم وغير ذلك، دون أدنى حرج.

الاستفسارات التي تحتاج إلى البحث والدراسة:

1- هل العقود المبرمة مع البنوك في أوروبا وأمريكا لشراء البيوت عقود ربوية محضة، أو هي عقود تقع تحت بيع الأجل لوجود سلعة بين البنك والمقترض (المشتري)؟

2- هل من مقتضى حفظ مال المسلمين شراء العقار من هذه البنوك؟

3- هل من مقتضيات مصلحة المسلمين تملك العقارات بشراء البيوت من البنك الربوي؟

4- عند انتفاء الضرر بشراء البيت عن طريق البنوك الربوية، هل يجوز الاقتراض من هذه البنوك من أجل بيت للسكن للحاجة مع بقاء الحرمة في ظل الاقتصاد العالمي الحالي، ولحين وجود اقتصاد إسلامي مستوعب لحاجة المسلمين، أو هو ضرورة خاصة تقدر بقدرها؟

5- ما هي الحلول الواقعية والبدائل العملية التي تفي بسد حاجة المسلمين من حيث الحصول على السكن الضروري؟

علماء العصر وهذه القضية:

وقد عرض لهذه القضية – قضية التعامل بالفوائد الربوية في المجتمعات غير الإسلامية، أو خارج دار الإسلام بتعبير فقهائنا القدامى، أو في دار الحرب بتعبير آخر - بعض علماء العصر، وأفتى بعضهم بالمنع، وهم الأكثر، وبعضهم بالإجازة.

ومن أقدم علماء العصر الحديث الذين عرضوا لها العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) الذي كانت تأتيه الأسئلة من أنحاء العالم، فيجيب عنها في مجلته الشهيرة (المنار). ومنها سؤال عن قضيتنا هذه، جاءه من جاوا في إندونيسيا، يقول:

ما قول السيد البار بالمسلمين، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين، في فتوى بعض العلماء: بجل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم، فهو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟!

أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟ كالشرك والكفر بغير إكراه، والقتل عمدا إلى آخره.

وأجاب السيد رشيد بقوله: أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حالة من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة، أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة، وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده.

لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه: إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى. فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحب الدين في جاوا قد استنكروا الفتوى المسئول عنها لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي كالزنى واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقا. وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا كما تقدم. ولا يخفي على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها عدم إقامة الحدود فيها.

ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في دار الإسلام فهل يدّعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه قانون حكومتها من مال الربا وغيره – ولا مندوحة له عن ذلك – ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبوناً؟[3].

فتوى مجمع الفقه الإسلامي الدولي:

جاء في قرار المجمع 23 (11/3)

في معرض الإجابة عن استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ما يلي:

السؤال الثامن والعشرون:

ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة قروض من البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحا محددا على تلك القروض لقاء رهن الأصول، علما بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عموما، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب على قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟

الجواب: لا يجوز شرعا

وقد كان المجمع أحال أسئلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى عدد محدود من العلماء، أجابوا فيها، واكتفت إدارة المجمع بهذه الإجابات الموجزة، ولم يحل الموضوعات إلى الدراسة والمناقشة، كسائر القضايا الأخرى التي كثيرا ما تشبع بحثا.

فتوى اللجنة العامة بالكويت:

وهناك فتاوي أقرب عهدا من الشيخ رشيد، تجيز هذا التعامل، مثل فتوى الكويت. هذه الفتاوى صدرت من الهيئة العامة للفتوى في الكويت (لجنة الأمور العامة)[4] جوابا على استفسار قدمه أحد الأساتذة العاملين في مجال الدعوة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد طوى اسمه من الفتوى حسب المنبع عند تقديم صورة منها لغير السائل، وتاريخ الفتوى 15 شوال 1405هـ الموافق 02-07-1985، وقد تم الحصول على صورة منها مصادق عليها من مدير مكتب الإفتاء، وفيما يلي نصها:

نص فتوى الهيئة العامة للفتوى بالكويت:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

فقد حضر إلى لجنة الأمور العامة في الهيئة العامة للفتوى في جلستها المنعقدة صباح يوم الخميس 25 رمضان 1405هـ الموافق 13-06-1985م (س) وقدم الاستفتاء الآتي:

"ما الحكم الشرعي في شراء بيت في أمريكا بقرض من البنك يجر فائدة؟

والمعلوم في هذه المسألة أن المشتري يخصم له من حساب الضرائب بنسبة ما يتحمل من الفائدة، ولأعط لذلك مثلا: فأنا قد اشتريت بيتا في شهر يونيو 1985 بمبلغ (280) ألف دولار، على أن يدفع سنويا مبلغ 45 ألف دولار وفاء لثمن البيت وسداد فوائد القرض، وأنا يترتب على مبلغ 40 ألف دولار للضريبة الاتحادية. ولكن بما أنني اشتريت البيت بقرض من البنك فإن الواجب دفعه عليّ هو ما بين خمسة وسبعة (5 – 7) آلاف دولار وحسب، ولأن الربا يخصم لي من قسط البيت.

فهل يجوز لي أن أشتري البيت في أمريكا بمثل هذا القرض؟

وأقدم إليكم هذه الملحوظات بصدد ذلك:

1- إن عامة البيوت المستأجرة قد اشتريت بقرض من البنك.

2- إذا كان المستأجر ذا أسرة صغيرة يسعه أن يستأجر شقة اليوم، فإنه لا يسعه أن يجد ذلك لو كان ذا أسرة كبيرة. وهو يضطر لشراء بيت آنذاك بأن يقترض من البنك وإلا فقد يلقي بأسرته في أحضان الشارع.

أجابت اللجنة "إن الظروف والملابسات المحيطة بهذه القضية بالنسبة للمسلمين المتواجدين في تلك البلاد، وفي غيبة البدائل المشروعة من قبل مؤسسة مالية تبيع بالأقساط، تجعل هناك شبه ضرورة، وهو ما يسميه الفقهاء (الحاجة العامة التي تنزل منزل الضرورة)، ولذلك ترى اللجنة بأنه يجوز الإقدام على شراء البيت في أمريكا بقرض من البنك يجر فائدة في هذه الظروف، بسبب الحاجة العامة المنزلة منزلة الضرورة، وذلك إلى أن تتحقق البدائل المشروعة، ويجب السعي الحثيث لنجاح المشاريع المطروحة للبدائل المشروعة والله أعلم[5].

هذه فتوى اللجنة العلمية الكويتية، وهي مكونة من عدد من العلماء الذين لا يمكن لأحد أن يشكك في علمهم أو دينهم، وقد أسسوا فتواهم على قاعدة فقهية معروفة ومقررة لدى أهل العلم من المذاهب المختلفة، وقد ذكرها السيوطي الشافعي، وابن نجيم الحنفي، كلاهما في كتابه (الأشباه والنظائر) وهي قاعدة: (الحاجة تتنزل منزلة الضرورة). أي تنزل منزلتها في إباحة المحظور بها، وإباحة المحظورات بسبب الضرورات متفق عليه، وهو معلوم بنص القرآن الصريح عليه، في خمس آيات من كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" ]الأنعام: 119[.

وإنما جعل العلماء الحاجة ملحقة بالضرورة لأحاديث ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل إباحته لبعض أصحابه لبس الحرير بعدما حرمه على الرجال، لحكة أصابتهم فقدر هذه الحاجة وأباح لهم ما حرمه على غيرهم.

وكذلك نهاهم عن الجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله إنما هي مجالسنا ما لنا منها بد، فقدر حاجتهم تلك، وأجاز لهم الجلوس بشروط وضوابط، خلاصتها: أن يعطوا الطريق حقه.

فتوى العلامة مصطفى الزرقا:

ومن الفتاوي المجيزة لهذا التعامل: فتوى العلامة الشيخ مصطفى الزرقا.

وقد سمعت فتواه شخصيا منه شفاها، عندما لقيته في أمريكا في السبعينيات من القرن العشرين، وكنت مخالفا له في ذلك الوقت. ثم سجل ذلك في (فتاواه) التي شرفني بتقديمها.

وقد أسس الشيخ – رحمه الله – هذه الفتوى، اعتمادا على المفتى به في المذهب الحنفي، وهو رأي الإمام الأعظم أبي حنيفة وصاحبه محمد، خلافا لأبي يوسف. وقد أشار الشيخ منصفا إلى أنه خلاف ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، ولكنه رأى في مذهب معتبر، وقد دعت الحاجة إلى الإفتاء به.

وقد تعرض العلامة الشيخ الزرقا – رحمه الله – لهذه القضية في خمس فتاوى له نشرت في (فتاواه) من ص614 إلى ص626، وأجاب عددا من الإخوة الأفاضل الذين سألوه عن الموضوع وهم: الصابوني، والكيلاني والرفاعي ورشاد خليل، وأناس آخرون من المقيمين في أمريكا وكندا لم يذكر أسماءهم.

ونختار هنا الفتوى الصادرة في 04-06-1418هـ، الموافق 05-10-1997م - وهي آخر الفتاوي المنشورة في كتابه – لأنها الأشمل في عرض القضية، وشرح وجوه الاستدلال على حكمها.

نص فتوى الشيخ الزرقا:

"قد كثر السؤال والاستفتاء من المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا عن حكم الاقتراض هناك من البنوك بفائدة ربوية لأجل شراء بيت للسكني، ثم وفاء مبلغ القرض وفوائده مقسطا لمدة طويلة، كعشرين أو خمس وعشرين سنة؟ على أن يملك البيت بعد وفاء القرض. وبذلك يحلون مشكلة السكنى بكلفة أقل مما لو أرادوا أن يستأجروا استئجارا.

فالإنسان هناك لأجل سكناه إما أن يشتري بيتا بثمن من عنده، وهذا نادر لغلاء البيوت، وإما أن يستأجر، وأجور البيوت باهظة، وإما أن يقترض من البنك بفائدة ربوية ثمن البيت، ويقسط الوفاء على مدة طويلة – كما ذكرنا – يملك البيت في نهايتها بعد الوفاء. والمعتاد في هذه الحالة أن قسط وفاء القرض وفائدته للبنك يكون أقل من بدل الإيجار لو استأجر، ومع ذلك يملك البيت في النهاية.

وبعد التأمل ومراجعة النصوص، وجدت أن مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد بن الحسن في المسلم إذا دخل دار الحرب – أي بلادا غير إسلامية – مستأمنا بأمان منهم، يقتضي جواز هذا الاقتراض بفائدة ربوية للمسلم المقيم هناك لأجل شراء بيت لسكناه، إذا كان الواقع هناك كما هو مبين في الصورة[6].

فإن مذهب أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد: أن من دخل دار الحرب مستأمنا، أي بإذن منهم، يحل له من أموالهم ما يبذلونه له برضاهم دون خيانة منه، ولو كان بسبب محرم في الإسلام كالربا بأن يأخذه منهم، ولكن لا يعطيهم الربا. لأن أموال الحربيين عنده في دارهم غير معصومة، لكنه دخل مستأمنا، فلا يجوز له أخذ شيء منها دون رضاهم.

لكن منعه من إعطائهم الربا إنما هو لتوفير مال المسلمين عنهم. فإذا انعكست الآية في بعض الأحوال، وصار أخذ القرض منهم، وإعطاؤهم الربا أوفر لمال المسلمين، كما في الصورة المسئول عنها – لما دخل في الموضوع شراء البيت ثم امتلاكه في نهاية الوفاء – يجب أن ينعكس الحكم، لأن الحكم يدور مع علته ثبوتا وانتفاء، حيث أصبح القرض مع فائدته أوفر لمال المسلم، من الاستئجار الذي يخرج به المستأجر في النهاية صفر اليدين لم يملك شيئا، وبقي البيت لصاحبه المؤجر:

لذلك فالعبرة للنتيجة في الحالتين أيهما أوفر لمال المسلم في دار الحرب، ولا شك أن طريقة الاقتراض من البنك الربوي بفائدة هي الأوفر لماله بمقتضى مذهب أبي حنيفة وعلته، فيكون ذلك جائزا، ولا سيما في حق العاجز عن شراء البيت من ماله.

هذا بقطع النظر عن الضرائب التي توفرها حالة القرض من البنك لأن الشراء من ماله أو الاستئجار يترتب فيهما ضرائب عالية على المشتري والمستأجر هناك.

وليس المراد بدار الحرب في اصطلاح الحنفية أن يكونوا في حالة حرب قائمة بينهم وبين المسلمين، بل المراد بدار الحرب أنها غير إسلامية، بل مستقلة غير داخلة تحت سلطة الإسلام[7].

وفي فتوى أخرى أضاف الشيخ العلامة رحمه الله هذه العبارة:

(أما من يقولون لكم من رجال العصر: إن الفوائد المصرفية ليست ربا، فهذا ليس فقط كلاما فارغا وجهلا، بل هو ضلال وتضليل، فإن الفوائد المصرفية هي عين الربا المحرم لا شبهة فيها)[8].

وقفات مع فتوى الشيخ الزرقا:

وأود أن أعقب على فتوى شيخنا الزرقا– عليه رحمة الله – أو بعبارة أخرى – أقف معها وقفات مهمة:

رجوعي إلى موافقة الزرقا:

الوقفة الأولى: هي رجوعي إلى مواقفة الشيخ الزرقا في فتواه، بعد أن كنت من قبل ربع قرن، مخالفا له، بل من أشد المعارضين له، وقد ظللت على ذلك نحو عشرين سنة أفتي بتحريم هذه المعاملة، وأشدد في ذلك، بناء على ما لاح لي في ذلك وقتها.

ولا حرج على العالم المسلم أن يغير اجتهاده، وينتقل من رأي إلى آخر، فهذا هو شأن البشر غير المعصومين. وقد رأينا إماما مثل محمد بن إدريس الشافعي يغير رأيه ومذهبه في كثير من المسائل، بعد أن استقر به المقام في مصر، ورأى فيها ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع، ولا سيما أنه بلغ غاية النضج في الفكر والتبحر في العلم. فأصبحنا نقرأ في مذهبه: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد، ولا ننكر شيئا من ذلك.

كما رأينا كثير من الأئمة تروى عنهم عدة أقوال أو عدة روايات في المسألة الواحدة، مثل الإمامين مالك وأحمد، وخصوصا الإمام أحمد، الذي قد تروى عنه سبع روايات أو عشر روايات في المسألة الواحدة.

وهذا يعطي العالم سعة في تغيير رأيه إذا تغير اجتهاده، على ألا يكون ذلك من أجل دنيا يريدها، أو بشر يريد إرضاءهم، على حساب رضا الله تبارك وتعالى، فيبيع دينه بدنياه، أو بدنيا غيره، وهذا أخسر الناس. ونعوذ بالله أن نكون منهم. ونسأله تعالى أن يرزقنا الإخلاص فيما نقول وفيما نعمل.

وفي عصرنا رأينا بعض المجامع الفقهية تتخذ قرارا تفتي فيه برأي ثم ترجع عنه، وتفتي بغيره، كما فعل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي. حيث أفتى في إحدى دوراته بجواز استخدام ببيضة إحدى الزوجتين لرجل واحد، لتوضع في رحم الزوجة الأخرى، إذا كان في الأولى مانع يحول دون وضع البيضة في رحمها، ربما لعدم وجود رحم لها، أو لآفة فيه تمنع ذلك.

وفي الدورة التالية رجع المجمع عن ذلك ومنع هذه الصورة، لما يترتب على الفتوى السابقة من ضياع معنى الأمومة بين الزوجتين، فهل الأم هي صاحبة البيضة التي تحمل الجينات وعوامل الوراثة، أو هي صاحبة الرحم التي تحمل وتتوحم وتعاني الآلام طوال تسعة أشهر "حملته أمه كرها ووضعته كُرهاً" ]الأحقاف: 15[ وكان رجوع المجمع بإجماع أعضائه.

وفي مجمع الفقه الإسلامي الدولي، نراه قد اتخذ قرارا في إحدى دوراته بعدم اعتبار التضخم، ووجوب الوفاء بالديون القديمة من النقود الورقية بمثلها وعددها، وإن انخفضت قيمتها مئات المرات أو ألوفها، كما في الليرة اللبنانية، والدينار العراقي، والجنية السوداني، والليرة التركية.

وقد قررت إدارة المجمع وأمانته العامة عقد ندوات متخصصة للبحث في الموضوع كما قررت إعادة بحثه في الدورة الثانية عشرة المنعقدة في الرياض، وأظنها أجلت البت فيه إلى دورة أخرى.

وقد غيرت لجنة الفتوى بالأزهر فتواها في بعض القضايا، لأسباب ومقتضيات شتى.

فلا عجب إذن أن يتغير رأي العالم الفرد في بعض القضايا، وقد أفتى سيدنا عمر – رضي الله عنه – في بعض القضايا برأي، وبعد مدة قضى برأي آخر، وقال في ذلك: هذا على ما علمنا، وذاك على ما علمنا.

وفي رسالته لأبي موسى يقول: لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل[9].

وقد أسأل نفسي: لماذا تَرَجَّح القول الآخر لدي الآن، وقد كان أمامي منذ زمن طويل؟

وأقول: لعل الإنسان في شيخوخته يكون أكثر إشفاقاً على خلق الله تعالى، وأكثر رغبة في التيسير عليهم، وإيجاد المخارج لهم من مآزق حياتهم.

أو لعل الإنسان بعد النضج يكون أكثر شجاعة في بتني الرخص والتخفيفات، والإعلان عنها، ولا يخاف عواقبها، بعد أن أصبح قريبا من لقاء الله تعالى.

أيا كان السبب، فهذا هو الرأي الذي اقتنعت به، وانتهى إليه اجتهادي، ولا يسع العالم المسلم أن يخون أمانة العلم، ويفتي الناس بعكس ما يقتنع به، بل المطلوب منه شرعا ألا يكتم ذلك عن الناس، وإلا كان آثماً، وخصوصاً إذا كان فيه تيسير عليهم، ورفع للحرج عنهم.

لم ينفرد أبو حنيفة وصاحباه بهذا الرأي:

الوقفة الثانية مع فتوى الشيخ الزرقا، هي: التنويه بأن الإمامين أبا حنيفة وصاحبه محمد لم ينفردا بهذا الرأي، بل قد وافقهما في ذلك بعض الأئمة الكبار أيضا. وحسبنا من هؤلاء الكبار: إبراهيم النخعي، وهو من فقهاء التابعين، ووارث علم المدرسة المسعودية بالكوفة، وسفيان الثوري، وهو أحد الأئمة المتبوعين في الفقه، وأمير المؤمنين في الحديث، وأحد أئمة الورع والزهد أيضاً.

فقد روى الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه (مشكل الآثار) بسنده عن إبراهيم، قال: "لا بأس بالدينار بالدينارين، في دار الحرب، بين المسلمين وأهل الحرب[10]" فلأبي حنيفة سلف من التابعين.

وروى بسنده عن سفيان، مثل ذلك[11].

وقد نقل العلامة الهندي الحنفي ظفر أحمد العثماني صاحب (إعلاء السنن) في كتابه عن عمرو بن العاص[12] ما يدل على أن المعاملات الفاسدة بين المسلمين، تجوز في دار الحرب بين المسلمين وأهل الحرب، بل في (دار الموادعة) أيضاً. وقد نقل عن السرخسي: أن الدار بالموادعة، لا تصير دار إسلام، بل هي دار الحرب، كما كانت قبل الموادعة.

ونقل عن الإمام الليث بن سعد، قال: إنما الصلح بيننا وبين (النُّوبة) على ألا نقاتلهم ولا يقاتلوننا، وأنهم يعطوننا رقيقا، ونعطيهم طعاما، وإن باعوا أبناءهم ونساءهم، لم أر بأسا على الناس أن يشتروا منهم".

قال الليث: وكان يحيى بن سعيد الأنصاري لا يرى بذلك بأسا[13].

وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فأكثرهم يرون أن البيع باطل، ومن أجازه فإنما لأنه في غير دار الإسلام، وقد أجازوه بينهم.

قال الإمام أبو عبيد في (الأموال) معلقا على رأي الليث ويحيى بن سعيد: وكذلك كان رأي الأوزاعي، (أي في دار الموادعة) قال: لا بأس به، لأن أحكامنا لا تجري عليهم، وأما سفيان وأهل العراق يكرهون ذلك: قال: وهو أحب القولين إليّ، لأن الموادعة أمانة، فكيف يسترقون؟[14]".

قال صاحب (إعلاء السنن): هذا – إذا كانوا لا يرون جواز هذا البيع – مسلَّم، وأما إذا كانوا يرون جوازه، فلا يفضى إلى غدر، ولا نقض الأمان[15].

وبهذا نرى أن هناك عددا من الأئمة ينظرون إلى دار الحرب – ومنها دار الموادعة – غير نظرته لدار الإسلام، ويجيزون فيها من ألوان التعامل ما لا يجوز في دار الإسلام، إذا رضيه أهلها وأجازوه بينهم، بحيث لا يكون منا غدر بهم ولا خيانة لهم.

وأود أن أبين هنا: أني لا أجيز بحال أن يبيع الإنسان أولاده، لا في دار الحرب ولا في دار الإسلام، وإنما أردنا من نقل أقوال هؤلاء الفقهاء تقرير المبدأ، وهو اختلاف الحكم في دار الإسلام عن غيرها، وأنه قد يجوز في غيرها من التعامل مالا يجوز فيها.

تفسير الزرقا لإعطاء الربا بدلا من أخذه:

والوقفة الثالثة: مع فتوى العلامة الزرقا: تتعلق بتفسيره لمذهب الأحناف الذين قالو بجواز أخذ الربا خارج دار الإسلام، ولم يقولوا بإعطائه. وأنا أؤيد تماما تفسير الشيخ الزرقا بأن الإعطاء هنا يحقق مقصودهم بجواز الأخذ، لأن العبرة بما يحقق مصلحة المسلم.

ووقفتي هنا إنما هي لأذكر للشيخ الزرقا: أن متقدمي أئمة الأحناف لم ينصوا في حكمهم بالتعامل بالربا على أخذ ولا إعطاء، بل أطلقوا القول في ذلك، وربما نصوا في بعض المصادر على عكسه. وإنما قيده المتأخرون منهم، لاعتقادهم بأن الإعطاء للفائدة الربوية، لا مصلحة فيه للمعطي بحال، إنما المقصود من ذلك هو الأخذ دائماً.

والدليل على ما أقول: ما ذكره الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة من الاستدلال على هذه القضية، مما وقع لبني النضير من اليهود.

فقد احتج محمد في (السير الكبير) بحديث بني النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن لنا ديونا على الناس لم تحلّ بعد، فقال: "ضعوا وتعجلوا" مستدلا بهذا الحديث على جواز الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، لأن ديونهم كانت على المسلمين. وقال: وإنما جوز ذلك، لأنهم كانوا أهل حرب (ودارهم دار حرب وقد حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصنهم) فعرفنا أن مثل هذه المعاملة تجوز بين المسلم والحربي، وإن كان لا يجوز بين المسلمين في دارنا، اهـ. ثم فرع عليه أن مسلما لو دخل إلى هؤلاء بأمان، وبايعهم متاعا إلى أجل معلوم، ثم صالحهم على أن يعجلوا ويضع عنهم البعض، فذلك جائز، لأن حرمة هذا التصرف في دار الإسلام لمعنى الربا، من حيث إن فيه مبادلة. كذا في (شرح السير) (3/228، 229).

قال الشيخ ظفر العثماني:

ورد به بعض الأحباب على ابن الهمام قوله: في "الفتح": إنه قد ألزم أصحاب الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم، نظرا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه اهـ، فقال بعد نقله عبارة "شرح السير" المذكورة: انظر كيف جوز هذه المعاملة مع كون الزيادة فيها للحربي؟ وعلله بجواز الربا بين الحربي والمسلم، فظهر منه صراحة أن قولهم بجواز هذه المعاملة غير مشروط بما إذا حصلت الزيادة للمسلم، بل هو عام، اهـ.

وعلق على ذلك العلامة ظفر أحمد العثماني في كتابه (إعلاء السنن) بقوله: قلت: لا نسلم كون الزيادة فيها للحربي، لأن المعجل خير من المؤجل، وقد أشار إليه بقوله: إن فيه مبادلة الأجل بالدراهم (وهو الربا بعينه) فلم تكن الزيادة للحربي بل للمسلم، أو يكونان قد استويا، نعم، في هذه العبارة دليل على جواز المعاملات الفاسدة في دار الحرب بين المسلم والحربي، خلاف ما ادعاه بعض الأحباب من حرمة مباشرة العقد على المسلم، وحل المال له، فإن قوله: فذلك جائز، وقوله: فيجوز هذه المعاملة، صريح في جواز مباشرة العقد مفسر في معناه. وقد مر عن المبسوط قوله: ويستوي إن كان المسلم أخذ الدرهمين بالدراهم أو الدرهم بالدرهمين، لأنه طيب نفس الكافر بما أعطاه، قل ذلك أو أكثر، وأخذ ماله بطريق الإباحة كما قررنا، اهـ. (14/59)، فكان على بعض الأحباب رده على ابن الهمام بذلك، لا بعبارة "شرح السيرة" التي ذكرها، وليس معنى كلام "المبسوط" أنه يجوز للمسلم أن يعطي الحربي الكثير بالقليل مطلقا، ولو براً، وإحساناً، بل معناه جواز ذلك، إذا كان له فيه منفعة، كأن يأخذ درهما بدرهمين إلى أجل، أو يأخذ درهما جيدا برديئين ونحو ذلك، لأن وضع المسألة إنما هو في البيع على المماكسة دون المسامحة، فجواز مبادلة الكثير بالقليل في البيع لا يكون من باب الإحسان، كما توهمه بعض الأحباب، وأطال في ذلك بما لا طائل تحته من القيل والقال[16].

المذهب الحنفي مذهب معتبر لدى الأمة:

وأود أن أضيف هنا أمرا مهما، هو معلوم ومقرر من غير شك، وهو: أن المذهب الحنفي مذهب معتبر لدى الأمة، وهو أحد المذاهب الكبرى المتبوعة، بل هو أكثرها انتشارا بين المسلمين، وخصوصا لدى غير العرب: في الهند وباكستان، وبنجلاديش، وأفغانستان، والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، وتركيا والبوسنة وكوسوفو وألبانيا وغيرها.

وقد حكمت به دولتان كبريان من الدول التي حكمت المسلمين: دولة بني العباس، ودولة بني عثمان.

وقنن فقه المدني في (مجلة الأحكام العدلية) التي ظلت أحكامها سائدة في عدد من الأقطار العربية والإسلامية إلى عهد قريب.

فمن أخذ باجتهاد هذا المذهب مرجحا له، مقتنعا به، فهذا حقه، بل هذا واجبه، ولم يحد عن سوءا الصراط، ولا جناح عليه.

ومن كان يجيز التقليد بإطلاق، كما هو شأن أكثر المتأخرين، فهذا من المذاهب التي يسوغ تقليدها، وقد خدمه علماء كبار في شتى الأقطار.

ولا يتسع المجال هنا لتفصيل أدلة الحنفية على مذهبهم، وموقف خصومهم منها، فالمجال لا يتسع لذلك هنا.

وقد ذكرنا أن أبا حنيفة وصاحبه محمدا لم ينفردا بهذا القول، بل شاركهما غيرهما من كبار الأئمة، وحسبنا منهم الإمامان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري.

وقد قال مولانا ظفر أحمد العثماني في (إعلاء السنن):

وبالجملة: فقول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن في هذا الباب أقوى ما يكون رواية ودراية، وليس مبناه على مرسل مكحول وحده، كما هو ظن الأكثرين من العلماء والمصنفين، بل له على ذلك دلائل عديدة قوية، واضحة الدلالة على صحة ما قاله، وله سلف فيه من إبراهيم النخعي في جواز الربا في دار الحرب، ومن ابن عباس – رضي الله عنهما – في جواز الربا بين العبد وسيده، ووافقه على كل ذلك سفيان الثوري، ولولا ثبوت ذلك بالآثار، وأقوال الصحابة والتابعين لما وافقه سفيان على مثل هذا القول أبدا[17].

فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:

ومن هذه الفتاوي: فتوى جماعية مهمة صدرت من (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة (دابلن) بجمهورية أيرلندا في شهر رجب 1420هـ الموافق أكتوبر سنة 1999م وهذا نصها:

نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها، وهي قضية المنازل التي تشتري بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية.

وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض، قرئت على المجلس، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة، انتهى بعدها بأغلبية أعضائه إلى ما يلي:

1- يؤكد المجلس على ما اجتمعت عليه الأمة من حرمة الربا، وأنه من السبع الموبقات، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.

2- يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية، التي لا شبهة فيها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين، وغير ذلك.

3- كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية، لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعا، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل، فإن هذا سيجلب لهم عددا كبيرا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية، وقد رأينا عددا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية، كما في البحرين وغيرها.

ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك، لتعديل سلوكها مع المسلمين.

4- وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرا في الوقت الحاضر، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية، لا يرى بأسا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين:

المرتكز الأول:

قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات): وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" ]الآية: 119[، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة: "فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربك غفورٌ رحيم" ]الآية: 145[، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.

والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج: "وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ" ]الآية: 78[، وفي سورة المائدة: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" ]الآية: 06[.

والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه، بحيث يكون سكنا حقاً.

وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها، وهي أن ما أبيح للضرورة، يقدر بقدرها، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها.

والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال: "والله جعل لكم من بيوتكم سكناً" ]النحل: 80[، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسكن الواسع عنصرا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم، ولا يشعره بالأمان، وإن كان يكلف المسلم كثيرا بما يدفعه لغير المسلم، ويظل سنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرا واحدا، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع، يصبح عرضة لأن يرمى به في الطريق.

وتملك المسكن يكفي المسلم هذا الهم، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريبا من المسجد والمركز الإسلامي، والمدرسة الإسلامية، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعا إسلاميا صغيرا داخل المجتمع الكبير، فيتعارف فيه أبناؤهم، وتقوي روابطهم، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمه العليا.

كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية، ما دام مملوكا له.

وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم، الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام، هي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلا للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد طوال عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته.

المرتكز الثاني: (وهو مكمل للمرتكز الأول الأساسي):

هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني – وهو المفتي به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام.

1- أن المسلم غير مكلف شرعا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام، لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع، وفلسفة الدولة، واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي.

وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردا، مثل أحكام العبادات، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور، ولم يستطعى بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلا.

2- أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببا لضعفه اقتصاديا، وخسارته ماليا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث: "الإسلام يزيد ولا ينقص" أي يزيد المسلم ولا ينقصه، ومثله حديث "الإسلام يعلو ولا يعلى" وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراطونها بينهم، سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم، فعليه الغرم دائما وليس له الغنم، وبهذا يظل المسلم أبدا مظلوما ماليا، بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبدا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه، وأن يتركه – في غير دار الإسلام – لغير المسلم، يمتصه ويستفيد منه، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة، والمعترف بها عندهم.

وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء، لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء، وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين: الأول: أن يكون فيها منفعة للمسلم. والثاني: ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم.

فالجواب: أن هذا غير مسلَّم، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد[18]، إذ به يتملك المنزل في النهاية.

وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك، بل أحيانا تكون أقل، ومعنى هذا أننا إذا حرمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر، يدفع إيجارا شهريا أو سنويا، ولا يملك شيئا، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة – وربما أقل – أن يملك البيت.

فلو لم يكن هذا التعامل جائزا على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، لكان جائزا عند الجميع للحاجة التي تنزل أحيانا منزلة الضرورة، في إباحة المحظور بها.

ولا سيما أن المسلم هنا، إنما يؤكل الربا ولا يأكله، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها، والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن. وإنما حرم الإيكال سدا للذريعة، كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه، فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد.

ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله – بمعنى إعطاء الفائدة – فيجوز للحاجة، وقد نص على ذلك الفقهاء، وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهة أبواب الحلال.

ومن القواعد الشهيرة هنا: أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق.

تعقيب بعض أعضاء المجلس الأوروبي:

هذا، وقد نشرت جريدة (الشرق الأوسط) تعقيبا لعضوين من أعضاء المجلس، هذا نصه:

"الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

فقد اطلع الموقعان على هذه المخالفة العلمية على القرار المتعلق بشراء البيوت عن طريق القروض الربوية الذي أقرته أكثرية أعضاء المجلس، ويريان إثبات مخالفتهما التالية:

أولاً: حول مسوغات القرار:

يرى عضوا المجلس الموقعان على هذه المخالفة أن شراء البيوت عن طريق القروض الربوية من البنوك أو غيرها محرم شرعا، وأن الحجج التي سيقت لجواز ذلك لا تقوى إلى إباحته للأسباب التالية:

1- عدم إنطباق هذه الحالة على مذهب الأحناف، لأن المرجح عندهم أن التعامل بالربا كما رجحه محققوا الحنفية كالكمال بن الهمام في فتح القدير، وابن عابدين في رد المحتار – أن يكون المسلم هو الآخذ للربا، وأن يقع التعامل مع الحربي في دار الحرب عن تراض منهما، وإن الشرطين الأولين غير متوافرين، لأن الدول الأوروبية ليست دار حرب، والمسلم في هذه الحالة هو المعطي لا الآخذ، فاختلفت العلة التي استند القرار إليها، وإن حاول تعميم الشرط الثاني منهما على الآخذ والمعطي على حد سواء.

يضاف إلى ذلك أن الأدلة التي ساقها الحنفية في هذه المسألة لا تقوم بها الحجة، ولا تتسع هذه المخالفة الختصرة لإيراد ما قاله العلماء فيها، ومنهم بعض علماء الحنفية:

أما ما يقال: إن التقسيم عند الحنفية ثنائي لا ثلاثي، فإما أن تكون الدار دار إسلام، وإما أن تكون دار حرب، فلا يعكر على ما ذهبنا إليه من عدم جواز هذه المعاملة، لأنهم يرون أن دار الكفر قد تكون دار أمان، وقد لا تكون كذلك، وإذا كانت دار أمان لم تحل فيها هذه المعاملة[19].

2- والسبب الثاني في عدم جواز هذه المعاملة الربوية هو عدم تحقق الضرورة التي تدعو إليها تلك المعاملة الربوية، سواء أكانت فردية أو جماعية لانعدام شروط الضرورة المعتبرة شرعا، وهي:

a. أن تكون واقعة لا منتظرة، بأن يتحقق أو يغلب على الظن وجود خطر حقيقي على الدين أو النفس أو العقل، أو النسل، أو المال.
b. وأن تكون ملجئة، بحيث يخاف الإنسان هلاك نفسه، أو قطع عضو من أعضائه، أو تعطل منفعته، إن ترك المحظور.
c. وأن لا يجد المضطر طريقا آخر غير المحظور[20].

وإن الجالية الإسلامية لم يصل بها الحال في أي بلد أوروبي تعيش فيه إلى هذا الحد أو قريب منه، يضاف إلى ذلك توافر المساكن المتوافرة غالبا في هذه الدول بما تندفع معه تلك الضرورة.

3- وبحكم إقامتنا في أوروبا فإننا لا نرى هناك حاجة مهمة تنزل منزلة الضرورة بحيث تلجأ الجالية المسلمة إلى هذه المعاملة الربوية، فضلا عما ذهب إليه القرار من جواز الاقتراض بالربا لتوفير السكن المناسب في سعته وموقعه.

4- ونرى أن الضعف الاقتصادي للجالية المسلمة الذي أشار إليه القرار ليس لعدم تعاملها بهذه المعاملات الربوية، ولكنه لتفرق كلمتها وعدم توظيف أموالها، ووضعها إياها في المصارف الربوية التي تزيدها قوة إلى قوتها، وابتزازا إلى ابتزازها.

5- سكوت القرار عن بيان الحكم الشرعي في شراء غير البيوت عن طريق الاقتراض بالربا، وهذا ما سيؤدي بالكثير من أفراد الجالية الإسلامية إلى الجرأة على التعامل بالربا الصريح في أوروبا استنادا على هذه الفتوى.

ثانياً: الفتوى التي نراها: إن الموقعين على هذه المخالفة العلمية يرون أن شراء البيوت بقروض ربوية في أوروبا لا تدعو إليه ضرورة، ولا تدفع إليه حاجة تنزل منزلة الضرورة، ويرون أن هذه الطريقة محرمة شرعا، ولا يصح الإقدام عليها إلا إذا لم يجد الإنسان بيتا يسكنه ولو عن طريق الإيجار المناسب، وليس لديه مال يشتري به ذلك السكن، أو لم يجد من يقرضه قرضا حسنا، أو لم يجد وسيلة شرعية أخرى تعينه على الشراء، كبيع المرابحة الذي تكون فيه الزيادة في الثمن مقابل الزيادة في الأجل، وأن لا تتجاوز المسكن الذي يشتريه حدود الحاجة، كأن تكون غرفة ومرافقه أكثر مما يحتاج إليه، أو يكون ذا مواصفات عالية تتطلب مبلغا فوق الحاجة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

د. محمد البرازي – الدنمارك

د. صهيب حسن عبدالغفار - لندن

ردنا على هذا التعقيب:

وقد وردنا على هذا التعقيب الغريب في صحيفة (الشرق الأوسط) نفسها، وقد نشرته تحت هذا العنوان: الشيخ القرضاوي: تقدير حاجات الناس ليس في يد الفقيه وحده.

وقالت الصحيفة:

نفي الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أن يكون قرار المجلس بشأن جواز شراء البيوت بقروض ربوية في غير بلاد المسلمين قد ركز على المذهب الحنفي في مسوغاته الفقهية، فالمجلس لم يركز عليه بل ذكره تقوية واستئناسا، بينما الدليل الذي ركز عليه المجلس هو "الحاجة" التي قد تنزل منزلة الضرورة لدى الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين.

وقال الشيخ الدكتور القرضاوي لـ "الشرق الأوسط": -

إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قد أصدر قراره بشأن شراء البيوت، بعد أن قُدمت إليه بحوث من بعض الأعضاء وقُرئت عليه، ونوقش الموضوع مناقشة حرة مستفيضة، وأدلى كل عضو بدلوه في حرية تامة، مؤيداً كان أم معارضاً. ثم اتخذ المجلس قراره بالأغلبية، كما في لائحة المجلس، وكانت أغلبية ساحقة ولله الحمد".

وقد جرت المجامع الفقهية على هذه السنة من حيث القرار بالأغلبية، وبعضها لا يذكر المخالفين قط، كما هو الشأن في مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وبعضهم يسمح للعضو المتحفظ أو المخالف أن يذكر في محضر الجلسة تحفظه ومخالفته، كما في المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ويصدر القرار باسم الجميع، وهو ما جرينا عليه في مجلسنا الأوروبي للإفتاء والبحوث: أن يذكر العضو تحفظه إن رغب، بل هذا ما تجري عليه كل مجالس ومؤسسات العالم في الشرق والغرب، في مجالس الوزراء أو في مجالس النواب أو في مجالس الإفتاء، أو في مجامع البحوث، وغيرها. وما رأينا في مجمع من المجامع الفقهية في العالم الإسلامي أن يخرج العضو المخالف برأي ينشره في الصحف ويشنع به على إخوانه وزملائه ممن لا يقلون عنه علماً ولا ورعاً إن لم يزيدوا عليه".

أما عن البيان الذي أصدره ثلاثة[21] من أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث يثبتون فيه مخالفتهم لقرار المجلس بشأن جواز شراء المنازل بقروض ربوية في غير بلاد المسلمين، فيقول الشيخ القرضاوي: "ليس هذا من أخلاقيات العمل الجماعي والؤسسي بحال من الأحوال. وللأسف، إن العضو الذي أثار هذه الحملة المستغربة واستتبع غيره، لم يكن أميناً في نقده ومخالفته التي سماها (علمية)، لأنه ذكر أشياء لم تغب عن بال المجلس، بل كلها ذكر بوضوح ونوقش ورد عليه. ونقده هذا ملئ بالأغلاط والمغالطات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد ركز على المذهب الحنفي، والمجلس لم يركز عليه، بل ذكره تقوية واستئناساً، وقد كان عدد من الأعضاء طلبوا حذف الاستدلال به، خشية أن يستغله بعض الناس كما حدث.

والدليل الذي ركز عليه المجلس هو (الحاجة) التي قد تنزل منزلة الضرورة. ونعني بها حاجة الأقليات الإسلامية في ديار الاغتراب إلى ملك بيوت للسكن. وتقدير هذه الحاجة ليس في يد الفقيه وحده، فهي ليست مسألة شرعية، بل يرجع فيها إلى الخبراء والعارفين بمعاناة الناس، بل يرجع فيها إلى الناس أنفسهم".

على أنه ليس من حق عالم أن يدعي أنه وحده أعرف بحاجات الناس من سائر زملائه، بل أعرف بحاجات الناس من الناس أنفسهم. والعالم الحق هو المتواضع الذي يحترم عقول الآخرين وخصوصا من إخوانه وزملائه، كما يحترم دينهم وخشيتهم لربهم. وليس الميسر على العباد بأقل دينا وورعا من المعسر عليهم.

بيان رابطة علماء الشريعة في أمريكا:

ويؤكد هذا أيضاً: البيان الذي أصدره مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية، المنعقد في الفترة من 10-13 من شعبان 1420هـ الموافق 19-22 نوفمبر 1999م، هذا نصه:

استعرض المشاركون في المؤتمر المشكلة التي يعاني منها المقيمون في أمريكا للحصول على بيت للسكن في ضوء التطبيقات المتبعة وهي الاستئجار أو التملك عن طريق القروض (Mortgage) وانتهوا إلى ما يلي:

أولاً: يوصي المؤتمر المسلمين المقيمين في بلاد الغرب والمؤسسات الاستثمارية في البلاد الإسلامية بالآتي:

أ‌- العمل على توفير البدائل الإسلامية لحل مشكلة تمويل المساكن عن طريق إيجاد العدد الكافي من المؤسسات المالية الإسلامية أو الجمعيات التعاونية الإسكانية (التي يؤمل منها أن تراعي ظروف واحتياجات ذوي الدخل المحدود) وذلك للخروج من حالة الرخصة والضرورة إلى حالة العزيمة والاختيار.
ب‌- العمل على دعم وتقوية المؤسسات الإسلامية الناشئة التي تعمل وفق أحكام معاملات الفقه الإسلامي لتمكينها من إيجاد البدائل السابقة.
ت‌- دراسة العقود التي يجري العمل بها حاليا لتمويل المساكن في البنوك التقليدية للوصول إلى صيغة لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية والعمل على إقناع البنوك بالتعامل بها.

ثانياً:

أ‌- المسكن هو إحدى الحاجات الضرورية التي لا بد من توفيرها سواء أكان ذلك بالاستئجار أم التملك.
ب‌- استئجار المسكن للمسلم المقيم في أمريكا لا يخلو من عقبات كثيرة منها ما يتعلق بحجم الأسرة أو اختيار الموقع المناسب للسكن أو تحكم أرباب البيوت بالمستأجرين.
ت‌- إن الطريقة المتاحة حاليا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية (Mortgage) بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلا شرعيا، يسد حاجته كالتعاقد مع شركة تقدم تمويلا على أساس بيع الأجل أو المرابحة أو المشاركة المتناقضة أو غيرها.
ث‌- إذا لم يوجد أحد البدائل المشروعة وأراد المسلم أن يمتلك بيتا بطريق التسهيلات البنكية فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للمسكن عن طريق التسهيلات البنكية (Mortgage) للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، أي لا بد أن يتوافر هذان السببان: أن يكون المسلم خارج دار الإسلام، وأن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية، لدفع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية وتحقيق المصالح التي يقتضيها المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية، على أن يقتصر على بيت للسكنى الذي يحتاج إليه، وليس للتجارة أو الاستثمار.

وهناك من يرى المنع من استخدام طريقة التسهيلات البنكية، ولو تحققت الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وأنه ينبغي الاكتفاء بالاستئجار كبديل عن التملك بغض النظر عن المزايا المعروفة التي تفوت المستأجر استناداً إلى الاتجاه الفقهي الذي يرى تحريم الربا في دار الإسلام وخارجها، وأنه لا يباح إلا للضرورة الشرعية، وليس الحاجة ولو كانت حاجة عامة.

وقد تبين من البيانات التي قدمها بعض المختصين حول العقود المطبقة حاليا لتملك المساكن أن بعض هذه العقود تقترب كثيرا من عقود بيع الأجل من حيث المضمون، وأنه تطبق هنا قاعدة "العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني" وأن تنقيحها ممكن بتغيير المصطلحات التقليدية المستخدمة فيها.

وقد أكد الجميع على حرمة الاقتراض بالفوائد البنكية لأنه من قبيل الربا المحرم، وأن القول بجواز تملك المساكن عن طريق البنوك بالشروط السابقة إنما هو من قبيل الاستثناء بسبب الضرورة التي تقدر بقدرها أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة مع بقاء الحكم الأصلي بالحرمة.

تساؤل وجوابه:

وقد تساءل بعض الإخوة هنا قائلين: ألا يمكن استخدام معاملة المرابحة التي تجريها المصارف الإسلامية بديلا عن شراء البيوت عن طريق البنك؟

والجواب عن هذا التساؤل: أنه لا توجد مصاريف إسلامية في البلاد الغربية تتعامل بالمرابحة أو بغيرها.

ومن ناحية أخرى، نجد أن المرابحة – كما تجري في البنوك الإسلامية – لا تحل مشكلة امتلاك البيوت في الغرب، كما تجري اليوم، لأن التعامل بالمرابحة يتطلب – في البداية – دفع مبلغ نحو ثلاثين في المائة من قيمة البيت المراد تملكه. كما أن البنوك الإسلامية لا تؤجل مبلغ الثمن أكثر من خمس سنوات. على حين تؤجل البنوك العادية الغربية دفع الثمن إلى ثلاثين سنة تقريبا. وهذا يسهل على الإنسان العادي الدفع لطول المدة وقلة المبلغ المطلوب.

بحث د. نزيه حماد:

ولقد كتب أخونا العالم الباحث الفاضل الدكتور نزيه حماد حفظه الله، بحثا موجزاً قيِّماً حول حكم التعامل بالربا في دار الحرب أو خارج دار الإسلام، رجح فيه عدم الجواز، ورد على ما استدل به الحنفية في الجواز.

وأنا احترم وجهة نظرة، فمن حق كل عالم – بل من واجبه – أن يتبنى من الآراء ما اقتنع به عقله، وقام الدليل عنده على صحته، ولا يمكن أحدا – كائنا من كان – أن يلزمه بالتنازل عن رأيه إلى رأي غيره.

ومما يحمد للدكتور نزيه في بحثه أنه اجتهد أن يستوعب أدلة الحنفية ويرد عليها دليلا دليلا، وقد استوعبها – تقريبا – ولم يفعل كما فعل كثيرون ممن اعتبروا مذهب الحنفية يعتمد على حجة واحدة هي (مرسل مكحول) فإذا ضعفوا هذا المرسل، فقط أسقطوا المذهب بالكلية.

وإنما قلت إنه استوعب أدلة الحنفية (تقريبا) إلا أنه لم يتناول دليلا ذكره الإمام محمد بن الحسن في (السير) وهو ما جاء في قضية بني النضير.

وكل ما أخذته على بحث أخي الدكتور نزيه أمران:

الأول: أنه أخذ بـ (حرفية) المذهب الحنفي، ولم يأخذ بمقصود المذهب، أو بروح المذهب، ويتمثل ذلك في اعتبار أن المذهب أجاز أخذ الفوائد، وليس إعطاءها.

وإذا كنا مطالبين بأن نفهم النصوص الشرعية المقدسة في ضوء مقاصدها، ولا نقف عند ظواهرها، فكيف نقف عند ظواهر نصوص الفقهاء، ولا نغوص في مقاصدها، ومعرفة أغوارها وروحها؟

وأنا أعلم من قراءتي لما يكتب د. حماد، ومن لقاءاتي به: أنه ليس من (الظاهرية الجدد) ولا من الحرفيين، ولا من المتزمتين. بل له بحوث جديدة ورائعة تميل إلى التيسير والتوسط، وإن كانت خارجة عن المألوف، مثل بحثه في خطاب الضمان. فلماذا كان هنا حرفيا متزمتا؟

فالمقصود من المذهب الحنفي هو توفير مال المسلم وحفظه، وعدم تركه لغيره يمتصه ويكتسب من ورائه، في حين لا يستفيد هو شيئا. وهو في قضيتنا هو الكاسب والمستفيد، وإن كان هو دافع الفائدة.

على أنا قد بينا في تعقيبنا على فتوى الشيخ الزرقا أن ما نقلوه عن المذهب الحنفي في ذلك ليس مسلما عند المتقدمين منهم.

كما أن الدكتور نزيها فسر دار الحرب بما لم يفسرها به الحنفية، فعندهم دار الحرب تعني: ما ليس بدار الإسلام، فتشمل دار العهد والموادعة، إذ التقسيم للدور عندهم ثنائي، كما هو معلوم.

والأمر الثاني: أنه ألغى حاجة الأفراد المسلمين، وحاجة الجماعة المسلمة في ديار الغرب – التي يعيش فيها منذ فترة – إلى امتلاك مساكن لهم ولعائلاتهم، تفي بمتطلبات حياتهم، ولا يتحكم فيهم من يملك أن يطردهم في أي وقت متى شاء وخصوصا إذا كثر عيالهم.

ولعل هذا راجع إلى أنه يقيم في (كندا) والناس في هذا البلد أكثر رغدا وسعة من غيرهم، وأكثر الحاجات فيه مكفية، والضمانات الاجتماعية كبيرة وواسعة، فبنى رأيه على أن كل الأقليات في الغرب وفي العالم كله على هذا النحو من الراحة والسعة.

على أن مشكلة كثير من علماء الفقه في عصرنا: أنهم يقررون قواعد شرعية في غاية الأهمية، مثل: الضرورات تبيح المحظورات.. الحاجة تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة.. المشقة تجلب التيسير.. إذا ضاق الأمر اتسع.. الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والعرف والحال.. إلخ تلك القواعد الجليلة. ومع هذا يصعب عليهم أن ينزلوا هذه القواعد على الواقع، وظني في الأخ الدكتور نزيه أنه ليس من هؤلاء.

حلول مقترحة من الدكتور عبدالستار أبو غدة:

في ورقته القيمة التي قدمها الدكتور عبدالستار أبو غدة – الذي يعتبر أحد فقهاء المعاملات المرموقين في عصرنا – لمؤتمر علماء الشريعة في أمريكا (نوفمبر 1999م) قدم عدة حلول لهذه المشكلة، تنبئ عن فقه دقيق، وعن بصر عميق بالشريعة وبالواقع معا، قال سدده الله:

إن الحلول المقترحة فيما تقوم كلها على اعتبار أن أصل الموضوع هو شراء بالأجل... وذلك لكون موضوع التعامل مسكنا يتم الحصول عليه نظير الثمن، وليس الهدف الاقتراض من البنوك الربوية إلا أن وجود القرض الربوي سبب للحكم بالتحريم، ذلك لأن هناك عمليتين منفصلتين بعضها عن بعض بحسب الظاهر، وهما عملية الشراء بالأجل، وهي تتم بين المسلم والبائع غير المسلم (المالك الأصلي للسكن) وهي تصرف مشروع، وعملية الحصول على المال النقدي من البنك لأداء الثمن إلى البائع وتقسيط الدين الناشئ بين المسلم المشتري والبنك، وهي عملية اقتراض بالفائدة، وهي تصرف محرم.

والأسلوب المشروع الذي يصح التعامل به هو وجود عملية أحد طرفيها المشتري، والطرف الآخر البائع غير المسلم، أو البنك الربوي إذا كان له الحق في إتمام البيع مباشرة، أو عن طريق شركة تابعة له.. وتمخض عن البيع نفسه التزام بالمديونية للبائع (الثمن المؤجل) وفيه زيادة عن الثمن الحالي، والأجل له نصيب في الثمن كما هو مقرر عند الفقهاء.

وسأورد بعض الحلول المقترحة وهي قائمة على أساس الدمج بين عملية البيع وعملية التمويل من البنك، وهو افتراض قيد المناقشة في ضوء التأمل في العقود المستخدمة للعملية، وهي عقود معقدة حصلت على صورة منها غير واضحة في شكلها ومضمونها وتحتاج إلى نظرة مشتركة بين الفنيين والقانونيين مع الشرعيين.

على أن هذه الحلول المطروحة إذا لم تكن مطابقة لواقع العملية كما تتم فعلا، فإنه يمكن طرحها لاقتراحها على الباعة للمساكن غير المسلمين، فربما يقبلون بها بديلا، بعد استكمال الإجراءات التي يتطلبها الحل، واستبعاد العناصر أو الشروط غير الملائمة للحل، وهذا يتطلب جهودا من المؤسسات المعنية مع التكاتف من المسلمين الراغبين في الحصول على المساكن لإقناع الأطراف ذات الصلة بهذه الحلول التي تحقق للبائع غير المسلم ما يتطلع إليه، وفي الوقت نفسه تتحقق فيها الضوابط التي يطمئن إليها قلب المسلم.

والسبيل إلى صلاحية هذه الحلول المقترحة هو تصحيح التكييف للعملية في شقها الثاني، وهو الحصول على السيولة النقدية لإيصال ثمن البيع عاجلا إلى البائع، وتقسيطه على المشتري. أما العملية الأولى فهي لا شك بيع بالأجل وهي لا تختلف عما إذا اشترى المسلم البيت ودفع ثمنه حالا لو أمكنه ذلك. لكن المشكلة هي في الشق الثاني من العملية.

فإذا أمكن تغيير التكييف للربط بصورة مشروعة بين الشراء وأداء الثمن، بحيث يكون أداء الثمن للبنك هو تنفيذ للالتزام وليس وفاء بالقرض الربوي، أو بعبارة أخرى يكون استيفاء البنك للمبالغ هو بصفته وكيلا بالقبض عن البائع، أو شريكا له، أو مشتريا الدين منه، وسيأتي تفصيل ذلك فيما يلي:

(أ)

اعتبار العملية شراء بالأجل، مع بيع للدين بين الباعة غير المسلمين والبنك

هذا الاقتراح المطروح للبحث والمناقشة هو للنظر في مدى إمكانية تخريج شراء البيوت من البنوك بالفائدة على أساس بيع الأجل، وقد جرت الإشارة إلى هذا الأمر في ثنايا الاستفسار المعد عن الموضوع والمتضمن رصدا لما قيل بشأنه (بند / 11 من ورقة العمل).

فالبرغم من اعتبار الأطراف غير الإسلامية لهذه المعاملة عملية ربوية ينبغي البحث هل هي شراء للبيت بالأجل؟ مع وجود اتفاق جانبي بين البائع غير المسلم والبنك الربوي على بيع الدين مع البائع إلى البنك بأقل من مقداره، أي أن البائع غير المسلم ينقل الثمن الإجمالي المستحق له على المسلم إلى البنك لخصمه.

ولا يخفى أن بيع البيت يستتبع خصم ثمنه لدى البنك وبذلك تكون هناك عمليتان: الأولى: شراء بالأجل بين المشتري والبائع، وهي جائزة. أما العملية الأخرى المحرمة، (خصم الديون أو الكمبيالات) فإنها على عاتق غير المسلم والبنك الربوي دون مسئولية مباشرة على المشتري المسلم عنها، فهو ليس طرفا فيها، أما كونه سببا غير مباشر لها، فإن هذا الدور من المسلم يندرج في الذرائع التي لا تسد لما يترتب من حرج على سد جميع ذرائع المفاسد، فقد قرر الفقهاء وعلماء الأصول أن هناك ذرائع لم يشرع سدها، درءا للحرج.

وينتج عن هذا الطرح:

اعتبار المعاملة شراء بالأجل.

عدم المسئولية المباشرة عما يتصرف به غير المسلم مما له صلة بتعامل المسلم معه.

هذا، ولا ينبغي استغراب وصف عملية أداء المشتري المسلم المبالغ الشهرية إلى البنك بأنها أداة للثمن (وليست وفاء بالقرض) فإن ذلك التصور قائم باعتبارين: أولهما: كون موضوع العملية الحصول على عقار (مسكن). والاعتبار الثاني: هو العلاقة الوثيقة بين البائع غير المسلم والبنك لإتمام العملية. وهذه العلاقة تنشأ على النحو التالي مع مراعاة إيصال الثمن كاملا إلى البائع:

أ‌- قيام المالك الأصلي ببيع المسكن إلى المسلم بثمن من دفعات مؤجلة.

ب‌- اتفاق ضمني بين البائع والبنك لتعجيل تلك الدفعات المؤجلة وتكييف هذا الإجراء أنه بيع الدين الذي للبائع على المشتري إلى البنك.

وهو يؤدي إلى خصم المديونية، كما يحصل في خصم الكمبيالات أو السندات، وحتى لو لم تكن كمبيالات أو سندات لأمر، فإن الالتزام المؤكد بالرهن بين البائع والمشتري لأمر هو في قوة الكمبيالات أو السندات حيث استعاض البائع عنها بتعهد المشتري تجاه البنك.

بقيت مسألة الرهن للبيت لتأكيد المديونية الناشئة عن العملية، فإذا اعتبرت بيعا بالأجل (مع بيع المديونية من بائع المسكن إلى البنك) فلا حرج في هذا الرهن لأنه لتوثيق معاملة صحيحة، الرهن يأخذ حكم التصرف الذي ينشأ الرهن لأجله – وتبقى قضية استمرار الرهن بعد شراء البنك المديونية من البائع للمساكن، وهي تندرج فيما يقع على عهدة غير المسلم وتكون تبعته عليه لأن الدين الصحيح الموثق بالرهن إذا باعه المستفيد من الرهن (غير الملتزم بالشرع) لا يمكن للملتزم إسقاط ذلك الرهن، لأنه لا يسقط إلا بالأداء أو بالتنازل من الدائن (المرتهن)، ولعل هذا من تطبيقات القاعدة الشرعية المعروفة: "يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء".

بخلاف ما لو كان الرهن لتأكيد المديونية المرتبة للبنك على المشتري المسلم، فإن الرهن لا يجوز تبعا لحرمة الاقتراض الربوية، فيظل في دائرة الضرورة، وهو تصرف تبعي، وليس كالتصرف الأصلي المحرم.

(ب)

اعتبار العملية شراء بالأجل، والبائع والبنك مشتركان في البيع

هذا الاقتراح المقدم للبحث والمناقشة أيضاً هو للنظر في مدى إمكانية تخريج شراء البيوت للسكن من البنوك بالفائدة على أساس أن عقد البيع الذي يباشره البائع غير المسلم هو نتيجة اتفاق ضمني على المشاركة بينه وبين البنك لإتمام عملية البيع.

إذ يقوم البائع أو البنك بإبرام عقد البيع، ثم يقتسمان العائد الناتج عن البيع حسب الطريقة التي يتفقان عليها بالأساس الربوي المطبق بينهما دون مسئولية مباشرة على المسلم عنها.

أما كونه سببا غير مباشر لهذه العملية فهو من الذرائع التي لا يجب سدها. وقد سبق الكلام عن بقية الجوانب الشرعية المتعلقة بالعملية عند طرح الحل (أ).

(ج)

اعتبار العملية شراء بالأجل، والبنك وكيل البائع ولو ضمنيا

هذا الاقتراح أيضاً مقدم للبحث والمناقشة، وهو تخريج مطروح على أساس أن العملية بيع أجل، والذي يباشر البيع هو البنك بصفته وكيلا عن البائع، وهي وكالة ضمنية مستندها التعامل والعرف.

ويمكن أن ينظر إلى العملية أنها مكونة من بيع بالأجل بين البائع غير المسلم والمشتري المسلم، ولكنه تم عن طريق الوكالة الضمنية بين البنك والبائع غير المسلم اقتسامهما الناتج عن البيع.

وقد سبقت المعالجة للجوانب الشرعية الأخرى المتعلقة بالعملية عند الكلام عن الحل (أ).

شكر الله للدكتور أبو غدة، فقد عرض هذه الحلول المقترحة ليناقشها إخوانه العلماء المختصون والمهتمون، لعلهم يقتنعون بها أو ببعضها أو يضيفون إليها بعض الشروط أو القيود أو الضوابط، التي تنقل الصورة الممنوعة عندهم إلى الجواز.

[1] رواه ابن ماجه (2045) والبيهقي (7/356) والدارقطني (4/170، 171) والحاكم (2/198) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وابن حبان (7219) عن ابن عباس وقال محققه (شعيب الأرناؤوط): إسناده صحيح على شرط البخاري.

[2] متفق عليه، كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبدالباقي برقم (1118).

[3] انظر الفتوى رقم (717) من الجزء الخامس من فتاوى الإمام محمد رشيد رضا ص 1974-1978.

[4] كان تشكيل هذه اللجنة يضم: الشيخ بدر المتولي عبدالباسط، د. محمد سليمان الأشقر، د. محمد فوزي فيض الله، د. خالد المذكور، د. عبدالستار أبو غدة.

[5] فتوى رقم 42ع/85 (فتاوى الهيئة العامة للفتوى بالكويت).

[6] في فتوى أخرى زاد الشيخ هذه الفقرة، فقال:

(وهذا لا ينطبق على المقيمين في دار الإسلام بأن يرسلوا بأموالهم إلى دار الحرب ويأخذوا عليها الربا، ولا سيما أن ذلك لو جاز لترتب عليه أن تهرب رءوس أموال المسلمين، وهذا ضرر اقتصادي عظيم للمسلمين) فتاوى الزرقا ص 620.

[7] فتاوى الشيخ مصطفى الزرقاء 625 – 626.

[8] في رده على استفتاء د. محمد رشاد خليل رئيس جمعية الأمريكان المسلمين ص 624.

[9] انظر: إعلام الموقعين (1/86) طبعة السعادة بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد.

[10] شرح مشكل الآثار: (8/249) طبعة الرسالة، قال العلامة ظفر العثماني في (إعلاء السنن) 14/350: وسند حسن.

[11] مشكل الآثار المذكور (8/249) وقال في (إعلاء السنن): وسنده صحيح.

[12] نقل ذلك عن (الأموال) لأبي عبيد ص146 قال: ورجاله ثقات. وانظر: إعلاء السنن 14/348.

[13] انظر: الأموال: المذكور.

[14] المصدر السابق ص147.

[15] إعلاء السنن: 14/347.

[16] انظر: إعلاء السنن لمولانا ظفر أحمد العثماني (15/407، 408) تحقيق: حازم القاضي. طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.

[17] انظر: إعلاء السنن (14/414) طبعة دار الكتب العلمية.

[18] انظر: فتوى الشيخ الزرقا فيما سبق، وتفسيره لمذهب الحنفية في ذلك.

[19] قد رأينا فيما سبق أنهم يعتبرون دار (الموادعة) مثل دار الحرب في الأحكام.

[20] ركز المخالفان على (الضرورة) والمجلس إنما ركز فتواه على (الحاجة) التي تنزل منزلة الضرورة، فما ذكراه هنا لا يفيد في دعواهما.

[21] الواقع أنهما اثنان فقط، كما رأينا توقيعهما.