إنها فتنٌ.. فاحذروها
رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد العام
مقدمة
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، النبيّ الأميّ الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
إنها فتنٌ.. فاحذروها
فمما لا شكَّ فيه أن واقعَنا اليوم- من حيث الضعف والوهن- صار تجسيدًا لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "تتداعى عليكم الأممُ كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتها"، ومما لا شكَّ فيه أيضًا أن السلاحَ الأكثر فتكًا وإضعافًا لأمتنا كان- ولا يزال- متمثلاً في توهين عقيدتها، وإفساد أخلاقها، وإبعادها عن منهاجها، وضرب وحدتها، وذلك عبْر محاولاتِ إشعال الفتن فيها، بكل الطرق والوسائل، طبقًا لمنهج الفوضى الخلاَّقة الذي تتبعه الإدارة الأمريكية.
ويلعب الاستبداد والفساد السياسي والمالي والإداري في أوطاننا دورًا في العصف بإرادة الشعوب وتخويفها وإرهابها وإقصائها عن ممارسة حقِّها في صنع الحياة وتقرير المصير، وهو ما يجعل الأوطانَ فريسةً سهلةً للغزاة والمستعمرين.
بين يدي الواقع
- ففي الوقت الذي تُعمِل فيه آلةُ الغدرِ الصهيونية معاولَ هدمِها لأولى القبلتَين وثالثِ الحرمَين (مسجدكم الأقصى المبارك)، وتستهدف أسلحتُه في الوقت ذاته صدورَ العُزَّل من بني فلسطين بينما جدارُ العَزْل العنصري يزحَف على الأخضر واليابس من أرض الإسراء..
- وفي الوقت الذي يعلن فيه بوش عن استراتيجته الجديدة في دعم جنوده الغاصبين بإمدادات جديدة، فلسفتُها القتلُ والتشريدُ والاغتصابُ، ومنهجُها الساديةُ في تعذيب الشرفاء من شعب الرافدَين..
- وفي الوقت الذي يتدخَّل فيه القاصي والداني لتحديد مصير شعبَي السودان والصومال، معلنين أنفسهم أوصياء على أمتنا، ومقرِّرين مصائرَ السودانيين والصوماليين، في حَجْرٍ بائسٍ على إرادة شعبَيْن، من أبسط حقوقهما تقريرُ المصير وإدارةُ شئون الذات..
- وفي الوقت الذي صارَ فيه الإسلام فزَّاعةً لكل العالم، والمسلمون يُتَّهَمون بالإرهاب والتطرُّف والعنف، وتحاول أنظمتُهم تقديمَهم كقَرَابينَ لِتُؤكِّدَ ولاءَها للنظام العالمي الجديد..
- وفي الوقت الذي تعاني فيه أمةُ العرب والمسلمين من الانكسارِ والانحسارِ، وحكوماتُها وأنظمتُها من العجزِ والشللِ والتراجعِ والتخاذلِ.. فضلاً عن التشرذمِ والتفرُّقِ..
في هذا التوقيت يسعى الغرب- على اختلاف أعراقه ومذاهبه- إلى التجمُّع رافعًا شعار الوحدة عبْر عُملات موحَّدة، واتفاقيات لفتح الحدود، ومعاهدات للحماية، ومواثيق لإزالة كل الحواجز أمام التعاملات الاقتصادية!!
فيا أيها المسلمون.. ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 46)، واعلموا أن القوة في وحدتكم.
إن واجب الوقت يفرض عليكم في فلسطين والعراق والصومال والسودان ولبنان خاصةً، وفي كل الأقطار عامةً أن تعودوا إلى الالتفافِ حول منهجِكم الأصيلِ؛ لتتجاوزوا ما يُحاكُ لكم، خاصةً أن آلةَ الإعلامِ العالميةَ- والمُسيَّرةَ بقوة العواصف الصهيوأمريكية- تمهِّد للاحتراب الداخلي في أوطاننا، سواءٌ عندما قسَّمت العراق إلى تضاريس طائفية، وراحت تؤكد للعالم أنه مقسَّم على الأرض، أو عندما راحَت تنفخ في نارِ فتنةٍ بين بني فلسطين؛ لتؤكد أن أهلَها- الذين يحملون شرفَ الصمود في مواجهة عدوٍّ صهيوني مدعوم بكل مداد حربي متطور- تحوَّل سلاحُهم من المقاومة إلى التناحُر الداخلي، وكذا صيَّرت لبنان- الذي أذلَّ المحتلَّ- نموذجًا للانقسام على ذاته، ومثله الصومال، الذي تهاوَى أمام مقاوِمِيه حلمُ المحتل الأمريكي.
وهكذا تدور أطماعُ الصليبية الجديدة- كما أسماها بوش- التي تُحرِّكها الدوافعُ الاقتصاديةُ والسياسيةُ، ولن تعدم امبراطورية الشرّ في العالم الحيلةَ لتبريرِ تمدُّدها خارجَ حدودِها الإقليميةِ باتجاه الآخرين؛ لأن لكلِّ حربٍ في التاريخ أمراءَها وجنرالاتِها وأبواقَها، التي تحترف تسويغَها وإعطاءَها الشرعيةَ التاريخيةَ أو الدينيةَ أو الأخلاقيةَ، حتى لو كان هذا على أشلاء ضحايا الفِتَن التي تحترف أجهزةُ مخابراتهم صياغةَ سيناريوهاتها.
وأمام هذا الواقع فإن واجبَ كلِّ المسلمين
أولاً: الاعتصام بحبل الله
فلا نجاةَ للأمة من الفتن والشدائد إلا بالاعتصام بحبل الله المتين، والاعتماد على نهجه القويم ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103) والالتزام بهدي رسولِه الأمين، أمَا قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "تكون فتن.. قيل: ما المخرج يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم".
ثانيًا: تفعيل دور العلماء المجاهدين في إصلاح ذات البَين
المطلوب من العلماء أن يسْعَوا لجَمْع الشَّمل، وحقن الدم، وتوجيه دفَّة الأمة نحو النهوض، والالتفات إلى العدوِّ الحقيقي.. هؤلاء العلماء هم الذين يحملون تبعةَ غَلق أبواب الفتن كما روى أبو الدرداء أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم على شيء أفضل من الصيام والصلاة والصدقة؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة" (خرَّجه الترمذي، وقال حديث صحيح).
ثالثًا: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام
فمهما ادلهمَّت الظلُماتُ، ومهما اشتدَّت الفتنُ، وأحدقت بنا الخطوبُ.. كونوا على ثقةٍ ويقينٍ بأن المستقبل لهذا الدين بوعد الله الصادق.. ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5) شريطةَ أن نكون على هذا المستوى من الإيمان، والالتزام بقيمه، والاستعداد للتضحية في سبيله.
رابعًا: تحديد الأولويات وفق متطلبات المرحلة
ففي زمن الفتن ليس كلُّ مَقالٍ أو اجتهادٍ أو فعلٍ يبدو ظاهرُه حسنًا هو الراجح، فالأصلُ تغليبُ الصالح العام وتجاوُزُ الخلافات والعصبيات، لمواجهة التحديات والأخطار المحدقة.
خامسًا: الصبر في مواجهة العدو
ما أحوجَ أمتنا إلى الصبر!! إذ ما من وسيلةٍ أفعل منه لإظهار الفَرق بين ذوي العزائم والهِمَم وبين ذوي الجُبن والضَّعف.. نحن في حاجةٍ إلى صبرٍ وثباتٍ وصمودٍ في مواجهة عدوٍّ تتَرَّس بكلِّ أسلحة العصر، ولْنعلم أن الأخذَ بأسباب العلم والتقدم والنهضة هو السبيل الأكيد في معركة المواجهة.
سادسًا: التبيُّن والوقوف على حقائق الأمور
فلا شكَّ أنه في وقت الفتن تنشط الدعايةُ وتكثُر الإِثارةُ، وعادةً ما يكون للعدوِّ الدورُ الرئيسيُّ فيها، فلا مناطَ من التثبُّت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
وتبقى كلمةٌ..
نوجِّهُها إلى الأنظمة الحاكمة في أوطاننا؛ ليقفوا على حقيقة التبعة المُلقاة على عاتقهم؛ فهم ولاةُ الأمر الذين سيَسألهم اللهُ عن ولايتهم.
فاتقوا الله في شعوبكم، وفيما سيسألكم اللهُ عنه، وحدِّدوا مواقفَكم، واحذروا المشروعَ الصهيوأمريكيَّ، واجعلوا لكم بطانةَ خيرٍ، تنأى بكم عن مواطنِ الفتنِ، وتربطكم بشعوبكم، فكَم من بطانةٍ أوردت رعاتَها مواطنَ التهلكة، وزادت من الشقاق بينهم وبين شعوبهم!!
وأنتم يا جموعَ الإخوان في العالم عامةً والمرابطين في فلسطين والعراق.. كونوا على ثقةٍ بعظيم رسالتكم، ونُبْل منهجكم، وثقل تبعتكم، فلا يفتننَّكم جهلُ الداخل عن تجبُّر عدوِّ الخارج، ولا تشغلنَّكم صراعاتٌ هامشيةٌ عن عدوِّكم الرابض على أرضكم، فيذيق بعضكم بأسَ بعض، ويصبح بأسُكم بينكم شديدًا، فالأصل أن تكونوا سواعدَ بناءٍ لا معاولَ هدمٍ.
وأعمِلوا العقولَ وألجِموا اندفاعاتكم برجاحاتها، وطوِّروا من أساليب المواجهة؛ لتتجاوزوا معوِّقات الفتن، ولا يفتننَّكم منصبٌ أو نصرٌ هامشيٌّ عن معركة مصيرية لا يهدأ وطيسُها إلا بتحرير الأوطان، واستعادة المقدَّسات، وتطهير الأرض من دنَس العدوّ.
وارفَعوا في مواجهة الفتن رايةَ الاستعصام بالله وأكُفَّ الضراعةِ إليه، في جَوفِ الليلِ وركعاتِ السحَر، موقنين بأن المستقبل لهذا الدين، وأن الغدَ قادمٌ لا محالةَ، "وإن غدًا لناظره قريبٌ".
وحسبُكم في مواجهة ما تكرهون دفاعُ الله ﴿إن اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 38، 39)، وأَرُوا اللهَ من أنفسكم ما يؤهِّلُكم لإحدى الحسنَييْن، واصبروا، وصابروا، ورابِطوا.. حتى يأتي اللهُ بأمره.
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40) ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).