الإمامان المجددان "المودودي" و"البنا" (2/ 4)
دراسة أعدها المستشار/ "محمد المأمون الهضيبي" المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
مقدمة
آثرا العمل الجماعي على الفردي ...::... وتوجَّها بالخطاب للجماهير البسيطة.
تشابهت مراحل العمل في جماعتيهما...::... وأكدا مرجعية القرآن والسنة.
حددا مراتب العمل في إصلاح النفس ...::... والبيت والمجتمع والحكومة والعالم.
حذرا من التعجل واستبطاء النصر ...::... وعُنيا بالتربية عنايةً كبيرةً.
تناولنا في الحلقة الماضية كيف تعددت أوجه الشبه بين الإمامين "أبو الأعلى المودودي" و"حسن البنا"- رحمهما الله- وكيف تعددت أوجه الشبه بينهما، ونشآ في بيت علم وفضل، وكان لوالديهما أثر كبير في توجيههما الوجهة الإسلامية، وكيف تركت التربية الإسلامية آثارها العميقة في تزكية نفسيهما كذلك، وشاركا في النشاط السياسي منذ وقت مبكر من حياتهما.
وفي هذه الحلقة نتناول كيف آثرا العمل الجماعي على الجهد الفردي، وتوجها بالخطاب للجماهير البسيطة، وشاركا في العمل العام، من خلال إنشاء أكبر جماعتين إسلاميتين في بلديهما، وتحديد أهدافهما، ومراحل العمل بهما.
لقد اتفقت رؤى الإمامين في أن الإصلاح الذي ينشدانه لن يكون السبيل إليه عملاً فرديًّا أو جهدًا شخصيًّا، كما اتفقت رؤيتهما في أن العمل الجماعي للإصلاح لا يمكن أن يستهدف فقط النخبة أو الصفوة من المسلمين، بل لا بد أن يكون عملاً شعبيًا يُخاطب جماهير الأمة بغير استثناء، ويتواصل مع جميع طوائفها من الصفوة والعامة معًا، إذ إن القصد الحقيقي للعمل الإسلامي هو تعبيد الناس كلهم لله، والنجاة من النار، والفوز بالجنة، والخطاب
الإلهي للناس لم يختص بجماعة منهم دون الآخرين، وهل "تنصرون إلا بضعفائكم"؟! كما أن محاولات الإصلاح السابقة التي قامت على أكتاف بعض الزعماء والمصلحين وجهودهما الفردية، أو استهدفت جماعة من صفوة الأتباع، لم تحقق المراد منها، وقد انتهت بموت هؤلاء الزعماء أو غيابهم عن ساحة العمل، ومحاصرة الصفوة المختارة حتى تتآكل بمرور الزمن، وقسوة الواقع الثقيل.
لقد كانت الأمثلة على ذلك واضحة في الهند ومصر على السواء.. ومن هنا أدرك "البنا" و"المودودي"- كل في ساحته، وعلى غير التقاء بينهما أو تواصل- أن السبيل هو تكوين جماعة ربانية مجاهدة، تحمل الإسلام كله، وتدعو إليه، وتُربي الناس عليه، وتُضحي من أجله بالغالي والنفيس.
إنشاء الإخوان بمصر والجماعة بباكستان:
الإمام الشهيد/ حسن البنا
كان الإمام "البنا" هو الأسبق للأخذ بذلك، فبعد تخرجه في دار العلوم أسس في الإسماعيلية جماعة الإخوان المسلمين سنة 1347هـ/ 1928م، أي قبل تأسيس "المودودي" الجماعة الإسلامية بنحو ثلاثة عشر عامًا، ولما انتشرت جماعته في شتى أرجاء مصر، وبعض الأقطار خارجها، عاد الإمام "البنا" فذكرهم أن سنن الله في الدعوات الصادقة أن تُمتحن وتبتلى، ليميز الله الخبيث من الطيب، وشرح ما قد يعترضهم من عقبات وصعاب، منها جهل كثير من المسلمين بحقيقة دعوتهم، واستغراب بعض العلماء المقلدين فهمهم للإسلام، وحقد الرؤساء والزعماء، وعداء الغاصبين والحكومات، وأخبرهم بأنهم حين يواجهون ذلك كله يكونون قد بدأوا يسلكون "سبيل أصحاب الدعوات".
وقال : "وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، وتعتقلون وتشردون، وتُصادر مصالُحكم، وتُعطل أعمالُكم، وتُفتش بُيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان... ولكن اللَّهَ وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين".
(مجموعة الرسائل، رسالة بين الأمس واليوم، دار الدعوة بالإسكندرية سنة 2002م).
لإمام/ أبو الأعلى المودودي
أما الإمام "المودودي" فقد عبَّر عن إيمانه بضرورة وجود جماعة مؤمنة مجاهدة، تكون أداة للتغيير، بقوله: "إن نظام الاستخلاف في الأرض لا يمكن أن يتغير ويتبدل بمجرد وجود فرد صالح، أو أفراد صالحين مشتتين في الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم من أولياء الله تعالى، بل ومن أنبيائه ورسله، إن الله تعالى لم يقطع ما قطع من المواعيد لأفراد متفرقين مشتتين، وإنما قطعها لجماعة منسقة متمتعة بحسن الإدارة والنظام... بل إن مما لا مندوحة عنه لهذه الفئة المؤلفة أن تستمر في المكافحة والمناضلة لقوى الكفر والفسق على كل خطوة، من كل حلبة من حلبات الحياة الدنيا، وتثبت ما في نفسها من حب للحق، وكفاءة للاضطلاع بأعباء إمامة الأرض، ببذل التضحيات والمساعي في سبيل إقامة الحق، وذلك شرط لم يُسثن منه حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فأنى لأحد اليوم أن يتمنى على ربه أن يستثيه منه".
(الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية).
أما تصور المودودي لمواصفات هذه الجماعة المجاهدة فقد ذكر منها التدفق والهيمنة التي تكافئ ما تواجهه من تحديات، فقال: "لا بد أن تكون الحركة التي تقوم لإعلاء كلمة الإسلام، وجعل نظامه غالبًا في الأرض، متدفقة تدفق السيل، كما جاءت إلينا الحضارة الغربية كسيل جارف، واستولت على كل شعبة من شعب حياتنا، فإنه لا يمكن أن تُزحزح الحضارة الغربية عن مكانها، وتُنحى عن منصب الغلبة والهيمنة الذي تبوأته إلا بهذا التدفق والهيمنة".
(واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم- ، ترجمة "محمد عاصم الحداد"، طبعة بيروت سنة 1975م).
ولما وجه "المودودي" نداءه على صفحات مجلته "ترجمان القرآن"؛ يدعو المخلصين من مسلمي الهند إلى التجمع لتأسيس هذه الجماعة الإسلامية قال: "لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء، سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب، والمصادرة وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والعطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار، وتقدم كل ما تملك قُربانًا في سبيل إقامة مجتمع الإسلام ونظامه" (ترجمان القرآن، إبريل 1941م، عن "أحمد إدريس": أبو الأعلى المودودي، صفحات من حياته وجهاده ص 46).
وقال بعد أن اُنتخب أميرًا للجماعة الإسلامية عقب تأسيسها سنة 1360هـ/ 1941م: "إن هذه الحركة هي هدف حياتي الأساسي، حياتي ومماتي وقف على هذا الهدف النبيل، وعلى كل حال فقد وضعت نفسي على بداية الطريق، وسوف أهب الروح في سبيل الوصول إلى النهاية، سوف أسير قدمًا حتى لو لم يتقدم معي أحد، وسوف أسير وحيدًا إذا لم يرافقني أحد، ولو اتحدت الدنيا أجمع وخالفتني فلن أتورع، ولن أخشى خوض المعركة وحيدًا منفردًا".
(د. سمير عبدالحميد إبراهيم: أبو الأعلى المودودي، فكره ودعوته ، دار الأنصار بالقاهرة سنة 1979م).
التعرض للسجن والابتلاء:
كان الإمامان الجليلان في مقدمة الأصحاب الكرام تضحية وبذلاً، وقدوة ومثلاً.
فقد سجن "المودودي" مرارًا، وحُكِمَ عليه بالإعدام في إحدى هذه المرات، ثم خفف إلى الحكم بالسجن فمكث فيه ثلاث سنين (1952م- 1955م)، ولما خرج من سجنه قال للجماهير المحتشدة لتهنئته: "أيها السادة الأعزاء؛ إن ما ذكرتموه عن سجني لم يكن شيئًا غير متوقع، فالحق أنني منذ وضعت أول قدم لي على هذا الطريق قبل اثنين وعشرين عامًا وأنا أعرف مراحل الابتلاء والامتحان التي سوف نمر بها، ونحن نسير على هذا الطريق، والتاريخ يحكي لنا أن هذا هو ما يحدث عادةً، وما سوف يحدث مستقبلاً".
وكان- رحمه الله- شامخًا شموخ الإيمان لما حاولوا ذات مرة اغتياله؛ وأطلقوا النار على المنصة، وهو واقف يخطب في الناس، فنصحه أحد إخوانه بالجلوس كيلا يصيبه الرصاص المنهمر، فقال "المودودي": "ومن يقف إن جلست أنا"؟!
أما الإمام "البنا" فقد عرف محنة السجن، وقدر الله عز وجل له الشهادة في سبيله، فلقيها في أكبر شوارع القاهرة على يد عملاء الإنجليز والملك "فاروق" سنة 1368هـ/ 1949م، وهو بعد لم يتجاوز الثانية والأربعين.
مراحل العمل في الجماعتين:
لأن الرجلين يستقيان من معين واحد هو الوحي الرباني والهدي النبوي فقد تشابهت مراحل العمل في جماعتيهما، وقد أكد الإمامان على ضرورة أن تظل الجماعة المسلمة المجاهدة مشدودة إلى الأصل الإسلامي الركين؛ اتباع القرآن والسنة.
يقول "المودودي": "الحقيقة أن منهاجنا إنما هو مأخوذ من القرآن الكريم وسيرة الأنبياء عليهم السلام" (تذكرة دعاة الإسلام).
ومن جهته، يقول الإمام "البنا": "إننا نتحرى بدعوتنا منهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدى حقيقيًا لتلك الدعوة الأولى التي هتف بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين".
ويحدد الإمام "البنا" مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق؛ فيراها تستهدف إصلاح نفسه إصلاحًا شاملاً لكل جوانبها، ثم تكوين البيت المسلم ليكون متمثلاً بقيم الإسلام وآدابه، وإرشاد المجتمع وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها، وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي، سياسي أو اقتصادي أو روحي، وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، ثم إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه حتى يكون الدين كله لله.. ولم تبعد منطلقات الإمام "المودودي" عن ذلك، إذ يركز برنامج دعوته الإصلاحية في أربع نقاط هي: تزكية الأفكار وتطهيرها، وإصلاح ذات الفرد، وإصلاح المجتمع، وإصلاح نظام الحكم.
الحذر من العجلة والاستبطاء:
أدرك الإمامان أن تلك الأهداف العظيمة تحتاج صبرًا ومصابرةً، ولا يناسبها التعجل واستبطاء النصر، لذا حذر الرجلان من صنف من الأصحاب يستعجلون الثمرة قبل أوان نضجها، فيقول الإمام البنا: "إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده، ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات".
ويصف الإمام "المودودي" هذا الصنف بأنهم: "من السهل عليهم أن يتقبلوا الرصاص في صدورهم من أجل عمل فوضوي، إلا أنهم ليسوا على استعداد للقيام بعمل يستلزم الصبر لعدة أشهر، فمن الصعب عليهم أن يندرجوا تحت عمل منظم".
البدء بالتربية:
لذلك عُني الرجلان بالتربية، ورأى كل منهما فيها العصمة من تلك الآفات المهلكات، والزاد الذي لا بد منه لمسيرة العمل الطويل، والحماية من الخطر المتربص بالدعوة في كل طريق، والسبيل إلى إقامة دولة الإسلام على أسس صالحة للبقاء والتقدم.
يقول الإمام "المودودي": "وإني على مثل اليقين في نفسي من أنه إذا خوِّل المسلمون اليوم أن يؤسسوا دولة لهم في بقعة من بقاع الأرض لما استطاعوا أن يقوموا بإدارة شئونها، وتسيير دفتها وفق المبادئ الإسلامية ولا ليوم واحد، فإنكم معشر المسلمين لم تعدوا المعدات اللازمة؛ ولا هيأتم العوامل الكافية لتنشئة رجالكم وشبابكم على الطراز المخصوص للتفكير والأخلاق الذي تحتاج إليه الأمة الإسلامية لتسيير دفة أمرها، وتنظيم شئونها العديدة المتشعبة" (منهاج الانقلاب الإسلامي 92، 93، ترجمة مسعود الندوي، ضمن مجموعة:
نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، طبعة بيروت، سنة 1969م).
المصدر
- مقال:الإمامان المجددان "المودودي" و"البنا" (2/ 4) موقع : إخوان أون لاين