الإخوان المسلمون والأقباط (2)
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
بعد أن تحدثنا عن الأقباط ومنهج تعامل الإمام البنا معهم، ورأينا كيف أن الإمام البنا كان حريصًا على وحدة نسيج المجتمع؛ فكان يتبادل الرسائل بين بطريرك الكنيسة المرقسية ليعزِّز الوحدة الوطنية ويطفئ نار الفتنة الطائفة التي كان يسعى المحتل وأذنابه إلى تأجيجها بين أبناء المجتمع.
نتابع العلاقة بين الإخوان والأقباط من الناحية العملية وليس من ناحية تبادل الرسائل فحسب، ونرى كيف كانت تسير هذه العلاقة بالرغم مما واجهها من ترصد الأعداء بهذه الوحدة.
لقد حاول الاستعمار وأذنابه إشاعة روح الفتنة بين عنصري الأمة، كما حاول إثارة نعرة أن الأقباط مضطهدون، ومحرمون من الوظائف الكبرى، وقد سقط في أيدهم؛ لأن بعض الوزراء كانوا أقباطًا، فلم تكن تشكل وزارة إلا وكان للأقباط نصيب فيها.
لقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين في ظروف صعبة؛ حيث وجود المحتل الأجنبي الذي نشر بذور الفُرقة بين أبناء المجتمع وبين كل طوائفه، وكانت الجماعة تهدف إلى توحيد الجهود في وجه المحتل، وساروا على منهجٍ لا يفرِّق بين طوائف الوطن الواحد في المعاملات طالما التزم الجميع بالقيم والمبادئ والأسس العامة التي تحقق الخير العام، وهذا ما تؤكده الخبرة التاريخية؛ حيث عاش الأقباط في ظل الحضارة الإسلامية أزهى فترات تاريخهم.
وقد فهم الأستاذ البنا ذلك جيدًا؛ حيث أشار في مذكراته إلى أنه عندما كان تلميذًا بالمدرسة الابتدائية شارك هو وزملاؤه في حفل تكريم أحد زملائهم وهو لبيب إسكندر شقيق طبيب الصحة، وكانت المبالغ التي صرفت على هذا الحفل من مجموع الغرامات التي وقعت على التلاميذ طبقًا للائحة الداخلية لجمعية الأخلاق الأدبية التي كوَّنها الإمام البنا وزملاؤه بالمدرسة.
لقد تعامل الإخوان مع الأقباط من منطلق عقائدي؛ فقد حث الله المسلمين على حسن معاشرتهم، فقال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82)، وهذا هو المفهوم العام والذي يتربَّى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.
لقد اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزء من نسيج الوطن، وطبقًا للقاعدة الشرعية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" فهم شركاء في هذا الوطن؛ ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يعكرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبون ضد كل ما هو إسلامي؛ يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خاطئًا.
ومنذ أن نشأ الإخوان حرصوا على حُسن العلاقة مع الأقباط؛ فعندما بدأ الإمام البنا دعوته في مدينة الإسماعيلية كتب بعض المغرضين عريضةً أرسلت إلى وزارة المعارف تتهم الإمام البنا بأنه مدرس متعصب يترأس جمعية متعصبة؛ يفرِّق بين أبناء الديانتين في الفصل الواحد؛ فيتعمد إهانة التلاميذ المسيحيين، وإهمالهم وعدم العناية بهم، ويُؤْثر الطلاب المسلمين، وقد أحدثت هذه العريضة دويًّا في أوساط المسيحيين بالإسماعيلية الذين استنكروا هذه العريضة، وكتب رئيس الطائفة الأرثوذكسية عريضةً استنكر فيها ذلك.
وسرعان ما تكشف زيف هذه الدعاوى والتف الجميع حول دعوة الإخوان، ومع انتشار الدعوة ووضوح طبيعتها للناس بدأ كثير من الأقباط يؤيدونها ويلتفون حولها، بل دفع البعض إلى مطالبة الإخوان بإنشاء "الإخوان المسيحيين"؛ ففي بداية الأربعينيات زار الإمام البنا بني سويف وألقى هناك محاضرةً شرح فيها سماحة دعوة الإسلام، ومكانة المسيحيين عند المسلمين، وأشار إلى ما يكنه الإسلام للمسيحيين من مودة ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ (المائدة: من الآية 82).
ويذكر الدكتور محمود عساف أنه كان يجلس بجواره في هذه المحاضرة قسيسًا ما لبث أن عانق الإمام البنا بعد المحاضرة، وبعدها حضر لزيارة المركز العام عددٌ من قادة المسيحيين؛ منهم توفيق دوس باشا، ولويس فانوس، ومريت بطرس غالي، وطلبوا من الإمام البنا أن ينشئ شعبة باسم "الإخوان المسيحيين" لكي يسهموا مع الإخوان في نشر الإيمان بالله والحث على الفضائل.
كما كان بعض المسيحيين يدفعون اشتراكات ثابتة لشُعب الإخوان تعبيرًا عن تأييدهم لكل ما ينادون به؛ فقد ذكر الأستاذ عبد المتعال الجبري أنه في أوائل الأربعينيات زار شُعبة الإخوان في شرشيمة بمركز ههيا بالشرقية، وقد استرعى انتباهه أن من بين الاشتراكات اشتراكًا قيمته خمسون جنيهًا، وكان صاحب هذا الاشتراك ناظر محطة السكة الحديد المسيحي؛ فبعد زيارته لمعرفة سبب دفع اشتراكه للإخوان أوضح الناظر المسيحي أنه عندما قدم إلى هذه البلدة كان لا يستطيع أن ينتقل بين المحطة التي تبعد مسافة عن القرية إلى قريته بعد الغروب بسبب قطّاع الطرق، فلما جاء الإخوان المسلمون لهذه البلدة شكلوا لجان المصالحات فانقطعت تهديدات قطّاع الطرق، ودوى الهتاف بذكر الله بدلاً من قصف البنادق، فكان هذا الاشتراك أقل ما يجب لتقدير هذه الجماعة.
لقد أدرك الإخوان أن تطرُّف بعض الأقباط في مهاجمة الفكر الإسلامي لا يعبِّر عن رأي مجموع الأقباط في مصر، كما كان يخشى عودة الفتنة الطائفية التي لا يستفيد منها سوى الاحتلال؛ ولذلك عندما نشر القمص سرجيوس مقالاً أساء فيه إلى الإسلام هاجمت صحيفة (الإخوان) شخصه دون مجاراته في الطعن على المسيحية، وعلى هذا فقد كان بعض الأقباط من منطلق ثقافتهم وتوجههم السياسي والفكري يهاجمون الإخوان ويخلطون بين الاختلاف السياسي والديني، وكان ذلك واضحًا مع سلامة موسى في جريدة (مصر) التي كانت لا تفوت فرصة دون أن تهاجم الإخوان، بل وتستعدي عليهم الحكومات والقصر.
يقول الإمام البنا تحت عنوان "أمة موحدة في الجهاد": "وسيرى أولئك الشاكُّون أننا ننهض بهذا العبء جميعًا أمة واحدة متراصة الصفوف موحدة الجهود، وها هي ذي بشائر هذه الوحدة تتجلَّى في هذا الاجتماع الذي يحضره الآباء الكرام ممثلو غبطة البطريرك ومواطنينا الأعزة الأقباط.
وإني لأبعث إليهم من هذا المنبر تحية التقدير والإكبار لهذه المشاركة المباركة التي أعادت إلى نفوسنا أجمل الذكريات، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ على هذا الوطن وحدته ويضاعف قوته حتى يصل إلى حقه كاملاً بإذن الله".
ولقد أرسل الإخوان إلى بطريرك الأقباط برسالة جاء فيها:
"تحية طيبة مباركة، وبعد..
نتقدم إلى غبطتكم بأجمل عواطف التهنئة بانتخابكم لهذا الكرسي الجليل، كما نهنئ كذلك أبناءكم جميعًا سائلين الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع للخير.
يا صاحب الغبطة..
تعلمون أن دين الإسلام الحنيف قد مدَّ أسباب الأُلفة وبسط رواق التعاون لمحالفته من أبناء الأديان السماوية الأخرى، وفرض على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل كتابٍ نزل، وأن يعظِّموا كل نبي أو رسول سبق، وأن يذكروا بالثناء الجميل الصالحين والقديسين من كل أمة ماضية، وأوامر القرآن الكريم في ذلك صريحة لا لبس فيها ولا غموض: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136).
وجاءت الحركة الوطنية الأخيرة فدعمت هذه الوحدة بين عنصرَي الأمة؛ لما فيه خير الوطن على أثبت الدعائم، وماتت تلك النغمة التفريقية البغيضة إلى حيث لا رجعة بإذن الله، وصارت وحدة هذه الأمة مضرب الأمثال.
ولكنا فوجئنا في الأيام الأخيرة، وفي هذا الظرف الدقيق الذي يطالب فيه هذا الوطن بحريته بحملة عنيفة لا معنى لها، فاندفعت جريدة (مصر) تثير بقلم الأستاذ سلامة موسى أفكارًا وآراءً ما كان لأحد أن يتحدث فيها أو يثيرها في هذه الأيام ولا في غير هذه الأيام وأخذت تتهم الإخوان المسلمين باتهامات قاسية هم منها براء، كما أخذت تهاجم بعض الأوضاع الإسلامية في غير تبصُّرٍ ولا تقديرٍ للأمور، كما سمعنا أن بعض الأساتذة من المحامين الأقباط يجهز كراسات ليجمع عليها توقيعات الطائفة لتأييد مطالب خاصة تذكر الناس بأيام المؤتمر وما كان فيها من فتن وانقسامات.
ولهذا يا صاحب الغبطة انتهزت فرصة هذه المناسبة الطيبة لأؤكد لغبطتكم ولحضرات المواطنين الكرام أن دعوة الإخوان المسلمين وهيئتهم لا تنطوي على أي شيء يشتم منه من قريب أو بعيد كراهية الأقباط أو التعصب ضدهم أو المساس بشئونهم الدينية أو الدنيوية، ولكنها فكرة إسلامية لإصلاح المجتمع الإسلامي على قواعد الدين الذي اعتقده وآمن به.
كما أرجو أن تتفضلوا فتأمروا مشكورين بإيقاف هؤلاء العابثين بوحدة الأمة عند حدهم بما ترون من إجراءات، ولغبطتكم عظيم احترام وتقدير، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام".
الإكتتاب في دار الإخوان
وقد ظهر مدى التعاون بين الطرفين عندما أعلن الإخوان عن فتح باب الاكتتاب لشراء دار جديدة للإخوان في الحلمية الجديدة؛ مما دفع بعض الأقباط إلى المشاركة في هذا الاكتتاب تقديرًا للوحدة بين عنصري الأمة؛ فقد تبرع الخواجة "فرنكو" التاجر بـ10 جنيهات، وهناك من تبرع بـ5 جنيهات، مثل جرجس بك صالح، وآخر بـ20 جنيهًا مثل مريت بطرس غالي، وكان هناك من تبرَّع بـ500 مليم مثل أرمنيوس جرجس، ومن تبرَّع بـ200 مليم مثل جبريل مرسال ومريس فاغ وشاكر حزقيال، وبـ100 مليم مثل جاب الله كريمة، وولسن يونس واسطاس بك حتى وصل الحرص على التبرع من تبرع بـ50 مليمًا مثل توفيق جرجس، وفي ذلك أوضح الأثر على العلاقة الطبيعية بين الإخوان والأقباط، والذين يتعاملون فيها على أساس المواطنة وحسن الجوار.
وقد شكر الإخوان لهم ذلك في تقريرهم بهذه المناسبة، مقدِّرين لهم هذه العاطفة الطيبة، معجبين بهذا التعاون الكريم.
وقد حرص المرشد العام الأستاذ حسن البنا كعادته إذا نزل بمكان على أن يزور كل الفئات، سواءٌ أكانوا أعيانًا أم شيوخًا أم نصارى أم كبراء، فضلاً عن عامة الناس، وهذا ما فعله بقنا؛ فقد اتصل بالنصارى، وأوضح لهم أن هذا الوطن هو ملكنا جميعًا؛ فيجب أن ننهض به، وأن الأخلاق الحسنة والفضائل الإنسانية هي شعار التعامل بيننا، وقد دعا القساوسة والرهبان إلى كثير من ندواته ولقاءاته، فاستطاع أن يحوز ثقة الكثير من الأقباط.
إلا أن ذلك لم يُرْضِ بعض أصحاب القلوب المريضة والأغراض الدنيئة؛ فتقدموا بالعديد من العرائض والمذكرات الكيدية للجهات الأمنية بأن هذا الرجل يريد أن يثير الفتنة الطائفية ويشق وحدة البلاد، وكادت هذه الوشايات تصل إلى القاهرة، لولا أن غالب هذه العرائض كانت مجهولة الأسماء.
وعندما زار الأستاذ البنا منطقة أبي قرقاص لافتتاح دار الإخوان المسلمين بها، وقد اجتمع بكبار الأعيان في حفل غداء كبير كان فيه جمع من الأقباط والمسلمين، وكانت فرصة طيبة؛ إذ توسط للصلح بين عائلتين كبيرتين.
وعندما زار الإمام البنا غزة وبعد أن أدى فريضة صلاة المغرب جماعة رحّبَ بمن ذخرت بهم دار الإخوان من كرام المدعوين من الأقباط والمسلمين، وخيرة أبناء الدعوة من الدعاة الهداة والمجاهدين المقاتلين الذين قاموا بمهمة الجوالة في تنظيم الحفل والاستقبال.
وكان في مقدمة هؤلاء سيادة سُليمان الرشماوي خوري رئيس طائفة الروم الأرثوذكس، والسيد رشدي الشوا بك رئيس البلدية، والسيد عبد الرءوف الخبال عميد حزب الكتلة الوطنية، والسيد موسى الصوراني بك رئيس اللجنة القومية بها مع وفد من كبار رجالاتها، والسيد وصفي عبد المجيد مراقب السلوك والخدمات الاجتماعية، والسيد عبد الكريم الشوا.
ولقد كان الإخوان يقيمون الأنشطة المتعددة للطلبة في المركز العام؛ ففي الحفلة التي أقامها طلبه الإخوان بمعهد المعلمين بالزيتون بمناسبة انتهاء العام الدراسي، دُعي إليه عميد المعهد والأساتذة وبعثه الوفد السوداني بالمعهد، وتحدث الأخ أحمد إدريس نيابةً عن وفد السودان، كما تحدث لويس متَّى نيابة عن الأقباط، وتحدث الأستاذ عبد الحميد إبراهيم نيابةً عن الأساتذة، ثم وقف الأستاذ أحمد السكري وتكلم نيابةً عن فضيلة المرشد العام، واختتم الحفل بكلمة الأستاذ فريد عبد الخالق رئيس قسم الطلاب.
كان ذلك نموذجًا عمليًّا للرد على الافتراءات التي تطارد الإخوان بأنهم لن يعطوا الأقباط حقهم، وأن الأقباط سيعانون الأمرَّين مع الإخوان.
المراجع
1- حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
2- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
3- سلسلة: من تراث الإمام البنا، الكتاب الثالث عشر، الدعوة والحكومات والهيئات، البصائر للبحوث والدراسات، 2006م.