الإضطرابات الإجتماعية: حدود اعتماد السياسات النيوليبرالية في العالم العربي
بقلم: جـورج قـرم
مقدمة
إن الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة التي حصلت في منطقة ريفية تونسية في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي تشير بما لا لبس فيه إلى أن الأثر السلبي للسياسات النيوليبرالية في العالم العربي قد بلغ حالة من الخطر لا يمكن الاستهانة بها، خاصة وأن تلك الاضطرابات جرت في البلد العربي الذي اشتهر نموذجه الاقتصادي بأنه مركّز على تأمين الحاجات الأساسية للفئات الشعبية وإلى حدّ أدنى من الرفاه الاستهلاكي للفئات المتوسطة الدخل.
وفي الحقيقة، ولكي نفهم ماذا يحصل في العديد من الأقطار العربية من اضطرابات ملتبسة الطابع بالتذمّر الاجتماعي والمذهبي والعشائري والمناطقي يجب أن نتذكّر بأن النيوليبرالية قد تمّ استيرادها في السياسات الاقتصادية العامة العربية على مرحلتين تاريخيتين سنستعرضهما في هذه الدراسة.
المرحلة الأولى من تحرير الاقتصاديات العربية على النمط النيوليبرالي
كانت المرحلة الأولى قد بدأت في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في إطار أزمة المديونية الخارجية التي عصفت بالعديد من بلدان العالم الثالث خاصة في أميركا اللاتينية (بدأت في المكسيك عام 1982) والشرق الأوسط. وقد انفجرت أزمة المديونية هذه على أثر ازدياد أسعار النفط والمواد الأولية في السبعينيات من القرن الماضي حيث أقبلت المصارف التجارية الدولية على إقراض مبالغ طائلة لبعض الدول النامية نظراً لزيادة إيراداتها من تصدير النفط والمواد الأولية الأخرى مثل القطن والفوسفات. لكن في نهاية هذا العقد بدأت تلك الأسعار تتراجع وترافق هذا التراجع مع ارتفاع حاد في الفوائد العالمية (وصل الى20% على كل من الدولار والإسترليني بين 1980 و1983) مما زاد من أعباء خدمة الديون الخارجية على هذه الدول. وقد أصبح العديد من الدول العربية المدينة، كما دول أخرى في أميركا اللاتينية وأفريقيا، في حالة عجز عن خدمة ديونها الخارجية بانتظام، خاصة بعد أن أصبح عبء خدمة الدّين العام يمثّل نسبة عالية من إيرادات التصدير بلغت في بعض الأحيان ما يفوق 100% ، ولذلك اضطرّت كل من مصر، اليمن، الأردن، المغرب، الجزائر والسودان إلى طلب إعادة جدولة ديونها الخارجية (1).
وقد استغلّ الدائنون هذه الحالة لفرض العقيدة النيوليبرالية التي تبلورت خلال عهد كل من رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر(1979-1990)، ورئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان (1981-1988) وتجسّد فيما سُمي الـ Washington consensus تحت تأثير الفكر الاقتصادي الجديد المتطرف في ليبراليته والمطالِب بتراجع دور الدولة في الاقتصاد عبر خصخصة أهم المرافق العامّة، والتخفيف من عدد الموظفين في القطاع العام وتجميد مستوى رواتبهم، بل عند اللزوم تخفيضها سعياً إلى تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات في المالية العامّة، وكذلك الحدّ من الحمايات الاجتماعية التي تقدّمها الدول إلى مواطنيها، بل في بعض الأحيان إلغائها وبشكل خاص عبر القضاء على الدعم الذي تقدّمه الدول للحفاظ على أسعار متدنية للمواد الاستهلاكية الأساسية، مثل: الطحين، السكر، الأرز، الزيت والبنزين. وأخيراً حسب متطلّبات هذا الوفاق (Consensus) تحرير الاقتصاديات المدينة من معظم القيود التي فرضتها الدول على التجارة الخارجية وتحويلات العُملات والاستثمارات الأجنبية، وكذلك العمل من أجل مكافحة التضخّم عبر زيادة الفوائد المحلية والكفّ عن دعم أسعار الفائدة لتشجيع القروض المصرفية إلى بعض النشاطات وذلك عبر تغيير المهمة الأساسية للبنوك المركزية من الأهداف الأساسية التقليدية ـ أي مراقبة سلامة الأنظمة المصرفية والتأكّد من سلامة الأوضاع المالية والنقدية العامة وتغذية الاقتصاديات المحلية بالسيولة الكافية لتأمين التنمية ـ إلى هدف وحيد ألا وهو مجرّد مراقبة تطوّر الأسعار والعمل من أجل لجم ارتفاعها عبر استخدام وسيلة واحدة وهي ارتفاع سعر الفائدة.
وبما أن الدول العربية المدِينة المذكورة سابقاً اضطرّت إلى اللّجوء إلى صندوق النقد الدولي كشرط مسبق لإعادة جدولة ديونها الخارجية والاتفاق معه على برنامج إصلاحي شامل بالمنحى الاقتصادي الجديد، سمّي "برنامج تعديل بنيوي"، فإنها أجبرت على اتخاذ إجراءات قاسية وبشكل خاص تخفيض الدعم على أسعار المواد المعيشية الأساسية مما أدّى إلى انفجار اضطرابات شعبية واسعة النطاق في كل من: مصر(1977)، تونس(1984)، المغرب(1981 و1984)، الجزائر (1988)، الأردن (1989)، والخرطوم(1982و1985)، أدّت إلى زعزعة استقرار تلك الدول. وقد دخلت الدول المعنية في نوع من هيمنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على سياساتها العامّة، إذ أن تأمين القروض من هاتين المؤسّستين الدوليتين قد أصبح يتطلب الخضوع للعديد من الشروط في تطبيق سياسات اقتصاديات عامّة معيّنة كما ذكرناها سابقاً، تحقق الأجندة النيوليبرالية كشرط أساسي للحصول على إعادة جدولة المديونية الخارجية من قبل المصارف الدولية الكبرى أو الدول الصناعية الكبرى.
والجدير بالملاحظة هنا ما قام به الرئيس أنور السادات في مصر عندما بادر إلى إطلاق سياسة "الانفتاح" الشهيرة ابتداءً من عام 1974 والتي كانت تهدف إلى جلب أنظار الدول الغربية إلى الاقتصاد المصري وتحوله المبكر عن الاشتراكية للدخول في فتح الاقتصاد المصري للاستثمارات الأجنبية. وقد بدأت السياسة الاقتصادية المصرية في تحرير الاقتصاد وتخفيض الدعم الممنوح من الدولة إلى أسعار المواد الغذائية الأساسية، مما أدى إلى أولى التحركات الشعبية والاضطرابات ضد زيادة الأسعار عام 1977.
ومن جرّاء تلك السياسات الجديدة تراجعت معدّلات النمو إلى حدّ كبير ليس فقط في الدول العربية التي أُخضعت لبرامج التعديل البنيوي، بل أيضاً في العديد من دول أميركا اللاتينية والقارة الإفريقية، وقد سمّي عقد الثمانينيّات من قبل الأمم المتحدة عقد "التنمية المهدورة"، إذ تراجع مستوى الدخل في كل تلك الدول التي اضطرت إلى تبنّي السياسات الجديدة بشكل متسارع، وقد وقع عبء التعديل البنيوي على عاتق الفئات الشعبية بشكل حصري، بينما وفي نفس الوقت وُلدت فئة جديدة من رجال الأعمال الكبار المقرّبين من المسؤولين السياسيين والذين راكموا ثروات هائلة من وراء عمليات الخصخصة، وتحرير التجارة الخارجية والأسواق الداخلية، وزيادة الفوائد المصرفية إلى مستويات غير مسبوقة، والتعامل مع الشركات المتعدّدة الجنسيات كوسيط بينها وبين الحكومات المحلية خلال تدفّق الاستثمارات الخارجية وعمليات الخصخصة.
وخلال مدّة قصيرة انقسم العديد من المجتمعات العربية انقساماً حاداً بين قلّة من المستفيدين من الأوضاع الجديدة وطبقات وسطى تدنّى مستوى معيشتها إلى حدّ بعيد، ( وهم موظفو القطاع العام وغالبية موظفي القطاع الخاص). وكذلك فئات واسعة من الطبقات الفقيرة التقليدية سواءً في الأرياف أو في المدن، مع زيادة الهجرة من الأرياف إلى المدن والعيش في أحزمة بؤس ودون أي نوع من السكن اللائق المزوّد بالماء والكهرباء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن في هذه الحقبة التاريخية بالذات تزايد عدد السكان في كل الأقطار العربية بمعدّلات نمو سنوية عالية جدا،ً فاقت في بعض الأحيان 3% )معدل نمو السكان في العالم العربي3.5% عام 1980 وعام1990) (2) دون أن تتمكن الدول من زيادة الإنفاق على تطوير البنية التحتية بما يتلاءم مع هذه الزيادة في عدد السكّان، ودون أن تتمكن من التوسع في الخدمات الصحية والتربوية التي كانت تحتاج إليها هذه الأعداد المتزايدة من السكان في الأقطار العربية، خاصة في ظلّ القيود المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والدول الصناعية الكبرى والمصارف الدولية الكبرى الدائنة على زيادة الإنفاق العام.
وكان لهذا الوضع المتفجر أثر سياسي بليغ ظهر في انتشار أنواع مختلفة من الأصوليات الدينية والمذهبية التي لعبت دور استيعاب النقمة الشعبية ونقمة الطبقة الوسطى أمام هذا التردي لمستويات المعيشة، وهكذا أصبح شعار "الإسلام هو الحلّ" شعاراً يعبّر عن التوق إلى مبادئ العدالة الاجتماعية كما أتت في القرآن الكريم وفي نواح عديدة من الشرع الإسلامي المنسي. والحقيقة أن المجتمعات العربية أصبحت أيضاً في هذه الحقبة التاريخية متأثرة للغاية بعوامل عديدة سياسية الطابع، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي الاجتماعي المذكور، منها بشكل خاص الإحباط في تحرير فلسطين والتخلّص من الاحتلال الإسرائيلي في كل من الأراضي المحتلة والجولان ولبنان، وكذلك الإحباط في التعاضد العربي أو الإسلامي، إذ أن العراق دخلت في حرب شعواء مع إيران، ثم غزت الكويت 1990 مما أعطى ذريعة للجيش الأميركي في الانتشار في الخليج العربي على قرب من مكة والمدينة عام 1990، ومن ثم غزو العراق من قبل الجيش الأميركي عام 2003.
كل تلك العوامل السياسية الاقتصادية والاجتماعية، تراكمت وتشابكت لخلق مناخ متشدد في الأمور الدينية كتعويض عن الكرامة العربية المهدورة، سواء اجتماعياً أم عسكرياً أمام الاحتلالات والغزوات الجديدة. فتمّ محو الثقافة النهضوية العربية التي كانت تسود الساحة الثقافية والدينية العربية ليحلّ محلها لعبة مزايدات بين الدول العربية أو بينها وبين دولة إيران التي حصلت فيها الثورة الإسلامية من جهة، أو من جهة أخرى بينها وبين تنظيمات سياسية قديمة أو جديدة ترفع راية الإسلام لتعارض الحكومات وأنظمة الحكم أو لتطالب بسياسات تحترم حقوق المواطنين خاصة في المجال الاجتماعي وتؤمّن كرامتهم، رافعة شعار"الإسلام هو الحلّ".
وقد استفادت هذه التنظيمات من المساعدات الغزيرة من دول عربية، أو إسلامية غير عربية، وأصبحت لديها إمكانيات إعلامية وحزبية كبيرة، بالإضافة إلى إنشاء مؤسسات خيرية مهمة، سرّية أو علنية، تعتني بالمواطنين الفقراء شرط التقيّد "بالأخلاق الإسلامية" الجديدة المتجسّدة في مظاهر خارجية دقيقة من الزيّ والشكل للنساء والرجال. والجدير بالإشارة على سبيل المثال الإعانات السريعة التي تقدمها الجمعيات الإسلامية الخيرية إلى ضحايا الزلازل والكوارث الطبيعية الأخرى في ظل تعثر وتأخر إعانات الدولة، كما حصل في الزلزال الذي ضرب الجزائر عام 2003. وقد ظهرت في نفس الفترة المؤسسات المالية الإسلامية كبديل عن النظام الرأسمالي الغربي، وتعددت وتطورت في بلدان عربية وإسلامية غير عربية، كما أصبح لدى العديد من المؤسسات المصرفية الغربية شبابيك خاصة "إسلامية الطابع" تعتني بالزبائن المسلمين الذين يودون أن تكون ودائعهم مُدارة حسب الشريعة الإسلامية.
لكن تكاثُر عدد المؤسسات المصرفية والمالية الإسلامية لم يغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي أو في الدول الإسلامية الأخرى، و لم يحدّ بتاتاً من ازدياد سوء توزيع المداخيل والثروات وانتشار البطالة واستمرار الأمية في المجتمعات العربية. وقد أتت الموجة الثانية من تطبيق السياسات النيوليبرالية في العالم العربي لتُكمل الموجة الأولى الموصوفة سابقاً وتظهر مدى تعمّقها وتجذّرها.
المرحلة الثانية من تحرير الاقتصاديات العربية على النمط النيوليبرالي
يمكن تحديد بداية هذه الفترة في التسعينيات من القرن الماضي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي عام 1989-1990. ومما لا شك فيه أن هذا الانهيار قضى على النموذج الاشتراكي العربي، بما فيه النموذج المختلط المتجسد في تعايش قطاع خاص مهم مع قطاع عام واسع وتدخّل الدولة في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية، كما كان الحال في العراق وسوريا وتونس والمغرب والجزائر ومصر.
وفي هذه المرحلة بالذات، دخلت الأقطار العربية في اتفاقيات جماعية لتحرير التجارة الخارجية مع منظمة التجارة العالمية التي انبثقت عن قمة مراكش عام 1994 وكذلك مع الاتحاد الأوروبي الذي أسّس مسار برشلونة مع الدول العربية المتوسطية عام 1995، بالإضافة إلى إنشاء منطقة التجارة الحرّة العربية عام 1996، مما تطلّب تسريع خطى تحرير التجارة الخارجية التي كانت قد بدأت في المرحلة الأولى، وقد تناول هذا التحرير ليس فقط إلغاء الحواجز الجمركية النوعية والكمية، بل أيضاً القيام بتخفيض متوسط الرسوم الجمركية المفروضة على الاستيراد بهدف تخفيضه تدريجياً إلى حدّ أقصى بواقع 5 % من قيمة البضائع المستوردة. كما اضطرت الدول العربية إلى منح كل التسهيلات للاستثمارات الأجنبية والامتناع عن فرض قيود عليها وتحرير عمليات إعادة تحويل الأرباح المحقّقة من قبل المستثمرين الأجانب.
وفي خضم هذا المناخ "التحرري"، دخلت الأقطار العربية في منافسة فيما بينها لمنح امتيازات إضافية إلى المستثمرين الأجانب بشكل إعفاءات ضريبية سخية ولمدد طويلة وإنشاء المناطق الحرّة الخالية من أي اقتطاع ضريبي والمُعفاة من دفع أي نوع من الاشتراكات لأنظمة الحمايات الاجتماعية الرسمية، كما أقدمت على تخفيض نسبة ضريبة الدخل على الشركات والأفراد بحجة تشجيع الاستثمار، وقامت بالمقابل بإدخال الضريبة على القيمة المضافة أو ضريبة مبيعات للتعويض عن الخسارات الحاصلة في إيرادات الدولة من ضريبة الدخل والرسوم الجمركية. وقد اكتملت رزمة السياسات العامة الجديدة لتسريع عمليات الخصخصة، وبشكل خاص في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية وقطاع السياحة (فنادق) وما كان قد تبقى من مؤسسات عامّة صناعية أو تجارية الطابع، وذلك في إطار موجة دولية عارمة من تحوّل الاقتصاديات التي كانت مقفلة أو شبه مقفلة، والتي كانت فيها نشاطات القطاع الخاص مقيّدة من قبل الدولة، إلى أسواق حرّة تشجّع المستثمرين الأجانب وتجذبهم وتنزع من الدول العديد من اختصاصاتها و شرعية تدخّلاتها التقليدية لقيادة وتوجيه الاقتصاد حسب خطط تنموية معيّنة.
والجدير بالملاحظة في الفترة التاريخية ذاتها انتشار جو سياسي واقتصادي متفائل إلى آخر درجة بالنسبة إلى إمكانية الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية وإنشاء منطقة اقتصادية شرق أوسطية حرّة تمتد من تركيا إلى المغرب ويتمّ دمج الاقتصاد الإسرائيلي فيها. ومن خلال مسار مدريد واتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ظهر العديد من المشاريع البرّاقة لربط دول الشرق الأوسط فيما بينها بما فيها الكيان الصهيوني بشبكة مواصلات موحّدة ومترابطة ومشاريع أخرى في استغلال المياه والطاقة. وقد أقدمت الولايات المتحدة على تنظيم مؤتمرات اقتصادية شرق أوسطية دعت إليه الفعاليات السياسية والاقتصادية في المنطقة ومن خارجها (الدار البيضاء (1994)، عَمّان (1995)، القاهرة (1996)، الدوحة (1997)). كما أعادت الولايات المتحدة مشروع إنشاء بنك متخصّص لتنمية الشرق الأوسط (عام1996)، وبدأت التحضيرات لإنجاز هذا المشروع بفتح مكتب خاص في القاهرة بإدارة البنك الدولي.
ولكن سرعان ما تبخر هذا الجو التفاؤلي تحت وطأة رفض دولة إسرائيل منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، والتمادي في استيطان الضفة الغربية، واشتداد وطأة سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران والعراق، ثم انتصار المحافظين الجدد في الانتخابات الرئيسية للولايات المتحدة في عام 2000، وسلسلة الأحداث المأساوية التي تلتها من أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن وغزو كل من أفغانستان عام2001 والعراق عام2003 واغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005 في لبنان واتهام سوريا بهذا العمل الإجرامي ومحاصرتها سياسياً واقتصادياً.
وفي هذه الأجواء المضطربة أصبحت الاقتصاديات العربية مجزّأة أكثر مما كانت عليه في السابق بين قطاع حديث يرتبط ازدهاره بزيادة أسعار النفط وزيادة تحويلات المغتربين العرب إلى الدول العربية المصدّرة للنفط إلى ذويهم في الدول العربية المختلفة، ومرتبطة كذلك باستثمارات عقارية ضخمة في قطاع السكن الفخم والمجّمعات التجارية العملاقة والمرافق السياحية المختلفة والمصارف والمؤسسات المالية، وبين القطاعات الريفية والحرفية التقليدية التي بقيت على حالها من التهميش والفقر. ومردّ هذا الانقسام المتعمق أن الاستثمار في القطاعات الحديثة القليلة التنوع أصبح يدرّ أرباحاً عالية دون مخاطرة تُذكر، ودون جهد تكنولوجي أو إنتاجي، خارج تقنيات بناء الأبراج العالية. أما الاستثمار في القطاعات الأخرى من الاقتصاد التي يمكن أن ينتج عنها نشاطات ذات قيمة مضافة عالية في الصناعة وما تتطلّبه من التوسّع في نشاطات الأبحاث والتطوير والخدمات، فقد تمّ تجنّبه نظراً للمخاطر الكائنة فيها والمدّة الطويلة المطلوبة لاستعادة رأس المال المُستثمر، وذلك على خلاف القطاعات الأخرى المذكورة سابقاً حيث يُستعاد الرأسمال خلال سنوات معدودة. فالجهود العملاقة التي كان يجب بذلها في اختراق الأسواق الدولية بمنتجات جديدة مطلوبة في الأسواق العالمية، كما نجحت فيه بامتياز دول صغيرة الحجم نسبياً كـتايوان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، ماليزيا وتايلاند، لم تقم بها السياسات العامّة العربية لتصحيح هذا الخلل، بل عمقته بسياسات ضريبية تعفي في العديد من الدول العربية الأرباح الرأسمالية الريعية الطابع والمحقّقة في القطاع العقاري أو في البورصات المحلية أو العالمية، من أي اقتطاع ضريبي. بينما تتناول ضريبة الدخل النشاطات الصناعية والخدمية ذات القيمة المضافة العالية.
النتيجة الأولى والحتمية لهذه السياسات الاقتصادية العامّة للدول العربية كانت تفاقم أزمة البطالة عند العنصر الشاب المتخرّج في الجامعات بأعداد متزايدة سواء بسبب المعدّلات العالية للنمو السكاني أو بسبب سياسات توسيع المؤسسات التربوية والجامعية في الفترات السابقة لاستيعاب زيادة عدد الطلاب. وهذه الظاهرة الخطيرة أصبحت تغذّي التململ الاجتماعي العام وتشجّع انطواء العنصر الشاب على هويات مذهبية أو دينية ضيّقة بحثاً عن تعويض معنوي ونفسي أمام تدهور الأوضاع الاجتماعية. وهذا ما أدىّ إلى الرغبة الجارفة في ترك الوطن بحثاً عن لقمة العيش وفرص العمل التي تليق بالكفاءات والاختصاصات الجامعية المكتسبة. وقد أصبحت اليوم ظاهرة هجرة الأدمغة خاصة الكفاءات العلمية، إلى كل من كندا، الولايات المتحدة وأوروبا، مأساة اجتماعية واقتصادية حيث يتمّ تفريغ الدول العربية من الكفاءات العالية بسبب غياب أي نوع من السياسات الهادفة إلى بناء القدرات العلمية والتكنولوجية كما فعلتها الدول الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية.
وتشير بعض الدراسات الحديثة إلى أنَّ الخسارة المالية الناتجة عن هجرة الأدمغة من الدول العربية تبلغ سنوياً ما يعادل 1.57 مليار دولار. هذا مع الإشارة إلى أنَّ 70 ألف عربي أنجزوا دراستهم الجامعية يهاجرون سنوياً بحثاً عن فرص العمل خارج أوطانهم؛ كما أنَّها تشير أيضاً إلى أنَّ 54 بالمائة من الطلاب العرب الذين درسوا في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم. وتُقَدّر مصادر مختلفة بأنَّ عدد العلماء والأطباء والمهندسين الذين يهاجرون من لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر يبلغ 100 ألف سنوياً، كما يُقَدَّر أنَّ 70 بالمائة من العلماء لا يعودون بتاتاً إلى أوطانهم، وكذلك 50 بالمائة من الأطباء و 23 بالمائة من المهندسين. وبالنسبة إلى العلماء، فإنَّ وجهة اغترابهم تكون دائماً أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ومرد هذه المأساة هو انعدام فرص العمل اللائقة . وتقدّر دراسة أخرى أنَّ هجرة 450000 شخص من ذوي الكفاءات العليا قد أدَّت إلى خسارة ما يقارب 200 مليار دولار للاقتصاديات العربية (3).
أما تركّز الثروات في أيادٍ قليلة فقد زاد خلال هذه المرحلة التاريخية. صحيح أنّ الفئات الثرية قد توسّعت عدداً إثر موجة زيادة أسعار النفط ابتداءً من عام 2003 – 2004 وما نتج عنها من فورات اقتصادية في دول الخليج المصدّرة للنفط والغاز، وكذلك فورات في البورصات الخليجية وبعض البورصات العربية الأخرى وأيضاً من جراء الفورات في القطاعات العقارية (التي أدّت إلى أزمة حادّة في إمارة دبي عام 2009). غير أنّ معظم الفئات السكانية الأخرى وبشكل خاص الفئات الريفية وفقراء المدن قد زاد عددها أضعافاً بالمقارنة مع زيادة عدد الأثرياء أو الشطر الأعلى من الفئات المتوسطة الدخل.
وقد بدأ التململ الاجتماعي يعود إلى العَلَن عام 2008 ) كما حصل في مصر والمغرب وموريتانيا) عندما أقدمت بعض الدول العربية على زيادة أسعار بعض السلع الغذائية الأساسية على اثر الزيادات الجنونية التي أصابت أسعار هذه المواد الغذائية في الأسواق العالمية ؛ ومؤخراً وبشكل صادم حصلت اضطرابات اجتماعية صاخبة في تونس في إحدى مدن محافظة سيدي بوزيد، مع العلم أنّ السياسات العامّة في تونس كانت قد اشتهرت بالنموذج الاجتماعي المتميّز بتحقيق حمايات اجتماعية مهمة للفئات الوسطى وذوي الدخل المحدود. لكن، أزمة البطالة في تونس شديدة الوطأة لدى العنصر الشاب (30.7% عام 2005)، بالرغم من الجهود المبذولة من قِبَل أجهزة حكومية مختلفة للتخفيف من وطأتها (تكثيف فرص التدريب المهني، منح قروض صغيرة للعنصر الشاب لتأسيس شركات، تشجيع عمليات جذب عقود فرعية (Sub-contracting) من شركات متعدّدة الجنسيات لتأدية خدمات مختلفة لها (مثلا call centers، تعريب برامج معلوماتية ونشاطات أخرى من هذا النوع)، بالإضافة إلى العقود الفرعية التي كانت قد تمت سابقاً في المجال الصناعي وبشكل خاص في صناعة الألبسة أو بعض المكونات الداخلة في إنتاج بعض السلع الصناعية.
هذا ولا بدّ من الإشارة إلى الوضع المتفجّر اجتماعياً وسياسياً في مصر وكذلك الوضع المتدهور باستمرار في اليمن رغم وجود الثروة النفطية فيه، والوضع في السودان، وأيضا الجزائر التي يعاني شبابها من أعلى نسبة بطالة في العالم العربي (31.1% عام 2005) والمغرب حيث استمرار حالات الأميّة والفقر والبطالة ما تزال عقبة كبيرة أمام تنمية هذا البلد تنمية متوازنة تتناول جميع الفئات الاجتماعية وليس الفئات القليلة التي تعمل ضمن القطاع الحديث.
كل تلك المعطيات الموضوعية تشير إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية العامة العربية لجعلها متحررة من مبادئ النيوليبرالية الجديدة حيث لم يؤد تطبيقها في المجتمعات العربية إلى أي نوع من التقدم التنموي الحقيقي والتغلب على الآفات الاجتماعية العديدة المذكورة هنا.
نحو معادلة تنموية عربية جديدة
لقد حان الوقت في العالم العربي لإرساء دعائم تنمية مستدامة في أرجاء الوطن العربي، تأخذ بعين الاعتبار الثغرات والنواقص الخطيرة الموصوفة سابقاً والتي تجعل من المنطقة العربية منطقة خالية من النشاط الاقتصادي الإبداعي، وذلك عبر توطين العلم والتكنولوجيا وتأمين فرص العمل اللائقة للموارد البشرية التي تتمتع بها الدول العربية.
وهذا يتطلب تحديد المقومات الرئيسية لإطلاق نهضة تنموية تشتمل على دعائم المعادلة التنموية، أي كل من: الدولة المركزية، الهيئات المحلية، القطاع الخاص، القطاع التربوي، المجتمع المدني، النقابات العمالية، والأوقاف في إطار شراكة جماعية تتضح فيها مسؤولية كل طرف من هؤلاء الأطراف في تحقيق هدف واحد ألا وهو سدّ الفجوة التنموية الكبيرة التي تفصل الاقتصاديات العربية عن اقتصاديات الدول الناشئة في كل من شرق آسيا وأميركا اللاتينية. فالحقيقة أن لا شيء يبرر انكفاء المجتمعات العربية عن المساهمة في الثورات العلمية والتكنولوجية المتتالية منذ الحرب العالمية الثانية، إلا تقاعس خطير ناتج عن الاعتماد على إيرادات ريعية الطابع من قِبَل الأطراف المذكورة فيما سبق، واعتماد الهجرة خارج الوطن كمتنفس لقصور السياسات التنموية المحلية في تأمين العدالة الاجتماعية عبر تحقيق تعادل الفرص لكل فئات المجتمع وإرساء دعائم دينامية المجتمع الإنتاجي (4) .
المصادر
(1) الجزائر (1994،1995)، مصر(1987،1991)،الأردن (1989،1992،1994، 1997،1999 ، 2002)، موريتانيا (1989،1993)، المغرب (1983، 1985، 1987، 1988،1990،1992) و السودان (1979،1982،1983،1984) واليمن (1996،1997،2001) :المصدر: صندوق النقد الدولي www.imf.org و نادي باريس ww.clubdeparis.org
(2) المصدر: http://data.worldbank.org, World Development Indicators, The World Bank
(3) أنظر: http://www.scidev.net/en/news/brain-drain-threatens-future-of-arab-science.html ، وانظر أيضاً www.middle-east-online.com/Default.pl?id=23701
(4) في هذا الخصوص انظر: د. أنطوان زحلان، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1979و العرب وتحديات العلم والتقانة: تقدم من دون تغيير، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999؛ و أيضاً د. يوسف صايغ، التنمية العصّية: من التبعيّة إلى الاعتماد على النفس في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ؛ و أيضا د. جورج قرم، التنمية المفقودة: دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية، دار الطليعة ، بيروت،1981.