اللائكية بين الوجه النظري الساحر والوجه التطبيقي المخيف
يموج العالم بين العديد من المصطلحات المستحدثة، والتي أصبحت تشكل مردود ثقافي للواقع الذي نعيشه، إلا أن هذه المصطلحات أصبحت تشكل مردود سلبي على طوائف المجتمع، خاصة أن معرفتها يكون لعدد بسيط من المهتمين بهذا الشأن، كما أنه ترك مردود عنيف من الاختلافات بين الجميع حول تفسير هذا المصطلح وتطبيقه على أرض الواقع، أو تفسيره، أو الأفراد القائمين به.
والذين يحتكرون تفسيره وفق وجهات نظرهم -في الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة- وسط موج متلاطم من الألفاظ الوافدة عبرت عن مدولالات في البيئة التي نشأت فيها لا تصلح لغيرها إلا أن المثقفين العرب نقلوها كما أرادها أصحابها دون تمحيص أو موائمتها للبيئة العربية، ولنا في طه حسين العبرة حينما قال في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: [هو أن نأخذ من الحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها ،ما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب]، وبهذا المنطق نقل المثقفين كل مصطلح صدر عن الغرب سواء كان ملائما للبيئة العربية أو غير ملائم، المهم أنه صدر عن الحضارة الغربية.
لقد تابعنا الاختلافات بين أفراد الأمة حول هذه المصطلحات مثل مدنية الدولة، ومفهوم العلمانية وتطبيقها، والأوليغاركية واللائكية وغيرها، حتى أصبح الاختلاف السمة البارزة بين تيارات الوطن الواحد، لكن في النهاية الكل يريد أن يحتكر لنفسه أو تياره تعريف المصطلحات وفق ما يتماشى مع منهجه وفكره ومصلحته.
ومن هذه المصطلحات التي أصبحت محل صراع بين فئات المجتمع المثقفة مصطلح اللائكية، خاصة حينما تسمع من هؤلاء المثقفين تعريفه، لتصطدم على الجهة الأخرى بتطبيقه العملي المخالف للتعريف، مثله مثل الديمقراطية والتي يعتقد البعض أن الديمقراطية التي لا تأتي به فلا تكون ديمقراطية لكنها اختطاف من قبل تيار غيرهم.
إن المتأمل في تاريخ اللائكية يدرك أنها جاءت رد فعل على جمع الكنيسة في أوروبا بين السلطتين الدينية والسياسية متسلطة بذلك على البلاد و العباد فلم تترك للناس دنيا ولا آخرة، وكان لا بد من التصدي لها ماديا عن طريق الثورات وفكريا بإقرار فصل الدين عن الدولة أو ما يسمى باللائكية؛فللكاهن معبده وللسياسي دولته.هكذا بدأت اللائكية بكل بساطة.
يقول عادل لطيفي:
- إن الخلط متأتٍ من غياب العمق النظري وكذلك التاريخي لدى من يتحدثون باسم الإسلام ولدى بعض من يتحدثون باسم العلمانية. فالبعض ممن يعتبر نفسه علمانيا يحصر العلمانية في معارضة أي مظهر من مظاهر العمل السياسي المستمدة مبادئه من الإسلام. وهذا الحصر هو الذي أوقعهم في الكثير من الخلط.
فهؤلاء المتعلمنون يخلطون بين الإسلام السياسي في سياق العمل الوطني ضد المحتل وبين الحركات الإسلامية في سياق الصراع السياسي حول البديل المجتمعي الداخلي.
على الجانب الآخر، ينتج العديد من رموز التيارات الإسلامية خطابا عنيفا ضد العلمانية وضد العلمانيين، دون أبسط معرفة بالعمق التاريخي والفلسفي لهذا المفهوم.
إن اللائكية تتجلى في هذا الصراع حول تفسير معناها وتطبيقه على أرض الواقع، فالبعض يعمل على الفصل الكلي بين الدين والحياة، وآخرين يعمدون إلى جعلها منهج ثيوقراطي، والقليل من يفهم المعنى الوسطي أن الدين له حدوده في شئون الحياة كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنتم أعلم بشئون دنياكم}، كما أن الدين ليس في المساجد أو الكنائس والمعابد فحسب، لكن الدين تشريع ترك بعض الأمور للناس للتوافق فيما بينهم بعدما وضع القواعد التي يقوم عليها الدين والدولة دون رهبانية.
فاللائكية أو العلمانية الفرنسية، هي مفهوم يعبر عن فصل الدين عن شئون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشئون الدينية، كما أنها في الأصل لا تعني اللادينية وإنما تعني عدم الانتظام في سلك الكهنوت الكنسي.
غير أننا رأينا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الفصل التام بين ما هو ديني وبين ماهو سياسي وإداري، حيث حصروا الدين في الزوايا، وأظهروا المفهوم الذي يخدم منهجهم وفكرهم، حتى رأينا العديد من الدول تحت ذريعة اللائكية تمنع الناس من أداء فريضة الصلاة مثل ما حدث في تونس أيام حكم بن علي حيث زج بالعديد من الشباب في السجون بتهمة أداء صلاة الفجر في المسجد.
يقول مراد الفضلاوي:
- ومن المعاني المسكوت عنها ما يتعلق بالميراث فللأنثى مثل حظ الذكر، أما في المجال السياسي فتمنع بعض الأحزاب ذات المرجعية الدينية -مهما كانت شعبيتها - المرأة من الحق في المشاركة السياسية بذريعة اللائكية، وهكذا تبدو اللائكية ذات وجهين: -وجه ساحر يتعلق بالجانب النظري والظاهر ووجه مخيف يتعلق بالجانب التطبيقي و الخفي .أما الوجه الجميل فمجاله الحملات الانتخابية وأما الوجه الآخر فنراه في السياسة العملية.
ولو نظرنا لوجدنا فرق بسيط بين العلمانية واللائكية، فالعلمانية هي "الفصل بين الدين والدولة" أي أنها تعترف بالدين ولكنها لا تعتمد عليه في تشريعاتها وقوانينها.
أما اللائكية فهي "اعتبار الدين اختيار شخصي" و"لا دين للدولة".. مثلا الأعياد الدينية غير معترف بها، و رمضان مثل باقي الأيام في توقيت العمل وفتح المقاهي والمطاعم، وتنظيم الحج ليس من مشمولات الدولة، و الإرث متساوي بين الرجل والمرأة... يعني قطع تام مع الدين. وان كانت اللائكية في البلاد العربية والإسلامية لها بعض الفوائد من وجه نظر البعض حيث يروا أنها تخليص الدين من براثن السياسة التي يمكن إن تشوهه ؛ فانتخاب سياسي يرفع الدين شعارا ينتخبه الناس على أساسه يمكن أن يؤدي إلى التباس الشخص بالدين كما قال الشاعر العربي : ” وكأنما أنت النبي محمد…..وكأنما أنصارك الأنصار”.
و الإنسان -كما علمنا الإسلام- ليس معصوما من الخطأ فما بالك إذا كان منافقا بارعا أو تقيا تآمرت عليه نوائب السياسة؟.
أما الجانب الثاني فيتمثل في تكريس حرية المعتقد بحيث لا سلطة للدولة على الفرد في ما يتعلق بمعتقداته لذلك نرى الكثير من المسلمين في البلدان اللائكية يمارسون عباداتهم بحرية لم يجدوها في بلدانهم، وإن كان هذا ليس بشكل كبير.
أما المبدأ الأخر الذي تحققه اللائكية فهو مبدأ المساواة فالتعامل مع الأفراد يقوم على مبدأ المواطنة كما تقتضي اللائكية لا على الدين أو الطائفة؛ فالناس في البلدان اللائكية سواسية كأسنان المشط لا فضل لمسيحي على يهودي و لا لرجل على امرأة إلا باحترام القانون.
المشكلة أن بعض المثقفين نقلوا المصطلح غير أن أساءوا تطبيقه على أرض الواقع فأصبحت اللائكية تعبير يدل على فصل الدين وتنحيته عن كل شئون الحياة سواء الأساسية أو الفرعية، سواء كان هذا نابعا عن عدم إدراك وفهم لمعنى اللائكية الحقيقي أو تعمد لتغيب الدين ومظاهره وسط الناس.