الحاج محمد نجيب راغب ( يتحدث عن الشهيد محمود عبداللطيف )
الأخ محمود عبداللطيف كان عضوًا في أسرتي؛ وكنا معًا.. حياتنا كلها كانت مع بعض؛ وقد تطوعنا معًا في حرب فلسطين؛ ولكن كنت أصغر منه بكثير؛ كُنَا في أواخر عام 1947 فكان عمري حينها 17 سنةً وكان عمره 23 سنة؛ فقبلوه ورجعت أنا؛ وأنا عائد قال لي: (وصيهم في البيت وخلي بالك دائمًا منهم واسأل عليهم وقل لهم إني الحمد لله أتقبلت)؛ فذهبت للبيت وناديت على زوجته وقلت لها: (محمد قبلوه)، فسألتني (من أنت)؟ قلت لها: (أنا نجيب)، قالت لي: "يا نجيب معقول لو دا عندكم أنتم كنت تسيب عيالك وتروح تجاهد في سبيل الله"، قلت لها: لا حتى لا أضايقها، ولم تكن تعرف بعد أنني من الإخوان.
لكن هو حارب في فلسطين وكان له دور كبير جدًّا ووقع في الأسر وبعد الإفراج عنه عاد إلى وضعه وعاد إلى جنديته وشعبته وعشنا معًا حياةً طويلةً؛ وله مواقف لا تنتهي وأذكر أنه تغيب يومًا عن لقاء الأسرة وكان عهدنا به أنه لا يغيب أبدًا فقلت للإخوة: "تلاقوا والده مريض وذهب به للدكتور"، فذهبنا له للاطمئنان عليه ووجدناه يستبدل ملابسه وقال لنا: (أنا لسه جاي من عند الدكتور كنت مع الوالد وهو الحمد لله كويس)، وهو يعلم أننا نذهب للأخ الغائب حتي نطمئن عليه (يعني هيكون فيها شاي.. بسكوته.. بقسماطة.. حاجة من الحاجات الخفيفة بتاعة زمان)؛ وكان أهله لسه خابزين في البيت؛ فقتلت له: (الحمد لله إننا اطمئنانا عليك وطمئنانا على العيش والفرن والحاجات اللي رائحتها حلوة دي)، فقال لنا: (طيب اقعدوا)، ودخل وأحضر لكل منا: (نصف رغيف) وكانت تسمى حينئذٍ (بالشقة)، وكانت ضخمةً ثم ذهب إلى داخل المنزل وظل فترة ثم رجع إلينا ومعه (سلطانية عسل)، ووضعه أمامنا؛ وقال: (ما تاكلوا)، قلنا له: (إحنا أكلنا العيش (حاف) من ساعتها؛ كنت قلت إنك هتيجب عسل) فقال لي: (طيب ولا تزعلوا؛ هجيب لكل واحد كمان شقة)، ولكنه هذه المرة أخذ العسل معاه.
وقد عشت معه وكنت معه في فصيلته وكنت معه قبل الحادث وبعده؛ وله مواقف لا تنتهي؛ وكما قلت: إنه لم يذهب إلى المنشية وأُمسك به في القطار في محطة الإسكندرية؛ وهو رجل عظيم وأفضل ما أعجبني جدًّا في آخرته؛ عندما سألت زوجته عن آخر مرة زاروه فيها قبل استشهاده، فقالت: ذهبت أنا وأخته وأمه وأولاده وعندما رأى حنفي- أصغر الأبناء-؛ أباه وكان قد مضى على اعتقاله شهرين، وصدر في حقه حكم الإعدام ارتمى في أحضانه، وأخذ يقبله ومحمود يضحك مع ابنه؛ فسألتها: ألم يتأثر أبدًا؟ فقالت لي زوجته: (لم يتأثر أبدًا)؛ وعندما رأى أمه تبكي غضب منها وقال لها: (يا أمي أنا شهيد؛ لك ِأن تفخري أني مظلوم وشهيد لله رب العالمين؛ لك أن تفرحي وكل يوم يموت الناس ولكن الحمد لله أنني سأموت شهيدًا؛ أموت حيًّا وألقى الله)، وكان موقفًا عظيمًا، وقال لهم: (إن شاء الله سيحفظكم الله من أجلي).