عودة إلى المفاوضات السرية
بقلم : معتصم حمادة
المفاوضات كشفت عن جوانب جديدة من وجهها البشع
خطا المفاوض الفلسطيني خطوات خطيرة في العملية التفاوضية حين قبل بلجان تبحث في قضايا، تفرغ الحل الدائم من مضمونه،وتنزع عن الدولة الفلسطينية كل عناصر السيادة..
كما استعاد سياسة الاستفراد بالقرار بحيث ينفرد بإدارة العملية،الثلاثي عباس ـ قريع ـ عريقات من خلف ظهر الهيئات وعموم الحالة السياسية والشعبية الفلسطينية.
بات مؤكداً أنه كلما أوغلت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية،في صيغتها الراهنة،في التقدم إلى الأمام،كلما كشفت عن جوانب جديدة من وجهها البشع،وكلما أكدت الوقائع أنها ذاهبة بالحالة الفلسطينية إلى ما يشبه الكارثة الوطنية.
نتيجتين مهمتين
وبذلك يمكن الخلوص إلى نتيجتين مهمتين:
- أنه ما دامت هذه المفاوضات قد قامت على أسس مغلوطة،واستندت إلى مرجعيات منحازة،واعتمدت آليات مشوهة،فإنها لن تصل سوى إلى نتائج مخيفة، بل مرعبة،سوف تلحق أكبر الأذى والضرر بالمصالح الوطنية الفلسطينية.
- وأنه، ما دامت آليات العمل،في النظام السياسي الفلسطيني، تسير بشكل أعرج،بعيداً عن رقابة الهيئات الشرعية وتوجيهاتها،فإن باب العبث بالحقوق الوطنية الفلسطينية سوف يبقى مفتوحاً على مصراعيه.
فعلى صعيد المفاوضات كشفت المعلومات أن الطرفين اعتمدا مؤخراً صيغة اقترحها الإسرائيليون، ووافق عليها الفلسطينيون،تبدو في ظاهرها وكأنها معنية بقضايا الحل الدائم،لكنها في الجوهر،ما من وظيفة لها،إلا إفراغ هذه القضايا من مضمونها،والالتفاف عليها،تمهيداً لفرض نتائج نهائية تستجيب للشروط الإسرائيلية وللرؤية الأميركية للحل،كما وردت في رسالة الرئيس بوش إلى شارون في 14/4/2004، عبر تحويل الوضع القائم،ببعض الإجراءات التجميلية،إلى حل دائم.
صلاحيات اللجنتين
في هذا السياق،اتفق رئيس الجانب الفلسطيني المفاوض أحمد قريع (أبو علاء) مع رئيس الجانب الإسرائيلي،وزيرة الخارجية تسيبي ليفني على تشكيل مجموعة من اللجان التفاوضية ذات الطابع الفني،ويمكن إيجازها بالتالي:
- لجنة لنشر ما يسمى «ثقافة السلام»: وهي لجنة تستبق توقيع اتفاق السلام،الذي لم تبدأ المفاوضات حوله بعد.ووظيفتها أن تبحث، كما أوضح مصدر مقرب من مراكز القرار في العملية التفاوضية،ليس فقط في وقف التحريض في وسائل الإعلام من الجانبين،بل وكذلك في إعادة صياغة المناهج التربوية والتعليمية،في المستويات كافة،الأساسية،والتكميلية والثانوية والجامعية،وبما «يؤهل» الحالة الشعبية عند الطرفين لاستقبال «اتفاق السلام القادم» مع مفاوضات الحل الدائم. الملاحظ ـ وبشكل بسيط جداً ـ أن البحث يدور في «ثقافة السلام» في وقت تجند فيه إسرائيل علاقاتها الدولية،وجهودها الدبلوماسية والإعلامية تمهيداً لعمل عدواني كبير على قطاع غزة،وفي وقت تواصل فيه قواتها اصطياد «المطاردين» في الضفة الفلسطينية.
- «لجنة العلاقات الاقتصادية» بين الدولتين. وهي تستبق قيام الدولة الفلسطينية،وحدودها، وحدود سيادتها الوطنية،والتأكد من طبيعة اقتصادها،وحجم مواردها المالية. وقد تسرب من داخل اللجنة أن أساس عملها هو بروتوكول باريس الاقتصادي الذي شرّع تقييد الاقتصاد الفلسطيني وإلحاقه في حالة تبعية كاملة بالاقتصاد الإسرائيلي. ويتوقع رجال الخبرة في هذا المجال أن تسفر أعمال هذه اللجنة عن بروتوكول يشكل نسخة مشوهة عن بروتوكول باريس سيء الذكر.
- «لجنة للبحث في نظام الحدود»: اللافت للنظر أن اللجنة ليست للبحث في «قضية الحدود» أي رسم الحدود بين الدولتين، ومعرفة حدود كل دولة بشكل مستقل عن الأخرى،بل البحث في «نظام عمل الحدود» أي بعبارة أخرى البحث في نظام عمل المعابر الحدودية الفلسطينية،وفي ذلك استعادة مشوهة لاتفاقية المعابر لشهر أيلول (سبتمبر) 2005 التي منحت إسرائيل صلاحيات واسعة في التدخل في عمل المعابر الفلسطينية. وكما تسرب فإن البحث يدور حول ما يسمى بالطرف الثالث على المعابر الفلسطينية. أي أن تبقى هذه المعابر تحت رقابة دولية (أطلسية مثلاً) لتوفير ما يسمى بضمانات أمنية لإسرائيل،بحيث لا «يتدفق» اللاجئون والنازحون الفلسطينيون إلى أراضي الدولة الفلسطينية ولا «يتسرب» إليها عناصر إرهابية بهدف شن هجمات على إسرائيل،وبحيث أيضاً لا تتحول هذه المعابر إلى خطوط تهريب،تتجاوز ما يتم الاتفاق عليه في البروتوكول الاقتصادي، وبما يلحق الأذى بالاقتصاد الإسرائيلي.وبالتالي فإن جوهر النقاش في هذه اللجنة ينطلق من مبدأ تجريد الجانب الفلسطيني من حقه السيادي على معابره الدولية،وإحالة هذه «الحق» إلى طرف ثالث توافق عليه إسرائيل،على غرار ما جرى في معبر رفح،وبحيث كلما طلبت إسرائيل،انسحب هذا الطرف من المعبر،وأغلقت الحدود الفلسطينية،ووقع الفلسطينيون في مصيدة الحصار الإسرائيلي،لكن هذه المرة داخل دولتهم المسماة مستقلة!.
- لجنة العلاقات السياسية والدبلوماسية وموقع الدولة الفلسطينية في المنظمات الإقليمية والدولية:وكما تسرب من داخل الفريق الفلسطيني المفاوض فإن عمل هذه اللجنة لا يتناول العلاقات الثنائية بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية بل العلاقات الدبلوماسية والسياسية للدولة الفلسطينية،وعلى أسس وقواعد مشروطة من قبل الإسرائيليين. فمنها مثلاً: هل يحق لدولة فلسطين أن تقيم علاقات دبلوماسية مع جهات لا تعترف بإسرائيل؟وهل يحق لها أن تكون عضواً في منظمة دولية أو إقليمية ترفض هذه المنظمة قبول عضوية إسرائيل فيها؟وهل يحق لدولة فلسطين أن تعقد معاهدات واتفاقيات ترى فيها إسرائيل خطراً على مصالحها العليا الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية. وهل يحق لدولة فلسطين أن تستقبل وفوداً لدول تناصب إسرائيل العداء؟.. وهو كما يتضح، يستبق قيام الدولة الفلسطينية،ويقيد علاقاتها السياسية والدبلوماسية،ويبقيها تحت الوصاية الإسرائيلية.وهو ما يستعيد بشكل أو بآخر ما جاء في اتفاق أوسلو وملحقاته.
- لجنة للأمن: استكمالاً لما ورد أعلاه، يصبح مطلوباً في هذا السياق بحث عديد الأجهزة الأمنية الفلسطينية،تشكيلاتها،تسليحها،انتشارها،علاقتها مع الجانب الإسرائيلي،أماكن تدريبها وعلاقاتها الخارجية،وبالتالي،رسم حدود «الأمن القومي» الفلسطيني، بما ينسجم مع «حدود الأمن القومي الإسرائيلي» ولا يتعارض معه.
- لجنة للمياه: دون أن يتحدد مسبقاً،هل هي معنية بالمياه السطحية،أم الجوفية،وما هي علاقتها بالجانب الأردني ارتباطاً بمياه نهر الأردن. الملاحظ أن المياه الجوفية في الضفة الفلسطينية تقع تحت سيطرة المستوطنات الإسرائيلية،وتسير مع جدار الفصل العنصري،الأمر الذي يشير بشكل مسبق إلى النتائج التي يمكن أن تسفر عنها أعمال هذه اللجنة.
- لجنة البيئة: وهي تحصر أعمالها بأنشطة اللدولة الفلسطينية وأثرها البيئي على الجوار الإسرائيلي،ولا تتناول بالمقابل النشاط الحيوي للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة وأثرها البيئي على الجوار الفلسطيني،كما لا تتناول النشاط النووي الإسرائيلي وأثره البيئي المعروف والمكشوف على الجوار الفلسطيني.
متابعة ثنائية
بالمقابل،اتفق الجانبان على المتابعة الثنائية،وحصراً بين قريع وليفني لقضايا القدس واللاجئين، والمستوطنات و«الجدار»، وهذا يعني،في التطبيق العملي،الاستجابة للضغوط الإسرائيلية والقبول بتأجيل قضايا الحل الدائم الجوهرية إلى وقت لاحق والانشغال بمفاوضات اللجان،التي من المتوقع أن تتشعب نقاشاتها وأن تدخل في دهاليز ومنعطفات وتعقيدات، من شأنها أن تبقى العملية التفاوضية مفتوحة زمنياً.
وهو ما يوضح تصريح الرئيس محمود عباس،الذي استبعد فيه الوصول إلى حل مع الجانب الإسرائيلي نهاية العام الحالي 2008.فموضوع الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 67،كما هو واضح، مؤجل،وليس مطروحاً على جدول الأعمال،وليس هو المنطلق والأساس للعملية التفاوضية،وربطاً بذلك تتأجل باقي قضايا الحل الدائم.
الملاحظ في هذا السياق أيضاً أن العملية التفاوضية، تدار من الجانب الفلسطيني، من قبل ثلاثي يضم الرئيس عباس،وقريع،وصائب عريقات.
وفي ذلك استعادة للصيغة الثلاثية التي كانت قائمة في زمن الرئيس عرفات،وصولاً إلى أوسلو وملحقاته،وقد ضمته آنذاك، وإلى جانبه عباس وقريع.
اللجنة التنفيذية في م. ت.ف. مستبعدة من أي دور في إدارة العملية التفاوضية أو حتى الإطلالة على نتائج أعمال اللجان والصيغ المعتمدة.وكذلك استبعد في هذا الجانب رئيس الحكومة سلام فياض.
كما كان يفترض تشكيل اللجنة العليا لتوجيه العملية التفاوضية.لكن الرئيس عباس ماطل طويلاً في إصدار مرسوم بتشكيلها،وتؤكد أوساط من فتح أنه لا ينوي تشكيل هذه اللجنة حتى لا تتحول عبئاً يضيق له هامش المناورة وهو مرتاح إلى اللجنة الثلاثية،ويكتفي بالتشاور مع القيادتين المصرية والأردنية في القاهرة وفي عمان.
مثل هذا الوضع يطرح على جدول أعمال الحالة الفلسطينية أسئلة عدة من بينها طبيعة النظام السياسي الفلسطيني وآليات عمله، ودور المؤسسات المعنية فيه، في إدارة القضايا ذات الطابع الاستراتيجي واتخاذ القرار المناسب بشأنها.
ففي ظل غياب الدور الفاعل للجنة التنفيذية،والمجلس الوطني ولجانه البرلمانية،وفي ظل غياب التشاور على الصعيد الوطني بين الرئيس عباس وقادة الفصائل، عادت سياسة الاستفراد، وسياسة المفاوضات من خلف الستار، ومن خلف الهيئات لتفرض نفسها.
وهي السياسة ذاتها التي اتبعت في مفاوضات أوسلو،وما تلاها بحيث كان الجانب الفلسطيني حريصاً على الابتعاد عن الأضواء الإعلامية،وإبقاء العملية التفاوضية طي الكتمان لإدراكه المسبق أن ما يقدم عليه يتعارض مع الاتجاهات العامة للسياسة الفلسطينية كما رسمها المجلس المركزي في م.ت.ف. واللجنة التنفيذية، وكما رسمتها وثيقة القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني الفلسطينية.
كما يتضح أن المفاوض الفلسطيني بدأ العمل على استعادة سياسة الصدمة الشعبية بحيث يضع نتائج المفاوضات أمام الرأي العام كأمر واقع مسلم به،ولا يبقي أمام القوى السياسية والحالة الشعبية الفرصة الكافية لالتقاط الأنفاس، خاصة وأنه يسارع إلى التوقيع على الاتفاقات والمصادقة عليها، وتقديمها إلى الرأي العام على أنها أفضل ما يمكن الوصول إليه.
هذه السياسة اتبعت في بحث قضايا المرحلة الانتقالية،وكان الهامش السياسي أمام الحالة الفلسطينية آنذاك يبرر التنازلات بذريعة أن ما تم الاتفاق عليه إنما هو مؤقت، وأنه عندما يحين أوان الحل الدائم،نستعيد ما تم التنازل عنه.
الآن،تدور مفاوضات الحل الدائم، وما يتم الاتفاق عليه سيكون ملزماً للحالة الفلسطينية.وبالتالي ما هو مطروح على بساط البحث يطال المصالح الوطنية العليا،والمستقبل الاستراتيجي للشعب الفلسطيني.
وهنا خطورة الأمر.والأكثر خطورة أن تستمر العملية التفاوضية على ما هي عليه، بينما تستمر الحالة الفلسطينية منشغلة بالانقسام السياسي،وبحيث تخسر في نهاية المطاف وحدة الحالة الفلسطينية، وجوهر قضيتها الوطنية.
المصدر
- مقال:عودة إلى المفاوضات السرية موقع : المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات