درس في الحساب
بقلم : طارق حميدة
هاجمت سرية بعثها النبي عليه السلام عيراً لقريش فقتلت وأسرت وغنمت، وكان أصحاب النبي يظنون الشهر الحرام لم يدخل، إذ كانوا يحسبون أنهم في اليوم الأخير من جُمادى الآخرة ولمّا يدخل بعد شهر رجب.
وكانت فرصة اهتبلها المشركون ليشنعوا على الرسول والمسلمين أنهم ينتهكون حرمة الشهر الحرام فيقتلون ويأسرون .. وقد تأثر المسلمون كثيراً بهذه الدعاية، وتوقف الرسول عليه السلام في أمر الأسرى والغنائم، فأنزل الله تعالى آيات بينات تلجم المشركين وتدفع باطل حججهم (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
والسائلون هم المشركون يفعلون ذلك استنكاراً ودعاية مغرضة ويتبعهم في ذلك أهل الكتاب والمنافقون في المدينة، وقد يكون السائلون أيضاً أصحاب النبي عليه السلام تأثراً بما يروجه المشركون، وخوفاً من الله مما فعله رجال السرية من انتهاك الشهر الحرام .
وهنا يأتي الرد الإلهي واضحاً وحاسماً وواضعاً للأمور في نصابها .. (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ...) قل وأعلن يا محمد ، أن القتال في الشهر الحرام كبيرة من الكبائر ، ومحرم لا توافق عليه ، ولكن هذا الأمر ليس كل الحقيقة ، فالصورة لم تكتمل بعد ، فالصد عن سبيل الله من آمن ، أو أراد الإيمان أو حتى التعرف على الحق ، والكفرُ بالله وبالمسجد الحرام ، وإخراجُ محمد وأصحابه من مكة البلد الحرام أكبر عند الله .. فلئن ارتكب أصحاب محمد 'كبيرة' خطأ ودون تعمد، فلقد ارتكبت قريش ولا تزال عدداً من الكبائر والخطايا والجرائم والتي هي بمجموعها أكبر وأعظم بميزان الله وهو الميزان الحق الذي لا يخطئ ولا يحابي،(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ..) .
وإذا كان المشركون يستنكرون ويستكبرون وقوع القتل من المسلمين في تلك السرية.. فإن الله تعالى يقرر أن فتنة الناس عن دينها وتعذيبهم حتى يرتدوا عنه أكبر من القتل ... إن القتل إنهاء للحياة ، ولكن الفتنة وحرف الناس عن الحق وإكراههم على ما لا يحبون أكبر وأخطر من القتل ... إن الله تعالى وهو رب الناس لم يشأ أن يكرههم على دينه وهو الحق الذي فيه مصلحتهم وسعادتهم، وحرّم على المسلمين أن يكرهوا أحداً على الدين .. فكيف بمن يكرهون الناس على الكفر ويعذبونهم ليرتدوا عن الإيمان ؟!
إنه درس في الحساب يتعلمه الصغار في رياض الأطفال قبل الصف الأول ، ذلكم هو مفهوم، أكبر وأصغر،... ولا يظـنّنّ أحد أنه بالضجيج وعلو الصوت يغير الحقائق ويقلب المفاهيم على طريقة ] خذوهم بالصوت لا يغلبوكم [ .
يصلح هذا الدرس في سياق العداء الفلسطيني الصهيوني كلما تشدق الغاصبون في إدانة النشاطات الجهادية والنضالية، إذ كيف يشير إلى الذى في عينه قشة .. مَن كان في عينه جذع شجرة؟! وأين النضال لدحر العدوان من الظلم والاغتصاب والتهجير ؟!
ونفس المنطق ينبغي أن يوجه إلى الأمريكان وهم يصرخون مستنكرين 'للإرهاب' الذي مرّغ أنوفهم في التراب .. لأن آخر من يحق له الحديث عن الإرهاب والإجرام هم الأمريكان، إنهم هم الذين أبادوا الهنود الحمر، وهم الذين استعبدوا الأفارقة، وهم أبطال هيروشيما وناغازاكي وآثارهم في فيتنام والعراق وغيرهما لم تمح بعد .. وهم الذين يمارسون الفتنة والإكراه السياسي بتنصيب الزعامات التي تسير في فلكهم على الشعوب المستضعفة، وردع الديمقراطية وحرية اختيار القيادات .. وأمريكا الآن تمارس 'الاجتياح' الفكري والاقتصادي والأخلاقي إضافة إلى الضغوط السياسية والعسكرية في كل الأرض .. فيما يسمى اليوم بالعولمة، وأما وقوف الأمريكان داعمين للصهاينة الغاصبين في فلسطين فهو أوضح وأشهر من أن يذكر .. إنها الفتنة إذن .. ' والفتنة أشد من القتل ' . ومن أصدق من الله حديثاً !؟ .
المصدر
- مقال:درس في الحسابموقع:الشبكة الدعوية