حديث التوبة والنهضة في العشر الأواخر من رمضان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حديث التوبة والنهضة في العشر الأواخر من رمضان

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد!!

فها هي ذي العشر الأواخر من رمضان توشك أن تنقضي، وها نحن أولاء نعيش في رحاب ليلة القدر، تلك الليلة المباركة التي اتصلت فيها الأرض بالسماء، وتنزَّل فيها القرآنُ العظيمُ القدْرِ على النبي الرفيع القدر- صلى الله عليه وسلم- ليصوغ مستقبلَ أمة عالية القدر، أو هكذا ينبغي أن تكون- كما أرادها الله- لتحمل خاتم رسالاته إلى العالمين ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110).

وقد كانت هذه الأمة ردحًا من الزمن على ذلك المستوى المأمول منها، فقدمت للبشرية الهدى والنور، وصاغت أعظم حضارات الدنيا في وقتها، رقيًّا ماديًّا وسموًّا إنسانيًّا وإيثارًا عبقريًّا لما ينفع الناس ويمكث في الأرض.. ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17).

وكان رمضان- وبخاصةٍ العشر الأواخر منه- زادًا لها لتحقيق ذلك الإنجاز الفريد، ولِم لا وفي النصف الأخير منه كانت علاماتٌ فارقةٌ في سيرتها، فقد فتحت مكة فانفسح الطريق أمام دخول العرب في الإسلام، ومع العشر الأواخر من سنة 92هـ فُتحت الأندلس، ودخل الإسلام أوروبا، نورًا يبدد ظلمات قرونها الوسطى، وحضارةً يعترف بفضلها العالمون والمنصفون، ووجودًا ملهمًا وبناءً سامقًا امتد نحو ثمانية قرون من الزمان، فلما ضعف أهلُه واختلَّ بناؤه ردَّ إليه المغتصبون والحاقدون الجميل فاستأصلوا وجودَه، ولم يقبلوا وجودَ مسلم واحد بين أهله، ومن بقي منهم- بعدما فُرض عليه أن يبدل دينه ويدع إسلامه- أحاطت به الشكوك، فعُقدت لهم محاكم التفتيش، وعُوقبوا بالحرق والشنق وما سواه.. ﴿إنَّهُمْ إن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ولَن تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا﴾ (الكهف : 20) ﴿لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاً ولا ذِمَّةً﴾ (التوبة :10).

وفي العشر الأواخر من رمضان رد المسلمون في مصر والشام جحافلَ المغول عنهم في موقعة عين جالوت سنة 658هـ؛ ليوقفوا بذلك الزحف المغولي المدمِّر على آسيا وأوروبا والذي أفنى في طريقه دولاً، وأباد حضاراتٍ شتى؛ ليكون انتصار المسلمين هناك إنقاذًا للبشرية كلها من مستقبل مُظلِمٍ لا شكَّ فيه، وقد جاء ذلك النصر العجيب ليكون نصرًا للإسلام نفسه بعدما ضعُف أهلُه، وغاب تمثلُهم الحق له، والتزامهم الصادق به، فحلَّ عليهم الهوان، وضربَهم الذل؛ حتى كان الفارس المغولي يمر بالجماعة من المسلمين- وهو أعزل- فيأمرهم بالانتظار ليأتي بسلاحه ليقتلهم، فيفعلون!!

غير أن قائدًا مسلمًا هو قطز استطاع أن يردَّ الأمة إلى جادة طريقها، ويُفسح الطريق لعلمائها المخلصين ليُحيوا موات الأمة بالقرآن، فإذا بها تنفض غبار الضعف عنها، وتستحيل خلقًا آخر ليهتف قائدها معها حين الخطر: "وآإسلاماه"، فتستلهم الأمة روح دينها، فيُكتب لها النصر، بل للإنسانية كلها، ولن تمضي عنه عقود يسيرة من الزمان حتى يدخل المغول أنفسهم في الإسلام، ويُقيموا له دولاً وحضاراتٍ!!

والآن يحق لنا أن نتساءل:

هل تكون العشر الأواخر من رمضاننا هذا فرصةً جديدةً للانطلاق نحو صياغة مستقبل أفضل لأمتنا؟ هل تكون بدايةً لتغيير حقيقي يأتي من داخل النفوس المسلمة ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد 11)؛ حيث تستعلي هذه النفوس على شهواتها وجواذب الأرض لها، وترقَى أرواحُها، وتتصل بالملأ الأعلى، وتستكشف جلالَ إسلامها وقدرات دينها، وتنظر بوعيِها فتدرك سوء حالها وخُبث مرقدها ووضَاعة قدرها، فتثور كوامن الخير فيها، وتحطم الأغلال التي أورثتها المذلة، وأقعدتها إلى الأرض.. فتبدأ زحفًا مقدسًا مباركًا لتكون خيرَ أمة أخرجت للناس.

في ليلة القدر

إننا جميعًا في حاجة ماسة إلى توبة نصوح، وإذا كان بعضنا يحسن التوبة الفردية فيستشعر الندم على ذنوبه، ويعتزم الإقلاع عن معاصيه، فنحن بحاجة إلى توبة جماعية من نوع جديد، نتوب إلى الله فيها عن أسباب الوهن الحضاري الذي أصاب الأمة فجعلها مطمعًا لعدوِّها، قريبة المأخذ سهلة المنال!!

نحن بحاجة إلى التوبة من أسباب الجهل والعجز الذي جعلنا عالةً على غيرنا.. في مطعمنا وملبسنا ودوائنا وسلاحنا.. فعارٌ علينا في ليلة القدر أن تستمر تلك الأمية الفاشية تغيِّب عن الإبداع والسعي الملايين منا.. إن سبعين مليونًا من العرب أميون، لا يقرأون ولا يكتبون، وهم نحو 43% من عالمنا العربي، بينما لا تزيد نسبة الأمية في الكيان الصهيوني عن 5%!! وعارٌ أن تستمر تلك المنظومة الغبيَّة للتعليم في بلادنا التي تُخرج لنا كل عام أنصافَ المتعلمين العاجزين عن مواكبة متطلبات العصر وتحدياته، لقد سجَّل العلماء العرب سنة 1997م 24 براءةَ اختراع، في حين سجل العلماء الصهاينة في العام نفسه 557 براءةَ اختراع.. ولا عجب في ذلك إذ إن ما ينفقه الصهاينة على التعليم يزيد بعشر مرات على ما ينفقه العرب مجتمعين!!

وهذا نموذج في مجال واحد نحتاج فيه إلى توبة نصوح.. فما الظن بمجالات أخَر، ففي مجال الصحة نعجز عن إنتاج دوائنا وعلاج عللنا، وليس بعيدًا عنا منظر أطفال العراق ومليون منهم يموتون تحت وطأة الحصار الأمريكي حين مُنع عنهم الدواء والغذاء، وذلك بلد يجري فيه نهران، ونمتلك واحدًا من أعلى احتياطيات البترول في العالم، وكان يطنطن حكَّامه ليل نهار بمعاني العزة القومية، ويتغنَّون بما حققوه من إنجاز وفضل.

وفي مجال الصناعة والتقنية حيث الهوَّة السحيقة بيننا وبين الآخرين، وأمتنا تحسن العيش الآن على وارداتها الترفيَّة من شتى بقاع الأرض، بدءًا من واردات السلاح الذي لا يُستعمل إلا في قهر الشعوب وتكبيلها عن أداء دورها، وانتهاءً بياميش رمضان، بينما تسجل الهند صادراتٍ في مجال تقنية المعلومات تصل إلى حوالي خمسة مليار دولار سنة 2000م ويصدر الكيان الصهيوني بمليار دولار سنويًّا.

وقد وصل الحال بأمتنا في مجال الاستبداد السياسي إلى مرحلةٍ لا يمكن الصمت عنها، فعشرات الألوف من خيرة شبابها في السجون والمعتقلات، وما يُنفق على منظومة الأمن الداخلي التي تخص سلامة الحكام وذويهم أضعافُ ما يُنفق على الأمن الذي يخص الشعوب ذاتها، وما يزال الجدل دائرًا في بعض بلادنا حول جدوى مجالس الشورى وحدود عملها إن وجدت، ويجتهد سدنةُ القانون في سَنِّ ما يُعرقل حرية الشعوب، ويكرِّس استذلالها وسطوة حكامها، حتى غدا العمل السياسي طريقًا محفوفًا بالخطر والموت أو وسيلةً للتكسب والارتزاق!!

نحن في حاجة إلى توبةٍ جماعيةٍ من كل ذلك، وهي ضرورةٌ لا محيصَ عنها إن أرادت تلك الأمة البقاء والنهوض، والبديل لذلك هو الاضمحلال والتلاشي ذلاًّ وقهرًا في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.

تقرير ميليس والخطر على سوريا

وهذا نموذج مرير للخطر الذي يتهددنا جميعًا، فقد صدر تقرير لجنة التحقيق الدولية التي شكَّلها مجلس الأمن بضغوط أمريكية برئاسة المدعي الألماني ديتليف ميليس؛ ليقرر أن "خيوطًا كثيرةً تشير إشارةً مباشرةً إلى تورط مسئولي أمن سوريين في اغتيال السيد رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق"، وأن ذلك الاغتيال ما كان يمكن أن يتم دون موافقة مسئولي أمن سوريين كبار، وتواطؤ نظرائهم في أجهزة الأمن اللبنانية".

وبمجرد صدور التقرير سارعت آلةُ الإعلام وأجهزة الحكم الأمريكية بتوجيه التهديدات المباشرة إلى سوريا التي غدت في قفص الاتهام.. وذلك بالرغم من أن اللجنة نفسها تقول في تقريرها إنها بحاجة إلى بعض الوقت لاستكمال التحقيق، بل إن مَن يطالع التقرير كله بعين الإنصاف لن يجد أدلةً قطعيةً على ذلك الاتهام، إذًا فهو يقوم بالأساس على شهادة شهود في أجواء معبَّأة بالكراهية للوجود والنفوذ السوري في لبنان.

إن جميع العقلاء والمنصفين يُدينون بقوة مقتل الحريري- رحمه الله- غير أن مقتل الرجل لا ينبغي أن يُتخذ وسيلةً لتصفية الخصومات السياسية أو تنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة التي تصبُّ في النهاية لمصلحة الكيان الصهيوني والتمكين له بين ظهرانينا، وبين هذا وذاك قد يفلت الجُناة الحقيقيون، كما أنه ما زالت الشبهات دائرةً حول دور للمخابرات الأمريكية والصهيونية في كل ما يجري في لبنان الآن.

ولنا أن نتساءل- بفرض صحة هذه الاتهامات وهي ما زالت تحتاج إلى تمحيص وجلاء- عمن أعطى لأمريكا وحلفائها الحق في التهديد بمعاقبة الجناة أيًّا كانوا، في أمرٍ يخصُّ بالمقام الأول الشأنَ اللبناني، وعلى الأكثر المنظمة الدولية التي أوفدت بعثة تحقيقها إلى هناك، وتساؤلنا هذا لا يغفل الواقع العالمي الذي غدت فيه أمريكا هي القوة الأولى والجانب المهيمن على مقدرات المنظمة الدولية وآليات عملها، حتى أصبحت مطيةً للإدارة الأمريكية وسياستها الرعناء تجاه العرب والمسلمين، وما نموذج العراق عنا ببعيد..!!

لكن الحق يقتضي أن نذكِّر بالتاريخ الأمريكي الأسود في اغتيال الزعماء المناوئين للسياسة الأمريكية، أو تدبير المؤامرات ضدهم لعزلهم، والنماذج لذلك مكرورة في بلدان أمريكا اللاتينية والشرط الأوسط، ومن هنا فإن التعاطف مع اغتيال الحريري ليس مبرَّأً من الهوى والغرض وانتهاز الفرص لتحقيق مآربها الخاصة.

والآن يراد معاقبة سوريا على مواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية والعراق، والأجندة الأمريكية المعلنة لا تنكر ذلك، بل تصرِّح به ليل نهار، وتفرض شروطها لتخفيف الضغوط على سوريا أو الرضا عنها، والتي تتمثل في حجب التأييد عن حزب الله في لبنان، وتركه عاريًا في مواجهة التربص والعداء الصهيوني، وتشديد المراقبة على الحدود مع العراق لمنع المقاومين لأمريكا من التسلل إليه، واتخاذ مواقف صارمة تجاه المنظمات الفلسطينية المجاهدة والمقاوِمة للوجود الصهيوني، ولبعضها وجودٌ في سوريا أو صلاتٌ بها، ثم التطبيع مع الكيان الصهيوني وقبول الرؤية الصهيونية لحل قضية الجولان السوري المحتل.

بشار وبوش

وقد أجادت أمريكا فرضَ الحصار السياسي والعزلة المعنوية عن النظام السوري، والعالم العربي منشغل بذاته، أو مُقرٌّ بعجزه عن التصدي للإدارة الأمريكية، والمؤسف في الأمر كله أن النظام السوري نفسه ما زال يعطي السياسة الأمريكية فُرَصَ النجاح، باستمرار نهجه الاستبدادي تجاه شعبه في ظرف تاريخي دقيق يقتضي إحداثَ مُصالحةٍ كبرى، يلتحم فيها الشعب بقيادته في جوٍّ من الحرية واحترام حقوق الإنسان والهوية الحضارية الإسلامية للشعب السوري.

وليس ثمةَ ما يضير من فتح تحقيق جادٍّ وشفَّاف مع كل من تحوم حوله الشبهات في مقتل السيد رفيق الحريري تحقيقًا يفوِّت الفرصة على من يمكرون بالأمة ويُعلي قيمة العدل والحق..

وقَى الله أمتَنا شرورَ أعدائها، وألهمَنا وحكامَنا مراشدَ أمورِنا.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.. ﴿واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾' وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر:حديث التوبة والنهضة في العشر الأواخر من رمضان