حكم الجهاد في العراق تحت راية حزب البعث
بقلم : الشيخ فيصل مولوي
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد نرجو من فضيلتكم أن تتكرموا ببيان الحكم الشرعي في المسألة التالية:
ما حكم القتال تحت راية حزب البعث في العراق؟ وهل يشترط للذود عن أرض الوطن أن تكون الراية إسلامية ومن يقاتل تحت راية أخرى لا يقبل الله جهاده؟
نرجو من فضيلتكم إلقاء الضوء على هذا الأمر بشيء من التفصيل، حيث أنه بدأ البعض يشكك في جهاد إخواننا على أرض العراق بزعم تكفير البعثيين، ومن ثم فيجب التخلص من هؤلاء الطغاة، والقتال تحت رايتهم يكون عوناً لهم؟ أفتونا مأجورين، وجزاكم الله عنا خيراً.
السائل: قسم الفتوى في الإسلام أون لاين
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ...
للجواب على هذا السؤال أشرح المسألة في نقاط ثلاث:
الأولى: وصف القتال القائم في العراق.
هناك إجماع بين العلماء فضلاً عن جمهور المسلمين، وكذلك قسم واسع من الرأي العام العالمي، أن القتال القائم في العراق هو حرب عدوانية شنتها الولايات المتحدة وأعوانها على العراق. وأن الشعب العراقي هو في موقع الدفاع عن النفس. والجهاد في هذه الحالة في نظر جميع الفقهاء يغدو فرض عين على المسلمين في العراق وفي المناطق المجاورة.
تدّعي الولايات المتحدة أن هدفها من الحرب هو اسقاط النظام العراقي أو نزع أسلحة الدمار الشامل. ويُجمع المحللون من كل أنحاء العالم أن لها أهدافاً أخرى هي الدافع الأساسي لهذه الحرب، وهي السيطرة على نفط العراق باعتباره يملك ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم بعد السعودية، وفرض السيطرة الأمريكية على بلاد العرب والمسلمين انطلاقاً من العراق، وتصفية القضية الفلسطنية لمصلحة اسرائيل، وهذا لا يتم إلا بتصفية أهم الأنظمة الداعمة للمقاومة، وهي سورية ولبنان والعراق. واحتلال العراق خطوة هامة نحو تحقيق هذا الهدف.
وهناك اجماع بين العلماء المعاصرين أنه لا يجوز شرعاً تمكين الولايات المتحدة من احتلال العراق، ومصادرة أسلحة الدمار الشامل إذا كانت موجودة فيه، والتسلط على النفط العراقي، وتصفية القضية الفلسطينية عن طريق انهاء المقاومة. وإذا كانت الولايات المتحدة سلكت طريق الحرب لتحقيق هذه الأهداف فمن واجبنا أن نسلك طريق المقاومة لمنعها من ذلك.
يبقى هناك هدف أخير تدّعي الولايات المتحدة أنها تخوض الحرب من أجله، هو اسقاط النظام. وهو هدف قد يطالب به ويسعى إليه كثيرون من أبناء الأمة. وقد يكون هذا الهدف عندهم مشروعاً إذا كان القصد تغيير النظام بنظام أفضل. وهو أمر ممكن إذا قام به العراقيون أنفسهم. أما إذا غزت أمريكا العراق لتغيير النظام، فمن الطبيعي أنها لن ترضى نظاماً إسلامياً، ولا نظاماً وطنياً تعددياً، بل هي تريد نظاماً عميلاً لها. وسيكون يقيناً أسوأ بكثير من النظام الحالي. فهل يجوز أن نقعد عن الجهاد، ونسمح لها بتحقيق أهدافها الأخرى، وبإسقاط النظام وإقامة نظام آخر أكثر علمانية وأكثر عمالة؟
إن الظن بأن الولايات المتحدة ستكتفي بإسقاط النظام، ثم تترك للشعب العراقي أن يختار النظام الذي يريد هو وهم كبير، وهو غفلة قاتلة تقترب من الخيانة أو هي الخيانة عينها. فليست الولايات المتحدة جمعية خيرية تنفق مئات المليارات من الدولارات وتضحي بأبناء شعبها من أجل تحقيق مصلحة الشعب العراقي. ولو استرجعنا التاريخ الحديث لوجدنا أن الولايات المتحدة لم تدخل بلداً ثم تخرج منه ابتداء من ألمانيا واليابان، ولها اليوم أكثر من ثلاثماية قاعدة عسكرية في مختلف بلاد العالم وفي كل قارات الارض، وخاصة في العالم العربي والإسلامي. رغم أن الأنظمة الموجودة في هذه الدول ليست معادية لها؟ فلماذا إذاً هذه القواعد العسكرية؟
الثانية: وصف النظام القائم في العراق
من المعروف أن النظام القائم في العراق هو نظام الحزب الواحد (حزب البعث العربي الاشتراكي) بل هو نظام الشخص الواحد، الرئيس صدام حسين الذي يمارس الحكم في العراق منذ أكثر من ثلاثين سنة بصورة فردية مطلقة. وقد كان لهذه الفردية الأثر الأكبر في قرار الحرب الخاطئ ضد إيران، وضد الكويت.
كما كان لها الأثر الأكبر في دفع الكثيرين من أبناء الشعب العراقي للخروج من بلدهم لمعارضتهم النظام، وكذلك قتل عشرات الألوف في انتفاضات شعبية. هذه المسائل لا يختلف عليها اثنان، وإن كان البعض يحمّل أطرافاً أخرى قدراً من المسؤولية.
ومن المعروف أيضاً أن حزب البعث العربي الاشتراكي، قام في مبادئه الأساسية على العلمانية، وقد كانت علمانيته لفترة طويلة تعني محاربة الإسلام واقصاءه عن الحياة أكثر مما تعني الحياد تجاه الأديان. لكن من الواضح أن الصحوة الإسلامية الغالبة في مجتمعاتنا العربية فرضت على حزب البعث تراجعاً كبيراً عن العلمانية المحاربة للإسلام، واستعداداً أكبر للتواصل مع الفكر الإسلامي، وللسماح بكل أنواع النشاط الإسلامي إذا لم يكن موجهاً ضد النظام. ليس معنى هذا أنه أصبح حزباً إسلامياً، لكنه على أقل تقدير أصبح يرفع شعارات إسلامية، ولا يعلن الحرب على الإسلام.
بناء على هذا الواقع، كيف يمكن أن يوصف النظام القائم في العراق؟
من الناحية العقائدية الفكرية: هو نظام مختلط، يقوم على مسائل واضحة من الأحكام الشرعية، استمرت من بقايا التراث، وعلى مسائل فرضتها الصحوة الإسلامية المعاصرة، بالإضافة إلى رواسب تأثير الغزو الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، وما يحمله من قوانين وضعيّة، ومن أفكار علمانية. فهو بالإجمال نظام يختلط فيه الخير مع الشرّ ولا يمكن أن يوصف بأكثر من أنه نظام فاسق، وهو في هذه المسألة لا يختلف عن معظم الأنظمة العربية.
من حيث الحكم: هو نظام استبدادي لا يتيح المشاركة الشعبية، ولا يرعى حقوق الإنسان، وهو نظام جائر ظالم، يمنع الناس من حرية التعبير ومن حرية التنظيم والعمل السياسي، وهو في هذه المسألة أيضاً يشترك مع أكثر الأنظمة العربية، وقد يكون أشدها استبداداً.
الثالثة: ما هو حكم الجهاد مع هذا النظام ضد الغزو الأمريكي؟
جمهور الفقهاء يجيزون الجهاد مع الأمير (الجائر، والفاسق، والظالم) ارتكاباً لأخف الضررين، ولأن ترك الجهاد معه يؤدي إلى (ظهور الكفار على المسلمين). هذه هي الخلاصة المذكورة في الموسوعة الفقهية الكويتية – باب جهاد – نقلاً عن ابن عابدين وجواهر الإكليل وحاشية الدسوقي والمغني.
وأضيف إلى ذلك فأقول:
إن هذه المسألة يتزاحم فيها واجبان شرعيان:
الأول: واجب القتال دفاعاً عن أرض الإسلام وبلاد المسلمين أمام عدوان أجنبي واضح.
الثاني: واجب العمل على تغيير النظام المنحرف بنظام إسلامي، أو منع الجور والفسق والظلم.
ويظهر لنا - كما ظهر لأكثر العلماء المعاصرين - أن الواجب الأول هو الراجح عند التنازع.
- لأنه يتناول المحافظة على حياة الناس، والامتناع عن الخضوع لحكم كافر باطلاق. وحفظ الحياة وحفظ الدين يعتبران عند الفقهاء من الضروريات. بينما يتناول الواجب الثاني تحسين ظروف الحياة في ظل حاكم منحرف.
- ولأن ترك الواجب الأول بحجة وجوب تغيير النظام لن يحقق الواجب الثاني، بل سيؤدي إلى نظام أسوأ وأكثر علمانية.
- وبذلك يتبيّن بوضوح أن القيام بالواجب الأول يمنع الواجب الثاني فقط. أما ترك الواجب الأول فهو يؤدي أيضاً إلى ترك الواجب الثاني، لأن تغيير النظام في هذه الحالة إذا تمّ لن يكون لمصلحة الإسلام وإنما لمصلحة أمريكا. وهو ليس التغيير الذي يعتبر واجباً شرعياً.
الخلاصة:
القتال اليوم في العراق يتم تحت راية العراق وعلمه المزيّن بشعار (الله أكبر)، فهو ليس تحت راية حزب البعث، ولا يهدف إلى نصرة الحزب على معارضيه من العرب والمسلمين، وإنما يهدف إلى الدفاع عن العراق أرضاً وشعباً، ويتم تحت راية العراق، وقد يؤدي إل تثبيت الحزب في السلطة، لكن هذه النتجية الفرعية لا يصح أن تؤدي إلى إضاعة الهدف الكبير: الدفاع عن العراق.
ولعل المتسائلين عن صحة القتال مع النظام يستندون إلى الحديث المعروف 'من قاتل تحت راية عِمِّيَّة 'بكسر العين وكسر الميم المشددة وفتح الياء المشددة' يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبيّة فقَتْلَتُه جاهلية' وهو حديث صحيح رواه مسلم والنسائي وابن ماجة وابن حبان وأحمد. لكن معناه منع القتال تحت راية عمياء، أي لا يعرف فيها المقاتل لماذا يقاتل. يقول المفسرون: العمية هي الأمر الذي لا يستبين وجهه. والأمر هنا مختلف لأن الناس يقاتلون عدواً أمريكياً غازياً، فالراية واضحة وليست عميّة.
ثم إن (القَتْلَة الجاهلية) المشار إليها في هذا الحديث مرهونة بشرطين:
الأول: هو القتال تحت راية عمية.
والثاني: أن تكون نيته في القتال الغضب لعصبيته.
أما لو كان المسلم يقاتل تحت راية عميّة، ولكن نيته لله، فقتلته ليست جاهلية، وهو يبعث على نيته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن (الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف الله بهم الأرض)، قالوا: (يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيّته) فالجيش الذي يغزو الكعبة، إذا كان معه مسلم كاره، يبعث على نيته. ومثل ذلك يقال في العراق، أي حتى لو كانت الراية غير خالصة إسلامياً، لكن المقاتل يبعث على نيته، ومن حارب خلف هذه الراية بنية الدفاع عن الإسلام وعن الوطن، فأجره بحسب نيته، وإن قتل فهو شهيد إن شاء الله.
أخيراً أقول:
ما كنت أحب ان أتكلم عن أخطاء النظام العراقي، ونحن أمام غزو أمريكي يستهدف الأمة كلها وكرامتها وثرواتها، كما يستهدف الإسلام نفسه. وإني أؤكد أن واجبنا جميعاً اليوم أن نتجاوز كل الخلافات لنقف معاً صفاً واحداً أمام العدوّ الغازي. لكني وجدت نفسي مضطراً لتوضيح هذه الأمور حتى لا يقع بعض المسلمين في خطيئة قاتلة نتيجة سوء فهم، أو اختلال في فقه الموازنات والترجيح، وأتمنى أن يكون في هذا القدر كفاية. كما أتمنى أن لا يفهم هذا الموقف بأنه موجه ضد الكويت، فالجرح النازف هناك بسبب الغزو البائس لا يزال يؤثر في جسد الأمة كلها. وكما أننا لم نرض عن غزو صدام للكويت، فإننا لا يمكن أن نقبل غزو أمريكا للعراق. إنه منطق واحد، فالاعتداء مرفوض والظلم ممقوت سواء من قريب مسلم أو من عدوّ كافر. لكن اعتداء صدام على الكويت لا يجوز أن يبرّر قبولنا باعتداء أمريكا على العراق، وإذا كان الله تعالى قد أباح لنا ردّ السيئة بمثلها، فإنه نهانا على الزيادة، وندَبنا إلى العفو والصفح. قال تعالى: (وجزاء سيّئة سيّئة مثلها، فمن عفى وأصلح فأجره على الله...)
المصدر
- مقال:حكم الجهاد في العراق تحت راية حزب البعثموقع:الشبكة الدعوية