حول إستراتيجية الهجرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حول إستراتيجية الهجرة
توفيق الواعي.jpg

بقلم: أ. د. توفيق الواعي

اصطراع الحق والباطل في جولات كثيرة على امتداد التاريخ طولاً وعرضًا سنة من سنن الله في الكون ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: من الآية 43).

ويزداد الصراع وتعلو موجته كلما ارتفعت أمامه حواجز الحق وازدادت مقاومته وصموده، إذن فبقدر عظم الرسالة وسمو التعاليم، يكون عنفوان الباطل والضلال، ولهذا كان رواد الرسالات العظمى أولي عزم شديد، "أشد الناس بلاءً الأنبياء والمرسلون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دي

ولكنه ومع هذا فالعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، صدق الله ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18).

ودائمًا يبدأ الصراع قويًّا ومدمرًا عند رؤية الحق ولأول وهلة، لأن الحق وافد ضعيف على باطل مستحكم، له ملأ وحاشية، وسدنة وجند، فضلاً عن واقع مستكين وعادات متغلغلة، ودائمًا أيضًا ينزل الباطل إلى الساحة بأسلحته المعروفة سلفًا- والتي لم تتغير على مدار التاريخ- وهي البطش والتنكيل والتعذيب والقتل.. إلخ- وينزل الحق كذلك بأسلحته المعروفة سلفًا، وهي الهداية والحجة والبيان والحكمة والصبر، إلى أن يستعد، ويعد، ويمتد الصراع وكل له إستراتيجيته ووجهته التي هو موليها.

وصراع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع الجاهلية الوثنية كان على هذا الغرار استعملت فيه كل أدوات الصراع وفقًا لطبيعة الجانبين، حسب إستراتيجية تؤدي إلى الغرض المطلوب والموصل إلى غاية كل فريق.

فالمشركون كأي نظام سلطوي في القديم والحديث، يضعون في مخططاتهم القضاء التام على دعوة الإصلاح الوليدة بطروحات وخطابات وأساليب توصل جلها في رأيهم إلى الهدف المراد، تتجمع في هيكليات وطروحات ومعطيات خاطئة، والخطأ لا ينتج إلا خطأ، والبعد عن الموضوعية لا يقود إلا إلى نتائج منهجية خاطئة- وتتمثل تلك المخططات في:

1- تهميش الداعية:

حيث قالوا ﴿شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (الطور: من الآية 30).

وقالوا: ﴿مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ (القمر: من الآية 9).

وقالوا: ﴿كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الحاقة: من الآية 42).

وقالوا: ﴿هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص: من الآية 4).

2- التنفير من الدعوة والطعن في التعاليم:

﴿.... فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)﴾ (ق)، وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)﴾ (ص).

3- الإغراء والتدجين:

رأت قريش أن تلجأ إلى أسلوب الحوار والمفاوضة والإغراء، علها تصل إلى بغيتها مع الداعية ودعوته، ففاوضته وفاوضت عمه فاستعصى عليهم، فقال له أبو طالب، إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: "أترون هذه الشمس؟" قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا فيها شعلة"، فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي فارجعوا ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف).

4- الإرهاب والتعذيب ثم القتل والإبادة والاستباحة:

بعد أن أدركت قريش ألا جدوى من أي محاولة للتهميش أو التنفير أو التدجين، فلم يبق إلا العنف والقوة والإبادة، وقد وردت روايات كثيرة عن ألوان العذاب الذي كان يتلقاها عمار بن ياسر وأهله حتى ماتت أمه تحت العذاب ولحق بها أبوه، قال عبد الله بن عمر: كان الإسلام قليلاً فكان الرجل يُفتن في دينه، إما يقتلوه، وإما يعذبوه.

راهنت قريش على هذا الأسلوب الأخير، واستقرت عليه، يدفعها إلى ذلك سعار جارف يزكيه خوفهم على هيبتهم بين القبائل وعلى منافعهم المعنوية والمادية مع أنفة موروثة، وجاهلية متراكمة وعقلية صلبة كالحجارة أو أشد قسوة، وصراع حتى النخاع بين القبائل الراغبة في السطوة والشرف.

الإستراتيجية الإسلامية

وقد قابل الرسول ذلك كله في الفترة المكية بإستراتيجية ناجحة ونظرة شمولية تدير حركة الإسلام في برنامج مرسوم ومنفذ على الساحة الإسلامية، والرسول- صلى الله عليه وسلم- وإن كان متلقيًا لكنه كان منفذًا لذلك كله بجهده البشري المعتمد على السنن وعلى قدراته وأخلاقياته وذكائه، وإمكاناته البشرية الفذة في التخطيط والتنفيذ، وهذه الإستراتيجية لم يكن هدفها مجرد القضاء على عادات بربرية وحشية فحسب، وإنما كانت انقلابًا كاملاً لمثل الحياة التي كانت من قبل، كان هدفها إقرار حضارة فوقية إلهية لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، تمثلت هذه الإستراتيجية للعهد المكي في ثلاث شعب.

1- الشعبة الأولى:

ففي البيان كسر لألف العادة وسماع للحجة بدل الخرافة وإشاعة للرأي الآخر بدل للكبت والقهر، ودعوة إلى التفكير والتأمل ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ (سبأ: من الآية 46)، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد: من الآية 3)، ﴿فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 176).

2- التربية والتأسيس وتكوين كوادر قادرة:

فالرسالات لا يحملها إلا أصحاب العزائم ورجال المهمات فكان قيام الليل ﴿قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)﴾ (المزمل)، وكانت دار الندوة- وكان الانضباط في السرية والعلنية، وكان التعود على تخطي العقبات، وكان الانعتاق من حظوظ النفس إلى الالتزام بالتعاليم والهدى.

3- خلخلة المجتمع الجاهلي وتفكيكه:

أ- عقائديًّا, باحتقار الأصنام والأوثان، ﴿إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (يوسف: من الآية 40)، وخلق فصام كامل بينهم وبين عقائد الآباء الباطلة.


ب- أسريًّا, حيث واجه الولد أباه وحاجه، والزوجة زوجها وحاجته، والقبيلة نفسها أضحت في حوار، ولئن كان الصراع بين الإسلام والكفر فقد انتقل أيضًا بين العشائر والبطون والأسر المشركة.

4- الصبر على الامتحان والابتلاء، وهو من سنن الدعوات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران)، ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ (البقرة: من الآية 177)، ولا بد من ثبات القناعات وارتكاز الإيمان وتعميق العقيدة، اختيار العزائم والنوايا.

الشعبة الثانية: وتتمثل في وضوح الدائرة الإنسانية التي من عناصرها:

1- الانعتاق الكلي من الخطاب الجاهلي بكل جوانبه وعاداته، وإظهار قيم جديدة تسود الواقع المعاش وعدم المعاملة بالمثل ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 108)، ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (النحل: من الآية 126)، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً (10)﴾ (المزمل).

2- إماتة المشاكل العارضة والقصد نحو الأهداف الكبرى:

تركيز أصول العقيدة، نبذ الشرك، التحلي بالفضائل- القيام بواجب التبليغ وشرح الأهداف، هذا ولم يشرع للمسلمين أن يحملوا معاولهم لهدم الأصنام التي حول الكعبة أو الرد على السفهاء في هذه الفترة ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ (الفرقان: من الآية 63)، وإنما قيل لهم ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (النساء: من الآية 77).

3- بناء قواعد للآخرة على أنقاض ثوابت العشيرة ونزعات العنصريات القبلية:

حتى تتكون المحاضن الإيمانية المحافظة على تلك الهوية ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: من الآية 9)، "ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد".

الشعبة الثالثة: الانعتاق من المجتمع الجاهلي: (إستراتيجية الانطلاقة الأولى) كان لا بد للدعوة من هذا الانعتاق ومن انطلاقة حرة تستطيع بها أن تمتد شأن كل كائن حي وأن تعبر عن وجودها في عالم جاءت أساسًا لتطلقه من عقال وكان لا بد لذلك التصور القادم من إستراتيجية أخرى تبني على ما سبق من قواعد في أيام المحنة، وتكون حلقة في عقد تلك المسيرة النامية.

ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإعلان، وتربية الكوادر، ونجح في الانبثاق الذاتي المتدفق نحو العمل للرسالة، وكان لا بد من بحث دءوب عن قاعدة لدولة ينبثق منها مجتمع حضاري تتدفق منه أصول تلك الحضارة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة التعاليم نظرية حتى وإن كوَّنت لبنات متفرقة، ولكنها ستظل أشبه بنواة لا يحميها غطاء وستظل عرضةً لمضادات جاهلية ثقيلة، وضغوط مادية وتقليدية صعبة، قد تمثل بعد مدة رفضًا للقيم داخل إنسان أيأسته الظروف وقهره الواقع.

ولهذا كان لا بد من إستراتيجية تواكب هذا التوجه وتجيب على كثيرٍ من التساؤلات في المجتمع المسلم، كان من ملامحها:

1- الحفاظ على اللبنات: جسديًّا ونفسيًّا:

أ- أما جسديًّا: فكان لا بد من انتشال الشبيبة المسلمة من أجواء التعذيب المرهق والتصفية الجسدية المدمرة التي كانت ستطول حتى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.

ب- وأما نفسيًّا: فإن كثرة الإرهاق والآلام تعود الخنوع وتفقد النخوة وتجهض العزيمة وقد أغاظ ذلك الموقف بعض الشباب فجاء عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، وقد دخل في الإسلام رجال كانوا في الذؤابة كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، وكان لا بد من صدام قادم وحتمي قبل أن تكون قد اكتملت أسباب النصر، فلا قاعدة ولا جند متكافئ ولا سلاح مؤثر، فكان لا بد من تحرك سريع يواجه هذا التغيير على الساحة الإسلامية.

2- البحث عن قاعدة:

وكان هذا هو شغل الرسول صلى الله عليه وسلم الشاغل في مواسم الحج؛ حيث كان يعرض نفسه على القبائل حتى يجد قاعدة انطلاق آمنة، وهذا ما دعاه أن يذهب إلى الطائف لعله يجد النصرة وقد رد ردًّا غليظًا أرهقه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جعله أيضًا يسارع بإرسال نفر من أصحابه إلى الحبشة حتى يحفظهم ويجد لهم المأوى الآمن والجوار الهادئ ثم واصل الطريق حتى يوفقه الله إلى القاعدة الآمنة (يثرب).

3- سرعة الحركة واستيعاب حوادث التاريخ ومعرفة الواقع المعاش:

وتداعت الحوادث وأحس الرسول صلى الله عليه وسلم أن طبيعة الواقع الجاهلي يمثل رفضًا حاسمًا لقيم الواقع الإسلامي والتجربة المعاشة، فشرع الرسول وبسرعة في البحث عن البديل الصالح قبل أن تسحق التجربة أو ينحرف بها عن الطريق، وواصل الليل بالنهار وجاء إلى القبائل قبيلة قبيلة، وحادث زعماءهم وخطباءهم وأصحاب الرأي فيهم، وقد يذهل الإنسان لهذا الكم الكبير من القبائل التي عرض الرسول عليهم الإسلام، وسألهم منعه ونصرته، خمسون قبيلة وأكثر، حتى استجابت منهم واحدة وهي (يثرب) الحركة وسرعة الحركة بدون يأس أو استسلام حتى تتحقق الوجهة.

ثم سرعة الحركة في استثمار ترحيب القاعدة الجديدة بالإسلام وتهيئة المناخ الملائم لانتقال المؤمنين إليها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مستوعبًا لحوادث التاريخ وواقعه المعاش، فنجده مثلاً يأمر بالهجرة إلى الحبشة، ويعلل ذلك بقوله إن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده، ولا يأمر مثلاً بالهجرة إلى فارس أو الروم، أو اليمن مع أن ذلك كان أيسر في الواقع الجغرافي والبيئي، وكانت العرب لها دربة في الذهاب إلى هذه الديار، ولكن ذلك ليس هو العامل المراد في الواقع الآني للدعوة والدعاة، ولا يصلح ملاذًا لهم، بل هو نفسه جاهلية بشكل أو بآخر.

4- قدرة على معرفة توجهات الخصم، ومقدرة على حساب تلك التوجهات:

عرف الرسول صلى الله عليه وسلم بعمق توجهات المجتمع الجاهلي وتناقضاته وتعامل معها بكفاءة عالية جدًّا، فاستطاع في كثيرٍ من الأحيان أن يطوعها أو يوقفها حائرةً مفكرة، فمثلاً:

أ- عرف أنهم لا يستطيعون حرب بني عبد مناف، فتعامل مع بني عبد مناف، رغم أنهم على الوثنية بتلاحم كامل حتى كانوا في جانبه يحاربون مَن حارب، ويسالمون مَن سالم، ودخلوا معه في مقاطعة قريش المرهقة، التي استمرت ثلاث سنين، وما أسلموه أو تركوه أو تأففوا منه.

ب- استغل مكانة عمه أبو طالب ومودته، وحدثه وعامله بأفضل أسلوب، حتى كان أبو طالب أول المدافعين عنه.

ج- كانت الهجرة إلى الحبشة ضربةً محيرةً لقريش ما استطاعت التغلب عليها بشتى الحيل حتى بعد إرسال داهية العرب عمرو بن العاص بالهدايا ثم بالوقيعة إلى ملك الحبشة وبطارقته.

د- ادخار اللبنات المؤمنة من شتى القبائل وأمرها بالبقاء في أماكنها حتى يأتي يوم التجمع، وكانت هذه اللبنات من زعماء الفكر والرأي في قبائلها، فإن جاءوا إلى مكة هلكوا وما استفاد الإسلام شيئًا، وإن جلسوا في أماكنهم نجوا وكانوا رجال دعوة في قبائلهم، من هؤلاء سويد بن الصمة من سكان يثرب، وأبو ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي، وضماد الأزدي من أسد شنوءة، وغيرهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم اذهبوا إلى أهليكم فإذا ظهرنا فأتونا.

هـ- استقطاب العقلاء من قريش من أمثال المطعم بن عدي، وأبو البحتري بن هشام، وهشام بن عمر وزهير بن أمية، وقد كان لهؤلاء العقلاء فضل في نقض مقاطعة قريش لبني عبد مناف، وشق الصحيفة التي تحض على ذلك.

و- عدم إثارة أو إلهاب العداوة بغير طائل حتى يتسبب ذلك في إثارة العداوات أكثر فأكثر ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: من الآية 72)، والتطلع إلى الأهداف الكبرى.

ز- السيرة الحسنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والقيادة التي كانت تهوى إليها الأفئدة، فقد كان رغم معارضة المشركين له هو الأمين الصادق والخلوق وأفضل فتى في قريش: وكان أبو جهل يقول: يا محمد إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 33).

5- بناء قواعد للأخوة بدل قواعد العنصرية القبلية أو قانون العشيرة:

وكان من نتائج ذلك الواقعية الباهرة للتجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس، أو اللون، أو الأرض، أو اللغة، أو المصالح، فاستوعبت كل الأجناس والألوان واللغات وانعتقت من كل عصبية سخيفة.

الإستراتيجية التنفيذية للهجرة

لمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بتوجهات المجتمع الجاهلي وبترجمته لرياح الصراع العاصف الذي يجري على الساحة المكية، عزم على اتباع إستراتيجية محسوبة وبدقة لانتشال الطاقات المؤمنة من حلبة الصراع الدامي- إلى حيث القاعدة التي أعدت لاحتضان الرسالة الجديدة وإقامة الدولة القادمة وانطلاق الدعوة المرتقبة بأقل خسائر ممكنة، وتمثلت هذه الإستراتيجية في:

1- تأمين القاعدة الجديدة تأمينًا محسوبًا لا يدع مجالاً للمفارقات:

استغرق سنتين حتى سرى الإسلام في المدينة، وأرسلت طلائع الدعاة إليها، وجاءت بنتائج طيبة ومبشرة وبوفود كثيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليهم العهد والميثاق على المنعة والجهاد في سبيل هذه العقيدة، ولاقت وفود المهاجرين كل ترحاب وإيثار وحب, وتشوق الكل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- عدم المجازفة في أي أمر من الأمور وحساب كل أمر وبحثه ومعرفة جوانبه ومدخله ومخرجه:

فقد علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد بالذهاب إلى المدينة إلا بعد تأمينها وأخذ العهد على أوسها وخزرجها، وسرت فيهم معاني الأخوة الحقة حتى إنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، لحبهم وإيثارهم لإخوانهم المهاجرين، ويظهر ذلك في خطوات الهجرة التي ظهرت بعد ذلك.

3- عدم التعرض إلى مواجهات:

فقد عرضت الوفود الأنصارية على رسول الله أن تميل على أهل منى بالسيوف فأمرهم الرسول بالكف عن ذلك قائلاً: "لم نؤمر بهذا بعد"، وكانت خطة الرسول في الهجرة كلها تسير على هذا المنوال.

4- السرية التامة في كل حركة، وتناغم تلك السرية مع عدم المواجهة، فتكون ستارًا من دخان الخداع النفسي والعملي حتى تتم عملية الهجرة بسلام:

فكانت اجتماعات الرسول صلى الله عليه وسلم بالوفود سرية، وكان حضه لأصحابه على الهجرة مقرونًا بالسرية وفي جوف الليل وتحت جنح الظلام.

5- التخطيط والترتيب والاستعداد المسبق والوقت المحسوب:

فما كانت الهجرة ضربًا من المصادفات، أو عملاً جزافيًّا أو وقتيًّا، وإنما كانت نتاج جهد وزمن وبحث وتقص، وعمل دءوب ومبرمج، أدار عقول جهابذة قريش حتى فتح القرشيون يومًا أعينهم على مكة وقد أقفرت من المسلمين.

6- الخداع والمكر الذي يبنى على حسابات دقيقة ومخططات متناغمة مع عوامل النصر:

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)﴾ (الأنفال).

مجتمع هائج يمكر كله ويمعن في الحيل للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- اجتماع الندوة: يجتمع المشركون في دار الندوة ليضعوا اللمسات الأخيرة- وفي سرية تامة- لقتل الرسول بأيدي كل قبائل قريش وبمشاورتهم كلهم، حتى يتفرق دمه في القبائل ويكون هدرًا، ويوضع بني عبد مناف أمام أمر واقع، وتفرغ قريش إلى الأبد من الرسالة وصاحبها، فيعلم الرسول بالأمر.

- قراءة في العقل المشرك: وكان دائمًا على مستوى الأحداث، ومستعدًا لها من زمن لأنه يقرأ دائمًا في عقلية المجتمع الجاهلي، ويواكب تسلسل خططه، ويتفاعل مع مؤامراته، ويمكر لها خيرًا من مكرهم ويعد لها أفضل من إعدادهم، وأتصور لو لم يكن هناك إعداد مسبق من الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا كان سيجدي علمه بليلة تنفيذ حكم الإعدام، وأين المفر والدنيا كلها مستنفرة، وهكذا كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأسباب المعتادة، يقوم بها ويعد لها إعدادًا كأنها كل شيء في عوامل النجاح- ثم يتوكل على الله بعد ذلك- ولم يدع في حسبانه شيئًا.

- تكتيكة الحركة للخطوط العمياء: ومن ثم فإنه صلى الله عليه وسلم وضع خطته في سرية تامة، وأعد ناقتين شديدتين وعلفهما وأراحهما حتى تقدرا على القيام المهمة، واستأجر خبيرًا بطرق الصحراء، ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين، واختار مكان الاختباء بعيدًا ومموهًا على المشركين ثم نظم من يأتيه بالأخبار ومن يأتيه بالطعام ومن يراقب الطريق ويعفي على آثار الأقدام واختار من ينام مكانه ومن يؤدي الأمانات ومن سيصحبه في الرحلة، وحدد الوقت الذي تبدأ فيه ساعة الصفر لتنفيذ المهمة، ثم وضعت الخطة بعد ذلك على بساط البحث مع أبي بكر رضي الله عنه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متسللاً جنوبًا على طريق اليمن ولجأ إلى جبل ثور، ثم توقف عن المسير ثلاثة أيام ريثما هدأت ثورة قريش ويئسوا بعد بحث مستميت، ثم خرج يسير في طريق غير معتادة أو معبدة للسير، يسير ليلاً ويكمن نهارًا، إلى أن وصل يثرب، خطة محكمة وإستراتيجية ناجحة تنزل عليها نصر الله سبحانه وتعالى.

- نصر ونجاح: ونجح الإسلام في تأسيس دولة له وسط صحراء تموج بالعداوة والكفر والجهالة، وتنادى المسلمون إليها من كل حدب وصوب، وتعاون الكل في تشييد مجتمع ترقبه الدنيا وتتعشقه الحياة وتلحظه عناية الله سبحانه، وهبت نسمات الزمان مرددة قدر الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: من الآية 55) صدق الله العظيم.

المصدر


قالب:روابط توفيق الواعى