البنا والهضيبي.. وأخلاقيات النقد والحوار 7
أ.د/جابر قميحة
مقدمة
مضطر أنا - باختياري - أن أقطع سياقة الترسل, لأقف لحظات مع رسالة تلقيتها يوم السبت 6/3/2004 من الأستاذ هاني سليمان المحامي بالقاهرة, يهمني منها في هذا المقام عتابه لي - بأسلوب مهذب - جاء علي هيئة سؤال نصه «ألا تري أنك قسوت علي الأستاذ أحمد منصور إذ اتهمته - بلا دليل - أنه مع ضيوفه يكيل بمكيالين ؟ وإذا كان العدل يتطلب منه أن يكيل بمكيال واحد, فإن العدل يتطلب منك أيضًا أن تقدم الدليل أو الأدلة علي أنه يكيل بمكيالين».
نعم يكيل بمكيالين
ويظهر أن الأستاذ هاني لم يقرأ مقالاتي كلها, كما أني للحق حاولت ألا أسوق من الأدلة ما هو صارخ, يتفجر إحراجًا, ولكني - حتي أبرئ نفسي - أعرض - في إيجاز شديد - لواقعتين, لا يستطيع أحد أن ينكرهما: الأولي ما حدث بينه وبين رامي لكح, عندما نهض وهاج. قال له أحمد: " احترم نفسك, واحترم الكرسي الذي تجلس عليه.. فمن قبلك جلس عليه أمراء ووزراء ورؤساء دول."
وكلمات أحمد لا يقبلها أي عاقل.. وأي مهذب ، فالرجل مهما أخطأ هو ضيفك .. ثم إن الكرسي.. كرسي.. جلس عليه فقير أو أمير أو لص, أو أمير, فالعبرة بالإنسان لا المكان, وأنت ابن قسم اللغة العربية بجامعة المنصورة تحفظ قطعًا قول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي
- كن حب من سكن الديارا
ولعل الانبهار بالأمراء والوزراء والرؤساء يفسر ظرف السيد أحمد منصور, ولطفه, وتظرفه, وابتساماته الواسعة في حواره مع الرئيس اليمني عبد الله صالح . وقد نري - يا أحمد - أن هذا من حقك. ولكن الذي لا حق لك فيه أن تتحول - في هذا اللقاء - إلي الغش, والضحك علي الجماهير, وخداعها, إذ رأيناك تفتح باب المداخلات, فدخل هاتفيًا «ملحم كرم» الصحفي اللبناني المشهور, وفتحت صدرك له, وهو يقرع أسماعنا بسيمفونية مدح متطرف للرئيس علي صالح: فهو رائد العدل....والديمقراطية ..والوحدة... و... وبعد أن عزف ما فيه الكفاية خاطبته أنت قائلاً: من فضلك .. قول سؤالك.
فرد عليك قائلاً: لا... نحن لم نتفق علي هذا يا أستاذ أحمد, فاتركني أتكلم...
وتركته - يا «أخ» أحمد - يكمل سيمفونيته النفاقية الخاصة بالمدائح المسرفة التي لا مكان لمضمونها في الواقع. وهذا يعني:
1- حدوث اتفاق بينك وبين ملحم كرم علي المداخلة قبل إذاعة الحلقة. مع التظاهر أمام الجمهور بأن اتصاله الهاتفي جاء مفاجئًا. وليس عندك مجرد علم بأنه سيتصل بك.
2- أن الاتفاق كان أيضًا علي مضمون الكلام بالتفصيل ،وتمت «بروفة» قبل لقائك مع الرئيس اليمني. فإذا لم يتم الاتفاق بينكما علي «المضمون» فقد تم - علي الأقل - علي ما لن يكون في المضمون من نقد أو إبراز مآخذ علي الرئيس.
إنه - للأسف - خداع.. وغش. ألا ما أصدقك يا رسول الله إذ قلت «من غشنا فليس منا».
وقد رأيت يا أستاذ هاني سليمان الأدب الجم الأصيل الذي تحدث به الأستاذ فريد مع أحمد منصور. لا كما فعل معه السيد حسين الشافعي الذي «شخط» في وجه أحمد قائلاً «بطّل بقي لت وعجن» عندما سأله عن «محكمة الشعب» ومدي ما فيها من عدالة!!
حكاية مظاهرة عابدين
كان الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني - رحمه الله - حريصًا علي سلامة الإخوان, وسلامة المصريين, وسلامة مصر واستقرارها, متفاديًا الاصطدام بالقوة الحاكمة المستبدة وعلي رأسها عبد الناصر. لذلك قال لحسن عشماوي وهو متوجه للقاء عبد الناصر في 15/5/1953 «قل لعبد الناصر نحن مستعدون أن نسلمه مفتاح المركز العام (أي ننهي وجودنا كجماعة), ولا تراق نقطة دم واحدة من أي مصري, إذا كان في ذلك خير للشعب». وهذا ما سمعته في لقاء لي مع الأستاذ فريد عبد الخالق. ونقل حسن عشماوي هذه الرسالة لعبد الناصر فكان جوابه: يعني إيه الإخوان دول 30% مثلاً.. أنا مستعد أضحي بهم في سبيل إنقاذ 70% من الشعب."
ولم يبالغ الأستاذ فريد عبد الخالق حينما قال «لقد ثبت أن الأستاذ الهضيبي في سياسته ومواقفه من الثورة أذكانا, وأبعدنا نظرًا, وأصدقنا حكمًا وشفافية ".
وأخلص من ذلك إلي رؤيتي الميدانية للمظاهرة التي قام بها الإخوان , وتجمعت داخل سور قصر عابدين وخارجه, وبلغ عدد المتظاهرين مائة وخمسين ألفًا تقريبًا في 28/2/1954, خطب فيهم محمد نجيب, وطلب منهم الانصراف فلم يستجيبوا للأمر, فاستعان بالأستاذ عبد القادر عودة, فصرف المظاهرة في دقيقة واحدة.
وبالنظر إلي هذه المظاهرة يأخذ أحمد منصور علي الإخوان وقيادتهم ما يأتي:
1- أن هذه المظاهرة تأخرت في توقيتها, وكان يجب أن تقوم قبل ذلك, أو في البداية علي حد قوله.
2- أن المظاهرة - بهذا الحجم الضخم - كان يجب أن تخرج إلي شوارع القاهرة, فتنضم إليها آلاف أخري, وبهذه الحركة السلمية يتحقق الحكم الشعبي الديمقراطي, وينسحب الضباط إلي الثكنات. ولن تحدث مصادمات, أو إراقة دم.
يا أخ أحمد.. أنت تحكم علي التاريخ «بالحتة» ..الحتة المعزولة عن سياقها, وما يحيط بها من ظروف, وطبيعة النطاق الذي يمكن أن تتحرك فيه. فهذه المظاهرة كانت «ضرورة» في وقتها لأسباب لا يتسع المجال لشرحها. ولا يمكن أن تكون في بداية الثورة » إذ كان الناس ينظرون للضباط كمنقذين للأمة من ظلم فاروق وفساد الحكم.
وبالنسبة للمأخذ الثاني أقول: «قلبك أبيض يا أحمد» إذ قطعت بأن المظاهرة لو واصلت السير لحققت أهداف الشعب, ولن تراق نقطة دم, ولن تحدث مذبحة كما قال الأستاذ فريد.
وأقول: بل كانت ستحدث مذابح يروح ضحيتها الآلاف لا المئات, فقد كان عبد الناصر مازال ممسكًا بكل المقاليد, والنفوذ الأول والأقوي له لا لنجيب. وكنت ستجد رجال عبد الناصر يحرقون سيارات ويدمرون محلات وسينمات, ويلصق ذلك ب الإخوان, وتعمل المدافع الرشاشة, ويسقط ألوف القتلي, ويُعتقل عشرات الألوف, لأن الجيش سيعتبر المظاهرة تحديًا له, ومحاولة لتحجيمه.
وإليكم الدليل...
ولم أقل ذلك من فراغ, فقد تعرضنا - ونحن في طريقنا إلي عابدين - لمذبحة «ناصرية» سقط فيها قتلي وجرحي, وخلاصة ما حدث أننا - تنفيذًا لأمر القيادة الإخوانية - تجمعنا في جامعة القاهرة في الصباح الباكر يوم 28/2/1954. ثم تحركنا وانضم إلينا طلاب المدرسة السعيدية وخرجنا من الجامعة قاصدين الانضمام إلي التجمع الرئيسي في عابدين. لم يكن كوبري الجامعة قد بُني بعد, فسرنا إلي كوبري قصر النيل سالكين شارع «مراد». لم يكن هناك هتاف واحد للمظاهرة لضخامتها, فقد قُدر عدد المتظاهرين بستة وثلاثين ألفًا.. في «كراديس» أي مجموعات متجاورة بهتافات متعددة ذات مضمون أساسي واحد منها: إلي الثكنات إلي الثكنات - إلي الثكنات رجال الجيش» - «انتصر الشعب فجاء نجيب» - «الحرية.. الحرية يا أعداء الإنسانية» .. إلخ, وكان للتجمع السوداني تميز واضح.
ووصلنا إلي كوبري قصر النيل وقطعناه إلي بدايته من ناحية التحرير, كنت في طليعة المظاهرة, وكان معي الإخوان: أمين منصور عميش, و أحمد عامر الزيني رحمه الله. وكان قائد الطليعة بهتافاته القوية الأخ حلمي حنفي (من المعادي). نظرنا فرأينا الكوبري قد سُد بالجنود موجهين «السونكيات» إلينا, ورأيت وراءهم عددًا آخر يرقدون علي الأرض وأمامهم مدافع «البرن» وأصابعهم علي «الزناد» .. ترسانة حربية في وضع الاستعداد وكلهم في عدة كاملة...
زاد الضغط علينا من الخلف لأن الإخوان لا يرون ما نراه.. حتي أصبحت السونكيات ملاصقة لصدورنا وبطوننا. كل ذلك رأيناه, ولآخر لحظة كنت أعتقد أن ذلك لن يتعدي التهديد النظري. إلي أن رأيت الضابط الكبير يصيح مشيرًا بيده: «اضرب» ..بدأت المجررة: سقط من إخواننا شهيدان.. وجرح عشرات.. وتفرقت المظاهرة.. جرينا ناحية اليمين , ودخلنا دهليز فندق «سميراميس». كنا قرابة عشرين أذكر منهم الأخ عبد المنعم الشيخ (ابن دماص - ميت غمر وزميلنا في دار العلوم).. وخشينا أن يتبعنا الجنود ويقضوا علينا ... صعدنا إلي أعلي حيث المدخل الرئيسي واتفقنا علي الخروج واحدا.. واحدا ، واثنين اثنين...
خرجت أنا والأخ عبد المنعم .. ورأينا أمام الكوبري بركة من الدم.. سرنا في الكوبري, واتجهنا إلي شاطئ النيل أمام حديقة الأندلس, وركبنا «القوارب» إلي الشاطئ الآخر بعيدًا عن تجمع الجنود, وسرنا علي الأقدام إلي قصر عابدين, حيث تجمع المظاهرة ...من قرابة مائة وخمسين ألفًا.. منهم عشرات ألوف يرفعون المصاحف, وقرابة عشرة أفراد يرفعون مناديل مضرجة بدماء ضحايا مجزرة كوبري قصر النيل, وسمعنا ضمن الهتافات «دماء الجامعة يا نجيب».. كان محمد نجيب يقف في الشرفة, وكان عبد القادر عودة - رحمه الله - يقف تحت الشرفة مع مجموعة من الإخوان, ولم يرفع منديلاً مضرجًا بالدم كما ذكر حسين الشافعي الذي استشهد به أحمد منصور, بل كان الإخوة الذين يرفعون المناديل بعيدين عنه, لأنهم وصلوا متأخرين.
خطب محمد نجيب وكان بجانبه خالد محيي الدين أو شخص يشبهه بالحلة العسكرية (والكاب الأحمر). قال نجيب ضمن ما قال «أما الذين أساءوا إليّ فقد عفوت عنهم وستتكون جمعية تأسيسية لوضع دستور, وإقرار نظام نيابي حر». وفجأة رأيت الأستاذ عودة بجانبه وقال ضمن ما قال «إن الإخوان المسلمين يؤيدون محمد نجيب, ويقفون في صف الحرية والديمقراطية...». وكان نجيب, قد حاول صرف المتظاهرين, فلم يستجب أحد. فرفع الأستاذ عودة يده مشيرًا بها قائلاً: «والآن انصرفوا دون هتاف..».. سبحان الله .. إنهم جنود ملتزمون.. وهذا سر نجاح هذه الجماعة المباركة... دقائق تعد علي أصابع اليد الواحدة.. وكأن الأرض قد ابتلعت هذه الكتل البشرية..
وأنا منصرف نظرت إلي الأخ حسن عبد الغفور الذي كان يسبقنا بعام أو عامين في دار العلوم.. رأيت دموعًا في عينيه...
- ما هذا يا أخ حسن .. إنه يوم الفرحة الكبري... عاد محمد نجيب. وأثبت الأستاذ عبد القادر أن دعوتنا: قيادة وجندية, فعلام تبكي إذن ؟
- أبكي علي الأستاذ عبد القادر عودة... لقد حكم علي نفسه بالإعدام.. من دقائق.
وصدق حدس الأخ الحبيب.
فعلي أي أساس يري الأخ أحمد منصور أن المظاهرة كان يجب أن تواصل السير... مؤكدًا أنها ستكون سلمية. وستسلم من أي «خدش» يصيبها؟! وللحديثة صلة.
المصدر:رابطة أدباء الشام