في ظل الانقسام لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات
بقلم : د. إبراهيم أبراش
ليس هذا ما نتمناه بل ما نخشاه.واشنطن لم تعلن فشل التسوية السلمية التي ترعاها منذ مؤتمر مدريد ولم تعلن انسحابها من دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولم تقرر رفع يدها عن الصراع في الشرق الأوسط،واشنطن قالت فقط بأنها عجزت عن إقناع إسرائيل بتحميد الاستيطان وفي نفس الوقت دعت الطرفين للحضور لواشنطن للتباحث في الأمر ولم يتخلف الطرفان عن ذلك.
إذن خيار التسوية السلمية ما زال هو المطروح فلسطينيا وعربيا ودوليا ليس لأنه أثبت جدواه بل لأن كل الأطراف المعنية إما أنها مستفيدة من وجوده حتى وإن كان شكليا وغير فاعل، أو لأنها أعجز من أن تطرح بديلا عنه.
لا شك أن الجولة الأخيرة من المفاوضات وصلت لطريق مسدود،ولا غرو أيضا أن الشك بالمرجعية الفكرية والسياسية والأخلاقية للمفاوضات ونقصد بها التسوية السلمية أو الحل السلمي للصراع بالتصور السابق القائم على حل الدولتين بات يعتري الكثيرين ،أيضا فإن جرد حساب لسبع عشرة سنة من الالتزام الفلسطيني الرسمي بنهج التسوية والتزاماته كالتنسيق الأمني والعلاقات الاقتصادية وعبثية الانتخابات والديمقراطية وما أديا من صراع على السلطة و من انقسام وحرب أهلية، سيَخلُص لنتيجة أن القضية الوطنية خسرت أكثر مما ربحت نتيجة مفاوضات جعلت كل شيء قابل للتفاوض بما ينفي وجود أية ثوابت وحقوق فلسطينية ثابتة.
ولكن هذا لا يعني أن تركتس مسيرتنا النضالية ويصيبنا الإحباط واليأس ،فشل المفاوضات لا يعني نهاية القضية الوطنية ،وفشل المفاوضات لا يعني أن إسرائيل حققت نصرا استراتيجيا على الفلسطينيين ،فهذا التأييد العالمي المتزايد مع عدالة قضيتنا وهذا الانكشاف لإسرائيل كدولة احتلال وإرهاب ،وحقيقة وجود خمسة ملايين فلسطيني داخل فلسطين لم يفرطوا بحقوقهم ووجود مثلهم في الخارج لم يتخلوا عن حقهم بالعودة ...
كل ذلك يشكل دافعية لاستمرار العمل الوطني مع تغيير أدواته ومنهجه.
الموقف الأمريكي المتماهي مع الموقف الإسرائيلي وحالة العجز العربي والإسلامي وحالة الانقسام الفلسطيني كل ذلك مثبطات ولا شك ،ولكن هل نجلس لنبكي على أطلال حلم وطني ؟هل نجلس لنستمع لكل طرف من أطراف معادلة البؤس السياسي الفلسطيني وهو يتهرب من المسؤولية بشيطنة وتخوين الطرف الآخر وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور؟
هل نكتفي بتوجيه اللوم لإسرائيل لأنها كانت صادقة وتصرفت معنا كما يجب أن يتصرف العدو الذي يؤسس وجوده ويبرره بنفي حقنا في الوجود الوطني ؟
هل نكتفي بتوجيه اللوم للعالم لأنه لم يكن فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين ؟
هل يكفي أن نجلس ونستمع لأبطال الانتصارات الوهمية وهم يحصون لنا آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى وعشرات آلاف الأسرى ،وآلاف البيوت المهدمة والمصانع المدمرة أو العاطلة،يحصون لنا خسائر امة ومعاناة شعب ويروجونها وكأنها منجزات نخبة وقيادة ؟
هل نجلس لنستمع للعنتريات الكلامية لأولئك الذين امتهنوا واستمرؤوا التموقع في حزب (ألم نقل لكم وقلنا لهم ) وهم يلومون كلا الطرفين في معادلة البؤس الفلسطينية ؟.
في بداية مسيرة السلام مع مدريد لم يكن الحديث عن فشل التسوية يثير كثير قلق عند الفلسطينيين لأنهم دخلوا التسوية بداية دون أن يحرقوا جسور العودة للبديل ،المقاومة فلسطينيا وخيار الحرب عربيا،بل كانت القيادة الفلسطينية تهدد بأنه إن فشلت التسوية فالخيارات الأخرى متاحة وهو ما كان يجعل العالم مهتما بنجاح عملية التسوية حتى لا يؤدي فشلها لعودة العنف والحرب إلى المنطقة،وكانت وحدة الشعب والتواصل الجغرافي حتى في ظل الاحتلال يجعل الخيارات الأخرى ممكنة .
أما اليوم وفي ظل الانقسام (معادلة البؤس السياسي ) نخشى أن يكون البديل عن المفاوضات مفاوضات أكثر سوءا ،وسوء المفاوضات القادمة لن يقتصر على إمكانية تراجع المفاوض الفلسطيني عن شروط وضعها لاستمرار المفاوضات ،بل عن إمكانية وجود أكثر من قناة للمفاوضات ،ولا نستبعد أن تسعى واشنطن لفتح قناة مفاوضات مع حركة حماس وحكومتها الأمر الذي سيُضعف مفاوض منظمة التحرير إن لم يؤد الأمر لتنافس الفريقين المفاوضين على من يقدم تطمينات وتنازلات أكثر لواشنطن وبالتالي لإسرائيل.
عندما نقول الانقسام ( معادلة البؤس السياسي ) فلا نقصد بذلك مجرد وجود برنامجين وحكومتين وسلطتين ،فهذا ولا شك أمر خطير،ولكن لو عدنا للوراء لوجدنا أن غزة تاريخيا كانت منفصلة عن الضفة وكلتاهما كانتا أجزاء من خريطة الشتات الفلسطيني،ولكن آنذاك لم يكن الشعب منقسما ،كانت كل مكونات الشتات منتظمة ضمن إستراتيجية وطنية واحدة وضمن مرجعية واحدة وكان الشعب موحدا ،أما انقسام اليوم فهو انقسام الشعب والمجتمع وهو ما لم يكن موجودا سابقا .
اليوم ،الشعب منقسم انقساما حادا حتى يمكن القول بوجود مجتمعين في الضفة ومجتمعين في غزة ومجتمعين في كل مناطق الشتات، وكل منهما يتربص بالآخر أكثر مما يتربص بإسرائيل.
الذين أبهجهم فشل المفاوضات ومأزق مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية، سواء كانوا من جماعة شعار (المقاومة هي البديل والحل)، أو من جماعة (ألم نقل لكم وقلنا لهم) ،لم يقولوا لنا حتى الآن ماذا عندهم من بدائل عملية غير الخطابة والشعارات ؟ هل واقع الانقسام هو الحل الأمثل في نظرهم ؟
وإذا كانت المقاومة هي البديل لنهج التسوية فهل الشعارات التي تصدر بين الفينة والاخرى تدل على التمسك باستراتيجية المقاومة والجهاد أم تدل على توجه نحو استعداد لفتح باب جديد للمفاوضات ورؤى جديدة للتسوية ؟
وأخيرا نقول بأنه في ظل الانقسام الفلسطيني السياسي والمجتمعي الحاد، وفي ظل التزام العرب باستراتيجية السلام التي تعني استقالتهم من المسؤولية القومية تجاه فلسطين واهلها فلن يُكتب نجاح لتسوية عادلة سواء كان المفاوض منظمة التحرير أو حركة حماس ،ولن يكتب نجاح للمقاومة سواء كانت مسلحة أو سلمية.
واشنطن لم تفشل في إجبار إسرائيل على تجميد الاستيطان والالتزام بالاتفاقات الموقعة لقوة إسرائيل،بل لأنها لم تجد في الوضع الفلسطيني ما يشجعها على الضغط على إسرائيل والتقدم نحو بناء الدولة الفلسطينية ولم تجد في الوضع العربي ما يهدد مصالحها إذا ما انحازت كليا لإسرائيل.
المصدر
- مقال:في ظل الانقسام لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضاتالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات