سلامة الجانب
من أقوال الحكمة المأثورة عن فقيه الأندلس ابن حزم الظاهري قوله "إحرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء، فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك".
حكمة حياة لمن تأملها..وحري بمن يعالج صناعة حياة الناس بمنهاج الله تعالى أن يوغل في تأملها، ويراجع نفسه إليها..
ويخطئ من ظن أن في قول ابن حزم هذا دعوة للاستكانة والمسكنة، وترك إعمال العقل والذكاء في تحقيق الأهداف، والوصول للغايات الشريفة المرضية من عند الله تعالى!!.. ولكنها دعوة إعلاء الشرف، وإلى مطابقة نقاء الظاهر مع نقاء السريرة..
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أذكى الناس، أوقدهم عقلاً، في سيرته من بديع الفكر ما تحار العقول فيه، ولكنه كان أأمن الناس جانباً..وأوفاهم عهداً، وأحفظهم للذمة.. وهو القائل "لا دين لمن لا أمانة له"!!..وحتى مع أهل الغدر أمره الله تعالى ألا يبادلهم غدراً بغدر (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).
وقد ردَّ صلى الله عليه وسلم مالاً دفعه إليه المغيرة بن شعبة عندما جاءه مسلماً، لأنه كان مال غدر..فقد كان المغيرة مسافراً من بعض مشركي العرب، فقام عليهم في بعض أنحاء الطريق، فقتلهم، وقد كانوا يأمنون جانبه، وأخذ المال وسار به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه، ودفع إليه المال..فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه، ولم يقبل المال، وقال "مال غدر".
وأحسب أن الإسلاميين الحركيين لو وطنوا أنفسهم على مثل ما قال ابن حزم، لتجاوزوا كثير من الاخفاقات.. فالحركة الإسلامية عرفها الناس في كل الدنيا، نبات مسجد، ناشرة لدعوة الله تعالى ومعلمة للناس الخير..وحتى عندما ولجت باب العمل السياسي عرفت مطالبة بشريعة الله، ومدافعة حقوق الناس، ومتصدية للظالمين والطغاة..
ولكن مع إيغالها في الممارسة السياسية، وتحقيقها كثير من الانتصارات، جعلها واقع الممارسة تلجأ إلى تغليب جانب الدهاء السياسي، وفي كثير تدير اللعبة بالأدوات السائدة..وكلما كان مغنم النصر كبيراً، كلما المبذول تجاهه من الدهاء السياسي أكبر، والساقط القيمي يزيد أيضاً..حتى صرنا نسمع بعض القادة يبرر الكذب بقوله "التناقض في مواقفنا السياسية لا يعني شيئاً..ذلك على ما قضينا، وهذا على مانقضي"!!..ورأينا البعض لا يستنكف أن يتحالف مع الأحزاب التي تتبنى الإلحاد منهجاً، ضد من كانوا بالأمس القريب إخواناً له!!..
وكان حريٌّ بحركة الإسلام السياسي أن تتخذ لنفسها منهجاً متميزاً في الممارسة السياسية، ونوعاً من الدهاء الشريف الذي لا يشبه ذلك المستخدم عند الساسة العلمانيين..نوعاً من الدهاء لا يكون على حساب القيم..وإنما على الطريقة النبوية..لتكن عند عامة الناس موصوفة بسلامة الجانب..وليس بدهاء الثعالب..