حين تغدو الأصولية فزَّاعة كل عام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حين تغدو الأصولية فزَّاعة كل عام


بقلم : فهمي هويدي

كلما عثرت بغلة امتطاها رجلٌ ملتحٍ في أي بلد كان هلَّل نفرٌ من المحلِّلين صائحين: انتكس المشروع الأصولي وفقد قوة الدفع، وليس في هذا الكلام أية مبالغة؛ لأننا شهدنا في العِقْدين الأخيرين نماذج لأولئك المحللين الذين ظل شاغلهم الوحيد هو تصيُّد الشواهد والحيثيات التي تؤكد على فشل وسوء عاقبة المشروع الأصولي، حتى في الساحات التي لا يوجد بها مثل هذا المشروع.

لا تسألني عن دوافعهم إلى ذلك، فمنهم هواةٌ، يحللون الظواهر تبعًا لأهوائهم وأمنياتهم، وليس انطلاقًا من معطيات الواقع، ومنهم الكارهون الذين لم يتمنَّوا أن تقوم لذلك المشروع قائمةٌ يومًا ما، واعتبروا دائمًا أن ظهور ما يسمون بالأصوليين وأشباههم نذيرُ شؤم ومقدمة لكارثة محققة، ومنهم الأبواق الذين يفصِّلون المواقف استجابةً لحسابات ومصالح معينة، لأطراف في خصومة دائمة مع تلك الفئة من الناس.

سواءٌ انطلق هؤلاء المحللون من قراءاتهم وضغائنهم الشخصية، أو أنهم ركبوا الموجة أثناء سنوات الصدام بين الجماعات الإسلامية وبعض الأنظمة، أو أنهم انخرطوا في الحملة الأمريكية التي أعقبت أحداث سبتمبر 2001 م وتطوَّعوا أو جنّدوا لصالح ما أُطلق عليه الحملة العالمية ضد الإرهاب.. فالشاهد أن تلك الأصوات تعدَّدت في الساحة الإعلامية، وأصبح لأصحابها حضورٌ لا يكف عن التبشير في كل مناسبة بفشل الأصولية وأفول نجمها، منتقيًا حوادث معينة، حقيقية أو وهمية، توظَّف لتسويغ وتبرير الحكم المعدّ سلفًا، ليس ذلك فحسب وإنما لجأ هؤلاء إلى الافتعال والتدليس حين اعتبروا كلَّ مَن أطلق لحيته أو تحدث عن هويته الإسلامية، أو ذكر الله في أي باب، جزءًا من المشروع الأصولي، وأوهموا الرأي العام بأن الأصولية ليست سوى وحشٍ كبيرٍ هائل الجسم، ومتعدد الأذرع والأطراف، التي تتحرَّك في مختلف أنحاء العالم، ليس بطريقة عفوية، وإنما من خلال عملية منسقة وتنظيم محكم، وهو ما يسرِّب إلى الإدراك العام وهمًا موحيًا بأن كلَّ المسلمين المتديِّنين الناشطين في أنحاء العالم يجمعهم تنظيم القاعدة الإرهابي، وما أدراك ما هو!!

أدري أننا بصدد "متاهة" لها أول وليس لها آخر، ذلك أنك إذا سألت: مَن يكون الأصولي؟! فستجد من يقول لك إنه كل من قال "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" والتزم بتعاليم دينه، وستجد من يعرِّفه بأنه "كل من آثَر أن يتشدَّد على نفسه وعلى غيره"، وستجد من يقول لك إنه "مَن لم يتطرَّف في فكره فحسب، وإنما ذهب إلى حدِّ حمل السلاح وإشهاره في وجه من حوله، ساعيًا إلى إحداث التغيير الذي ينشده بالقوة"، ولن تعدم أناسًا يفضِّلون الإبقاء على المصطلح غامضًا وفضفاضًا؛ ليتسنَّى إطلاقه على كل أحد، و"تلبيسه" التهمة، إلى أن يثبت هو براءته من كل ذلك، وهو ما ألمح إليه أحد الباحثين الإيرلنديين الساخرين في ندوةٍ شهدتُّها ذات مرة في لندن؛ حيث قال: إن أسهل تعريف للأصولي في الخطاب الغربي هو أنه الشخص الذي لا تعجبنا مواقفه أو أفكاره أو حتى هيئته!!

هذا التفاوت في تعريف الأصولي يتكرر في حالة التساؤل عن حكاية المشروع الأصولي، وهل هو مشروع واحد أو أن له تجلياتٍ متعددةً؟ وهل لا بد أن يكون الأصولي جزءًا من مشروع؟ وما هي طبيعة ذلك "المشروع" الذي تلوكه الألسن وتحوَّل إلى فزَّاعة يُلوَّح بها لتخويف الناس وإرعابهم؟!

هذه المقدمة التي طالت هي من أصداء شعور بالدهشة والاستفزاز حين قرأتُ على هذه الصفحة في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي استعراضًا لأبرز أحداث عام 2006م، وأهم مؤشرات العام الجديد، وكان محور ذلك التقييم أن السنة التي مرَّت كانت سنة الهجوم الأصولي المضادّ، وأن العام الجديد يمثِّل بداية الضربة للهجمة الأصولية، وهو ما يدل عليه الحاصل في الصومال الذي يوحي بأن المدَّ الأصولي فقد قوة الدفع، ونتائج معركة الصومال- التي حُسمت على النحو الذي يعرفه الجميع- ستؤثر على مصير المعركة الفاصلة والحرب الكبرى التي يخوضها العالم ضد الأصولية؛ الأمر الذي سيؤثر على مسار المعارك الدائرة في ساحات عدة، من بغداد وكابول، إلى غزة وبيروت وطهران، وصولاً إلى القاهرة.. هكذا قيل على الأقل.

هذا التقييم المدهش لم يَرَ في أحداث عام 2006 ولا عام 2007 إلا مسألة "الأصولية" وخطرها "الداهم"، وسرب لنا في السياق الادعاء بأن الحرب ضد الأصولية هي الكبرى التي يخوضها العالم، وليس الولايات المتحدة ومن لفَّ لفَّها، إلى هذا الحد وصل التبسيط والتغليط، الذي يزدري بعقل القارئ ويفترض فيه الغباء وفقدان الذاكرة.

أسقط التقييم عامدًا فكرةَ انهيار المشروع الامريكي التي أثبتتها أحداث عام 2006، والتي دفعت بعضًا من كبار الباحثين الأمريكيين إلى الإقرار بانتهاء الحقبة الأمريكية في الشرق الأوسط، ولم يُشِرْ بكلمة إلى انهيار قوة الردع الإسرائيلية التي كشف عنها العدوان على لبنان في الصيف الماضي، وهو ما أقرَّ به المحلِّلون الإسرائيليون والغربيون، وكان له صداه في دوائر صنع القرار الأمريكية ذاتها، كما لم يُشِرْ بكلمةٍ إلى فضيحة حصار الشعب الفلسطيني والتواطؤ الدولي على تجويعه، عقابًا له على أنه انتخب حكومة حماس في لحظة ديمقراطية نادرة في المنطقة.

لم يَرَ في ذلك التصويت لصالح حركة حماس انحيازًا لبرنامج المقاومة، وبطبيعة الحال فإنه لم يَرَ في مقاومة حزب الله للاجتياح الإسرائيلي ما يستحقُّ الذكر، ولا في ثبات المقاومة العراقية الباسلة للاحتلال الأمريكي ما يستوجب الإشارة؛ لأن العرض ظل مهجوسًا طول الوقت بمسألة الأصولية والحرب الأمريكية العالمية، فلم يلحظ شيئًا من كل ذلك.

وفي حين بدت الأعين مغمَّضةً عن هذه الملابسات فإنها لم تَرَ سوى شيء واحد ميَّز العام، هو ما أسماه بالهجوم الأصولي المضادّ، وفي هذا الاختزال المخلّ فشلت الأعين في رصْد ضيق الشعوب بالهجوم الأمريكي والإسرائيلي، الذي امتهن كرامة الأمة، وأثار غضب أغلب شرائحها، وليس الأصوليين وحدهم، وهو ما تجلَّى في حالتَي العدوان على لبنان والحصار الذي حاول تجويع واذلال الشعب الفلسطيني.

حالة الصومال التي اعتُبرت مدخلاً لعام 2007 ومقدمةً لما سمِّي في العرض بأنه بداية ضرب الهجمة الأصولية.. نموذج يكشف موقف التبسيط والتغليط في التحليل، المقترن بافتراض جهل القارئ وغبائه؛ إذ لم تعرف الصومال في تاريخها حركةً إسلاميةً ذات وزن سياسي.

وليس صحيحًا على الإطلاق أن ما كان في الصومال حالة يمكن أن توصف حقًّا بأنها مشروع أصولي، وإذا كانت المحاكم "الشرعية" هي التي تصدَّت للأمر، في إطار تجمع أُطلق عليه الاتحاد الإسلامي وإذا كان أغلب قادة المحاكم والاتحاد قد أطلقوا لحاهم وصبغوها بالحنَّاء، فليس في هذه القرائن ما يدل أن للمشروع الأصولي قَدَمًا هناك، رغم أن الأبواق الإعلامية ما برحت تروّج لذلك الادعاء- حتى زعمت أن في الصومال 4000 من "المجاهدين" الذين قدموا من أنحاء العالم الإسلامي، بما في ذلك بلاد الشيشان، وادعت أن جماعاتٍ من الصوماليين تدرَّبت في معسكرات حزب الله في لبنان- والذى يعرفه كل متابع للشأن الصومالي أن مشروع المحاكم الشرعية هو في الأساس مشروع القبائل التي ضاقت ذرعًا بصراعات أمراء الحرب، بالتعاون مع طبقة التجَّار الذين وجدوا أن اقتصاد البلد قد دمِّر وأن مصالحهم ضُيِّعت بالكامل، صحيح أن قادة المحاكم فرضوا على الناس بعض القيود التي كانت قريبةً مما طبَّقته حركة طالبان في أفغانستان، إلا أن تلك القيود كانت تعبيرًا عن الالتزام بالتقاليد السائدة، كما هو الحاصل في بعض ولايات نيجيريا مثلاً، بأكثر منها التزامًا بمشروع واضح المعالم والأهداف.

إن الذين يتحدثون عن تجربة المحاكم الشرعية لا يذكرون أنها برزت ردًّا على التحدي الذي ظهر في بداية عام 2006، حين شكَّل الأمريكيون وقتذاك تجمعًا باسم "تحالف مكافحة الإرهاب"، الذي ضمَّ عشرةً من أمراء الحرب، ذوي الصلات المعروفة بالأمريكيين والإسرائيليين، وأغلبهم كانوا يقيمون ويتمركزون في إثيوبيا، في تلك الأثناء استنفرت قبائل المنطقة الجنوبية، وتعاون شيوخها مع التجَّار الذين توافقوا على تقدم المحاكم الإسلامية بالتصدي للهجوم الجديد، وقد نجحت في ذلك، حتى سيطرت على العاصمة مقديشيو في شهر يونيو من العام الماضي، وحقَّقت السلام والاستقرار في الوسط ومعظم مناطق الجنوب لأول مرة منذ بداية التسعينيات، وهو ما لم يُرضِ الحكومة التي رعتها إثيوبيا وكينيا، وتكفلت حكومة أديس أبابا بحمايتها في معقلها الشمالي بمدينة بيداوا، وحين بدا أن المحاكم الإسلامية تتقدم صوب بيداوا لتسيطر عليها، فإن إثيوبيا دفعت بجيشها وطيرانها لضرب قوات المحاكم وقصف مطار مقديشيو، الأمر الذي أحدث انقلابًا في ميزان القوة؛ أسفر عن هزيمة قوات المحاكم، وتراجعها إلى مواقعها في الجنوب واحتمائها بالغابات الموازية للحدود الكينية.

إن ما سمِّي في استعراض أحداث عام 2006 بأنه بداية الضرب للهجمة الأصولية كان في حقيقته كما يلي: اجتياح إثيوبي مدعوم بالكامل من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل (التي كانت طرفًا حاضرًا في أغلب مساعي المصالحة في الصومال)، وهذا الاجتياح أدى إلى احتلال دولة هي عضو في جامعة الدول العربية منذ أكثر من 30 عامًا (انضمَّت عام 1974)، ولم يحرِّك شيئًا في العالم العربي، بل إن العكس هو الصحيح؛ لأن الرئيس حسني مبارك صرح عقب إسقاط نظام المحاكم بأن مصر- الدولة العربية الكبرى- "تتفهَّم" دواعي التدخل الإثيوبي في الصومال.

لقد أصبح كل شيء مستباحًا ومقبولاً طالما أن الهدف هو ضرب المشروع الأصولي، حتى وإن أدى ذلك إلى احتلال بلد عربي وانتهاك عِرضه السياسي بتحويله إلى لقمة سائغة للإثيوبيين والأمريكيين والإسرائيليين.. هل لنا بعد ذلك أن نطمئنَّ أو نتفاءل بما سيأتي به العام الجديد؟

المصدر