الصبر والعزم في حياة الدعاة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الصبر والعزم في حياة الدعاة


الجمعة,03 أبريل 2015

كفر الشيخ اون لاين | خاص

الحقيقة الساطعة أن الحياة في هذه الأرض محدودة، وأن الآجال موقوتة، والنهاية حتمية، فالكل إلى فناء، يموت الصالحون والطالحون ويموت المجاهدون والقاعدون، ويموت الصابرون والقانطون، ويموت الذين باعوا أنفسهم لله ويموت الذين باعوها للدنيا، ويموت الحريصون على الموت والحريصون على الحياة، ويموت المستعلون بالعقيدة الصحيحة، ويموت المستذلون للمتردية والنطيحة، يموت الشجعان ويموت الجبناء، يموت ذوو الهمم العالية والأهداف السامية، ويموت عُبَّاد القطيفة والخميصة والدرهم والدينار والدنيا الفانية.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)-( آل عمران 185)

الكل سيموت، وستذوق كل نفسٍ جرعة الموت، وسنفارق جميعاً الحياة، والعبرة في المصير الأخير، إمَّا إلى جنَّةٍ وإمَّا إلى نارٍ، والنار تنادينا ونحن في الدنيا نلهو ونلعب، فقد حُفَّت النار بالشهوات، ولها جاذبيتها، تشد إليها أحبابها، كل من يقترب منها ويدخل في مجالها، أليست للنار جاذبية؟، والمعصية طريق النار، أليست للمعصية كذلك جاذبية ؟، أليست النفس التواقة إلى الشهوات في حاجة إلى من يزحزحها عن جاذبية المعصية؟ بلى!!، فالزحزحة عن المعصية هي أصل زحزحتها عن النار.

وما زال فضل الله يدركُنا فيزحزحُنا عن النار، فنهنأ بالفوز الحقيقي في أن ننخلع من جاذبية النار، وبفضل الله وبرحمته نُزَحزَح إلى مجالٍ آخرٍ هو مجال الجنة، (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)، حقاً إنها متاع ، ولكنه متاع الغرور، المتاع الخادع المُنشئ للغرور، فأما المتاع الحق، المتاع المستحق للبذل والتضحية والصبر والاحتمال، فهو الفوز بالجنة والنجاة من النار.

عندما تستقر هذه الحقيقة في النفس، وقد أخرجت من حسابها الحرصَ على الحياة فـ (كل من عليها فانٍ)، وأن الدنيا متاعُها قليلٌ زائلٌ، ويستيقنُ المؤمنون بصدقِ بلاغِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أن النَّار حُفَّت بالشهوات، وأن الجنَّةَ حُفَّت بالمكاره، عندئذٍ يستيقنُ المؤمنون السالكون طريق الجنة من عِظَمِ ما ينتظرهم من بلاءٍ في الأموال والأنفس، وتستعد نفوسهم لهذا البلاء.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران 186)

إنها سنةُ الدعوات، لا بد فيها من بلاءٍ وابتلاءٍ، ولا بد من أذىً في الأموال والأعراض والأنفس، ولا بد لها من صبرٍ ومقاومةٍ وعزمٍ وتضحيةٍ للصمودِ على طريق الجنة المحفوف بالمكاره.

ولقد شاءت عنايةُ الله ورعايتُه أن يربي الإرادةَ في الإنسان، وأن ينبه قوةَ المقاومة فيه، فوضح له الصراع بين الشهوات التي يزينها له الشيطان، والطاعات التي تقربه من جنة الرحمن، فكانت الشهوات على طريق النار هي بمثابة المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة في الشخصية المسلمة، فتحرر النفس من رغائبها وشهواتها، وتحفظ لهذه الروح الإنسانية حريةَ الانطلاقِ عندما تريد، فلا تقعدها الضروراتُ، ولا تستعبدها الرغائبُ، ولا تقهرها الشهوات.

إن الصبر والعزم هو الطريق الأوحد لإنشاء الجماعة التي تحمل دعوة الله، وتنهض بتكاليفها، تتربى عليه وتُخرجُ مِن داخلها طاقاتِ الخيرِ الخلَّاقة، في قوةٍ وصبرٍ واحتمالٍ، لا تحركهم إلا تقوى الله، وعزمٌ أكيدٌ على أن يعيشوا كما عاش رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، يتربوا من نبعه كما ربى صحابته الكرام، يعرفون حقيقة الدنيا وحقيقة الناس وحقيقة الحياة، كما أمرهم الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ويمارسون التكاليف العملية للدعوة في سبيل الله، يدعون الناس إلى الخير ويقودونهم إليه، ولا يتعالون على الناس ولا يتطاولون عليهم باسم قيادتهم إلى الخير، أعمالهم كلها طاعة لله، واستسلام لأمره عن طمأنينة وثقة، واستقامة للقلوب والجوارح عن إيمانٍ بالله راسخ, وطهارة للضمير لا تلوثها مطامع، عزمٌ وجدٌ وصدقٌ في جهادهم، صدقوا الله فصدقهم، وربط على قلوبهم, وشد من عزائمهم, وثبت أقدامَهم, ويسر أمورَهم, فهانت في عيونهم الأخطارُ، وتصاغرت في أعينهم كتائب الفجارِ، ورددوا في ثباتٍ ويقينٍ:

سـنرجـعُ يومــاً إلى ربنِا فيحكـمُ فـي مـا جـرى بيننا

فإما نعيــمٌ وفضــلٌ مقيـمٌ وإما شقـــاءٌ يُزيــلُ الهـــنا

هناك سُتعرض كل الفعالِ ويُعلمُ مَن جارَ ومَن أحسنَ

بميزانِ عدلٍ سيجري الحسابُ ويومَ الحسابِ شديدُ العَنا

فواصل طريقك حتى الجنانِ وتدرك بـالله كل المــنى

فعاجلُ بُشراك خـيرٌ تراه ورأسُ الأمـور رضا ربنا

ولا يثبت على هذا الطريق إلا أصحاب الهمم العالية، الأصلب عوداً، والأصلح قلوباً، والأصبر على تحمل عقباتِ الطريق، فهم وحدهم المؤتمنون عليها، يصلب مع صلابتهم وصلاحهم عود الدعوة.

وأصحاب الدعوات يستبشرون بالابتلاء والشدة، يستبشرون عندما تعلو من حولهم أصوات الباطل في الإعلام الفاجر الماجن، حين تعوي من حولهم بالدعايات الكاذبة، والشائعات المغرضة، والإعلانات مدفوعة الأجور الملوثة، والضيوف بائعة الضمير والأعراض بالأعراض الزائلة، هذه الأصوات صاحبة الألسنة الحداد، تجتمع على أهل الخير أينما كانوا في منظومةٍ مُحكمةٍ مدعومةٍ للفساد والإفساد، تشوه أهدافهم، وتلوث مقاصدهم، وتطعن في عقيدتهم، وتشكك في نياتهم، وتهون من قدرهم، وتطعن في أعراضهم وأغراضهم، بكل وسائل الدعاية الحديثة والحثيثة، لتمزق أوصال الدعوة والدعاة.

يستبشر أصحاب الدعوات حين تتجمع عليهم وسائل الكيد والفتنة من كل حدبٍ وصوبٍ، تنجلي بذلك أبصارُهم، وتتجمع بالشدة جهودُهم، وتتنقح أفكارُهم، وتزداد وضوحاً طبيعةُ الدعوة وطبيعة طريقها في قلوبهم، وطبيعةُ أعدائهاالمتربصين لها ودوامُ كيدهم.

عندما يرى أصحاب الدعوات الابتلاءَ والأذى والفتنةَ، والادعاءَ بالباطلِ عليهم، وإسماعهم ما يكرهون، وعندما يمدون أيديهم بالإحسان إلى الناس (كل الناس)، فتمتد إليهم يدُ الإثم بالإساءةِ بما يطيقون وما لا يطيقون، فإنهم بهذا كله يستبشرون، لأنهم يستيقنون أنهم على الطريق التي وصفها لهم اللهُ من قبل، فيتخذون من الصبر والتقوى زاداً لا ينفد، وتُبَثُّ في قلوبِهم طمأنينةٌ لا تنقشع، وأملاً لا ينقطع بأن الفجرَ قد اقترب، فلا يبالي أصحابُ الدعواتِ بكثرةِ الذئابِ من حولهم، ويصغُرُ الابتلاءُ والكيدُ والأذى عندهم، ويمضون في طريق دعوتهم في صبرٍ جميلٍ، وعزمٍ أكيدٍ لا يتطرق إليه ضعفٌ.

فمقاومة الطغاة والظالمين، والوقوف في وجه الطامعين، والصبر على الأذى في كل حين، تستثير في نفس أصحاب الدعوات القوى الكامنة، وتنمِّيها وتجمَّعها وتوجِّهها، وبقدر ما يصيب أصحاب الدعوة في سبيلها من ضيمٍ وعنتٍ وبلاءٍ، وبقدر ما يتحملون من جهدٍ ونصبٍ ومخمصةٍ، وبقدر ما يُضَحون في سبيلها من غالٍ ونفيسٍ، بقدر ما تَعِزُّ هذه الدعوة عليهم، وتعلو في ناظرهم، وتغلو في قلوبهم، فلا يفرطوا فيها مهما كانت التحديات والأحوال.

وما نحن فيه في هذه الأيام، واجتماع الباطلُ بكل طوائفِه وطرائقِه وزوائدِه الأخطبوطيةِ ووسائله الشيطانية، على الدعوة والدعاة، يجعل أصحابَ الدعوة بحاجةٍ ماسةٍ لاستثارة القوى الدافعة الكامنة، القوى اللامحدودة للخير الكثير في هذه الأنفس المطمئنة، ويجعلهم في أشد الحاجة لأن تتأصل جذورُ هذا الخير وتتعمق، لتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة، لتتصل بالدعاة الأوائل من خيرةِ الخلقِ، كيف صبروا وكيف تحمَّلوا وكيف تعاملوا وكيف أحسنوا.

إن الاتصالَ بالنبعِ الصافي لرسلِ الله وأنبيائه في دعوتهم إلى الله، يجعلُ أصحابَ الدعواتِ يعرفون حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون حياتهم وجهادهم مزاولةً عمليةً واقعيةً، يعرفون من خلالها حقيقة النفس البشرية وخباياها، وحقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تتصارع مبادئُ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، كيف يُزيِّنُ للبعض سوءَ العمل فيراه حسناً، وكيف يَخدع البعضَ بزيفٍ فيظنه الحقيقة وهو سرابٌ ،وكيف يُلبِّسُ على البعض الحقَّ بالباطل فيقاتلون في سبيل الباطل بدافعية، ويبذلون الجهد والمال والدم رخيصاً في نصرة الباطل وجنده.

لقد سار أصحاب الدعوة في يومنا هذا كما سار أسلافهم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي رسمه لهم الله ورسوله، فلم يتخاذلوا، ولم يتراجعوا، ولم ينكصوا على أعقابهم، لقد علموا أن الآجال محدودة، والأنفاس معدودة، والأرزاق مقسومة، وأن متاع الدنيا زائل، وأن توفية الأجور يوم القيامة، فإما إلى جنةٍ وإما إلى نارٍ، الفوز الحقيقي أن تُزحزح عن النار لتدخل الجنة، وهم يعرفون مزالق الطريق، فيحسنون مواضع أقدامهم فيتجنبون الخطر ويتفادون الحفر ويتغلبون على العقبات، الأرض أمامهم صلبة مكشوفة، وطريقهم واضحٌ لا ينخدعون في أي ضوءٍ شاردٍ مهما تلألأ بريقه في الطرق المعوجة من حولهم.

والطريق الواضح المكشوف القاصد الواصل باقٍ لكل أصحاب الدعوات في كل زمانٍ ومكانٍ يراه كل إنسان، وما يزال أعداء الدعوة هم أعداؤها في كل زمانٍ ومكانٍ، يتبدل الناس وتمر السنون والقرون، ومازالوا في ريبهم يترددون، وفي كيدهم ماضون، قد تختلف وسائل الابتلاء ودرجات الإيذاء في المقومات والأهداف، وفي الأغراض والأعراض، وقد تختلف أدوات الفتنة باختلاف الزمان أو المكان، وقد تختلف وسائل الدعاية المضادة لأصحاب الدعوات، ولكن سنة الدعوات في الإيذاء ماضية والقاعدة واحدة.

وإن مشقة هذا الطريق الطويل في الدعوة، وما يحوطها من مكاره تحتاج إلى لمسة حنانٍ من الرحمن صاحب هذه الدعوة يواسي بها الدعاة كما واسى الداعي الأول: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (الاحقاف(35 ، فإن صعوبة الطريق تحتاج إلى صبرٍ ليس كأي صبرٍ، صبرٌ يليق بكرامة الدعوة وصاحبها ، صبرٌ وعزمٌ كصبرِ أولي العزم من الرسل، لا يُستعجَلُ فيه قطفُ الثمار، فالطريق شاقٌ ومريرٌ يحتاج إلى تجردٍ وانقطاعٍ للدعوة , يحتاج إلى ثباتٍ وصلابةٍ، يحتاج إلى توجيهٍ ربانيٍ بالصبر وعدم الاستعجال، يحتاج إلى تأسيةٍ وتسليةٍ وتشجيعٍ على الصبر وتطمينٍ بقرب بزوغ الفجر، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا ِإلاّ سَاعَةً مِن نهارٍ بلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ القَوْمُ الفاسِقُون ) (الأحقاف 35)، ساعةٌ من نهارٍ، هي كل الحياة الخاطفة التافهة، ثم نلاقي جميعاً المصير المحتوم، الأبد الذي يدوم، وما الفوز والنصر إلا صبر ساعة، فليصبر الداعية على ما يلقاه، ليحصد ما يتمناه.

إن الصبر والعزم في حياة أصحاب الدعوة، وتضحياتهم في سبيل دعوتهم، وإعلائهم لفكرتهم على رغائبهم، وتقديمهم المجتمع والناس على بيوتهم ومصالحهم، وتحملهم الأذى، وجميل صبرهم على ما فيها من مشقة، ومحافظتهم في صراعهم المرير على تقوى الله ورضاه، فلا شطط في ردِّ الإعتداء، ولا الإساءة لمن أساء، وتصدقهم بآلامهم وأعراضهم على من خاض فيها من الدهماء والأشقياء على السواء، وأملهم في الله ورحمته التي لا تنقطع مهما اشتدت بهم المحن وتجمعت عليهم الأنواء، وأيديهم المنبسطة دائماً بالخير لكل الناس، حتى لمن امتدت أيديهم إليهم بالإساءة وطالت عليهم ألسنتهم بالبهتان والبغاء، كل ذلك يُشعر المعارضين لدعوتهم في النهاية أنَّه لا بدَّ أن في هذه الدعوة من خيرٍ لا يشعروه، ولا بدَّ فيها من سرٍّ لا يفهموه، يجعل أصحابها يتحملون الأذى وهم صامدون، وبنعمة الله يستبشرون، فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إلى صفها يوماً من الأيام طائعون.

(ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً)، وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اقتدى بسنته واقتفى أثره واتبع هداه إلى يوم الدين.

دكتور/ الغباشي الشرنوبي العطوي.. إبريل 2013 ghobashyelatawy@yahoo.com..

المصدر