الصف الذي لم يُختَرق-كيف نحمي الصف الإسلامي من المنافقين (الحلقة الأولى)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الصف الذي لم يُختَرق-كيف نحمي الصف الإسلامي من المنافقين (الحلقة الأولى)


بقلم : محمد سرور زين العابدين

التاريخ : 7 مايو 2017 م

عرضت في هذا البحث: (كيف نحصن الصف الإسلامي من المنافقين) صوراً من اختراقات المنافقين للجماعات والهيئات الإسلامية في هذا العصر، وبينت كيف تمكن المخترِقُونَ - بكسر الراء - من ضرب هذه الجماعات في أخطر حصونها... ثم تحدثت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمثال واضح وجلي على مواصفات الصف الذي لم يخترق، وأهمية الاقتداء به... ومن خلال ما استعرضناه يمكننا الخروج بالفوائد التالية:

الفائدة الأولى: طبقات لا تخترق:

رجال كل طبقة من طبقات الصحابة معروفة أسماؤهم، واضحة سير حياتهم، ويستحيل على منافق اختراق هذه الطبقات لأنها محصنة ضد الشقاق و النفاق والزندقة، وإذا كان الحديث عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كمثال على ذلك، وجدنا شواهد كثيرة تؤكد صحة ما قلناه:

منها: أن مكة والمدينة كانتا قريتين، والناس فيهما يعرفون بعضهم بعضاً معرفة دقيقة، فهم يعرفون السابقين الأولين الذين أسلموا، وارتبط إسلامهم بخلافات ومصادمات بينهم وبين أهليهم وذويهم، وبينهم وبين رؤوس الشرك والكفر الذين يتولون تصريف الأمور في مكة والمدينة.

ومنها: أن الصحابة عدول، فإذا قال صحابي: أسلم معي في السنة الأولى أو الثانية فلان وفلان، أو قال كان عددنا في دار الأرقم بن أبي الأرقم كذا، وذكر أسماءهم، فهذا يعني أن قول الصحابي - إذا ثبتت الرواية عنه - صحيح، فكيف إذا ثبتت الرواية عن عدد من الصحابة؟!.

ومنها: أن جمعاً كبيراً من الصحابة نقلوا إلى جمع كبير من التابعين خبر هذه الطبقات، وأصبح هذا النقل متواتراً، وضبطت هذه الروايات المنقولة في كتب الحديث، والسير، والتاريخ، وفي كتب الرجال وفق منهج شهد بصحته العدو والصديق، ولم تعرف الأمم في القديم والحديث مثيلاً لهذا المنهج الذي انفردت به الأمة الإسلامية.

تقول هذه الروايات:

- إن الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الأولى [12 رجلاً]، وفي العقبة الثانية سبعون رجلاً وامرأتان هما: نسيبة بنت كعب [أم عمارة]، وأسماء بنت عمرو بن عدي... وكان عدد النقباء: اثنا عشر رجلاً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.

- وعدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.

- وعدد الذين شهدوا بيعة الرضوان ألف وخمسمائة رجل.

وقل مثل ذلك في عدد الذين صلوا إلى القبلتين، وعدد الذين شهدوا أحداً والخندق وتبوك، وعدد الذين أسلموا قبل فتح مكة مع ذكر أسماء كل طبقة من هذه الطبقات.

وعندما تواجهنا روايتان عن عدد رجال طبقة من الطبقات، ومن الأمثلة على ذلك رواية تقول أن عدد أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ورواية أخرى تقول أن عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً... هل هناك احتمال تسلل اسم منافق إلى أسماء رجال هذه الطبقة من خلال التعارض الظاهر في اختلاف الروايتين؟!

وجوابنا على هذا السؤال نحدده في النقاط التالية:

1- نطبق منهج أهل الحديث في الحكم على الروايتين المتعارضتين في الظاهر، ونقدم الرواية الأقوى دلالة.

2- ليس في الطبقات التالية منافقون: طبقات المهاجرين كلها، السابقون الأولون من الأنصار كأصحاب العقبة والذين أسلموا قبل الهجرة، أهل بدر، فإذا وردت روايتان عن عدد رجال طبقة من طبقات المهاجرين مثلاً، فالرواية الأكثر عدداً ليس فيها نفاق إذا ثبت أن الأسماء الزائدة من المهاجرين.

3- كما أن هناك ضوابط لمعرفة الصحابي من غيره، فهناك ضوابط لمعرفة المنافقين، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص حذيفة بن اليمان بأسمائهم وأخبارهم، وحذيفة يحافظ على أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبوح بها لأحد من الصحابة ولو كان من أكثرهم مكانة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ويحدثنا البخاري في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه المخلفون بعد غزة تبوك، فقبل اعتذار بضعة وثمانين رجلاً، واستغفر لهم، وَوَكَل سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك وصاحباه فطلب - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين اعتز الهم حتى يقضي الله فيهم... فلماذا قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذار من اعتذر وحلف، وطلب من المسلمين اعتزال ثلاثة فقط؟!.

يجيب على هذا السؤال ابن القيم فيقول:

"وفي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب، أما المنافقون، فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدة فيه". وقال أيضاً:

"ولم يكن يتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أحد رجال ثلاثة، إما مغموص عليه في النفاق، أو رجل من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة" اهـ[1]

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف المنافقين في المدينة، ولهذا قبل اعتذار بضعة وثمانين رجلاً، وأمر المسلمين باعتزال ثلاثة فقط، ولهذا سأل كعب بن مالك رجالاً من بني سلمة شهدوا حضور المخلفين الذين جاؤوا يعتذرون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارةُ بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي". [2]

وإذا كان تسلل اسم منافق إلى طبقة من طبقات المتأخرين من الصحابة في منتهى الصعوبة، فما بالك بطبقات السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، بل إلى صف أهل الحل والعقد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -؟!.

إن وصول منافق واحد إلى الصفوف المتقدمة من المستحيلات.. وكان من الممكن أن يقال: كان أهل المدينة يستعدون لتتويج شيخ المنافقين عبد الله بن أُبي ملكاً عليهم قبل مقدم رسول الله إلى المدينة، وليس في تعيينه عضواً من أعضاء الشورى الذين يحيطون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ضرر لأنه سيكون واحداً بين جمع من السابقين الأولين، وسوف يشعر بعد هذا التعيين أنه ما زال عزيزاً بين أهله وقومه.

في حسابات السياسيين عند بعض الإسلاميين لابد من احتواء أمثال عبد الله بن أبي وإغرائه بمنصب من المناصب، ويصل حد هذا الاحتواء إلى مخاطبة رأس من رؤوس النفاق والزندقة و العلمانية قائلين له: نبايعك ملكاً أو رئيساً على أن تتعهد بتحكيم شرع الله.. ولو قبل هذا الطاغية بيعتهم له، وفاوضهم على تطبيق بعض أحكام الإسلام، وتأجيل الأحكام الأخرى لأجل غير محدد لقبلوا والتمسوا له الأعذار ودافعوا عنه وأصبح الطاغية عندهم أميراً للمؤمنين. لكن المسألة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مجرد حسابات سياسية، وقبول منافق في مركز قيادي إذا كان لا يملك التأثير على القرار المتخذ، لا، إن المسألة أبعد مما يتصوره البعض في عصر الديمقراطية، فهناك شروط لأهل الحل والعقد في النظام الرباني الخالد، وهذه الشروط لا تنطبق على عبد الله بن أبي، ولابد من تميز الصفوف، ولا يجوز أن يخترق منافق طبقة السابقين الأولين لأي اعتبار من الاعتبارات.

ولنا عبرة أيضاً في قصة أبي سفيان عندما أعلن إسلامه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى فتح مكة - الفتح الأعظم -: قال العباس: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام، فهو آمن". [3]

استجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطلب عمه العباس، وخصّ أبا سفيان بمكرمة تميّز بها عن أهل مكة، ولكنّ هذه الميزة كانت توافق حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة من غير إراقة دماء، فعندما يسمع أهل مكة زعيمهم أبا سفيان ينادي بأعلى صوته طالباً منهم اللجوء إلى الأماكن الآمنة يعلمون أن القتال لا يجدي، وليس أمامهم إلا الاستسلام، حسن إسلام أبي سفيان بعد فتح مكة، فشهد حنيناً، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم مائة من الإبل، وأربعين أوقية من الدراهم يتألفه بذلك... وشهد قتال الطائف، فقلعت عينه حينئذٍ,، ثم قلعت الأخرى يوم اليرموك، وكان يومئذٍ, يحرض على الجهاد [تحت راية ولده يزيد] ويصيح: يا نصر الله اقترب، ويقول أيضاً: الله الله، إنكم أنصار الإسلام ودارة العرب، وهؤلاء أنصار الشرك ودارة الروم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك.

وقال الحافظ في "الإصابة" 5/129:"وروى يعقوب بن سفيان وابن سعد بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: فقدت الأصوات يوم اليرموك، إلا صوت رجل يقول: يا نصر الله اقترب، قال: فنظرت، فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد\".... [4]

ومع كل هذه المزايا لم يبلغ بعد إسلامه وجهاده مرتبة السابقين الأولين أو أهل الحل والعقد من كبار الصحابة، وبقي حيث يستحق في طبقة الذين أسلموا عند فتح مكة، وبقي بلال بن أبي رباح وزيد بن الحارثة، وصهيب الرومي، أفضل منه، وهذا هو المقياس الإسلامي الصحيح.

نعود إلى الحديث عن واقعنا المعاصر فنقول:

ليس لهذه الطبقات وجود يستحق الذكر في حياة الجماعات الإسلامية، وهذا الذي سهل على المنافقين الوصول إلى قيادة هذه الجماعات، وتدبير مؤامرات لا يقدر عليها إلا من يعرف البيت من داخله معرفة دقيقة، وقد رأينا ما فعله عبد الناصر وزملاؤه قادة انقلاب يوليو 1953 م بالإخوان المسلمين، وما فعله الوافد ال مصري عام 1954 م بالإخوان المسلمين في سورية، والدور الخطير الذي نفذه أبو عبد الله الجسري بالطليعة الإسلامية في أوائل الثمانينيات، ودور علي العشماوي في تنظيم 1965 م، والدور الذي رسمته المخابرات الجزائرية، ونفذه المنشقون على مجلس شورى الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1991 م، وفشل هذه المؤامرة أمام وعي وصمود إخواننا الدعاة في الجزائر.. وأخيراً وليس آخراً دور عميل المباحث الأمريكية عماد سالم فيما سمي بأحداث نيويورك، وما لم نذكره عن مؤامرات أعداء الإسلام أكثر.

ويتعجب المهتمون بشؤون الدعوة و الجماعات الإسلامية من وصول أسماء معينة إلى أعلى مراكز القيادة في بعض الجماعات [إن لم يكن في كل هذه الجماعات] دون أن يكون لهم أية سابقة في هذه الجماعات، ويأتي الجواب أكثر غرابة من الظاهرة التي أثارت الاستهجان والتعجب.

منهم من يقول: كان لمؤسس الجماعة صلات قوية مع هذا الاسم، وآثر عدم انضمامه إلى الجماعة مع بقاء التزامه سراً من الأسرار، ولا ندري مدى صحة هذا القول لأن القائلين به أصدقاء ومحبون للقائد الجديد، ومن جهة أخرى فمجيئهم به مناورة ذكية للتغلب على منافسيهم في الجماعة، ولا نستطيع التأكد من القائد المؤسس لأن الله قد توفاه، ولكن الذي نعلمه من خلال حديثنا عن الصحابة وطبقاتهم أن هذا الاختيار لا مثيل له.

ومنهم من يقول: المسؤولون وعلية القوم في بلادنا لا يحترمون المجهولين من القادة، وكذلك لا يحترمون الشيوخ [خريجي الكليات والمعاهد الشرعية]، ولابد أن نفرض عليهم احترامنا فنختار مسؤولين من طبقات لا تقل عن طبقاتهم، ويعلمون بعد ذلك أن دعوتنا ليست دعوة "دراويش"، أو أن القائمين عليها لا يفقهون شيئاً في السياسة وواقع العصر وشؤون الحكم... وسوف يستغرب أشد الاستغراب من يقرأ هذه الأسطر ويتساءل: أحقاً هناك من يقول مثل هذا القول؟!.

وجوابنا: نعم كانت هذه العقلية سائدة في الخمسينيات وما قبلها، وسبحان الله كيف تنعكس المفاهيم في حياة عامة المسلمين وكثير من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، وبدلاً من تأسيهم ب الصحابة رضوان عليهم يتأسون بالمترفين، وللمترفين طبقات كما أن للصحابة طبقات، وتتناسب طبقات المترفين مع مقدار ما يملكون من أموال وقرى ومصانع.

وبمناسبة الحديث عن المترفين تحضرني القصة التالية التي لا أستطيع نسيانها: اختارت جماعة إسلامية كبيرة في بلد عربي مهم أحد الإقطاعيين الشباب ليكون نائب مسؤول الجماعة، وقد يقول قائل: وهل يحول الإقطاع الذي ورثه عن أبيه بين الأخ والمهمة التي أنيطت به إذا كان أهلاً لها؟!.

الجواب: لا يمنع الإقطاع هذا الأخ من تولي مسؤولية في الجماعة إذا كان مؤهلاً، ولكن المشكلة أنه ليس مؤهلاً: فهو ليس من رجال الصف الأول أو الثاني في الجماعة، كما أنه ليس من أهل العلم أو الخبرة، فعمره لا يتجاوز نهاية العشرينيات، وكل الذي يملكه الإقطاع وعضويته في هذه الجماعة.

اجتمع مجلس قيادة الجماعة ذات مرة ليناقش مشكلة اشتد فيها الخلاف، ودخل نائب المسؤول في نقاش مع أحد الأعضاء المهذبين، وارتفعت الأصوات، وخيم جو من التوتر على المجتمعين، وتذكر الشاب الإقطاعي أنه لا صوت يعلو على صوته داخل إقطاعيته ولابد أن يعاقب هذا الذي يرفع صوته، فما كان من "الباشا" إلا أن سحب مسدساً كان يخفيه بين ملابسه وصوبه نحو أخيه يريد قتله، فهب الأعضاء مذعورين، وأمسكوا "بالباشا"، وتبع بعضهم الضحية الذي هرب إلى غرفة مجاورة، فهدأت الأمور قليلاً، وتفرق المجتمعون إلى غير رجعة وهم يحمدون الله الذي شملهم بستره، فلو وقعت الجريمة لتعدت خسائر الجماعة المجني والمجني عليه، وامتدت لتشمل القيادة و الجماعة كلها، فالأنشطة والاجتماعات سرية وحكومة البلد تتربص الدوائر بهذه الجماعة وبكل نشاط إسلامي.

وما كانت القيادة التي انفرط عقدها قادرة على إبقاء هذا الحدث سراً من الأسرار، فالأسلوب المتبع في مثل هذه الحالة أن يحشد كل طرف أكبر عدد ممكن من المؤيدين ضد الطرف الآخر، وهذا يقتضي أن يعلم بهذه الفضيحة مئات من أعضاء هذه الجماعة، وتتكشف أمامهم أسرار كثيرة كانت القيادة تحرص على سريتها، ومن هذه الأسرار أعضاء مجلس قيادة الجماعة.

وبعد مدة زمنية قصيرة خرج "الباشا" والعضو الآخر [الذي كان هدفاً لمسدسه] من الجماعة ومن كل عمل جماعي، خرج "الباشا" لأنه أدرك أن العمل الإسلامي الجماعي يختلف عن العقلية التي ألفها وتربى عليها، ولا أدري هل حافظ بعد ذلك على دينه أم فتن؟ لكن اسمه لم يعد يذكر في أجواء الإسلاميين. أما العضو الآخر فقد ألف حياة بعيدة عن العنف والشدة، ويكره الدسائس وحبك المؤامرات، وأدرك أن الأجواء كلها محمومة، وأصبح المسدس ومنظر "الباشا" وهو يحاول إطلاق النار عليه مرتبطاً بأي عمل جماعي فنأى بنفسه عن هذه الأجواء. [55]

لابد لنا بعد هذا الاستطراد من تقرير النتيجة التالية:

لا يؤتمن على تحقيق مناهج الجماعة وأهدافها إلا رجال الصف الأول فيها أو من يليهم، فإذا وصلت هذه الجماعة إلى مرحلة لا تجد فيها الرجل المناسب من المؤسسين أو ممن يليهم في القدم والفضل فالأولى والأفضل أن تلجأ إلى حل نفسها، وتخطط مع غيرها من العلماء والدعاة من أجل تأسيس جماعة جديدة، وعندئذٍ, بوسعهم أن يختاروا لها أي داعية إذا توفرت فيه الشروط الشرعية، أما اختيار رجل من خارج الجماعة لأي سبب من الأسباب فسوف يقود إلى إحدى النتائج التالية:

1- أن يتم اختياره بعد وقوع خلاف بين أهل الشورى، واتفاق الجميع على أن يكون المسؤول من خارج الجماعة، وسوف يُسيّر الجماعة طرف من الأطراف المتصارعة إذا كان المسؤول ضعيفاً، ولا يعرف مواطن الضعف والقوة في الجماعة، وكانت علاقاتهم به قوية، وبينهم وبينه أفكار متشابهة في طريقة العمل الإسلامي، وسوف يشعر الطرف الآخر بالغبن، فينفجر الخلاف مرة أخرى، ويصبح المسؤول الوافد طرفاً من الأطراف المتصارعة.

2- أن يكون الرجل الذي وقع عليه الاختيار قوياً، والجماعة تمر بحالة ضعف [ولولا هذا الضعف لم تقدم على اختيار مسؤول من خارج الجماعة]، فسوف يغيّر ويبدّل، ويجد من يساعده ويشد أزره حتى تتحول هذه الجماعة إلى جماعة تختلف عن الجماعة الأولى حتى في غاياتها وأهدافها، وإذا كان التغيير حسناً فسوف تستفيد منه الجماعة، وإن كان غير ذلك - وهذا هو الغالب - فسوف تجد الجماعة نفسها أمام اختراق خطير يبدد جهدها ونشاطها.

3- إذا كان الرجل الذي وقع عليه الاختيار عالماً مجدداً، فلن يتمكن من تحقيق ما يصبو إليه، لأن مراكز القوى التي جاءت به ستواجهه بمخالفته لأنظمة الجماعة ولوائحها، وقد عاهدهم على احترام وعدم مخالفة هذه الأنظمة واللوائح، وسيجد نفسه أخيراً يزرع في غير أرضه. فإذا أراد القائمون على شؤون الجماعات الإسلامية تحصين صفوفها أمام كل اختراق، فلابد أن يتحرروا من المفاهيم المنحرفة في مجتمعاتهم ويقوّموا أخطاءهم، ويقبلوا بنتائج هذا التقويم ولو كانت قاسية على نفوسهم... وقبل هذا وذاك لابد أن يتأسوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه...


[1] - زاد المعاد (3/574-578).

[2] - مقطع من حديث كعب بن مالك في صحيح البخاري.

[3] - زاد المعاد (3/403)، و في رواية مسلم في صحيحه \" ومن ألقى السلاح فهو آمن\". كتاب الجهاد والسير، فتح مكة.

[4] - سير أعلام النبلاء (1/202)، والاستيعاب لابن عبد البر، أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية وحرف الصاد باب صخر.

[5] - لم أتحدث عن أسباب الخلاف الذي قاد إلى هذه الفضيحة التي ذكرتها ولم أقل إن وجهة نظر \"الباشا\" ليس فيها حق، كان يهمني أسلوب الحوار بين أخوين في أعلى مستويات قيادة الجماعة وذكرت ما أعرفه عن حسن أخلاق العضو المجني عليه ولا أزكي على الله أحدا وليس هذا تأييدا لا في موقفه الأول ولا الثاني