العنيد في الحق
حمدي عبد العزيز- باحث مصري
مقدمة
استعد الرجل لمهمته جيدًا بالتخطيط وتجميع الجهود، كما تزود بزاد العلم حتى يحظى بعصا من البرهان يتوكأ عليها، وله فيها مآرب أخرى!
هذا هو أبو الأعلى المودودي (1903-1979) الذي يعتبره كثيرون من مجددي الإسلام في القرن العشرين؛ وذلك لأنه نذر نفسه لمهمة الدعوة الإسلامية طوال حياته مع تقلب مواسمها في ظل مناخ حار -طبيعيا وفكريا- تشهده شبه القارة الهندية.
ولد أبو الأعلى المودودي في عام 1903 في مدينة "أورنك آباد" إحدى مدن ولاية حيدر آباد الهندية في بيت معروف بالعلم والتدين، فالوالد هو "السيد أحمد حسن" ذو ثقافة إنجليزية تلقاها في مدرسة العلوم، ولكنه لم يستكملها، ثم عمل في المحاماة لفترة من الوقت.
تلقى المودودي علومه الأولية من والده؛ فتعلم اللغة العربية والقرآن والحديث والفقه واللغة الفارسية.
ويقول المودودي عن أبيه: "إن والدي شملني بالتربية السليمة والتوجيه الشديد، وكان يلقي عليّ في الليالي حكايات الأنبياء، وأحداث تاريخ الإسلام، والوقائع الشهيرة في تاريخ الهند، ما أزال أشعر بفائدة تلك التربية حتى اليوم".
يحكي المودودي حادثا طريفا عن حياته المبكرة، وهو أنه ذات يوم ضرب ابن أحد الخدم في بيتهم، فأمر أبوه الخادم أن يضرب ابنه.
ويعلق المودودي: "هذا الحادث لقنني درسًا، ولم أجرؤ طول حياتي أن أعتدي على الضعفاء".
التحق بالمدرسة الثانوية في (أوزنك آباد) وهو في الحادية عشرة بعد ثلاث سنوات، فما لبث أن أثار الإعجاب لذكائه وتفوقه، رغم أنه كان يعيش في عوز شديد، وكان بيته يبعد عن مدرسته مسافة 15 كيلومترًا يقطعها على الأقدام ذهابا وعودة.
الصحافة في خدمة الإسلام.. الدرس الثاني في "الدعوة"
وعقب وفاة الوالد عام 1917 أدرك الابن أنه أصبح لا يملك إلا بناء الذات؛ فاتجه إلى الصحافة فانضم إلىجريدة مدينة بجنوز1918، ومنها إلى (جريدة تاج) الأسبوعية، وفيها كتب افتتاحيات عديدة تتحمس للمحافظة على الخلافة الإسلامية، وفي هذه الأثناء كتب كتاب "النشاطات التبشيرية في تركيا".
ونتيجة احتكاكه بحركة الخلافة انتقل إلى دهلي عاصمة الهند، وقابل مفتي الديار الهندية الشيخ "كفاية الله" والشيخ "أحمد سعيد"، وكانا من كبار جمعية العلماء بالهند، ووقع الاختيار عليه لرئاسة تحرير الصحيفة التي ستصدرها الجمعية تحت اسم "المسلم" (بين 1921 و1923)، وفي عام 1924 أصدرت جريدة الجمعية، ورأس المودودي تحريرها حتى 1948.
وخلال إقامته في دهلي تعمق المودودي في العلوم الإسلامية والآداب العربية، كما تعلم الإنجليزية في أربعة أشهر، وحصل قراءات فاحصة للآداب الإنجليزية والفلسفة والعلوم الاجتماعية؛ الأمر الذي مكنه من إجراء المقارنة بين ما تنطوي عليه الثقافة الإسلامية وما تتضمنه الثقافية الغربية.
وفي تلك الفترة أيضًا ألَّف كتابين هما: "مصدر قوة المسلم" و"الجهاد في الإسلام".
وكان سبب تأليفه لكتاب "الجهاد في الإسلام" أن "المهاتما غاندي" نقل عنه قوله بأن الإسلام انتشر بحد السيف، كما قال آخرون: إن الإسلام هو دين العرب الذين كانوا يضربون عنق كل من لا يؤمن بدينهم؛ وهو ما أثار المشايخ والعلماء.. وخطب الإمام "محمد علي الجوهري" خطبة في الجامع الكبير بدهلي، وصدح بقولته: "ليت رجلا من المسلمين يقوم للرد"؛ فأراد المودودي أن يكون هذا الرجل، وغربل أمهات الكتب في هذا الموضوع، وأخذ يطالع تاريخ الحروب عند جميع الشعوب قديمًا وحديثًا وكتب حلقات متواصلة في جريدة الجمعية، ثم صدرت في كتاب عام 1928، وكان الدكتور "محمد إقبال" ينصح دائمًا الشباب المسلمين باقتناء هذا الكتاب.
وكان تأليف هذا الكتاب نقطة تحول كبيرة للمودودي، ويقول: "عرفت الإسلام، وعرفت طريقة إحيائه، وقررت ألا أدخل عالم الصحافة في المستقبل إلا لأن أجعلها وسيلة لخدمة الإسلام وإحيائه".
وبعد هذه الفترة تولى إدارة " مجلة ترجمان القرآن"، والمذهل أنه كان يعمل وحده في إدارتها وتحريرها؛ فكان يكتب الافتتاحيات والمقالات والردود على الأسئلة، ويذهب إلى المطابع لطبعها، ويراجعها، ويربط الطرود، ويلصق الطوابع، ويحملها إلى البريد، ويرسلها للمشتركين، ورغم كل هذا فإنه كان يحب العمل فيها جدا، ورفض مرارا عرضا من رئيس الوزراء بتعيينه أستاذًا في الكلية العثمانية مقابل راتب شهري مرموق.
وفي سبيل هذه الأهداف خرج كتابه "مبادئ الإسلام"، وقد تُرجم إلى ثلاثين لغة عالمية ونال رواجًا كبيرًا في أوروبا، واعتنق كثيرون بسببه الإسلام.. وسبب تأليفه أن إدارة التربية والتعليم في ولاية "حيدر آباد الدكن" كلفت المودودي بوضع منهج التربية الإسلامية في مدارسها، والطريف أنه لم يكتب شيئا حتى جاءه إخطار بضرورة تسليم الكتاب خلال أسبوع فأنجزه بالفعل في هذا الوقت اليسير.
مع "إقبال" و"قطب" في سبيل الإسلام.. الدرس الثالث في "الأخوة"
وممن قُرنوا بالمودودي دائما الشهيد سيد قطب الذي رأى الكثيرون تشابهًا في أفكارهما؛ حتى إن المودودي ذاته أكد على هذا التشابه، فقد روى الشيخ "خليل الحامدي" سكرتير الشيخ المودودي عنه ذلك قائلا: في أحد أعوام الستينيات بمكة المكرمة دخل شاب عربي مسلم على الأستاذ المودودي، وقدم له كتاب "معالم في الطريق" لمؤلفه "سيد قطب"، وقرأه الأستاذ المودودي في ليلة واحدة، وفي الصباح قال لي: "كأني أنا الذي ألفت هذا الكتاب"، وأبدى دهشته من التقارب الفكري بينه وبين سيد قطب، ثم استدرك يقول: "لا عجب؛ فمصدر أفكاره وأفكاري واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
وأما عن علاقة الحب والإخاء التي كان يكنها المودودي لقطب رغم بُعد المسافة بينهما؛ فيحكي خليل الحامدي قائلاً: غداة تنفيذ حكم الإعدام بالشهيد سيد قطب، دخلنا على المودودي في غرفته، وكانت الصحافة الباكستانية قد أبرزت الخبر على صفحاتها الأولى، إلا أنه لم يكن قد قرأه بعد، فسبقنا وقصّ علينا المودودي كيف أنه أحس فجأة باختناق شديد، ولم يدرك لذلك سبباً.. فلما عرف وقت إعدام الشهيد سيد قطب من الصحف قال: "أدركت أن لحظة اختناقي هي نفس اللحظة التي شُنق فيها سيد قطب".
وكان شاعر الهند الكبير محمد إقبال من المعنيين كذلك بكتابات المودودي، وكتب ذات مرة: "إن هذا الشيخ يعرض دين الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقلم مداده الدم"، أما المودودي، فيقول: "كان بيني وبين إقبال انسجام كبير في الآراء، والمخطط الذي كان في ذهني كان نفسه في ذهن إقبال".
حتى إن المودودي حين بلغته وفاة إقبال بكى قائلا: "فقدت أكبر سند لي في الدنيا بموت هذا الرجل العظيم".. وبعدها بوقت قصير ذهب إلى لاهور وقبل عرضًا من كلية "حماية الإسلام" بأن يكون محاضرًا شرقيا، وألقى محاضرات عن الإسلام لمدة عام، كما ألقى محاضرات في عدة جامعات أخرى.
تأسيس الجماعة الإسلامية.. الدرس الرابع في "حشد الصفوف"
وفي 24-8-1941 اجتمع المودودي مع عدد من الرجال الذين تحمسوا لفكره، ودرسوا إنشاء هيئة تدعو إلى إقامة النظام الإسلامي، ووضعوا في نفس اللقاء القانون الأساسي للجماعة الإسلامية، يتضمن عقيدتها وأهدافها.. فعقيدتها هي ما تحمله كلمة الشهادة: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
وأهدافها إقامة الدين في الحياة الفردية والحياة الجماعية، وبعد ذلك بيومين صادقوا على القانون الأساسي للجماعة، وانتُخب المودودي أميرًا لها، وقد بدأت بـ 75 عضوًا، وأصبح أتباعها الآن يُقدَّرون بالملايين.
وفي تلك الأثناء استدعى جميع رجال الجماعة الإسلامية، وكلفهم مهمة خدمة اللاجئين، وكانوا آلافًا مؤلفة قتل منهم آلاف على الطريق، وأصيب آلاف بالجروح خلال الاحتكاكات بين المسلمين وبين الهندوس والسيخ، كما ضاع آلاف الأطفال وخطفت آلاف البنات المسلمات، وأقامت الجماعة مخيمات لاستقبال اللاجئين، وكانوا يطبخون الطعام ويداوون المرضي ويدفنون الموتى.
وفي هذه الرحلة اتجه المودودي إلى تقوية وتوطيد قواعد حركته بالتركيز على ثلاثة أمور:
1- أن يكون زملاؤه في الدعوة أقوياء في العقيدة، وموثوقين في سلوكهم الفردي، يقول: "إن الشيء الذي ضرب في النهاية الحركات والدعوات هو انضمام رجال غير مستقيمي السيرة".
2- أن يكون النظام الداخلي مَحكًّا قويًا؛ ذلك لأن التساهل والوهن وتخلخل النظام من أسباب انهيار الدعوات.
3- أن يشتمل الداعية في آن واحد على عنصرين: العنصر المثقف ثقافة إسلامية أصيلة، والعنصر المثقف ثقافة عصرية؛ حتى نستطيع القضاء على أسطورة فصل الدين عن الدولة الذي لم يقبل فيه جدالا؛ فحين قابله الرئيس "أيوب خان" في 1960 أثنى عليه، واقترح عليه أن ينتهج فكر "الدعوة والتبليغ" دون التورط في أوحال السياسة؛ فرد عليه المودودي بكل هدوء ولطف: "كما تفضلت يا سيادة الرئيس فإن السياسية أصبحت أوحالا، فدخلتها لأطهرها من الأوساخ...".
في مواجهة التهم الملفقة.. الدرس الخامس في "الثبات على المبدأ"
وعقب قيام الباكستان قام المودودي بجهد كبير لمواجهة النظريات الغربية التي يتم ترويجها في البلاد، وإثارة التغريبيين لشبهة صلاحية الإسلام كنظام للدولة العصرية.. ومع إصراره على الدعوة بأن تكون القوانين في الباكستان نابعة من الشريعة، وأن تلغى القوانين المخالفة فقد ضاقت السلطات بذلك؛ وهو ما أدى إلى القبض عليه في أكتوبر 1948، وسُجن لمدة عشرين شهرًا أنجز خلالها كتابه الشهير "الربا" وكتاب "مسألة ملكية الأرض في الإسلام"، كما أكمل المجلد الأول من تفسيره للقرآن الكريم "تفهيم القرآن"، وذلك رغم اعتلال كليته ومرضه.
عقب خروجه من السجن طاف المودودي أنحاء البلاد شارحًا أطر الدولة الإسلامية وأهميتها؛ وهو ما حدا بمعارضيه إلى إثارة الشبهات حوله، مثل: أنه عميل للهند أو أمريكا، وأنه لا يجوز له الفتوى؛ لأنه لم يتخرج في معهد ديني، وأنه من الساعين للحكم.. وكان منهجه عدم الانشغال بالرد على هذه الشبهات، ومتابعة سيره نحو تحقيق غايته الرئيسية.
وفي عام 1952 حدثت في مقاطعة البنجاب اضطرابات عنيفة بين المسلمين والقاديانيين راح ضحيتها الآلاف، وكتب المودودي رسالة "المسألة القاديانية"، وكشف فيها بإيجاز عن عقائد هذه الفرقة ومخططاتها.
وفي تلك الأثناء قام الحاكم "غلام محمد" بإعلان الحكم العرفي في البنجاب وإلغاء الدستور، وإلقاء القبض على المودودي وعلماء الجماعة الإسلامية، وقدم إلى المحكمة العسكرية التي قضت بإعدامه.
وعندما طلب منه تقديم طلب استرحام خلال أسبوع، قال في هدوء: "لا أسترحم أحدًا؛ لأن أحكام الموت أو الحياة لا تصدر في الأرض وإنما تصدر في السماء"، ثم أصدرت المحكمة العسكرية نفسها قرارًا جديدًا بتخفيف عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد، لكنه لم يقضِ منها سوى 25 شهرًا.
حين أوصى بعض الناس المودودي بالخلود إلى الراحة أكد أن الدعوة التي يحملها لا تعترف بالهدوء ولا تنتظر المواسم، وعقب معارضة المودودي للقوانين الغربية المطبقة، صدرت أوامر حكومية بحل الجماعة الإسلامية ومصادرة أموالها، واعتقال قادتها وعلى رأسهم المودودي في يناير 1964، وتمّ الإفراج عنهم عقب ذلك في سبتمبر 1964.
لكنه اعتُقل مرة أخرى في عام 1975 لسبب غريب وهو أن عيد الفطر قد صادف يوم الجمعة فأراد أيوب خان الحاكم في حينها تقديم العيد إلى يوم الخميس وأصدر قراره بذلك؛ فاستنكر المودوي ذلك، وأفتى بأن العيد مع ثبوت الهلال؛ فاعتقل، وأفطر الناس يوم الجمعة على رأي المودودي، ومكث في السجن لمدة شهرين.
وظل المودودي في دفاعه عن الإسلام ضد الإلحاديين والقاديانيين، سواء من خلال تأليف الكتب أم تأليف الرجال بتربيته لجيل كامل يؤمن بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم تفتُرْ عزيمته عن دعوته، وظل على هذه الحال حتى لقي ربه يوم 22 سبتمبر 1979، وهو مؤمن بمبدئه ثابت عليه عنيد دوما في ال
وهذة بعض الاضافات :
أبو الأعلى المودودي.. داعية فوق السحاب
(في ذكرى ميلاده: 3 رجب 1321هـ)
يعد أبو الأعلى المودودي نموذجًا فريدًا للداعية الإسلامي المجتهد الذي أوقف حياته على الدعوة إلى الإسلام، وجعل رسالته في الحياة إعلاءَ كلمة الحق، والتمكين للإسلام في قلوب أتباعه قبل ربوعه وأوطانه.
وكان لإخلاصه في دعوته واجتهاده في رسالته أكبر الأثر في التفاف الكثيرين حوله، وانضوائهم تحت لواء فكره الذي تخطى حدود القومية ونطاق المكان؛ ليصبح راعية عالميًا للإسلام في كل مكان، بل إن أعماله ومؤلفاته قد انطلقت لتتخطى حدود المكان وتتجاوز إسار اللغة، فترجمت إلى معظم لغات العالم؛ لتظل ينبوعًا متجددًا لعطائه الفكري والدعوي الذي تجاوز مرحلة الدعوة باللسان والتنظير الفكري إلى مجال التطبيق العملي للتشريع الإسلامي حكمًا وقيادة ومعاملات.
أسرته ونشأته
ينتمي أبو الأعلى المودودي إلى أسرة تمتد جذورها إلى شبه جزيرة العرب، فقد هاجرت أسرته منذ أكثر من ألف عام إلى جشت بالقرب من مدينة هراة، ثم رحل جده الأكبر "ضواجه مودود" إلى الهند في أواخر القرن التاسع الهجري.
وكان أبوه سيد أحمد حسن مودود الذي ولد في دلهي بالهند سنة (1266 هـ = 1850م) واحدًا من طلاب جامعة عليكرة، وقد عمل مدرسًا، ثم عمل بالمحاماة، وفي (3 من رجب 1321 هـ = 25 من سبتمبر 1903م) رزق بابنه "أبو الأعلى المودودي"، وبعد ذلك بنحو عام اعتزل الأب الناس، ومال إلى الزهد، فنشأ أبو الأعلى في ذلك الجو الصوفي، وتفتحت عيناه على تلك الحياة التي تفيض بالزهد والورع والتقوى.
وقضى أبو الأعلى طفولته الأولى في مسقط رأسه في مدينة "أورنك آباد الدكن"، بمقاطعة حيدر آباد، وكان أبوه معلمه الأول، وقد حرص أبوه على تنشئته تنشئة دينية، واهتم بتلقينه قصص الأنبياء والتاريخ الإسلامي، وكان يصحبه إلى مجالس أصدقائه من رجال الدين والعلماء؛ فتفتحت ملكاته وظهر نبوغه وذكاؤه منذ حداثة سنه، ونال إعجاب أساتذته منذ سنوات دراسته الأولى.
وحرص أبوه على تعليمه اللغة العربية والفارسية بالإضافة إلى الفقه والحديث، وأقبل المودودي على التعليم بجد واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي، وهو ما يعادل الليسانس.
المودودي صحفيًا
وفي هذه الأثناء أصيب الأب بالشلل، وأصبح قعيدًا بلا حراك، وضاقت سبل العيش بالأسرة والأبناء، فكان على المودودي أن يكافح من أجل لقمة العيش، وقد وهبه الله ملكة الكتابة التي صقلها بالقراءة والمطالعة، فقرر أبو الأعلى أن يجعل من قلمه وسيلة للرزق، وكان أخوه الأكبر "سيد أبو الخير" مديرًا لتحرير جريدة مدينة بجنور، فعمل المودودي محررًا بالجريدة، إلا أنه لم يستمر طويلا بها، فقد أغلقت الحكومة الجريدة، فانتقل بعد ذلك إلى جريدة تاج التي كانت تصدر أسبوعية من جبلبور، ثم أصبحت يومية.
وكان من نتيجة عمله بالصحافة أن سعى المودودي إلى تعلم اللغة الإنجليزية حتى أتقنها، وصار بإمكانه الاطلاع على كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع ومقارنة الأديان باللغة الإنجليزية دون أية صعوبة في فهمها واستيعابها.
وما لبثت الحكومة أن أغلقت تلك الجريدة، فعاد المودودي إلى "دلهي" واشترك مع مدير جمعية علماء الهند في إصدار جريدة مسلم، وصار مديرًا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات حتى أغلقت عام (1341 هـ = 1922م) فانتقل إلى بهو بال، ثم عاد مرة أخرى إلى دلهي سنة (1342 هـ = 1923م)؛ حيث تولى الإشراف على إصدار جريدة تصدرها جمعية علماء الهند تحمل اسم الجمعية، وظل يتحمل وحده عبء إصدارها حتى سنة (1347 هـ = 1928م).
مع إقبال
وفي ذلك العام أتم كتابه "الجهاد في الإسلام" الذي حقق شهرة عالمية، وقد كتبه ردًا على مزاعم غاندي التي يدعي فيها أن الإسلام انتشر بحد السيف.
وفي عام (1351 هـ = 1932م) أصدر ترجمان القرآن من حيدر آباد الركن، وكان شعارها: "احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا وحلقوا فوق العالم".
وكان تأثير المودودي عبر ترجمان القرآن من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار التيار الإسلامي في الهند، وزيادة قوته، وقد تبلور ذلك في حزب الرابطة الإسلامية، وتأكد ذلك في دعوته أثناء المؤتمر الذي عقد في لنكو سنة (1356هـ = 1937م) إلى الاستقلال الذاتي للولايات ذات الأغلبية الإسلامية.
ونتيجة لشهرة المودودي واتساع دائرة تأثيره الفكري في العالم الإسلامي، دعاه المفكر والفيلسوف محمد إقبال في سنة (1356 هـ = 1937م) إلى لاهور ليمارس نشاطه الإسلامي البارز بها، فلبى المودودي دعوة إقبال.
وعندما توفي إقبال في العام التالي (1357 هـ = 1938م) تاركًا فراغًا كبيرًا في مجال الفكر والدعوة اتجهت الأنظار إلى المودودي ليملأ هذا الفراغ الذي ظهر بعد رحيل إقبال.
تأسيس الجماعة الإسلامية
وبدأ المودودي حركته الإسلامية التي تهدف إلى تعميق الإسلام لدى طبقة المفكرين المسلمين والدعوة إلى الإسلام، حتى أسس الجماعة الإسلامية في لاهور، وتم انتخابه أميرًا لها في (3 من شعبان 1360 هـ = 26 من أغسطس 1941م).
وبعد ذلك بعامين في (1362 هـ = 1943م) نقلت الجماعة الإسلامية مركزها الرئيسي من لاهور إلى دار السلام - إحدى قرى بتها نكوت – وكان المودودي طوال هذه الفترة لا يكف عن الكتابة والتأليف، فأصدر عدة كتب من أهمها: المصطلحات الأربعة الأساسية في القرآن، والإسلام والجاهلية، ودين الحق، والأسس الأخلاقية الإسلامية، وغيرها.
ومع إعلان قيام دولة باكستان في (11 من شوال 1366 هـ = 28 من أغسطس 1947م)، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور؛ حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي (صفر 1367 هـ = يناير 1948م) بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي.
وظل المودودي يلح على مطالبة الحكومة بهذا المطلب، فألقى خطابًا آخر في اجتماع عام بكراتشي في (ربيع الآخر 1367 هـ = مارس 1948م) تحت عنوان "المطالبة الإسلامية بالنظام الإسلامي".
اعتقاله
وبدأت الجماعة الإسلامية في الضغط على الحكومة ومجلس سن القوانين للموافقة على المطالب التي قدمها المودودي بجعل القانون الأساسي لباكستان هو الشريعة الإسلامية، وأن تقوم الحكومة الباكستانية بتحديد سلطتها طبقا لحدود الشريعة.
وحينما عجزت الحكومة عن الرد على تلك المطالب قامت في (غرة ذي الحجة 1367 هـ = 4 من أكتوبر 1948م) باعتقال المودودي وعدد من قادة الجماعة الإسلامية، ولكن ذلك لم يصرف المودودي وبقية أعضاء الحركة من الاستمرار في المطالبة بتطبيق النظام الإسلامي، وأظهر الشعب تعاونه الكامل مع الجماعة في مطالبها حتى اضطرت الحكومة إلى الموافقة على قرار الأهداف الذي يحدد الوجهة الإسلامية الصحيحة لباكستان في (13 من جمادى الأولى 1368 هـ = 12 من مارس 1949م).
وبعد ذلك بنحو عام (11 من شعبان 1369 هـ = 28 من مايو 1950م) اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراح "المودودي" وزملائه.
وبدأت الجماعة الإسلامية دراسة قرار الأهداف الموضوعة في حيز التنفيذ، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة – التي أقلقها مطالب الشعب – تسعى إلى وضع مقترحاتها الدستورية، وأعطت لنفسها سلطات واسعة للسيطرة على الرعية؛ فقام المودودي بإلقاء خطاب في اجتماع عام بلاهور في (3 من المحرم 1370 هـ = 14 من أكتوبر 1950م)، قام فيه بتوجيه النقد إلى تلك المقترحات التي تمهد الطريق للديكتاتورية؛ فثار الرأي العام وهو ما اضطر الحكومة إلى التراجع، وتحدت علماء الجماعة الإسلامية، في أن يجتمعوا على ترتيب مسودة دستور إسلامي، وقبل العلماء التحدي؛ فاجتمع (31) عالمًا يمثلون الفرق المختلفة في (13 من ربيع الآخر 1370 هـ = 21 من يناير 1951م) بمدينة كراتشي، واشترك المودودي معهم في صياغة النقاط الدستورية التي
اتفقوا عليها، ولكن الحكومة قابلت المقترحات الدستورية التي تقدمت بها الجبهة الإسلامية بالصمت، وإزاء ذلك قامت الحركة الإسلامية بعقد عدة اجتماعات شعبية، فقامت الحكومة بإعلان الأحكام العسكرية في لاهور في (20 من جمادى الآخر 1372 هـ = 6 من مارس 1953م)، وفي (13 من رجب 1372 هـ = 28 من مارس 1953م) تم اعتقال المودودي للمرة الثانية مع اثنين من زملائه دون توضيح أسباب هذا الاعتقال، ثم أطلق سراحهم بعد نحو شهر ونصف في (23 من شعبان 1372 هـ = 7 من مايو 1953م)، ولكن ما لبث أن تم اعتقالهم مرة أخرى في اليوم التالي مباشرة.
الحكم بإعدامه
وبعد أربعة أيام فقط من اعتقاله حكم عليه بالإعدام، وهو ما أدى إلى حدوث ثورة من الغضب الشديد في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وتوالت البرقيات من كل مكان تشجب هذا الحكم، حتى اضطرت الحكومة إلى تخفيف حكم الإعدام والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولكن ردود الفعل الرافضة لهذا الحكم أدت إلى إصدار حكم بالعفو عن المودودي في (1374 هـ = 1955م).
ومع بداية عام (1375 هـ = 1956) رضخت الحكومة لمطالب الشعب بإصدار دستور إسلامي للبلاد، ولكن ما لبثت أن أعلنت عن دستور جديد في (1382 هـ = 1963م).
ثم أصدرت قرارًا بحظر نشاط الجماعة، وتم اعتقال المودودي و (63) من زملائه، ولكن القضاء أصدر حكمًا ببطلان الحظر والاعتقال، وأطلق سراح المودودي وزملائه في (جمادى الآخرة 1384 هـ = أكتوبر 1964م).
تأثيره الجماهيري
وعندما قامت الحرب بين باكستان والهند في (جمادى الأولى 1385 هـ = سبتمبر 1965م) كان للمودودي والجماعة الإسلامية دور بارز في الشحذ المعنوي للجماهير ومساعدة مهاجري الحرب، كما ساهمت الجماعة بشكل إيجابي في الإمداد الطبي، فأقامت نحو عشرين مركزًا للإمداد الطبي في آزار كشمير، وألقى المودودي عدة خطابات عن الجهاد.
وفي (رمضان 1386 هـ = يناير 1967م) قامت الحكومة باعتقال المودودي لمدة شهرين، وبعد أن أطلق سراحه ظل يمارس دوره الدعوي في شجاعة وإيمان، فكان من أبرز دعاة الحرية والوحدة، وظل يحذر الشعب من مساندة الجماعات الانفصالية حتى لا ينقسم الوطن، ويقع في حرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله.
وفي (رمضان 1392 هـ = نوفمبر 1972م) بعد نحو ثلاثين عامًا من الكفاح الطويل طلب المودودي إعفاءه من منصبه كأمير للجماعة الإسلامية لأسباب صحية، وانصرف إلى البحث والكتابة؛ فأكمل تفهيم القرآن، وشرع في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي (عام 1399 هـ = 1979م) فاز المودودي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام؛ فكان أول من حصل على تلك الجائزة تقديرًا لجهوده المخلصة في مجال خدمة الإسلام والمسلمين.
مؤلفاته
بلغ عدد مؤلفات المودودي (70) مصنفًا ما بين كتاب ورسالة، ومن أبرز تلك المؤلفات:
1- الجهاد في الإسلام: وقد ألفه سنة (1347 هـ = 1928م).
2- الحضارة الإسلامية (أصولها ومبادئها): وقد كتبه سنة (1350 هـ = 1932م).
3- نظرية الإسلام السياسية: كتبه سنة (1358 هـ = 1939م)
4- تجديد وإحياء الدين: كتبه سنة (1359 هـ = 1940م).
5- الاصطلاحات الأربعة الأساسية في القرآن: كتبه سنة (1360 هـ = 1940م).
6- الإسلام والجاهلية: كتبه سنة (1360 هـ = 1941م).
7- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية: كتبه سنة (1364 هـ = 1945م).
8- الدين الحق: كتبه سنة (1366 هـ = 1947م).
9- نظام الحياة الإسلامي: كتبه سنة (1367 هـ = 1948م)
10-حقوق أهل الذمة: كتبه سنة (1367 هـ = 1948م).
11-مطالب الإسلام تجاه المرأة المسلمة: كتبه سنة (1372 هـ = 1953م).
12-قضية القاديانية: كتبه سنة (1372 هـ = 1953م)
13-تفسير تفهيم القرآن: ويقع في ستة أجزاء، وقد بدأ كتابته سنة (1360 هـ = 1941م)، وأتمه في سنة (1392هـ = 1972م).
14-سيرة النبي صلى الله عليه وسلم : وقد شرع في تأليفه سنة (1392 هـ = 1972م)، وأتمه قبيل وفاته، وهو آخر مؤلفاته.
وقد حظيت مؤلفات المودودي بشهرة عريضة في جميع أنحاء العالم ولقيت قبولا واسعًا في قلوب المسلمين في شتى البقاع؛ فترجم الكثير منها إلى العديد من اللغات، حتى بلغ عدد اللغات التي ترجمت مصنفات المودودي إليها ست عشرة لغة، منها: الإنجليزية، والعربية، والألمانية، والفرنسية، والهندية، والبنغالية، والتركية، والسندية…، ونالت استحسان ورضى المسلمين على شتى مستوياتهم واتجاهاتهم.
وانطفأ المصباح
وفي (غرة ذي القعدة 1399 هـ = 22 من سبتمبر 1979م) انطفأت تلك الجذوة التي أضاءت الطريق إلى الرشد والهداية لكثير من المسلمين، ورحل المودودي عن عالمنا إلى رحاب ربه، ولكنه بقي بأفكاره وتعاليمه ومؤلفاته الجليلة ليظل قدوة للدعاة على مر العصور، ونبعًا صافيًا من منابع الإسلام الصافي والعقيدة الخالصة.
أهم مصادر الدراسة:
أبو الأعلى المودودي: حياته وفكره العقدي: حمد بن صادق الجمال – دار المدني للطباعة والنشر والتوزيع – جدة (1401 هـ = 1986م).
أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته: د. سمير عبد الحميد إبراهيم – دار الأنصار – القاهرة: 1399 هـ = 1979م.
أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية: د.محمد عمارة – دار الشروق بالقاهرة: 1407 هـ = 1987م.
النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (الجزء الثالث) – سلسلة البحوث الإسلامية : السنة 13 الكتاب الأول: مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة: (1402 هـ = 1982م).
المصدر
- مقال:العنيد في الحق موقع : شيخ الإسلام