أسلوب مختلف
وهنا أحب أن أقول لا متحدثا عن نفسى ولكن مقررا لحقيقة إن إسلوبى الهادىء فى الكتابة والنقاش ليس سياسة ولا مجاملة ولكنى طبعت على الرفق فى معاملتى مع الناس حتى لأعتزر لمن أساء الى إذا كان فى الاعتذار ما يريح أعصابه . وبين المرشدين صور متشابهة وبينهما بعض الاختلاف فى المظهر والطباع فالامام البنا كان متحدثا بحكم عمله ومكانته ولكن الاستاذ الهضيبى كان أميل الى الصمت بحكم عمله ومكانته فالقاضى يسمع أكثر مما يتكلم . كان البنا دائم الابتسام ولكن الهضيبى فبطابع كرسى القضاء كان صارم المظهر يحملك على ترك اللجاج فى حضرته فإذا تخاصم لديه أخوان بادرهما بعبارتة المعروفة عنه " إذا كنتما عاجزين عن أصلاح ذات بينكما فكيف تصلحان ذات بين الآخرين " . كان من أكثر دعائه ( يارب أهلنى لطاعتك ) لقد كان فضل الله عظيما على الاخوان باختيار فضيلة الأستاذ الهضيبى مرشدا للإخوان فى تلك المرحلة التى لا تحتاج الى المهاترة وتحتاج الى الصبر والى الصمود والتحمل .
لقد مرت الدعوة تحت قيادة الأستاذ الهضيبى بأقسى عواصف الظلم والاضطهاد .
فكان صموده وعزوفة عن إعطاء الدنية مننفسه أعظم الأثر فى تماسك الاخوان إزاء تلك الرياح الهوج واحتمالهم لكل ما نزل بهم من محن عظام وخرج الاخوان من محنة 1954 أرفع الناس رؤوسا وازداد انتشار دعوتهم فى كل مكان رغم إنقطاع ما بين الشباب وقياداتهم المغيبة فى أعماق السجون .
وقد أدهش صبر الاخوان وتحملهم العذاب كل خصوم الاسلام والمسلمين الذين قرر الدارسون والباحثون منهم فى شئون المد الاسلامى أن أسلوب التعامل مع الاخوان يجب أن يتغير من العنف والشدة الى اللين وفتح أبواب المغانم الدنيوية أمامهم علهم ينصرفون عن هذه الدعوة التى يرون أنها أخطر شىء عليهم فى هذا الوجود وباللفعل أعيد الاخوان الى وظائفهم مع حفظ درجاتهم وحكم بالتعويض للكثير منهم وأفرج عن المعتقلين وعادت مجلة الدعوة للظهور لا لأنهم أعطونا ترخيصا بها كما زعموا . فهى تصدر بالفعل منذ عام 1944 وليس هناك ما يمنع من ظهورها فى ثوبها القشيب الجديد . ولكن كل ذلك لم يجد شيئا فى صرف الاخوان عن دعوتهم وكان من المتوقع أن يطلب الأستاذ الهضيبى مقابلة فاروق للمشاركة فى إنقاذ الوطن مما كان ينحدر اليه فى جميع نواحيه ولكنه رفض خشية أن يقال عنه إنه يسعى لمقابلة ولأنه كان يرى أن وضعه كمرشد للإخوان المسلمين فوق ذلك بمراحل واسعة وهو أحرص ما يكون على هذه الكرامة التى متعه الله بها فى مراحل حياته وأخيرا أستدعاه وهو لا يملك إلا أن يستجيب فذهب وخرج من تلك المقابلة وهو يصفها بأنها " مقابلة كريمة لملك كريم " ولو أنك أمعنت النظر فى تلك الكلمات الأربع لعلمت كيف كان ذلك المرشد العظيم رضوان الله عليه يزن الكلمات فى إيجاز مع إعطائها كل المعانى المطلوبة فهو قد بدأ فى تصريحه بالمقابلة الكريمة ولم يبدأ بالملك الكريم هذه واحده وفى هذه المقابلة كان محل احترام الملك وتقديره فعبر عنها بأنها مقابلة كريمة وهو صادق فى قوله ولم يقل : إنها مقابلة بناءة أو خلاقه أو حلت الكثير من المشاكل ولكن ما دام الملك قد قدره واحترمه فهى مقابلة كريمة ولا شك أما وقد كان موقف الملك على هذهالصورة معه فليس من المنطق أو اللياقة أن يصفه بأنه ملك لئيم أو ما أشبه ذلك .
المعتاد فى مباشرة المستشارين لعملهم أن يبدأوه بيمين أمام الملك أو رئيس الجمهورية أو الأمير أو ماالى ذلك من الألقاب وكان رجال القصر يستقبلون المستشارين الجدد قبل لقائهم للملك ليبينوا لهم مراسم اللقاء وكيف يكون الدخول والانحناء والخروج بالظهر وأنهم لا يبدأون الملك بكلام وما الى هذه التفاهات التى يحرص عليها الفارغون المتكبرون من الرؤساء والزعماء ؟.
فلما عين الأستاذ الهضيبى مستشار وذهب الى القصر مع زملائه لأداء اليمين المظهرية التى لا داعى لها على الاطلاق فى مجال القضاء ورجاله وفى يوم من الأيام كنت عائدا من محكمة بنها مع المرحوم المستشار السعيد رمضان السعيد فأخبرنى ونحن معا فى السيارة الى ا لقاهرة بالواقعة الأتية :
قال رحمه الله : ذهبت مع الهضيبى الى القصر واستقبلنا رجال التشريفة وأفضوا إلينا بالتعليمات والشكليات التى يجب أن نقوم بها عند دخولنا علىالملك وعند خروجنا بعد أداء اليمين وأدينا جميعا ما طلب منا بدقة إلا حسن الهضيبى فقد تصرف تصرفات تخالف كل ما طلب منه القيام به فبمجرد دخوله بادر الملك بالسلام قائلا : السلام عليكم ففزعنا وتوقعنا أزمة لها ما بعدها وأن الهضيبى أوقفنا موقفا محرجا لنا جميعا والغريب أن الملك رد السلام فى هدوء وحمدنا الله أن ا لموقف مر بهذه السهولة وبعد أن أدينا اليمين خرجنا جميعا بظهورنا إلا الأستاذ الهضيبى فإنه ولى الملك ظهره وخرج من الحجرة الملكية بوجهه لا بظهره وهنا توقعنا أن السماء ستنطبق على الأرض فهذه أول مرة تخالف فيها التقاليد عند مقابلة الملوك ومرت أيام وأسابيع ولم يحدث شىء وتأكدنا أن كرامة الانسان لا يستطيع توفيرها للشخص إلا نفسه وبذاته الكرامة تنبع من دخيلة نفوس الرجال وليستالكرامة ما يفيض بها انسان على إنسان فمن يلبى نداء الكرامة ويعف عند المغنم تحترمه الجن والانس ولو كانوا على خصومة وهكذا كان مرشدنا فضيلة الاستاذ الهضيبى فى كل مراحل حياته ولست أدرى أذكرت الواقعة فيما سبق أو أعرض لها لأول مرة .