عبد الرحمن نا تشونغ
ولد نا تشونغ في عام 1909 بقرية ناجياينغ (معسكر عائلة نا) لقومية هوي التي تقع حاليا في محافظة تونغهاي بجنوب غربي مقاطعة يوننان، وهي قرية لها تاريخ طويل وأنجبت عددا كبيرا من العلماء والأئمة، من بينهم المترجم الصيني المعروف نا شيون، صاحب ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى الصينية.
ويبدو من المقطع الأول لاسم القرية وهو "نا"، أن غالبية قاطنيها ينتمون إلى أسرة واحدة هي عائلة "نا" التي يقول أبناؤها إنهم أحفاد السيد الأجل شمس الدين عمر، حاكم يوننان المسلم خلال فترة أسرة يوان (1271 - 1386). (ناجيا، كلمة تتكون من مقطعين، وتعني عائلة نا، وهي أسرة موجودة في معظم تجمعات المسلمين في الصين، وعلى سبيل المثال فإن مسجد ناجياهو من أقدم مساجد مدينة ينتشوان في منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي، ويعني اسمه تجمع عائلة نا).
عندما بلغ نا تشونغ عامه الأول، أخذته أمه إلى مدينة كونمينغ حاضرة يوننان، ليلحق بوالده الذي كان يعمل بائعا متجولا هناك. في كونمينغ، ألحقته أسرته بمسجدين للدراسة، حيث بدأ تعلم الكتابة العربية. وبرغم أن الدراسة في المساجد كانت مجانية للمسلمين، لم يقتنع الفتى بالتعليم الديني الخالص، فسعى للالتحاق بمدرسة ابتدائية غير دينية، ثم لاحقا بمدرسة فرنسية حيث درس علوما متعددة من بينها اللغة الصينية واللغة الفرنسية والرياضيات وعلم النبات والرسم.
وعندما بلغ العشرين من عمره، شارك نا تشونغ في تحرير صحيفة (تشينغتشن دوباو)، مع عدد من المسلمين المثقفين في كونمينغ لتعزيز أفكار برنامج للتجديد الإسلامي في ذلك الوقت. كتب نا تشونغ العديد من المقالات حول موضوعات دينية ولا دينية، ومنها مقالة وجه فيها انتقادات حادة للروائي الصيني المشهور قوه موه روه (كو مو جو).
كان نا تشونغ يرى في نفسه باحثا له آراء تتجاوز الأمور الدينية، ولكنه كان مهتما بشكل خاص بالقضايا التي يواجهها مجتمعه ذو الغالبية من أبناء قومية هوي المسلمين في مدينة يوننان. وكغيره من الإصلاحيين المسلمين في ذلك الوقت، لم يكن نا تشونغ راضيا أو مقتنعا بالتعليم التي تلقاها في المسجد، إذ رأى ضعف التعليم المُتاح لأبناء المسلمين، فعقد العزم على أن يساهم في إصلاح هذا الخلل.
وبالفعل، بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى القاهرة ضمن أول بعثة تعليمية رسمية صينية للدراسة في الأزهر الشريف، نشر نا تشونغ مقالة في مجلة (يويهوا)، أوضح فيها بجلاء أن غرض دراسته في الخارج هو تحسين التعليم الإسلامي في الصين. واقعة بسيطة يمكن أن تحدث بين الأصدقاء في مقتبل العمر جعلت الفتى المسلم يصر على أن يفهم تعاليم دينه فهما واضحا صحيحا.
ذات مرة، وضع له زملاء غير مسلمين لحم خنزير في طبقه، وبعد أن انتهى من طعامه ضحكوا منه وأخبروه بما فعلوا، فتعارك معهم. لم يفهم سببا لحنقهم عليه لأنه لا يأكل لحم الخنزير، ولكن الأهم أنه لم يفهم لماذا هو نفسه لا يعرف سببا لتحريم لحم الخنزير.
في القاهرة، وكان عمره اثنين وعشرين عاما، أخذ يبحث عن كتب حول مبادئ الإسلام، فوقع في يده كتاب مدرسي للمرحلة الإعدادية في مصر تعلم منه قواعد دينه. كانت صدمته كبيرة عندما اكتشف جهل مجتمعه الإسلامي في الصين لجوانب من دينهم تُعد معارف عامة لتلاميذ المرحلة الإعدادية في مصر.
كان حرصه على تحسين تعليم المسلمين ونشر الحضارة الإسلامية في وطنه نابعا من رغبته في نيل احترام أبناء وطنه من غير المسلمين. لذا، لم يكن غريبا أن يختار نا تشونغ التعمق في دراسة الحضارة العربية والإسلامية. في عام 1934، نشر الترجمة الصينية لكتاب المرحلة الإعدادية الذي تعلم منه قواعد الإسلام. في عام 1936، أصبح نا تشونغ الطالب الصيني الأول والوحيد الذي حصل على شهادة "العَالمِية" في جامعة الأزهر آنذاك، ذلك الشرف الذي ظل يعتز به طوال حياته.
بعد ذلك، التحق بكلية التاريخ في الأزهر، حيث تخصص في التاريخ العربي والإسلامي. ترجم المزيد من الكتب العربية إلى الصينية، ومنها كتاب "الإسلام والحضارة العربية" لمحمد كرد علي. وبفضل علاقته مع المفكر المصري المعروف أحمد أمين، حصل نا تشونغ على إذن بحضور دروس في جامعة القاهرة، ولاحقا ترجم إلى الصينية ثمانية أعمال لأحمد أمين حول تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.
تجربة نا تشونغ في مصر ساعدته على تطوير هويته كممثل لمسلمي الصين في العالم الإسلامي. في سنة 1932، حضر هو ورفاقه المؤتمر الإسلامي العام في القدس بفلسطين، وأثناء المؤتمر سأله مندوب روسيا: "لماذا لم ترسل الصين مندوبين للمؤتمر؟" لم يكن لدى نا تشونغ إجابة (تعرضت الصين للغزو الياباني بعد حادثة موكدين في سبتمبر 1931).
في سنة 1938، شارك نا تشونغ في المؤتمر البرلماني العربي للبلاد العربية والإسلامية للدفاع عن فلسطين بالقاهرة، وفي هذه المرة تحدث كممثل للصين، وقال: "أعلن باسم مسلمي بلادي إدانتنا للسياسات الاستعمارية الهادفة للقضاء على فلسطين العربية الإسلامية. وأؤكد مجددا باسم مسلمي الصين استعدادنا لبذل الجهود والتضحيات من أجل فلسطين." وقد طبع منظمو المؤتمر كلمة نا تشونغ تحت عنوان "كلمة الصين"، ضمن الكتاب الذي ضم كلمات المؤتمر.
مِثْل كل زملائه من أبناء قومية هوي الذين درسوا في الأزهر، حافظ نا تشونغ على علاقة قوية مع الدولة الصينية، فقد كان على تواصل دائم مع القنصلية الصينية في القاهرة، بل كان يعمل بها في وقت فراغه كسكرتير. وخلال فترة حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، عمل هو وزملاؤه على حشد التأييد للصين في العالم الإسلامي. سافروا إلى مكة لأداء فريضة الحج ومجابهة وفد حكومة شمال شرقي الصين العميلة لليابانيين. وقد أظهرت رحلة الحج العلاقة الوثيقة بين مثقفي قومية هوي والدولة الصينية.
بعد تسع سنوات في القاهرة، عاد نا تشونغ إلى الصين سنة 1940. وفي سنة 1942، بدأ العمل في تدريس التاريخ العربي والإسلامي والثقافة في الجامعة الوطنية المركزية (جامعة نانجينغ حاليا)، وألف أول كتاب منهجي لتعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية. وفي سنة 1947، بدأ نا تشونغ مسيرته في جامعة يوننان بمدينة كونمينغ.
وفي سنة 1958، طلبت منه وزارة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية الانتقال إلى بكين لإنشاء برنامج للغة العربية في جامعة الشؤون الخارجية بعاصمة البلاد. وتحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، واصل نا تشونغ مشاركاته في المناسبات الإسلامية، إيمانا منه بأن إقامة علاقات وثيقة مع العالم الإسلامي في مصلحة مسلمي الصين.
المثير في سيرة حياة نا تشونغ، أنه في المقابلات الصحفية مع غير المسلمين، لم يكن يتطرق إلى عقيدته الدينية، كما أنه لم يتخذ أدلة من الإسلام في أي من أعماله المنشورة في الصين. لكن المذكرات والسِيَر الذاتية التي كتبها أفراد من عائلته وغيرهم من علماء المسلمين تؤكد أنه كان مسلما تقيا.
والمثير أيضا، أن نا تشونغ في سنواته الأخيرة عندما اشتد عليه مرضه وضعفت ذاكرته لدرجة أنه لم يكن يتذكر حتى أقاربه، لم يفقد معرفته بالعربية وبالقرآن. فعندما قال له ابنه بالصينية: "أنا ابنك، جيا ده"، لم يرد. ولكن عندما قال جيا ده نفس الكلمات بالعربية، اغرورقت عينا نا تشونغ بالدموع واحتضن ابنه على الفور. كان في سنواته الأخيرة يتلو القرآن باللهجة التي تعلمها في يوننان، وظل يتلوه بصوت عالٍ حتى الدقائق الأخيرة من حياته، لدرجة أدهشت الأطباء.
في الرابع والعشرين من يناير 2008، فاضت روح العالم الجليل عبد الرحمن نا تشونغ إلى بارئها. شارك في جنازته المهيبة التي احتضنها المقر الرئيسي للجمعية الإسلامية الصينية في بكين، جمعٌ غفيرٌ من علماء المسلمين ووجهائهم في الصين والعديد من محبيه وتلاميذه، فقد كان نموذجا للعالم المسلم والصيني المخلص لوطنه.
استطاع نا تشونغ خلال رحلة حياته أن يجد لنفسه مكانا بين قوميته "هوي" وقومية هان، وبين الصين والعالم الإسلامي، وبين كونه عالما وإيمانه الديني. ولذلك، لم يكن غريبا عندما رحل نا تشونغ عن عالمنا، أن يتذكره الجميعُ، كلٌ لأسبابه. فبالنسبة للدولة الصينية العلمانية، كان عالما وطنيا من أبناء قومية هوي، ودبلوماسيا غير رسمي عَبّرَ عن مصالح الصين في العالم الإسلامي. وبالنسبة لعائلته وقوميته، كان في المقام الأول مسلما تفانى في أداء واجباته التي فرضها الله.
على الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) منحت، في الرابع من ديسمبر 2001، الأستاذ نا تشونغ جائزة الشارقة للثقافة العربية، يمكن القول إن هذا العالم الكبير لم يحظ خلال حياته بالتكريم الذي يستحقه من الدول العربية والإسلامية، وهو الذي كان من بين مؤسسي برامج تدريس اللغة العربية في الجامعة الوطنية المركزية، وجامعة يوننان، وجامعة الشؤون الخارجية (التي اندمجت لاحقا مع جامعة الدراسات الأجنبية ببكين). ونشر خلال حياته العشرات من الكتب التي ترجمها أو ألفها حول الحضارة الإسلامية وتاريخ العرب واللغة العربية.
كان عبد الرحمن نا تشونغ وطنيا مخلصا، شارك في العديد من النشاطات دفاعا عن مصالح الصين بالعالم الإسلامي. ومما يُذْكَرُ عن حَمِيّة نا تشونغ في الدفاع عن أي شبهة تمس مسلمي الصين، أنه في عام 1985، سافر لأداء العمرة مع وفد من المسلمين الصينيين برئاسة إسماعيل أحمد، الرئيس الأسبق لمنطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم.
في حفل الاستقبال الذي أقامته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، سُئِل أعضاءُ الوفد الصيني من قبل الحاضرين: "لماذا ترجمتم القرآن الكريم؟ إذا كنتم ترغبون في تعلمه فعليكم أن تتعلموا اللغة العربية"، بل زادوا قائلين: "هل لا يزال المسلمون الصينيون يلتزمون بالشريعة الإسلامية؟" هنا، نهض نا تشونغ من مقعده
وقال بلسان عربي مبين:
- "إن تلاوةَ القرآنِ الكريم بالعربيةِ أمرٌ طيبٌ، لكن ليس كل الناس يعرفون العربية. إن ترجمة معاني القرآن، من الأمور الطيبة التي تساعد في نشر الإسلام. أنتم تشُكّون في التزام المسلمين الصينيين بالشريعة الإسلامية، وأنا أقول لكم بصراحة، نحن لا نلتزم بها فقط، بل نلتزم بها بصورة أكثر صرامة منكم هنا. نحن لا نحمل القرآن الكريم إلا بعد أن نتوضأ، لكنكم تضعونه في أي مكان تشاءون!" لقي كلام نا تشونغ استحسانا كبيرا من الحاضرين، وهبُّوا يعانقونه ويشدُّون على يديه.
إن سيرة حياة نا تشونغ، تجسد في الحقيقة مسار حركة إسلامية عصرية أوسع نهضت في الصين في القرن العشرين، عندما انخرط مع غيره من علماء المسلمين في إصلاح مجتمعهم. كما أنها تكشف عن موقع جيل نا تشونغ في مجتمعهم بدولةٍ الإسلامُ ليس دِينَها، وكيف استطاعوا إدارة علاقتهم مع العالم الإسلامي. ما أحوج عالمنا اليوم إلى استلهام سيرة حياة هذا العلم المستنير المجدد.