عرائس في سجون عبد الناصر (1-2)
مقدمة
إن الظلم خلل في فطرة الإنسان، حيث إن الله تعالى جعل فطرة الإنسان تميل إلى كل خير وتبتعد عن كل شر. عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس (إشارة إلى الحكام الظلمة أعداء الشعوب)، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.(صحيح ) أخرجه مسلم وأحمد.
لم يتحمل عبد الناصر وأجهزته كلها تحرك الأخوات في كفالة أسر الإخوان المعتقلين على خلفية حادثة المنشية، فقام باعتقال كل الإخوان الذين كانوا يساعدون الأخوات في كفالة هذه السر وحمايتها من التشرد وعقد لهم محاكمة بتهمة تمويل أسر الإخوان.
غير أنه لم يتحمل نشاط وحركة الأخوات بعد ذلك، فما كاد عام 1965م يحل حتى وجه ضربة قوية للإخوان، وليس ذلك فحسب بل وجه أيضا الضربة للأخوات وقام باعتقال أكثر من مائتين من الأخوات وتشريد آلاف الأسرة، فكانت وصمة عار في جبينه، أن اعتقل النساء بغير ذنب إلا إنهن زوجات وأمهات وبنات الإخوان، بل وصل به الأمر أن اعتقل العرائس ليلة زفافهن أو بعد زفافهن بأيام.
وكان لابد لنا أن توقف مع هؤلاء العرائس لنتعرف على أسرار اسعد ليلة في حياتهن وتحولها لأتسع ليلة خاصة أن كثير من الزوجات من قتل زوجها داخل السجن وسجل أمامه هارب والأمثلة كثير كالشهيد الشاعر محمد عواد وغيره.
العروس الأولى: غادة عمار
- كانت غادة عمار إحدى الأخوات الناشطات في جمع التبرعات وكفالة اسر الإخوان وحمايتهم من التشرد في ظل غياب العائل في السجون لفترات طويلة، وكانت إحدى الأخوات المعاونات للسيدة زينب الغزالي ونعيمة خطاب وعلية الهضيبي،
ولقد ذكرتها السيدة زينب الغزالي عند اعتقالها بقولها:
- «كنت مستغرقة أفكر: علية حامل في شهورها الأخيرة ؟ كيف اعتقلها الطغاة؟ وغادة؟ ماذا فعلوا برضيعتها الصغيرة؟ كيف تركتها؟ إنها لقسوة وفجور ووحشية!! يا للبشر من حكامهم عندما يرتدون أردية الجاهلية، فتغطى كل مشاعرهم وتضيع ضمائرهم فيصبحون جلادين لرعاياهم». (1)
زوجها
تزوجت غادة عمار من الطيار يحيى أحمد حسين ورزقهما الله بسمية وهالة وكان عمرهما وقت اعتقال والدتهما عامين.
لقد التحق يحيى حسين بجماعة الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية وكان واحد من المخلصين لهذه الدعوة المباركة، ولقد تعرف على علي عشماوي، وكانت أسرته التربوية كلها من الطيارين، فقد كان معه فاروق عباس سيد أحمد وكان عمره (25 عاما) وكان طبيب امتياز، و محمد ضياء الدين الطوبجي وكان عمره (28عاما) وكان طيارا وقد حكم عليه بـ(15) عاما سجن، وسمير الهضيبي (مؤلف كتاب رسائل في السجن).
وعندما قبض على الإخوان في قضية تنظيم 1965م، اعترف علي عشماوي على كل الإخوان ومنهم أسرة الطيارين، فما أن علم يحيى حسين بذلك حتى استطاع أن يهرب على متن طائرة خارج مصر. (2)
عروس خلف القضبان
- ما كاد عبد الناصر يعلن من الكرملين بالاتحاد السوفيتي اعتقال كل من سبق اعتقاله حتى هرب زوجها، فلم تجد المباحث بدا إلا اعتقالها وتعذيبها عذابا شديد؛
تقول زينب الغزالي:
- «وأرسلت لابنتي في الإسلام غادة عمار وقلت لها : "اليوم اعتقلت مجاهدة جليلة فاضلة تدعى الست أم أحمد، وتقطن بناحية شبرا ولدى أموال لحساب أسر المسجونين وشؤون الدعوة فها هي إليك يا غادة، فإذا اعتقلت فسلميها للمرشد أو لآل قطب، وسلمتها مظروفا فيه أموال الجماعة التي كانت أمانة عندي، وهى اشتراكات من الإخوان المسلمين .
- وعلمت بعد ذلك وأنا في السجن أن هذا المبلغ أودعته غادة عند ابنتي في الإسلام فاطمة عيسى وعندما قبض عليها الطغاة استولوا على هذا المال الذي كان ثمن الطعام وأجر المساكن ومصاريف التعليم والعلاج لأبناء المسجونين وأسرهم، تلك الأسر التي لا ذنب لها ولا جريمة، علمت بذلك عندما جيء بغادة عمار وعلية الهضيبي إلى زنزانتي في السجن الحربي فقلت: "حسبنا الله ونعم الوكيل ، الدنيا ساعة، أما الآخرة فهي دارنا والحساب هناك».
وتضيف قولها:
- « وينفتح الباب ويرمى الشيطان الأسود ببطانية ووسادة، وكان قد مر علي ثمانية عشر يوما وأنا أفترش الإسفلت، وأعود بعد لحظات ووسادتي يرمى بهما على الأرض وأنا في دهشة مما يحدث، ولم تلبث دهشتي أن زالت حين فتح الباب ثانيه ليدخل صفوت وحمزة البسيوني مصطحبين علية الهضيبي وغادة عمار يدخلانهما ويخرجان ويغلق باب الزنزانة، وتقبل على علية تأخذني بين ذراعيها تقبلني وأنا منصرفة عن نفسي والدنيا وتتساءل في ألم : أنت الحاجة؟ والتفت إلى غادة فأرى عينيها ممتلئتين بالدموع تغرقان وجهها. وتبكي غادة في صمت وتتساءل علية في عجب: أيمكن أن يحدث هذا مع النساء». (3)
- لقد اعترف عليها علي عشماوي بأنها كانت إحدى القائمين على تمويل أسر الإخوان، فقد جاء في كتابه التاريخ السري للإخوان اعترافه بقوله: « النقود ستكون عند غادة عمار لتسليمها إلى بيت الهضيبي أو بيت قطب، إذا قبضوا على اتصل بغادة أو بحميدة ستعرف أين النقود إذا احتجتم إليها».
- لقد ظلت الزوجة في السجن الحربي وكان اسمه كفيل بإلقاء الرعب في قلوب الشجعان، فقد ظلت فيه ما يقرب من ستة أشهر بعيدة عن زوجها الهارب وبناتها الصغار حتى أفرج عنها.
العروس الثانية: زوجة فاروق المنشاوي
تخرج فاروق المنشاوي من كلية الهندسة في يوليو 1965م، وتعرف على إحدى الأخوات وتقدم لها ووافق أهلها، غير أنه سرعان ما أعتقل في أغسطس 1965م، وفي إصرار المؤمنات الصادقات أصرت عروسه على انتظاره.
الزوج
- نشأ فاروق أحمد علي المنشاوي في بيت قاضٍ شرعي؛ حيث كان والده يعمل قاضيًا، وترعرع في وسط هذه البيئة التي عملت على خدمة دينها، وقد وُلد في عام 1943م.
- كان أحد الطلبة الذي أحبوا الدعوة، وعملوا لها بكل طاقتهم، فقد كان فاروق طالبًا بكلية الهندسة، وكان ذا سمتٍ محبب لزملائه الطلبة؛ مما ساعده على التربع في قلوبهم وتوصيل دعوة الله لهم بكل يسر.
يصفه المهندس محمد الصروي بقوله:
- "يسر الله لي والتحقت بكلية الهندسة، وهناك تعرفت على كثير من الإخوان مثل الشهيد فاروق المنشاوي، والذي عمل مع إخوانه على إحياء تنظيم الإخوان وتربية الشعب على معاني الإسلام الصحيح، وكان الزميل المهندس فاروق المنشاوي صاحب طاقة فاعلة كبيرة جدًّا".
- عندما بدأت المحرقة الناصرية ضد الإخوان، حاول الخروج من مصر لأنه كان يعلم كما يقول أقرب الإخوان إليه إنهم لن يتركوه حيًّا إذا قبضوا عليه، غير أنه قبض عليه قبل أن يتخطى الحدود المصرية الليبية عند السلوم، وخرجت مجلة (المصور) بمانشيت كبير وبه صورة لفاروق المنشاوي وتحتها تعليق يقول "القبض على فاروق المنشاوي قائد منظمة التخريب على حدود السلوم". (4)
- عذب فاروق المنشاوي تعذيبًا شديدًا فوق طاقته بسبب كونه مسئولاً عن خلية الطلبة وأن منهم عددًا قد هربوا إلى ليبيا ولم يستطع عبد الناصر القبض عليهم، ولذا وقع التعذيب الشديد على فاروق..
تقول الحاجة زينب الغزالي:
- "وبعد فترة دخل ثلاثة جنود كأنهم خارجون لتوهم من جهنم، طول أجسامهم مرعب وعرض أجسامهم كذلك، وجوههم تعكس غلظة قلوبهم، وبعدهم بقليل دخل رجل فسألهم عما إذا كانوا قد عرفوني ورأوني، وأجابوا بنفس واحد بالإيجاب، وقالوا بأن موعد موتى قد حل، ثم خرجوا ليعودوا بالأخ فاروق المنشاوي فيجلدوه بعد أن قيدوه وصلبوه على عود من الخشب، وبين الجلدة والجلدة كانوا يسألونه عن عدد المرات التي زارني فيها، ويطلبون منه أن يسبني فيرفض فيزيدونه جلدًا، وأنا أتمزق مما أرى وأسمع حتى طرحوه أرضًا واعتقدت أنه يحتضر، ولكن إرادة الله شاءت له أن يعيش وبحاكم ليحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، يدعو في السجن للإسلام وللحق الذي آمن به حتى امتدت إليه يد آثمة وبتعليمات من عبد الناصر لتقتله في سجن ليمان طره فيفوز بالشهادة». (5)
- وقدم فاروق المنشاوي للمحاكمة مع ثلة من إخوانه، أمام الفريق محمد الدجوي والتي حكمت عليه بالشغال الشاقة المؤبدة، غير أن النظام لم يصبر عليه بسبب حركته الدءوبة داخل السجن ودعوة المسجونين إلى دعوة الله.
يقول المهندس الصروي:
- فاروق المنشاوي الذي أصيب بمرض خطير وهو تشنجات في جميع جسمه ما عدا قلبه ولسانه وعينيه، ويظل متشنجًا ساعات طويلة بل أيامًا كثيرةً.. ورغم ذلك كان يصر على صيام النوافل والإقلال من الطعام.. ولا يستجيب لتعليمات الأطباء حتى ولو كانوا من الإخوان.
ويصفه إخوانه فيقولون:
- "كان يمتاز بالهدوء الشديد وسعة الصدر والصبر على المناقشة الموضوعية كان يقرأ في صلاة العشاء ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾ (آل عمران) يكررها بصورة ملحوظة في صلواته لا يملك من يراه إلا أن يحترمه".
شهادة وصبر
- ظلت الزوجة على عهدها مع زوجها بالرغم من أانه حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومرت الأيام والسنون وهي تسمع عن تعذيبه الكثير وتقطع قلبها بسبب ما يعانيه من محنة إلا أنها كانت تنتظرها مفاجأة كبرى.
يقول المهندس الصروي:
- "في أبريل 1969م قامت الحكومة بنقل الإخوان (الذين لم يتم ترحيلهم إلى سجن قنا) من عنبر الإيراد إلى عنبر رقم (1) بالدور الثاني، وعاش هذا العدد من إخوان تنظيم (65) في عنبر رقم (1) في هدوءٍ واستقرار مع ظروف أحسن من التي كانوا فيها في عنبر الإيراد (غيابة الجب)؛وبدأوا يمارسون حياتهم كمساجين عاديين مثل باقي مساجين الليمان الذين يتجاوزون الأربعة آلاف موزعين على أربعة عنابر هي (1، 2، 3، 4).
- كان الزميل المهندس فاروق المنشاوي صاحب طاقة فاعلة كبيرة جدًّا.. فبمجرد أن تنسَّم شيئًا قليلاً من حرية الحركة، بدأ يتحرك في السجن.. متشبهًا بسيدنا يوسف عليه السلام، وتوطدت علاقة الزميل المهندس فاروق المنشاوي بطبقة السياسيين الذين سجنهم عبد الناصر لأسبابٍ مختلفة.. وهؤلاء السياسيون مزيج من مختلف الأفكار والأخلاق والعادات، ابتداءً من الصحفي الكبير مصطفى أمين وانتهاءً بكل مَن تفوه بكلمةٍ أو نقد حكم الحكومة (آنذاك).
- تحدَّث فاروق المنشاوي مع هؤلاء جميعًا عن فكر الإخوان في قضية 1965م، وعن الفكر السياسي عند سيد قطب ومحمد يوسف هواش.. فتم كتابة عدة تقارير فيه من ضباطٍ كانوا مسجونين معه بتهم مختلفة، فتم نقل فاروق المنشاوي ثانيةً إلى عنبر الإيراد.. الذي كان فارغًا تمامًا سوى من نفرٍ قليلٍ من محترفي الإجرام، وافتعل أحدهم مشادةً مع فاروق المنشاوي، وقابل فاروق ذلك باحترامٍ وأدبٍ زائد، وصبر جميل.
- وفي اليوم التالي أحضر هذا المجرم المحترف سكينةً طولها 25 سم.. وعند قيام فاروق بغسل رأسه تحت الحنفية قام المسجون بطعن فاروق المنشاوي في رقبته 13 طعنة، بسرعةٍ فائقة، ووقع فاروق على الأرض، وحملوه بسرعةٍ إلى مستشفى الليمان.
- وفي المستشفى كان هناك الأخ المهندس محمد شاكر خليل الذي تم ترحيله من سجن قنا إلى مستشفى ليمان طره للعلاج، ولما علم بالخبر، ذهب إلى حجرة العمليات، فأشار إليه فاروق بتوجيهه إلى القبلة، وطلب أن ينام على جنبه الأيمن، ثم فاضت روحه إلى بارئها»(6).
- ونشرت جريدة الأهرام الخبر يوم 30مايو 1970م، ثم جاءت النيابة، وحققت مع السجين القاتل، وأثناء التحقيق تم حبسه في عنبر الإيراد بدون طعامٍ ولا ماء حتى مات صبرًا، ودفنت معه الأسرار كلها.
- كانت هذه المفاجأة التي كانت تنتظر الزوجة هي بعد هذه السنين من الغياب في غياهب السجون تأتي يد آثمة لتغتال أحلامها وتغتال زوجها التي لم تدخل به لكنها انتظرته وكانت على استعداد لانتظاره المدة كلها ما دام ذلك في سبيل الله.
- تحملت العروس الأزمة ونعاه قلبها قبل دموعها وبعد أن هدأت الأزمة بثلاث سنوات قام الإخوان بتزويجها من أخ فاضل هو المهندس محمود سلامة وهو من إخوان الإسكندرية بعد أن قضى ثماني سنوات خلف القضبان.
الهوامش
- زينب الغزالي: أيام من حياتي، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون ومحنة 1965م... الزلزال والصحوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2004م.
- زينب الغزالي: أيام من حياتي، مرجع سابق.
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1427ه-2006م.
- زينب الغزالي: أيام من حياتي، مرجع سابق.
- محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر، مرجع سابق.